المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
كنا بدأنا الحديث عن قول الله تبارك وتعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة:197]، ودائماً يرتبط بهذا الموضوع قصة عظيمة جاء ذكرها في كتاب الله جل وعلا وفي السنة النبوية المطهرة.
ففي قول الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة:127] ارتبط اسم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بالكعبة وبالبناء، فنبدأ الحديث عنهما عليهما الصلاة والسلام.
الشيخ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: أما الحديث عن هذين النبيين الكريمين فإبراهيم عليه الصلاة والسلام عرف بأنه أبو الأنبياء؛ لأن الله جل وعلا قال: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) [العنكبوت:27]، فحصر الله الأنبياء بعد خليل الله إبراهيم في ذريته، (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[البقرة:124].
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام تقرب إلى الله بأمور، أشهرها:
أنه قدم جسده للنيران، وقدم ماله للضيفان، وقدم ولده للقربان، وفي كل هذه الثلاث كان يبتغي رضوان الرحمن؛ ولعل هذه الثلاث هي المقصودة بقول الله جل وعلا: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) [البقرة:124].
فكلمات الله أوامره، فلما أتمهن على أكمل نحو وأعظم وجه قال له ربه: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة:124]، والإمامة في الدين أمر عظيم مطلوب تشرئب إليه الأعناق.
ومن ذريته صلوات ربي وسلامه عليه الابنان الكريمان: إسماعيل وإسحاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسنين -الحسن و الحسين - ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، ثم يقول: (إن أباكما - يقصد خليل الله إبراهيم - كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق).
أما إسماعيل فقد كان ابناً لإبراهيم عليه السلام، وإسماعيل أثنى الله جل وعلا عليه في سورة مريم بقوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم:54-55] وهذه عبارات ثناء عظيمة جليلة من رب العالمين لهذا العبد الصالح إسماعيل بن إبراهيم، وكفى إسماعيل شرفاً أن الله أراد أن يكون من ذريته خليله وحبيبه وشفيعه وشفيعنا نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يردد هذا كثيراً: (ارموا بني إسماعيل إن أباكم كان رامياً)، فالانتساب إلى إسماعيل -والد العرب المستعربة- شرف عظيم.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: (ارموا بني إسماعيل) فإنه يدخل في ذلك العرب القحطانيون لكنه قال: (بني إسماعيل) من باب التغليب؛ لأنه إذا أطلق العرب فإنه يقال: إنهم من ذرية إسماعيل من باب التغليب، والعرب - كما لا يخفى- عرب عاربة وعرب مستعربة، وإسماعيل عليه السلام أخذ العربية من جرهم، والأصل أن العرب ينتسبون إلى يعرب بن قحطان ، فلعله قال هذا من باب التغليب، وإلا فإنه قالها في المدينة وكان يخاطب بها الأنصار، والأنصار يمنيون بالاتفاق.
المقدم : هناك سؤال في قوله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ربما يسوق إلى قصة بناء البيت ، قوله (الْقَوَاعِدَ) كأنه يُشعر بوجوده .
الشيخ : نعم ، وهذا لو ناقشناه عقليا فقلنا إن إبراهيم عليه السلام أول من بنا البيت بمعنى أن البيت لم يكن موجودا أصلا ولم يُبنَ قبل إبراهيم ، ينجم إشكال وهو: إذا قلنا أن البيت لم يكن موجودا قبل إبراهيم فقطعا لم يُحجّ قبل إبراهيم ، ويلزم من هذا لزوما لا انفكاك منه أن الأنبياء من نوح إلى إبراهيم لم يحُجّوا ، وهذا بعيد جدا مع ورود الآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن صالحا حجّ ، وصالح بالاتفاق قبل إبراهيم فعلى هذا لا يمكن أن يُقال إن البيت أول من وضع لبناته إبراهيم ، يظهر لي أن هذا صعب جدا ، لا يستقيم ، والذي يبدو أن أول من وضع الملائكة ، وضعته لآدم فلما أُهبط إلى الأرض وهناك بيت في السماء تطوف به الملائكة بُني هذا البيت لآدم حتى يعبد الله - جل وعلا - حوله وعنده ويُحجّ إليه ، لأنه لو قلنا إنه لم يكن هناك بيت قبل إبراهيم لم يكن هناك حجّ قبل إبراهيم وهذا بعيد . لكن قول الله (الْقَوَاعِدَ) كأن البيت كان موجودا ثم بعارض كالطوفان أو غيره لأن بعض الفضلاء يقول الطوفان أذهب معالمه ، وهذا مقبول لكن ماذا نقول في الأنبياء الذين بعد الطوفان إذا كان لا يُعرف البيت ، هذا صعب لأن هولاء حجّوا ، ولهذا أصلا في قواعد العلم العامة وفي قضية التصدي للإخبار عن الله ورسوله لابد من استصحاب جميع الأدلة ، واستصحاب جميع النصوص التي تُعنى بالقضية حتى لا يصبح هناك خلل في الاستنباط ، لأن الإنسان إذا أغفل نصا أصبح الاستقراء ناقصا ، وإذا كان جمع الأدلة ناقصا فبدهي أن تكون النتيجة ناقصة ولا تفي بالغرض ، لكن جمع الأدلة بكلياتها ينجم عنه خبر حسن .
المقدم: نستطيع أن نقول أن قصة البيت بدأت من آدم ؟
الشيخ: هذا الذي يظهر أن الملائكة بنت البيت ، وضعته لآدم ، حجّ آدم ، حجّ إليه الصالحون من آدم إلى نوح ، تبدلت الأرض شركا ، بُعث نوح ، حجّ نوح ، حجّ بعده الأنبياء كصالح كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ذهبت معالمه فأمر الله الخليل أن يرفع القواعد . فمزية إبراهيم أنه لم يبن أحد غيره من البشر البيت. هذا الذي يتحرر - والعلم عند الله - فيكون قول الله (وَإِذْ يَرْفَعُ) ولم يقل "وإذ يضع" وكل من درس اللغة يعرف الفرق بين "يرفع" و"يضع" فإن يرفع يشعر أن هذه القواعد موجودة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [البقرة:127] فرفع إبراهيم القواعد من البيت. وهنا تأتي أمور، فالله يقول في سورة الحج: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) [الحج:26]. إذاًالذي حدد لإبراهيم مكان البيت رب العزة والجلال، ولكن البيت كان موجوداً وإنما دل عليه. وأما كيف دل عليه فلا نعرف في ذلك أثراً مرفوعاً، لكن قال بعض العلماء: إن سحابة أظلت مكان البيت. وهذا ليس ببعيد.
وقال بعضهم: جاءت ريح كنست المكان الذي حدد له البيت .
الذي نحن على يقين منه أن الله جل وعلا هو الذي عين مكان البيت لإبراهيم عليه السلام، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ). ثم في إتيانه بإسماعيل وأمه إلى هذا المكان دليل على أنه كان يعرف أن المكان في مكة، لكن لا يعرف تحديد البيت، أمر بأن يضع إسماعيل في هذا المكان، وكان يعلم أن البيت هنا، بدليل أنه قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم:37] ومعلوم أن البيت لم يكن موجوداً؛ لأن إسماعيل بنى مع أبيه البيت بعد أن كبر، وإبراهيم قال هذه العبارة عندما كان إسماعيل رضيعاً مع أمه قبل أن تخرج زمزم،لكنه كان يعلم أن البيت في ذلك الوادي. ولكن تحديد مكان البيت بالضبط كان متأخراً. إبراهيم علِم أنه ما أُتي به إلا ليبني البيت، لكنه لم يأته الأمر ببناء البيت، وإنما ابتلي؛ وحتى ينال فضيلة أنه أول آدمي يبني البيت، كان لا بد له من أن يتجاوز محنة حتى يقلد ذلك الوسام. فأمر أن يأتي بابنه الوحيد وزوجته ويتركا بأمر الله في هذا المكان، فقبِل، ثم توارى - على قول المفسرين - حتى لا يرونه، وحتى لا يتأثر، واستقبل مكان البيت عموما ، واستقبال الجهة لا يلزم منه معرفة تحديد المكان كما نستقبل نحن البيت غربا في الرياض ، جنوبا في المدينة ..وهكذا . فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم:37] ثم إنه عليه السلام رجع إلى الشام.
ثم بعد أن كبر إسماعيل رجع إلى مكة لم يجد إسماعيل، وكانت هاجر قد ماتت، ووجد زوج إسماعيل، فسألها عن إسماعيل فقالت: ذهب يحتطب لنا، أو يبحث لنا عن رزق، -يعني: في شأن البيت- وسألها عن طعامهم، فشكت حالهم وأنهم في ضيق وكرب، فقال: إذا جاء إسماعيل فأقرئيه مني السلام وقولي له: غيَّرعتبة بابك، ورجع، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فسألها فأخبرته، فقال: هذا أبي وقد أمرني أن أفارقك، فطلقها وتزوج غيرها. ثم جاء إبراهيم مرة أخرى ووافق أن إسماعيل لم يكن موجوداً فسأل زوجه، فحمدت الله وأثنت عليه، وهذا الثناء والحمد استعطف إبراهيم عليه السلام وأخرج مكنون دعائه وقال: (اللهم بارك لهم في اللحم والماء). قال صلى الله عليه وسلم معقباً: (فلا يخلون أحد بهما في مكة إلا لم يضراه)، بمعنى: أن الإنسان إذا اقتصر على اللحم والماء في أي مكان في الدنيا يتأذى، لكنه إذا اقتصر على اللحم والماء في مكة لا يتأذى؛ لدعاء خليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (اللهم بارك لهما في اللحم والماء).
ثم عاد إبراهيم ثالثة فوجد إسماعيل يبري نبلاً تحت دوحة، فاستلمه وقبله كما يصنع الوالد بولده والولد بوالده، ثم قال له: أي بني! إن الله أمرني أن أبني له بيتاً -وأشار إلى أكمة في الأرض- فقال: يا أبت! أطع ربك، قال: أوتعينني؟ وهذا أدب حوار، أدب عرض ، أدب تربية الأبناء على أنهم يقبلوا الأمر الشرعي لأنه أمر شرعي؛ وهذه التربية نجم عنها أن إسماعيل عليه السلام لما قال له أبوه: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات:102] كان جوابه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات:102] وهذه ينبغي لمن يفسر القرآن أن ينتبه إليها، قال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات:102] ولم يقل: يا أبت افعل ما تريد؛ لأن إسماعيل أراد أن يعبد الله، ولم يرد في أصل الأمر أن يطيع أباه، وفرق بينهما. وكثير من قادة الجيوش الآن يقتل جنودهم ويذبحون بأمر هؤلاء القادة، فهم يطيعون طاعة عسكرية عمياء كما يقال، لكنها ليست طاعة لله، ولكن إسماعيل عليه السلام كان مؤدباً في الجواب: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات:102] ولو كان الأمر لك كأب فهذا يقبل الأخذ والعطاء، ولكن لما كان أمراً إلهياً فإنه لا يقبل الأخذ والعطاء.
نعود إلى الأمر، قال: أطع ربك، فبنيا البيت، فأخذا كما قال الله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)[البقرة:127] وتقديم إبراهيم لأنه هو الذي يباشر، (وَإِسْمَاعِيلُ) أي: يعينه، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127]، فتم بُنيان البيت.
المقدم: أصحاب العلم الحديث دائماً يتحدثون أن الكعبة مركز الكون، - وأنا لست في مجال التأييد أو الرفض لما يطرح حولها -، وأن الله تعالى لما بنيت الكعبة أمر الكون أن يطوف حول الكعبة حتى سمى بعضهم الطائف بالطائف؛ لأنها كانت هي مركز بداية الطواف إلى غير ذلك من هذه القضايا، فما موقفنا من مثل هذه القضايا؟
الشيخ: لم يرد دليل شرعي ظاهر يمكن الركون إليه في هذه المسألة، وبعض من تصدر لهذه الأمور يتكلم بعاطفته أكثر مما يتكلم من دلائل علمية، ومعلوم أن الحديث في الغيب لا يعرف بالعقل ولا بالاستنباط، وإنما يعرف بالخبر الصحيح. ومثل هذه الأمور التي سلفت ووقعت وكانت لا يمكن استنباطها؛ لأنه لا بد في الاستدلال من خبر صحيح، ولكن بعضها قد يكون له قرائن وشواهد تقبل. فليس بعيداً من أن تكون مكة وسط الأرض؛ لأن الله قال: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) [الشورى:7] لكن أن نقول: إن الأرض تطوف حولها، فأظن هذا تكلف ما أنزل الله به من سلطان.
المقدم: البيت مر عليه أحداث تاريخية كثيرة سواء قبل بنائه أو حتى بعد بنائه، وقد ذكرنا بعضها، فلو ذكرتم بعض الأحداث الأخرى؟
الشيخ: رمز الخلود وكعبة الإسلام ** كم في الورى لك من جلال سامٍ
يهوي البناء إذا تقادم عهده ** وأراك خالدة على الأيام
أراد الله أن يبقى هذا البيت، وقد مرت به أحداث تاريخية عظيمة، منها:
أنه مر بحادثة أبرهة، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) [الفيل:1] ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل، ومع ذلك قال الله له: (أَلَمْ تَرَ)، فأنزل الله جل وعلا خطابه لنبيه منزلة الشيء المرئي. وهذا من أعظم القرائن والأدلة على أن الله جل وعلا يحب أن يعرف عباده منه أنه صادق، وتصديق الله جل وعلا من أعظم القربات، قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر:33]. وفي هذا الحدث عاقبهم الله بالطير، وعندي هنا ملحظ مهم وهو: أن الله عذبهم بالطير، ولا يوجد أحد يوماً ما خوف أحداً من ذريته أو من قرابته أو من الناس بالطير، لكن لما كان البيت قد جعله الله للناس أمناً خوفهم الله من حيث يأمنون، فلو قابلتهم سباع براري ، وحوش كواسر ربما خافوا منها وهربوا؛ لأنها مظنة القتل والهلاك، لكن أن تظلهم طير فلا يمكن أن تكون مظنة هلاك؛ لأنه لا أحد يخوف أحداً بالطير، وإنما يخوفه بالحيات والعقارب والوحوش. فهم لما أتوا لبيت آمن وأرادوا أن يهدموه خوفهم الله من حيث يأمنون.
هذا أجلّ ما يمكن أن يقال. والحديث له بقية إن شاء الله. وجزاكم الله خيراً، وأحسن إليكم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل من حجاج بيته الحرام حجهم، وأن يعيدهم إلى أوطانهم سالمين غانمين.
المقدم : هناك سؤال في قوله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ربما يسوق إلى قصة بناء البيت ، قوله (الْقَوَاعِدَ) كأنه يُشعر بوجوده .
الشيخ : نعم ، وهذا لو ناقشناه عقليا فقلنا إن إبراهيم عليه السلام أول من بنا البيت بمعنى أن البيت لم يكن موجودا أصلا ولم يُبنَ قبل إبراهيم ، ينجم إشكال وهو: إذا قلنا أن البيت لم يكن موجودا قبل إبراهيم فقطعا لم يُحجّ قبل إبراهيم ، ويلزم من هذا لزوما لا انفكاك منه أن الأنبياء من نوح إلى إبراهيم لم يحُجّوا ، وهذا بعيد جدا مع ورود الآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن صالحا حجّ ، وصالح بالاتفاق قبل إبراهيم فعلى هذا لا يمكن أن يُقال إن البيت أول من وضع لبناته إبراهيم ، يظهر لي أن هذا صعب جدا ، لا يستقيم ، والذي يبدو أن أول من وضع الملائكة ، وضعته لآدم فلما أُهبط إلى الأرض وهناك بيت في السماء تطوف به الملائكة بُني هذا البيت لآدم حتى يعبد الله - جل وعلا - حوله وعنده ويُحجّ إليه ، لأنه لو قلنا إنه لم يكن هناك بيت قبل إبراهيم لم يكن هناك حجّ قبل إبراهيم وهذا بعيد . لكن قول الله (الْقَوَاعِدَ) كأن البيت كان موجودا ثم بعارض كالطوفان أو غيره لأن بعض الفضلاء يقول الطوفان أذهب معالمه ، وهذا مقبول لكن ماذا نقول في الأنبياء الذين بعد الطوفان إذا كان لا يُعرف البيت ، هذا صعب لأن هولاء حجّوا ، ولهذا أصلا في قواعد العلم العامة وفي قضية التصدي للإخبار عن الله ورسوله لابد من استصحاب جميع الأدلة ، واستصحاب جميع النصوص التي تُعنى بالقضية حتى لا يصبح هناك خلل في الاستنباط ، لأن الإنسان إذا أغفل نصا أصبح الاستقراء ناقصا ، وإذا كان جمع الأدلة ناقصا فبدهي أن تكون النتيجة ناقصة ولا تفي بالغرض ، لكن جمع الأدلة بكلياتها ينجم عنه خبر حسن .
المقدم: نستطيع أن نقول أن قصة البيت بدأت من آدم ؟
الشيخ: هذا الذي يظهر أن الملائكة بنت البيت ، وضعته لآدم ، حجّ آدم ، حجّ إليه الصالحون من آدم إلى نوح ، تبدلت الأرض شركا ، بُعث نوح ، حجّ نوح ، حجّ بعده الأنبياء كصالح كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ذهبت معالمه فأمر الله الخليل أن يرفع القواعد . فمزية إبراهيم أنه لم يبن أحد غيره من البشر البيت. هذا الذي يتحرر - والعلم عند الله - فيكون قول الله (وَإِذْ يَرْفَعُ) ولم يقل "وإذ يضع" وكل من درس اللغة يعرف الفرق بين "يرفع" و"يضع" فإن يرفع يشعر أن هذه القواعد موجودة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [البقرة:127] فرفع إبراهيم القواعد من البيت. وهنا تأتي أمور، فالله يقول في سورة الحج: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) [الحج:26]. إذاًالذي حدد لإبراهيم مكان البيت رب العزة والجلال، ولكن البيت كان موجوداً وإنما دل عليه. وأما كيف دل عليه فلا نعرف في ذلك أثراً مرفوعاً، لكن قال بعض العلماء: إن سحابة أظلت مكان البيت. وهذا ليس ببعيد.
وقال بعضهم: جاءت ريح كنست المكان الذي حدد له البيت .
الذي نحن على يقين منه أن الله جل وعلا هو الذي عين مكان البيت لإبراهيم عليه السلام، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ). ثم في إتيانه بإسماعيل وأمه إلى هذا المكان دليل على أنه كان يعرف أن المكان في مكة، لكن لا يعرف تحديد البيت، أمر بأن يضع إسماعيل في هذا المكان، وكان يعلم أن البيت هنا، بدليل أنه قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم:37] ومعلوم أن البيت لم يكن موجوداً؛ لأن إسماعيل بنى مع أبيه البيت بعد أن كبر، وإبراهيم قال هذه العبارة عندما كان إسماعيل رضيعاً مع أمه قبل أن تخرج زمزم،لكنه كان يعلم أن البيت في ذلك الوادي. ولكن تحديد مكان البيت بالضبط كان متأخراً. إبراهيم علِم أنه ما أُتي به إلا ليبني البيت، لكنه لم يأته الأمر ببناء البيت، وإنما ابتلي؛ وحتى ينال فضيلة أنه أول آدمي يبني البيت، كان لا بد له من أن يتجاوز محنة حتى يقلد ذلك الوسام. فأمر أن يأتي بابنه الوحيد وزوجته ويتركا بأمر الله في هذا المكان، فقبِل، ثم توارى - على قول المفسرين - حتى لا يرونه، وحتى لا يتأثر، واستقبل مكان البيت عموما ، واستقبال الجهة لا يلزم منه معرفة تحديد المكان كما نستقبل نحن البيت غربا في الرياض ، جنوبا في المدينة ..وهكذا . فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم:37] ثم إنه عليه السلام رجع إلى الشام.
ثم بعد أن كبر إسماعيل رجع إلى مكة لم يجد إسماعيل، وكانت هاجر قد ماتت، ووجد زوج إسماعيل، فسألها عن إسماعيل فقالت: ذهب يحتطب لنا، أو يبحث لنا عن رزق، -يعني: في شأن البيت- وسألها عن طعامهم، فشكت حالهم وأنهم في ضيق وكرب، فقال: إذا جاء إسماعيل فأقرئيه مني السلام وقولي له: غيَّرعتبة بابك، ورجع، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فسألها فأخبرته، فقال: هذا أبي وقد أمرني أن أفارقك، فطلقها وتزوج غيرها. ثم جاء إبراهيم مرة أخرى ووافق أن إسماعيل لم يكن موجوداً فسأل زوجه، فحمدت الله وأثنت عليه، وهذا الثناء والحمد استعطف إبراهيم عليه السلام وأخرج مكنون دعائه وقال: (اللهم بارك لهم في اللحم والماء). قال صلى الله عليه وسلم معقباً: (فلا يخلون أحد بهما في مكة إلا لم يضراه)، بمعنى: أن الإنسان إذا اقتصر على اللحم والماء في أي مكان في الدنيا يتأذى، لكنه إذا اقتصر على اللحم والماء في مكة لا يتأذى؛ لدعاء خليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (اللهم بارك لهما في اللحم والماء).
ثم عاد إبراهيم ثالثة فوجد إسماعيل يبري نبلاً تحت دوحة، فاستلمه وقبله كما يصنع الوالد بولده والولد بوالده، ثم قال له: أي بني! إن الله أمرني أن أبني له بيتاً -وأشار إلى أكمة في الأرض- فقال: يا أبت! أطع ربك، قال: أوتعينني؟ وهذا أدب حوار، أدب عرض ، أدب تربية الأبناء على أنهم يقبلوا الأمر الشرعي لأنه أمر شرعي؛ وهذه التربية نجم عنها أن إسماعيل عليه السلام لما قال له أبوه: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات:102] كان جوابه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات:102] وهذه ينبغي لمن يفسر القرآن أن ينتبه إليها، قال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات:102] ولم يقل: يا أبت افعل ما تريد؛ لأن إسماعيل أراد أن يعبد الله، ولم يرد في أصل الأمر أن يطيع أباه، وفرق بينهما. وكثير من قادة الجيوش الآن يقتل جنودهم ويذبحون بأمر هؤلاء القادة، فهم يطيعون طاعة عسكرية عمياء كما يقال، لكنها ليست طاعة لله، ولكن إسماعيل عليه السلام كان مؤدباً في الجواب: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات:102] ولو كان الأمر لك كأب فهذا يقبل الأخذ والعطاء، ولكن لما كان أمراً إلهياً فإنه لا يقبل الأخذ والعطاء.
نعود إلى الأمر، قال: أطع ربك، فبنيا البيت، فأخذا كما قال الله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)[البقرة:127] وتقديم إبراهيم لأنه هو الذي يباشر، (وَإِسْمَاعِيلُ) أي: يعينه، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127]، فتم بُنيان البيت.
المقدم: أصحاب العلم الحديث دائماً يتحدثون أن الكعبة مركز الكون، - وأنا لست في مجال التأييد أو الرفض لما يطرح حولها -، وأن الله تعالى لما بنيت الكعبة أمر الكون أن يطوف حول الكعبة حتى سمى بعضهم الطائف بالطائف؛ لأنها كانت هي مركز بداية الطواف إلى غير ذلك من هذه القضايا، فما موقفنا من مثل هذه القضايا؟
الشيخ: لم يرد دليل شرعي ظاهر يمكن الركون إليه في هذه المسألة، وبعض من تصدر لهذه الأمور يتكلم بعاطفته أكثر مما يتكلم من دلائل علمية، ومعلوم أن الحديث في الغيب لا يعرف بالعقل ولا بالاستنباط، وإنما يعرف بالخبر الصحيح. ومثل هذه الأمور التي سلفت ووقعت وكانت لا يمكن استنباطها؛ لأنه لا بد في الاستدلال من خبر صحيح، ولكن بعضها قد يكون له قرائن وشواهد تقبل. فليس بعيداً من أن تكون مكة وسط الأرض؛ لأن الله قال: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) [الشورى:7] لكن أن نقول: إن الأرض تطوف حولها، فأظن هذا تكلف ما أنزل الله به من سلطان.
المقدم: البيت مر عليه أحداث تاريخية كثيرة سواء قبل بنائه أو حتى بعد بنائه، وقد ذكرنا بعضها، فلو ذكرتم بعض الأحداث الأخرى؟
الشيخ: رمز الخلود وكعبة الإسلام ** كم في الورى لك من جلال سامٍ
يهوي البناء إذا تقادم عهده ** وأراك خالدة على الأيام
أراد الله أن يبقى هذا البيت، وقد مرت به أحداث تاريخية عظيمة، منها:
أنه مر بحادثة أبرهة، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) [الفيل:1] ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل، ومع ذلك قال الله له: (أَلَمْ تَرَ)، فأنزل الله جل وعلا خطابه لنبيه منزلة الشيء المرئي. وهذا من أعظم القرائن والأدلة على أن الله جل وعلا يحب أن يعرف عباده منه أنه صادق، وتصديق الله جل وعلا من أعظم القربات، قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر:33]. وفي هذا الحدث عاقبهم الله بالطير، وعندي هنا ملحظ مهم وهو: أن الله عذبهم بالطير، ولا يوجد أحد يوماً ما خوف أحداً من ذريته أو من قرابته أو من الناس بالطير، لكن لما كان البيت قد جعله الله للناس أمناً خوفهم الله من حيث يأمنون، فلو قابلتهم سباع براري ، وحوش كواسر ربما خافوا منها وهربوا؛ لأنها مظنة القتل والهلاك، لكن أن تظلهم طير فلا يمكن أن تكون مظنة هلاك؛ لأنه لا أحد يخوف أحداً بالطير، وإنما يخوفه بالحيات والعقارب والوحوش. فهم لما أتوا لبيت آمن وأرادوا أن يهدموه خوفهم الله من حيث يأمنون.
هذا أجلّ ما يمكن أن يقال. والحديث له بقية إن شاء الله. وجزاكم الله خيراً، وأحسن إليكم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل من حجاج بيته الحرام حجهم، وأن يعيدهم إلى أوطانهم سالمين غانمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق