الأربعاء، 7 ديسمبر 2011

الحلقــ الثالثة ــة / سورة النازعات آية (١٥)



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد :
فما زلنا نتفيؤا كلام ربنا - جل وعلا - نتدارسه ونفسِّره ، كنا قد قلنا في اللقاء الذي سبق ارتباط قول الله - جل وعلا - عن فرعون أنه قال (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) مع قول الله - جل وعلا - في خاتمة سورة النازعات أو في أوسطها قوله - جل وعلا - (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) ووجه الارتباط مما يلي :

/ قال ربنا في هذه السورة المباركة - سورة النازعات - والقرآن يتحدث عن خبر موسى قال (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(15)إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى(16)اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17)فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى(18)وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19)فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى(20)فَكَذَّبَ وَعَصَى(21)ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) أي يعمل ، يجهد ماذا صنع ؟ (فَحَشَرَ ) أي جمع (فَنَادَى) في الذين جمعهم فقال (أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى) । في الأول قال (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) وأظهر أنه يريد الحق وطلب من وزيره أن يصنع صرحا أي بناء عاليا لزعمه ينظر أين إله موسى ، أما الآن فتجرد حتى من هذا وقال - عياذا بالله - (أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى) .
يُروى من مليح العلم لا من متينه " أن إبليس لما قال فرعون أنا ربكم الأعلى قال إبليس : أنا تجبرت على آدم فلقيت ما لقيت فكيف هذا الذي يقول هذا " ولهذا ورد أن جبريل لما سمع هذا الأمر من فرعون أبغضه بغضا شديدا فلما أُهلك فرعون وغرق أخذ جبرائيل - عليه السلام - يأخذ الوحل - طين البحر - يضعه في فم فرعون خشية أن يقول فرعون كلمة يستدر بها رحمة الله "، وهذا يدل على أن رحمة الله تُستدر بالكلمة ، بالدعاء الصادق ومع هذا لما قال فرعون (أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى) حنق عليه جبريل لأن جبريل من أعظم العباد معرفة بعظمة الله حتى يقول هذا (أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى) قال قبلها (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، ما بين قوله (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) وما بين قوله (أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى) أربعون سنة والله - جل وعلا - حليم عنه ، يخرج مخلوق من مخلوقاته لا يملك من الحول والطول قوة فيجمع الناس ويقول لهم (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) فيتداركه حلم الله أربعين سنة فغره حِلم الله ، لم يفقه ثم تمرد واستكبر وعتى فجمع الناس ليقول لهم (أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى) قال الله بعدها (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) ذهب الحافظ بن كثير - رحمه الله - إلى أن معنى قول الله - جل وعلا - (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) قصد بالآخرة يوم القيامة ، و"الأولى" في الدنيا فيصبح المعنى على تفسير بن كثير " الغرق في الدنيا ونار جهنم في الآخرة " والحق أن ما ذهب إليه ابن كثير مرجوح ، والراجح ما ذهب إليه قبله أبو جعفر ابن جرير الطبري - رحمه الله - فإنه ذهب إلى أن المراد بقوله تعالى (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) أخذه الله نكالا بسبب الآخرة وهي قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) والأولى قوله (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) . هذا الأرجح وإن كان ابن كثير - رحمه الله - على جلالة قدره في التفسير قال عن قوله " وهذا القول لاشك فيه " لكن الجزم دائما لا يحسن إلا بقرينة أو آية صريحة المعنى واضحة أو بدليل صحيح صريح ، لكن يُبقي الإنسان في التفسير مدارا للأخذ والعطاء فالصواب - إن شاء الله ولا نجزم - أن قول الله - جل وعلا - (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) أي : لقوله الأول (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ولقوله الآخر (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) . وهذا انموذج لمن عتا وتمرد ، قال العلماء - العارفون بالله - : " كل أحد فيه هذه النزعة لكن المتقي تُلجمه التقوى والبعض قد لا يستطيع بها مع من هو أعلى منه لكنه يصنع شيئا من الكِبر ، لا يُنازع الله في ألوهيته - هذا كفر ولا في ربوبيته لكنه يحب أن يشعر بشيء من الأمر والنهي فيمن حوله ليُشبع شيئا في نفسه أما المتقون فإنهم يُلجمون هذا في النفوس بلجام التقوى ولابد من الاستعصام "، امرأة العزيز لما أثنت على يوسف قالت (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي الرغبة الموجودة في الرجال لديه لكن عظمته ، إيمانه ، تقواه في أنه استعصم وامتنع وإلا لو لم تكن تلك الرغبة الموجودة في الرجال نحو النساء مطوية في قلبه لما أصبح هناك ابتلاء ولا رفع درجة له ، وكذلك كل أحد فيه حب شيء أن يسيطر لكن الله يقول (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وقد جاء الشرع بقطع دابر هذا الذي في النفوس ، ( من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) كل ذلك حسما لهذا الأمر .
قال العلي الكبير بعدها (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي ما أخبرناك به وقصصناه عليك (لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) عندما يكون هناك شط وادٍ وشط وادٍ آخر وتمضي بين الشطين يُقال فلان عبر الوادي ومعنى "عبر" انتقل من مكان إلى مكان ، الآن نسمع في النشرات الإخبارية بـ"بمعبر رفح " ، ومعنى معبر رفح الذي يعبر أو ينتقل من غزة إلى أرض مصر أو الانتقال من أرض مصر إلى غزة ، هذا النموذج في الفهم تعال به إلى كلام الله فالله يقول (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) إلى أن يقول (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) ثم قال (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) يصبح معنى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) الذي يخشى يعبر بقلبه من فهم القصة إلى الاتعاظ بالقصة فبعض الناس ينتهي أمره أنك تسأله عن خبر فرعون وموسى يشرحه لك تفصيلا ويقول لك ما قاله الأئمة وما قاله المؤرخون لكن هذا لم يعبُر بعد ، لابد أن ينتقل الفؤاد من معرفة القصة إلى الاتعاظ بها فإذا انتقل الفؤاد عقِل المؤمن عن الله كلامه انتقل من معرفة الخبر ، معرفة القصة أن هناك نبيا قابل معاندا جبارا وأن الله أهلك المتجبر ونصر النبي وأخذ المتجبر نكال الآخرة والأولى هذه كلها معرفة فإذا عبرتها ، تجاوزتها من حدود المعرفة إلى حدود الاتعاظ وعرفت أن الله ينتقم ممن عاداه وأن الله خير الماكرين وأن الله يقول (وَأَكِيدُ كَيْدًا) وأن الله عزيز منتقم وأنه ناصر لأوليائه - تبارك اسمه وجلّ ثناؤه - هذا هو الاعتبار الحق المقصود من الآية فلم يذكر الله قصص أنبيائه ورسله لتُعرف مجرد معرفة إنما ذكرها حتى يعتبر بها لكن من الذي يعتبر ؟ قال ربنا (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي فيما أخبرناك به (لَعِبْرَةً لِّمَن) يؤتى بها للعاقل واللام جارّة (لِّمَن يَخْشَى) والخشية : "الخوف من الله مقرونا بالإجلال والمحبة" فقد تخاف إنسانا أو أحدا ولا تحبه ولا تُجلّه ، الله - جل وعلا - قال عن موسى (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ) وهو لا يحب قتلهم ولا يُجلِّهم لكن قول الله - جل وعلا - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) بيان على أن المقصود الأسمى من خبر القرآن وقصصه أن يخشى العبد ربه - جل وعلا - فينظر الإنسان بعد ذلك وقد سمع هذا من كلام ربه ينظر في حاله فيخشى أن ينتقم الله منه لكن أي خوف أدى بك إلى اليأس فهو مذموم وأي رجاء أدى بك إلى الأمن فهو مذموم لكن المؤمن ما بين خوف ورجاء يُحلق بهما ويجعل محبة الله إجلالا له والطمع في لقائه في قلبه حتى يلقى الله وهو على هذا الحال ، على أنه دلّ القرآن والسنة على أن الإنسان إذا قرُب أجله وعاين الموت فالأكمل في حقه أن يُغلب جانب الرجاء لأنه - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب يجود بنفسه قال : كيف تجدك ؟ قال : أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي ، وتكلم عن حُسن ظنه بربه فأخبر - صلى الله عليه وسلم أن أنها في مثل هذه الأحوال سبب في دخول الجنة .
والمقصود أيها المبارك : معنى قول الله - جل وعلا - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) هذه الآيات مكية نلحظ فيها الإيجاز لأنها أول ما يطرق السامع من قريش فيصبح العقل والقلب متلهف للمزيد فيأتي التفصيل في سور أخر فتأتي السور المكية قصارا في آياتها تحمل الأمور مجملة ثم بعد أن يستقر هذا في قلوب المؤمنين وفي قلوب المعاندين تأتي آية الأعراف وبعض السور كيونس وغيرها وهود مما حوت قصص النبيين فتأتي مفصِلة له .
قال ربنا (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) "النكال" يُطلق ويُراد به معنيان :
/ يراد به القيد ومنه قول الله - جل وعلا - (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالا وَجَحِيمًا) فالمراد بـ " الأنكال " هنا القيد وقد جاء في الأثر " إن الله يحب الرجل النكِّيل على الفرس النكِّل " يعني الرجل القوي على الفرس القوي .
/ ويطلق النكال ويُراد به النكوس والرجوع قالوا وهو المستعمل هنا في قول الله - جل وعلا - (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) أي حتى من يراه ينكس ويعود ويفيء إلى رشده ويعود عما هو عليه ومنه قول الله - جل وعلا - (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) ودلّ السياق كله على أن المقصود الأعظم والمطلوب الأجلّ الذي جهر به أنبياء الله ورسله أن تخشع القلوب لله وقد فُهم هذا من قول الله - جل وعلا - (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى*وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) أي تخضع وتخشى ويصبح قلبك راضيا مطمئنا بالله والإنسان متى بلغ هذه الدرجة مشى على الأرض مطمئن الفؤاد وإن كان يناله من نكد الدنيا ما يناله ، على أن الإنسان وهو في سيره إلى الله يجب أن يعلم حالا بيّنة دل عليها العقل والنقل . كل من تراه الآن إما أن كتب الله له أن يُعمّر وإما أن كتب الله له أن يموت صغيرا قبل أن يُعمّر ، فالذي يُعمّر يلقى الردى في غيره لأن أي أحد يُعمّر للتسعين ، للمئة يرى كثيرا ممن يحبهم يموتون فلا يلقى الردى في نفسه ، يلقى الردى في غيره ، ومن لا يُعمّر يلقى الردى في نفسه ، على هذا لا يمكن يسلم بنو آدم من الردى حتى يوسد في رمسه إما في غيره وإما في نفسه ومن عرف هذا وطّن نفسه حتى يلقى الله - جل ذكره - فوالله لا الذي عُمّر نجا من الموت ولا الذي مات صغيرا لو عمّر نجا من الموت وهذا كله يمكن إدراجه في قول الله - جل وعلا - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) لأن المقصود من قصص القرآن أن يتعظ المؤمن مما يراه ويُخبر الله - جل وعلا - عنه وهذا اللعين فرعون مكث أربعين عاما وهو يُدعى إلى الله ويجحد وكأنه لم يكن يوما من الدهر ولهذا قال سلف الأمة " إن من أعظم طوارق القرآن وعظا قول الله - جل وعلا - (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) وقالوا إن أحد الصالحين رحل إلى الحسن البصري - وهو معروف بعظاته - يسأله وعظا فتلا عليه الحسن هذه الآية (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ*مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) ". من عقِل عن الله كلامه رجا من الله رحمته وطمع من الله في مغفرته واستغفر ذنبه وآب إلى ربه .
متعنا الله وإياكم متاع الصالحين ، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق