الجمعة، 1 مارس 2013

كيف نقرأ سورة آل عمران ؟

د.عصام بن صالح العويد

 آل عمران هي ـــ والعلم عند الله ــ سورة "عرفت فالزم" أو "الثبات على الأمر" ، وذلك أنه لما تتابعت الأوامر والنواهي وتجاوز عددها المئين في سورة البقرة حيث أبانت عن صراط المتقين وشيدت أركان وشروط وفروض ومتممات التقوى ؛ لم يكن بعد ذلك إلا الامتثال والثبات على هذا الصراط المستقيم ، ولذا تكرر الأمر فيها بالصبر والدعاء ـــ كما سيأتي بيانه بمشيئة الله ـــ ما لم يتكرر في سواها من سور القرآن العظيم .

 وأيضا (العلم) و (وأولو العلم) و (أولي الألباب) حاضر في أول السورة ، فقد ذكرت نموذجين: نموذجا للضالين وهم "وفد نجران" ، ونموذجا للمهتدين وهم "آل عمران" ، وبما أن السبب الأول في ضلال النصارى هو الجهل وعدم بذل الوسع في الوصول للعلم الحق ، فالسورة كلها إنما هي تفصيل لكلمة واحدة من أم الكتاب في قوله تعالى "وَلاَ الضَّالِّينَ" ، كما أن سورة البقرة تفصيل لقوله تعالى"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ" .
 وهي قرينة سورة البقرة في الكتاب والسنة ، وإحدى الزهراوين اللتان تحاجان عن صاحبهما الذي كان يعمل بهما في الدنيا ، وهي من السبع الطوال أفضل أحزاب القرآن بعد المفصل .
/ وآل عمران هم : عمران بن ماتان أبو مريم ، وآله وهم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا ، ومعهم زكريا كافل مريم وكذا عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم الصلاة والتسليم ، وهم مضرب مثل في الثبات على الأمر الحق مع قلة بل ندرة السالك وكثرة الصوارف . فعمران وزوجه كانا من العباد وكان عمران صاحب صلاة بني اسرائيل وزوجه حنة كانت من القانتين ، وهذا ظاهر من هذا النذر والابتهال العظيم (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 33 - 36] . وزكريا كذلك ، وتأمل قوله تعالى فيه : (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) [آل عمران: 39] وقوله : (... وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [آل عمران: 41] ، وزوج زكريا لم تيأس مع طول الزمن بل أثبتت رجاءها بالله وطلبت من بعلها دعاء ربه مع عُقمِها وهرم زوجها . ومريم وعيسى ويحيى أمرهم في لزوم الأمر والثبات لا يخفى . وأهل الأخبار لا يختلفون أن يحيى قُتل بسبب ثباته على الأمر ، إما كما يقول ابن كثير وغيره أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه،فنهاه يحيى عن ذلك، فبقي في نفس المرأة منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها،استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله ، أو لغير ذلك.
/ وقد استهلت السورة بعد طليعتها بالتحذير من الزيغ وهو أمرٌ بضده وهو الثبات على الحق (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) وكان أول دعاء فيها (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 7 - 9] ، ولا يغب عن كريم نظرك التأمل في كلمة (لَا تُزِغْ) ، (لَا رَيْبَ فِيهِ) في دلالتها على الثبات وعدم الشك .
/ والسورة من أكثر سور القرآن ذكرا للصبر وحثا عليه خصوصا ما جاء على زنة اسم الفاعل "صابر" ، وقد تكرر ذلك فيها "4" مرات ، وليس لذلك نظير في القرآن إلا في سورة البقرة فقط . وحين ذكر سبحانه صفات المتقين بدأها بالصبر وهو سر الثبات (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَار) [آل عمران: 17] . ولما ذكر قصة معركة أُحد قال في أثنائها مرغبا بالصبر (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146] . وختمت السورة بقوله (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186] ، وختام ختامها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200] .

 / ومدار قصصها على قصتين عظيمتين:
 1ــ مناظرة وفد نجران: قال ابن كثير في تفسيره (2/ 56) : "وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران . وقصة آل عمران جاءت تمهيدا لها لأن الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى ، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام. وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه. وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها".
 واستمر ختام هذه القصة وما يتبعها إلى الآية (120) عند قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ..)  [آل عمران: 118 - 120] فهذه في الشبهات الواردة من الخارج ، وهي على أنواع في السورة كما سيأتي بإذن الله .
 2ــ معركة أحد: وجاء الحديث عنها في 60 آية من الآية "121 ـــ 180" والحديث هنا عن دواخل النفوس وما تتسبب فيه من الزيغ عن صراط الحق وعدم الثبات عليه . 
 
وسائل التثبيت في السورة وهي ثمانية:
 1ـــ استنطاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها : بدأت السورة بقوله تعالى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (2) .. (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)) [آل عمران: 2 - 6] فالحياة لابد لها من مُحيي يحييها وقائم يقوم على صلاحها ، ومن جادل في ذلك فما عليه إلا أن يصور هو من في الأرحام كما يشاء هو لا كما يشاء الله . وهذا كله مُدرك ببدهي العقل والفطرة .
 ومن آيات التفكر قوله : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 26، 27] .
 ومن آيات التفكر : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران: 83] ، فالكون له سنن ونواميس من خرج عنها هلك كائنا من كان إلا بإذن يسير ثم يعود الأمر إلى سننه ، فمن وضع هذه السنن التي خضع لها كل جبار في السماء والأرض ؟! وقد بدأت السورة وختمت بآيات التفكر .
 2 ـــ الدعاء وهي أكثر سورة في القرآن تكرر فيها الدعاء: وهو من أعظم وسائل الثبات ، ولذا افتتحت السورة بالدعاء واختتمت به وبين هذا وذاك دعاء كثير وفيها آية المباهلة وهي دعاء : ففي أولها: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَاد) [آل عمران: 8، 9] وفي وسطها : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 35، 36] . وفي ختامها : (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 191 - 194] .
3 ـــ الحجج والبراهين العقلية: فقال سبحانه مجيبا عمن استنكر ولادة عيسى من غير أب (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران: 59] ، فخلق آدم أعجب من خلق عيسى ، فمن أقرّ بالأول فكيف ينكر الثاني ؟ وقال مبينا خطأ محضا من بني اسرائيل (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 65] ، والتوراة والإنجيل لم يأت فيهما ذكر شريعة ولا صحف إبراهيم كما هو معلوم عند الجميع ، والبون الزمني بينهما شاسع جدا ، فكيف تحاجون في شريعة إبراهيم وأن القرآن قد خالفها كما زعمتم وليس عندكم علم بها ؟! وفي طريقة التفكير العقلية المنطقية أنه إذا كان هناك قولان ظاهرهما التعارض ونحن نوقن أن المتكلم بهذا الكلام لا يمكن أن يتناقض ، فالعقل كل العقل أن نرد الملتبس المتشابه إلى المحكم والفصل من القول (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7] .
 ومن أساليب الجدال الظاهرة في السورة البدء بالمشترك بينك وبين المخالف تقريبا له وتحببا إليه لعله يستجيب :
 ــــ (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 84].
 ــــ (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64] .
4 ـــ القوة في الجهر بالحق والاعتزاز به والتحدي في ذلك إلى أقصى درجات التحدي: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران: 61] ، وتأمل قوة الخطاب (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 12] .   
5 ـــ الوضوح والشفافية مع الأتباع دون الوعود الكاذبة أو التزويق الخادع:
 فالسورة أبانت أن طريق الله فيه بلاء ومصائب ونكبات ولم ترضَ ما يفعله بعض الدعاة من فرش طريق الدعوة أمام المدعوين بالأماني الحالمة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (142) ... (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)  [آل عمران: 142 - 146] وحين يقع الخطأ تكون المصارحة حَتَّى (إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [آل عمران: 152] ، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ..) [آل عمران: 155] ، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165] .
 6 ــــ ذكر قصص الثابتين والناكثين وجزاء الفريقين: وقد مضت الإشارة إلى قصة آل عمران وقصة نبينا عليهم أفضل الصلاة والسلام مع وفد نجران ، وكذا قصة معركة أحد.
7 ـــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104] .
 8 ـــ كثرة العبادة والمداومة عليها وبالأخص منها الصلاة: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) [آل عمران: 39] ، (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران: 42، 43] وفي صحيح مسلم عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله «العبادة في الهرج كهجرة إلي» والهرج زمن الفتن واختلاط الأمور بسبب كثرة الشبهات .

 أسباب الزيغ وعدم الثبات التي حذرت منها السورة وهي خمسة :
1 ـــ الاستجابة للشبهات باتباع المتشابه وترك المحكم: وهذا هو صدر هذه السورة العظيمة ، بل إن أعظم أسباب ضلال العالمين بعد الجحود والعناد هو اتباع المتشابه وترك المحكم ، فالنصارى استدلوا بولادة عيسى من غير أب على أنه ابن لله ، وهذا يرده صريح ومحكم العقل إذ لو كان كذلك لكان لكل إله إرادة خاصة به ولا بد ، فإن اختلفت هذه الإرادات كان النافذ منها واحدا قطعا ، فمن نفذت إرادته فهو الإله والثاني خاضع له . وقد ضربت لذلك مثلا في حجاب المرأة المسلمة وما هو المحكم منه والمتشابه في كتابي "أسوار العفاف قبس من سورة النور" فانظره غير مأمور . ومن كان مريدا للحق صدقا فعليه إن اختلف أهل العلم والتبست عليه المسالك بقول النبي "استفت قلبك" بشرط إرادة الحق ونزع الهوى من القلب .
 2 ـــ الانغماس في الشهوات: فهي من أكثر أسباب ضعف الانسان وزيغه وعدم ثبوت قدمه إذا غلبت عليه ، ولذا صُدرت سورة آل عمران بقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 14، 15] .
3ـــ المعاصي خصوصا الكبائر منها : وهي تخون صاحبها أعظم ما يكون حاجة إلى من يثبته كما جرى في غزوة أحد (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [آل عمران: 152] ، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165] وبالأخص الموبقات التي تثير العداوات بين الناس بسبب الظلم من الغني للفقير كالربا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [آل عمران: 130، 131] . فالربا بما فيه من ظلم من أعظم أسباب الخذلان والزيغ .
 4 ـــ كثرة الاختلاف وعدم طاعة أهل الأمر: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) ... (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 103 - 105] .
5 ـــ التعلق بالأشخاص ورباط التمسك بالحق بوجودهم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] .

/ وكان ختام هذه السورة العظيمة أن أمرت بأمرين:
 1 ــــ التفكر: أخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عُمَيْرٍ قال لعائشة : أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ:(يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي) قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجره قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ : لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا :
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 190 - الآيات] .
 2 ــــ الصبر الذي هو رأس الإيمان والتقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200] فتدرجت الآية في أوامرها من الأدنى للأعلى ، ففعل الأمر "اصْبِرُوا" يدل على وجوب الصبر ، ولكن فعل الأمر "صابروا" أرفع منه لأنه يتضمن مصابرة الغير ممن يريد تنحيتك عن الطريق ، والرباط أرفع منهما لأنه أمر باليقظة للعدو حتى قبل مجيئه ، والتقوى أرفع منها جميعا إذ هي ثمرتها المقصودة منها . فالتقوى هي الرابط بين أول البقرة و آخر آل عمران .
جعلنا الله من المتقين، وجعل سورة آل عمران حجة لنا لا علينا، وشفعها فينا وفي والدينا وأحبابنا أجمعين.
__________________________________
 المصدر: ملتقى أهل التفسير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق