الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ذكرنا أن هذا البيت شرفه الله جل وعلا منذ أن كان، ومن تشريف الله جل وعلا لهذا البيت أن أحاطه بحفظه، فصد عنه أبرهة ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بركت ناقته في عام الحديبية قال بعض الصحابة: خلأت القصواء، أي: ناقته عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما خلأت القصواء وليس ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل).
وهذا كله فيه إشارة إلى البيت؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام بعدها: (والله لا يسألوني شيئاً يعظمون به البيت إلا أعطيتهم إياه).
ونذكر هنا بعض الأحداث التاريخية التي صاحبت بناء البيت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فهنا أرادت قريش أن تعيد بناء البيت؛ كما في الأخبار المشهورة بعد أن جرفت السيول أكثره، فأرادوا هدم باقيه لتجديد البناء.
فيقال تاريخياً: إن أول من بدأ بنقض أحجار البيت الوليد بن المغيرة ، فقد أتى حافياً وقال: اللهم إنك تعلم أنا لا نريد به أذى، وانظر إلى أدبه مع البيت، ثم انظر إلى الكبر والحسد ماذا يصنعان؟ فإنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يسجد لله، وكان رجلاً مقبولاً من قومه، وهذا هو الذي قال الله فيه: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)[المدثر:11].
فالمقصود: أن قريشاً هدمت البيت؛ بسبب أن السيول جرفت أكثره، فاختارت أطيب أموالها وبدأت في بناء البيت، لكن تلك الأموال الطيبة قصرت ولم تستوف تكلفة البناء، فبنوا القواعد الجنوبية على قواعد إبراهيم، وهما الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود، والركنان الشاميان لم يستطيعوا بناءهما على قواعد إبراهيم، فأصبح ما يسمى الآن بحجر إسماعيل، وهو غير صحيح، فليس لإسماعيل علاقة به.
وهذا الحجر أصبح يدل على مكان البيت القديم أيام إبراهيم، هذا بناء قريش للكعبة، وهو نفس البناء الذي تدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع الحجر فيه.
ثم لما منّ الله على الأمة وبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكان عام الفتح قال عليه الصلاة والسلام لـعائشة : (لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر لهدمت الكعبة ولجعلت لها بابين ولأدخلت فيها الحجر).
وأمهات المؤمنين قال الله لهن: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب:34] ؛ لأنهن كن في بيت النبوة، فـعائشة رضي الله عنها حفظت هذا الخبر، والإنسان -جبلة- يحب قرابته، ولما آل الأمر بالحجاز إلى عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أخبرته خالته عائشة بالخبر، فبدهي أن ينقض البيت ويدخل فيه ما يسمى الآن حجر إسماعيل ويجعل له بابين.
ثم قدر لـعبد الله بن الزبير أن يقتل على يد الحجاج بن يوسف عامل بني أمية في الحجاز بأمر من عبد الملك بن مروان ، وأخبار الحجاج معروفة.
لما آل الأمر للحجاج تدخلت أصابع السياسية هنا، وكان كل يريد أن يضع من الآخر، ولم يكن الحجاج محباً لـعبد الله ، ولو تركه لذكر في التاريخ وخلد فعل عبد الله بن الزبير ، فهدم الكعبة وردها كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى الباب الثاني الذي فتحه عبد الله بن الزبير أعاد إقفاله، والآن الذي يأتي البيت مثلاً أيام الحج يجدها مرتفعة، وإذا تجاوز الحجر يجد رسم الباب واضحاً لو دقق واستصحب أصلاً أن هناك باباً موازياً للباب الأساسي إلا قليلاً، فيجد الباب واضحاً في البناء القديم.
فالمقصود: أن الحجاج هدم الكعبة وأعاد بنائها كما كانت.
يقول المؤرخون: فلما جاءت خلافة أبي جعفر المنصور المؤسس الثاني لدولة بني العباس أراد أن يهدم الكعبة، وقدر له أن يستشير العلماء، - وهذه مصلحة كبرى بأن ولي الأمر يكون له تواصل بأهل العلم كما هو الحال في بلادنا -، فبعث إلى مالك رحمه الله، فقال مالك : "أخشى أن يكون بيت الله بعدك ألعوبة للملوك، هذا يزيد فيه وهذا ينقص منه، فدعه على ما هو عليه"، فبقي البيت في ظاهره على ما هو عليه إلى يومنا هذا.
وهذا أعظم ما يمكن أن يقال من أحداث تاريخية.
ومن الأحداث التاريخية التي مر بها البيت: قضية القرامطة والحجر، ولكن نؤجل الحديث عن القرامطة والحجر حتى يأتي الحديث عن الحجر نفسه، لكن هذه مسيرة البيت وبنائه عبر التاريخ إلى يومنا هذا.
نحن دائماً نسمع إضافة البيت إلى الله عز وجل، حتى المساجد يقال لها: بيوت الله، وإذا قيل بيت الله على إطلاقه فينصرف إلى الكعبة، فالإضافة هنا: إضافة تشريف.
وحتى يتحرر الأمر نقول: المساجد تضاف إلى الله تشريفاً وإلى غيره تعريفاً، بمعنى: أن إضافتها إلى الله تشريف لها، قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النور:36] وعندما نضيفها إلى غير الله فهو من باب أن نميز بعضها عن بعض، فمثلاً فلان إمام وخطيب مسجد قباء، فكلمة (مسجد) أضيفت إلى (قباء) وهو اسم موضع؛ ليميز مسجد قباء عن مسجد غيره، وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق إلى مسجد بني زريق، وصلى المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، وهو تمييز لهما عن غيرها.
فالإضافة هنا إلى غير الله إضافة تعريف، وإلى الله تبارك وتعالى إضافة تشريف، لكنه لا يوجد لله بيت على إطلاقه إلا الكعبة، أما المساجد يقال تجوزاً إنها بيوت الله.
وليس لله بيت بمعنى أنه يجوز الطواف حوله إلا الكعبة وهو يوافق أو يوازي البيت المعمور الذي أقسم الله به في قوله: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) [الطور:1-4] .
ويقول بعض أهل العلم - والعلم عند الله - : أنه لو قدر أن هذا البيت المعمور سقط لسقط على الكعبة، فالبيت المعمور مطاف أهل السماء، والكعبة مطاف أهل الأرض.
المقدم: يقول الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة:127] نلحظ في كثير من العبادات التي جاءت في القرآن الربط بينها وبين الاستغفار أو الدعاء، حتى في أعمال الحج (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [البقرة:200]، (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [البقرة:198] فما الرابط بين العبادة والدعاء أو الاستغفار؟
الرابط بينهما فيما يظهر إشعار للعابد ألا يركن إلى العمل، وأن العمل مهما عظم وجلّ يحتاج إلى أن يقبله الله فيكون منه الدعاء والتضرع. وليس بعد بناء البيت شيء عظيم حتى إن الله جل وعلا كافأ إبراهيم على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في ليلة المعراج قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، فالجزاء من جنس العمل، أي: لأنه بنى لله بيتاً في الأرض ورفع قواعده، وإن كان رفعه بأمر من الله. لكن هذا الدعاء كأن العبد يقول لربه أنا لا أركن إلى عملي وإنما أركن إلى رحمتك وفضلك، فقبولك يا رب للعمل من أعظم المنن علي بعد أن وفقتني للعمل، كما قال الله عن أهل الجنة إذا دخلوها: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف:43] فإذا كان هذا في الجنة فمن باب أولى أن يكون في الدنيا. والإنسان خاصة إذا قُدّر له أن يحجّ مع ولده أو يحجّ ابن مع أبيه فإنهما يتذكران خليل الله وابنه وهما يتضرعان إلى الله جل وعلا، صحيح أننا لم نبن البيت ولكن لتلك المناسك والمشاعر والمواقف في ذلك المطاف أثر على القلب، فيقف هو وابنه مستقبلي القبلة فيقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127] فيستحضران ويستصحبان فعل الخليل صلوات الله وسلامه عليه. فإذا احتجّ علينا أحد وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له ولد آنذاك، وسنن الأنبياء وما نصّ الله عليها في القرآن لا تحتاج منا إلى استصحاب رأي أحد، فهي حجة في نفسها، قال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90]. فإذا كان هذا أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف بأتباع النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود: أن الدعاء من أعظم ما ترفع به الأعمال، وبه تقبل (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى:25]. إلى غيرها من الآيات التي تشعر أن الإنسان يكون قريباً من ربه إذا دعاه وتضرع إليه، وكلما كان ذلك مصحوبا بمكان فاضل وبقلب منكسر وبصوت خفي كان أدنى من ربه وأقرب إلى إجابة دعوته.
/ الإشارة إلى الإسلام عند ذكر إبراهيم عليه السلام : قال سبحانه وتعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)[البقرة:128] فالإشارة دائماً إلى الإسلام عند ذكر إبراهيم عليه السلام؛ لأن القضية قضية إستسلام كامل لله، والله قال: (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)[الأعراف:126]. والذي يظهر أن "من" هنا تبعيضية، وأن إبراهيم يعلم أن من ذريته من لن يكون مسلماً، ومُحال أن يكون جميع ذريته مسلمين، خاصة أنه في عصر متقدم. ولهذا قالوا: إن بعض الأدعية لا يحسن كل أحد أن يقولها، فمثلاً: إبراهيم عليه السلام قد علم بالوحي أن من ذريته من سيكون كافراً؛ لأنه قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124] فهذا إشعار أن هناك ظالمين سيكونون من ذريته. فعندما ذكر الله جل وعلا في سورة إبراهيم دعاء إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم:40] فهذا لا يحسن أن يقوله أي أحد؛ لأن قوله: (ومن ذريتي) بعضية، فإبراهيم علم من الله أن ليس كل ذريته سيصلي، ولكن نحن لم نعلم هذا من ربنا، هذا إذا قلنا: إن "من" هنا تبعيضية. أما إذا قلنا: إن "من" بيانية أو زائدة للتأكيد فالأمر واسع.
لكن نقول: إن الاستسلام لله جل وعلا هو دين إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:131-132] والأمة المسلمة تدخل فيها، قال تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة:128]، ويدخل فيها كل من آمن بالله من ذرية إبراهيم إلى يوم القيامة. ومن هنا نستطيع أن نقول: إن من كان من ذرية إبراهيم على التوحيد ممن جاء بعده إلى قيام الساعة حتى أتباع موسى وعيسى عليهما السلام كلهم مسلمون؛ لأن دين الأنبياء واحد.
هو دين رب العالمين وشرعه **وهو القديم وسيد الأديان
هو دين آدم والملائك قبله ** هو دين نوح صاحب الطوفان
هو دين إبراهيم وابنيه معاً ** وبه نجا من لفحة النيران
وبه فدى الله الذبيح من البلى ** لما فداه بأعظم القربان
هو دين يحيى مع أبيه وأمه ** نعم الصبي حبذا الشيخان
وكمال دين الله شرع محمد ** صلى عليه منزل القرآن
فدين الأنبياء واحد، كما قال الله: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة:285]. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثم جاء في معرض هذه الآية الدعوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) [البقرة:129] . وكما نعلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول مفتخراً صلوات الله وسلامه عليه: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام) بصرى من أرض الشام هي أول مدينة من مدن الشام دخلت في الإسلام في الفتوحات، وكأنها إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام). وأما بشارة عيسى فليس بين عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم نبي؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم) . وأما دعوة إبراهيم فلأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام من شفقته على ابنه إسماعيل وذريته قال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) [البقرة:129]، أي: من العرب من ذرية إسماعيل (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:129] هذه الدعوات من خليل الله إبراهيم تقبلها الله جل وعلا بقبول عظيم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم) من هنا يفقه الإنسان أن الدعاء لمن يُحب ، لذريته في المقام الأول أمر عظيم ، جليل القدر عند الله - تبارك وتعالى - والإنسان إذا أكثر منه قد يكون في ابنه أو حفيده أو في صديقه من ينفع الله جل وعلا به نفعاً عظيماً بدعاء ذلك الوالد. ولكننا أحياناً نستهين بأمور عظمها الشرع، ويغيب عنا أحياناً أن نفقه فقه الشرع، هذه الأمور عندما يقولها الله ليس المقصود منها إخباراً تاريخياً، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، لكن القرآن هدىً وموعظة وبشرى للناس. وهذا الجد قبل أن يكون نبياً هو جد لنبينا صلى الله عليه وسلم فدعا أن يخرج الله من ذريته من هذه صفاته: تعليم الناس وتزكيتهم، فكان ما أراد بتوفيق الله جل وعلا له، فخرج نبينا صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا لما قابل عليه الصلاة والسلام إبراهيم عليه السلام في رحلة الإسراء والمعراج قال له إبراهيم: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، مع أن غيره من الأنبياء باستثناء آدم كانوا يقولون: أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح، لكن إبراهيم ناداه بالنبوة؛ لأنه من ذريته، وإبراهيم يفتخر بابنه محمد صلى الله عليه وسلم أيما افتخار. وقد كان عليه الصلاة والسلام يعرف قدر إبراهيم، فلما ذكر لواء الحمد قال: (كل الأنبياء يومئذ تحت لوائي، إبراهيم فمن دونه) فذكر إبراهيم، ومعلوم أن هذا يشعر بأن لإبراهيم مقاماً عظيماً عند الله، وكان إبراهيم يعلم ذلك، (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم:47]. فإبراهيم كان يعلم يقيناً احتفاء الله به؛ ولهذا كان يتكئ على هذا الاحتفاء، فقال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ)[الشعراء:84] وإلى الآن نحن في صلاتنا نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
فالمقصود: أن هذه الدعوات قبلها الرب تبارك وتعالى، فكان من ذرية إبراهيم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، والدعاء في المناسك يتأكد عند الوقوف على الصفا والوقوف على المروة، وبعد رمي الجمرة الوسطى، ورمي الجمرة الصغرى، وسيأتي الحديث عن ذلك في محله مفصلاً بإذن الله.
________________________________
التفريغ النصي من موقع إسلام ويب (بتصرف يسير)
المقدم: يقول الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة:127] نلحظ في كثير من العبادات التي جاءت في القرآن الربط بينها وبين الاستغفار أو الدعاء، حتى في أعمال الحج (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [البقرة:200]، (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [البقرة:198] فما الرابط بين العبادة والدعاء أو الاستغفار؟
الرابط بينهما فيما يظهر إشعار للعابد ألا يركن إلى العمل، وأن العمل مهما عظم وجلّ يحتاج إلى أن يقبله الله فيكون منه الدعاء والتضرع. وليس بعد بناء البيت شيء عظيم حتى إن الله جل وعلا كافأ إبراهيم على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في ليلة المعراج قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، فالجزاء من جنس العمل، أي: لأنه بنى لله بيتاً في الأرض ورفع قواعده، وإن كان رفعه بأمر من الله. لكن هذا الدعاء كأن العبد يقول لربه أنا لا أركن إلى عملي وإنما أركن إلى رحمتك وفضلك، فقبولك يا رب للعمل من أعظم المنن علي بعد أن وفقتني للعمل، كما قال الله عن أهل الجنة إذا دخلوها: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف:43] فإذا كان هذا في الجنة فمن باب أولى أن يكون في الدنيا. والإنسان خاصة إذا قُدّر له أن يحجّ مع ولده أو يحجّ ابن مع أبيه فإنهما يتذكران خليل الله وابنه وهما يتضرعان إلى الله جل وعلا، صحيح أننا لم نبن البيت ولكن لتلك المناسك والمشاعر والمواقف في ذلك المطاف أثر على القلب، فيقف هو وابنه مستقبلي القبلة فيقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127] فيستحضران ويستصحبان فعل الخليل صلوات الله وسلامه عليه. فإذا احتجّ علينا أحد وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له ولد آنذاك، وسنن الأنبياء وما نصّ الله عليها في القرآن لا تحتاج منا إلى استصحاب رأي أحد، فهي حجة في نفسها، قال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90]. فإذا كان هذا أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف بأتباع النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود: أن الدعاء من أعظم ما ترفع به الأعمال، وبه تقبل (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى:25]. إلى غيرها من الآيات التي تشعر أن الإنسان يكون قريباً من ربه إذا دعاه وتضرع إليه، وكلما كان ذلك مصحوبا بمكان فاضل وبقلب منكسر وبصوت خفي كان أدنى من ربه وأقرب إلى إجابة دعوته.
/ الإشارة إلى الإسلام عند ذكر إبراهيم عليه السلام : قال سبحانه وتعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)[البقرة:128] فالإشارة دائماً إلى الإسلام عند ذكر إبراهيم عليه السلام؛ لأن القضية قضية إستسلام كامل لله، والله قال: (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)[الأعراف:126]. والذي يظهر أن "من" هنا تبعيضية، وأن إبراهيم يعلم أن من ذريته من لن يكون مسلماً، ومُحال أن يكون جميع ذريته مسلمين، خاصة أنه في عصر متقدم. ولهذا قالوا: إن بعض الأدعية لا يحسن كل أحد أن يقولها، فمثلاً: إبراهيم عليه السلام قد علم بالوحي أن من ذريته من سيكون كافراً؛ لأنه قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124] فهذا إشعار أن هناك ظالمين سيكونون من ذريته. فعندما ذكر الله جل وعلا في سورة إبراهيم دعاء إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم:40] فهذا لا يحسن أن يقوله أي أحد؛ لأن قوله: (ومن ذريتي) بعضية، فإبراهيم علم من الله أن ليس كل ذريته سيصلي، ولكن نحن لم نعلم هذا من ربنا، هذا إذا قلنا: إن "من" هنا تبعيضية. أما إذا قلنا: إن "من" بيانية أو زائدة للتأكيد فالأمر واسع.
لكن نقول: إن الاستسلام لله جل وعلا هو دين إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:131-132] والأمة المسلمة تدخل فيها، قال تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة:128]، ويدخل فيها كل من آمن بالله من ذرية إبراهيم إلى يوم القيامة. ومن هنا نستطيع أن نقول: إن من كان من ذرية إبراهيم على التوحيد ممن جاء بعده إلى قيام الساعة حتى أتباع موسى وعيسى عليهما السلام كلهم مسلمون؛ لأن دين الأنبياء واحد.
هو دين رب العالمين وشرعه **وهو القديم وسيد الأديان
هو دين آدم والملائك قبله ** هو دين نوح صاحب الطوفان
هو دين إبراهيم وابنيه معاً ** وبه نجا من لفحة النيران
وبه فدى الله الذبيح من البلى ** لما فداه بأعظم القربان
هو دين يحيى مع أبيه وأمه ** نعم الصبي حبذا الشيخان
وكمال دين الله شرع محمد ** صلى عليه منزل القرآن
فدين الأنبياء واحد، كما قال الله: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة:285]. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثم جاء في معرض هذه الآية الدعوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) [البقرة:129] . وكما نعلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول مفتخراً صلوات الله وسلامه عليه: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام) بصرى من أرض الشام هي أول مدينة من مدن الشام دخلت في الإسلام في الفتوحات، وكأنها إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام). وأما بشارة عيسى فليس بين عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم نبي؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم) . وأما دعوة إبراهيم فلأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام من شفقته على ابنه إسماعيل وذريته قال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) [البقرة:129]، أي: من العرب من ذرية إسماعيل (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:129] هذه الدعوات من خليل الله إبراهيم تقبلها الله جل وعلا بقبول عظيم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم) من هنا يفقه الإنسان أن الدعاء لمن يُحب ، لذريته في المقام الأول أمر عظيم ، جليل القدر عند الله - تبارك وتعالى - والإنسان إذا أكثر منه قد يكون في ابنه أو حفيده أو في صديقه من ينفع الله جل وعلا به نفعاً عظيماً بدعاء ذلك الوالد. ولكننا أحياناً نستهين بأمور عظمها الشرع، ويغيب عنا أحياناً أن نفقه فقه الشرع، هذه الأمور عندما يقولها الله ليس المقصود منها إخباراً تاريخياً، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، لكن القرآن هدىً وموعظة وبشرى للناس. وهذا الجد قبل أن يكون نبياً هو جد لنبينا صلى الله عليه وسلم فدعا أن يخرج الله من ذريته من هذه صفاته: تعليم الناس وتزكيتهم، فكان ما أراد بتوفيق الله جل وعلا له، فخرج نبينا صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا لما قابل عليه الصلاة والسلام إبراهيم عليه السلام في رحلة الإسراء والمعراج قال له إبراهيم: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، مع أن غيره من الأنبياء باستثناء آدم كانوا يقولون: أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح، لكن إبراهيم ناداه بالنبوة؛ لأنه من ذريته، وإبراهيم يفتخر بابنه محمد صلى الله عليه وسلم أيما افتخار. وقد كان عليه الصلاة والسلام يعرف قدر إبراهيم، فلما ذكر لواء الحمد قال: (كل الأنبياء يومئذ تحت لوائي، إبراهيم فمن دونه) فذكر إبراهيم، ومعلوم أن هذا يشعر بأن لإبراهيم مقاماً عظيماً عند الله، وكان إبراهيم يعلم ذلك، (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم:47]. فإبراهيم كان يعلم يقيناً احتفاء الله به؛ ولهذا كان يتكئ على هذا الاحتفاء، فقال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ)[الشعراء:84] وإلى الآن نحن في صلاتنا نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
فالمقصود: أن هذه الدعوات قبلها الرب تبارك وتعالى، فكان من ذرية إبراهيم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، والدعاء في المناسك يتأكد عند الوقوف على الصفا والوقوف على المروة، وبعد رمي الجمرة الوسطى، ورمي الجمرة الصغرى، وسيأتي الحديث عن ذلك في محله مفصلاً بإذن الله.
________________________________
التفريغ النصي من موقع إسلام ويب (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق