الجمعة، 29 يونيو 2012

جـ 9 / الوقفة الأولى في خبر موسى في سورة الأعراف


الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، أيها المباركون :
 نحن اليوم في الجزء التاسع من كتاب ربنا - جل وعلا - ولنا معه ثلاث وقفات ، الوقفتان الأوليتان منهما تعنيان بما ذكره الله من خبر كليمه موسى في سورة الأعراف والثالثة نتكلم فيها عن صدر سورة الأتفال .
وقد بينا في لقاءات سبقت أننا تختلف طرائقنا في كل حلقة ذلك أن القرآن عظيم ومن عظمته أنه يمكن تناوله بأوجه وطرائق متعددة فنقول :
 إن خبر موسى - عليه السلام - جاء في القرآن كثيرا ، وهو أكثر الأنبياء ذكرا في كلام الله لكن تلحظ أنه لا توجد سورة في القرآن باسمه مع أن في القرآن سور باسم هود ويونس وإبراهيم ويوسف والصديقة مريم ونوح ، ولما ذكر الأنبياء متفرقين أقل من ذكر موسى ذكرت أسماء سور في القرآن بأسمائهم . هذا كاستنباط.
مما قاله الله - جل وعلا - في خبر موسى في سورة الأعراف نقف بعض الوقفات :
 / قال الله - تبارك وتعالى - (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ) هذا كان بعد أن نجا الله - جل وعلا - موسى ومن معه من بطش فرعون ، وفرعون اتبع موسى ومن معه ، أي أن فرعون ومن معه من الجنود اتبع موسى ومن معه من المؤمنين حتى وصلوا إلى جهة المشرق لأن البحر بالنسبة لمصر يقع شرقا هذا على قول من قال (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ) أي جهة الشرق ، وقد يكون (مُّشْرِقِينَ) إشراق الشمس لأن موسى خرج من أرض مصر أصلا بالليل (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا) ولا يكون رؤيا إلا في النهار ولهذا قال الله - جل وعلا - (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) غاية الأمر هنا أن الله - جل وعلا - نجا موسى وعلى وجه الإيجاز :
لما وصل موسى البحر أمر الله أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فنجا الله موسى وعبر ، على الجانب الآخر كان فرعون يريد أن يعبر وكان ملكا داهية فتأخر في العبور رجاء أن يعرف علاما ينتهي البحر بموسى ، فلما اكتمل خروج موسى ومن معه ، وصلوا إلى الشق الآخر من البحر ، نجوا بالكلية ، في هذا الوقت كله وفرعون باق على الشق الأول لا يريد أن يعبر حتى يطمئن أن البحر سيبقى يبسا ، فلما تيقن موسى أنه نجا كان غاية أمره أن ينجو لا أن يُهلك فرعون فأراد أن يضرب البحر بعصاه مرة أخرى حتى يعود البحر بحرا فلا يتأتى لفرعون أن يعبر فيصبح كل منهم في منحى ولا سبيل لأحدهما على الآخر فينجو فقال له رب العالمين كما في الدخان (وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا) أي ساكنا كما هو فتركه امتثالا لأمر الله ، فلما تركه وبقي البحر ساكنا كما هو أغرى ذلك فرعون أن يعبر وغلب على ظن فرعون أن البحر سيبقى كذلك أبديا لأنه إن كانت الغاية من كونه قد أصبح يبسا هو نجاة موسى فقد نجا ، فلما لم يعد البحر بحرا غلب على ظن فرعون أن البحر سيبقى ساكنا فأغراه ذاك بالعبور فعبر، فلما اكتمل هو وجنده أمر الله البحر أن يعود بحرا فعاد فأغرق الله آل فرعون وموسى ومن معه ينظرون . هذا كله ذكر في مواقف متفرقة من القرآن .
/ هنا يقول الله - جل وعلا - (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا) أي الملأ من بني إسرائيل (عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ) موسى لم يُبعث للناس كافة ، بعث لبني اسرائيل ولفرعون وإنما لم يبعث للناس كافة إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذه أمة من الأمم كانت غربي البحر ، شمال غرب البحر تعيش ولا نبي لهم ، أو قد يكونوا أمة نبي من الأنبياء لكنهم لم يؤمنوا به ، فالله - جل وعلا - لم يذكر لنا هؤلاء القوم ولا سبيل لنا إلى معرفتهم لأنهم غيب ، لكن الله ذكر أن هؤلاء القوم لهم أصنام ، لهم آلهة يعبدونها فتعلقت قلوب بني إسرائيل بما رأوا وهذا يدل جملة على فساد طينتهم .
/ (قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) فتعجب نبي الله وقال (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وأي جهل أعظم من هذا لكن الذي نريد أن نصل إليه أن هذا وقع لمن أسلم متأخرا من المؤمنين بعد الفتح ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج بالمؤمنين ومعهم مسلمة الفتح من مكة إلى الطائف مر على قوم لهم شجرة يعلقون عليها ما يعلقون ويعبدونها فقال من تأخر إسلامه لتوه بعد لم يصل حقيقة الإيمان إلى قلبه ، ليس كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ، قالوا : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال - صلى الله عليه وسلم - (الله أكبر إنها السنن لقد قلتم كما قال بنوا اسرائيل لموسى اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة) من هنا تؤخذ قاعدة : أن العبرة بالمعنى لا باختلاف الألفاظ . والدليل من هذه القاعدة أن قول مسلمة الفتح "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط " من حيث الألفاظ تختلف عن قول بني إسرائيل (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) لكن المعنى واحد . فلم ينظر - صلى الله عليه وسلم - إلى اختلاف الألفاظ لما اتحد المعنى .
والعكوف في اللغة : اللزوم ، سواء كان عى خير أو على شر وهو هنا على شر . (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) إلى أن قال ربنا (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) كان هذا في زمن أن بني اسرائيل في أرض التيه ، لما كانوا في أرض التيه واعد الله - جل وعلا - موسى ثلاثين ليلة ، والميقات ميقاتان : ميقات مكاني وميقات زماني ، فالميقات المكاني كان جبل الطور ، لم يذكره الله هنا لكن ذكره في سور أخرى (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) وبعد قليل سيأتي تجلى ربه للجبل ، والجبل المعهود هنا ذهنيا هو جبل الطور . والميقات الزماني أوتي تعليمه لموسى على تدرج قال الله (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) فعبر بالليالي دون الأيام وقد فهمنا من هذا أن شرائع الدين ومناسكه يعبر عنها بالليل ، ومنافع الناس الدنيوية يعبر عنها بالنهار لأن أكثرها يتعلق بطلوع الشمس فالمزارعون مثلا إنما يزرعون على البروج الشمسية لأنها ثابتة ، وأما شرائع الدين كدخول رمضان أو خروجه أو ثبوت الحج وأمثاله ومعرفة متى يوم الوقفوف بعرفة فهذا كله متعلق بالأهلة ، متعلق بالليالي ؛ ولهذا قال الله - جل وعلا - (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) قال العلماء : فيما يظهر أن الثلاثين الأول هن شهر ذو القعدة وأن العشر التي أتمها الله لموسى هي العشر الأول من ذي الحجة فيصبح على هذا أن الله - جل وعلا - كلم موسى في يوم النحر - العاشر من ذي الحجة - يدل على هذا حتى تفقه القرأن جملة لأن هذا هو المقصود من مثل هذه الدروس .
الله قال في سورة مكية (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) فمن حمل من العلماء أن الليالي العشر المقصود بها ليالي رمضان أبعد النجعة لأن هذا قرآن مكي ورمضان لم ينزل بعد بيان شرفه ولا الأمر بصيامه ولا يمكن إحالة الناس في القسم على مجهول ، لابد أن يُحالوا على شيء معلوم ، لكن غالب الظن أن الله - جل وعلا - في الأعرف وهي هنا آيات مكية أخبر عن هذه العشر هاهنا قال (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) فشاع بين المؤمنين الأوائل وبين من يسمع القرآن من مشركي قريش فضل العشر الأول من ذي الحجة وأن الله أتمها لموسى فلما جاء القرآن المكي بعد ذلك في سورة الفجر ربنا يقول (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) فُهم أن هذه الليالي العشر تعود على ليالي شهر ذي الحجة لأنه لابد أن يكون هناك عود على معهود إما لفظي وإما ذهني .
 قال ربنا (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) فأصبح الميقات زمانيا أربعين ليلة والميقات مكانيا عند جبل الطور . وفي الوقفة التي بعدها نكمل إن شاء الله تعالى ما كان من تكليم الله لنبيه موسى بن عمران عليه السلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق