الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وأشهد ألاّ إله إلا الله رب الأرض والسوات ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، نبي شرح الله له صدره ورفع الله له ذكره ، وضع الله عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالفه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هداه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
عباد الله فإن تقوى الله أعظم الوصايا ، وأجل العطايا ، زينة للمؤمن في دنياه وآخرته قال ربنا - جلّ ذكره وتبارك اسمه - {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} ، وقال - جل ذكره - {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ} ثم اعلموا عباد الله أن سورة الحشر سورة مدنية أُنزلت على قلب رسولنا في هذه المدينة المباركة تضمنت الجلال في المباني اللفظية ، والسمو في المعاني والآيات الدلالات ، جاء في أولها قول ربنا - تبارك وتعالى - {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تنزيه الله عما لا يليق به وهو المعروف بالتسبيح من أجلّ الذكر وأعظم الطاعات وفخر العبادات ، جاء في وصية نوح لأبنائه - عليه السلام - أنه قال لهم " وأوصيكم بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يُرزق الخلق" . كما ذكر الله - جل وعلا - فيها ممتنا على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلك أنه بعد يوم بدر بستة أشهر عمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يهود بني النضير وهم إحدى طوائف اليهود الثلاث التي كانت تسكن المدينة آنذاك ، يستعين بهم - بعد الله - على دية وجبت على عمر بن أمية الضري - رضي الله عنه - فقالوا له اجلس هاهنا يا أبا القاسم نحادثك ثم ائتمروا عليه على أن يُلقوا عليه صخرة وهو جالس ، فجاءه الوحي من السماء فأخبره فنهض - عليه الصلاة والسلام - مسرعا ، وصدق شوقي إذ يقول :
الآي تترا والخوارق جمة *** جبريل روّاح بها غداء
المصلحون أصابع جُمعت يدا *** هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى عليك الله ما صحب الدجى *** حادٍ وحنت للفلا وجناء
فقام - صلى الله عليه وسلم - من مقامه سريعا فتبعه أصحابه فسألوه فأخبرهم الخبر ، فعمد عليه السلام إلى يهود بني النضير فأمهلهم عشرا ثم أجلاهم من المدينة ، فهذاقول الله - جل وعلا - {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} والحشر الآخر يوم أن أخرجهم - صلى الله عليه وسلم - في العام السابع من خيبر ، ثم أخرج بقيتهم أمير المؤمنين عمر - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - في زمن خلافته ، فصدر هذه السورة الكريمة يتحدث عن يهود بني النضير وإن الله - جل وعلا - يكتب ويخلق ما يشاء .
كان ممن خرج من المدينة من يهود بني النضير صفية بنت حيي بن أخطب فسكنت خيبر مع قومها ثم آل بها الأمر بعد خيبر إلى أن تصبح زوجة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهذا من معاني قول الله - جل ذكره - {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} فزوجة رسول الله المؤمنة في الدنيا والآخرة أبوها يهودي كافر حاسد لنبينا عليه السلام {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ويقول - جلّ ذكره - {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاء} اللهم إنا نسألك نورا عظيما من لدنك نهتدي به .
تحدثت الآيات بعد ذلك عن فضل المهاجرين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السابقين الأولين الذين تركوا الديار والأموال والأوطان رغبة في فضل الله - جل وعلا - ورحمته فجعل الله ما أفاء على رسوله أول ما يكون لأولئك الفقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم يبتغون من فضل الله وعطائه ورحمته فصدقهم الله - جل وعلا - وعده وكان هذا أولى ما ... الله عليهم من العطايا . والمهاجرون الأولون هم سادة هذه الأمة في الدنيا والآخرة ، قدمهم الله - جل وعلا - في القرآن قال - جل وعلا - {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} ثم ذكرت الآية الأنصار أهل مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ربنا - جل ذكره - {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} فالدار هي المدينة ، والإيمان ما وقر في قلوبهم فلا بلد إلا وفُتحت بعنوة السيف إلا هذه المدينة المباركة لم ير فع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهلها سيفا وإنما قدمها وقد دخلها الإيمان قبل أن يدخلها - صلى الله عليه وسلم - يوم أن بعث لهم قبل ذلك مصعب بن عمير وهو في مكة ثم تتابع المهاجرون ثم كانت هجرته صلوات الله وسلامه عليه - فقال ربنا .... والأقوام الفضلاء {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
بينت السورة أن من أعظم ما يتحلى به المؤمن سلامة قلبه ، فإن المؤمن إذا كان سليم القلب لإخوانه المؤمنين لا يحمل حقدا ولا حسدا ، يُقيل العثرة ويقبل العذر ، ويتحلى بالعفو ولا يحمل في نفسه ولا في قلبه ضغينة ولا حقدا على أحد لعرقه أو لجنسه أو لبلده أو لسلطانه أو لماله أو لمنصبه ، كل ذلك يجعله وراء ظهره وهو يجعل حق الله - تبارك وتعالى - مقدما على حق كل أحد ، قال - جل ذكره - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .
ثم ذكرت السورة آية هي أصل في المحاسبة عند العلماء ، قال الله - جل وعلا - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} فهذه الآية أصل في محاسبة النفس والعاقل من يكون يومه خيرا من أمسه ، ويكون غده خير من يومه ، وهذا يكون بأن ينظر الإنسان في حاله مع ربه - جل وعلا - ينظر أولا في حاله في الشعائر التعبدية ذلك أن الأصل والغاية العظمى من خلق الثقلين عبادة الله ، فينظر الإنسان حاله مع شعائر الدين الأربع : مع الصلاة والصيام والزكاة والحج أين هو منها قال الله عن زكريا وأهله {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقال - جل ذكره عن عبده داود {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي تواطأ بدنه وقلبه على عبادة الله - جل وعلا - ، ثم ينظر الإنسان أين هو من معاصي الله - جل وعلا - فإن للمعاصي شؤما على صاحبها ، كتب أبو الدرداء - رضي الله عنه - إلى مسلمة بن مُخلّد قال له " سلام عليك أما بعد : فإن العبد إذا كان يعمل في معصية الله أبغضه الله ، وإذا أبغضه الله بغض الله فيه عباده " فالمعاصي شؤم على أصحابها قال ربنا {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} وقال ربنا {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} وقال ربنا {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} . ومحاسبة النفس يكون كل يوم وليلة ويكون في كل .... والمسلمون في جمعتهم هذه يودعون آخر جمعة في عامهم الهجري ، ولا دليل على أن الأعمال تُرفع إلى الله في نهاية العام الهجري ، لكن الإنسان لو اتخذ من ذلك العام عند نهايته وقتا يُحاسب فيه نفسه فلا حرج ولا ضير ، وإلا فهجرة نبينا - صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع الأول وإنما اتفق المؤمنون في زمن أمير المؤمنين - رضوان الله عليه - على أن يكون عامهم يبدأ بعد عودة الناس من حجهم في شهر الله المحرم ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ( إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) .
من محاسبة النفس بُعد الإنسان عن المجالس التي تكثر فيها الفحشاء ، ويُنطق فيها بالسؤ ، ويُجهر فيها بالقول البذيء ، قال مالك - رحمه الله - " ما جالست سفيها قط " ولهذا قال ابن وهب وغيره " أخذنا من أدب مالك أكثر مما أخذنا من علمه " .
زادني الله وإياكم من التقوى ، وعلمنا الله وإياكم ما ينفعنا في أمر ديننا ودنيانا ، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
/ الحمد لله على فضله ، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف رسله وبعد :
خُتمت هذه السورة المباركة بآيات ثلاث متتابعات تنبئ عن عظيم قدرة الله وجليل رحمته وعظيم سلطانه قال ربنا {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
إن أصل الدين كله أن يعظم العبد ربه جل وعلا ، ولن يعظم ربه - جل وعلا - حق التعظيم حتى يعلم علم اليقين ما لله - جل وعلا - من صفات الجلال ونعوت الكمال ، جاء في الآثار إن الله - جل وعلا - لما بعث موسى وهارون إلى فرعون قال لهم - تبارك اسمه وجل ثناؤه - قبل أن يبعثهما وهما قادمين على أرض مصر قال لهما " لا يغرنكما ما ترين عليه من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي " وما من أحد عظُم سلطانه أو امتدت مملكته أو كثُر ماله أو كان قراره في الدنيا قرارا أوحد أو إشرأبت إليه أعناق الرؤساء ، أو تخاصم عند بابه الملوك من أهل الدنيا إلا وهو ... ناصيته بيد الله - جل وعلا - وحده أيا كانت عظمته ، أيا كان سلطانه ، أيا كان ماله ، أيا كان قراره فكل من مُلّك شيئا من أهل الدنيا في غابر الأزمان أو مما هو كائن أو ممن سيكون إنما أمره وسلطانه وناصيته بيد الله - جل وعلا - وحده {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }
اللهم إنا نشهد ونُحاجّ أنك أنت الله لا إله إلا أنت المليك المقتدر ، لا رب غيره ولا إله سواه ولا شريك معه .
عباد الله : أكثروا في هذا اليوم من الصلاة والسلام على سيد الأنام {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين وخصّ اللهم منهم الأربعة الراشدين ، اللهم وارحمنا معهم بمنك وكرمك وغفرانك يا أرحم الراحمين .
الأربعاء، 11 يناير 2012
تأملات في سورة الحشر للشيخ / صالح المغامسي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق