الثلاثاء، 4 مارس 2025

الإعجاز البياني في اسمي الله: (ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ)

 الإعجاز البياني في اسمي الله: (ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ):

هذان الاسمان الجليلان لهما شأن عظيم، لكل واحد منهما قدره وجلاله، فإذا اجتمعًا زاد جلالهما، وأفضيًا إلى معان عظيمة جليلة، ليس ذلك من أجل أنهما تجاورا في القرآن الكريم فيما يزيد عن خمسة وأربعين موضعًا وردا فيه متجاورين ختمًا للآيات الكريمات، بل لأنهما يشتملان على معان أخرى جليلة تنضوي تحت كل منهما، فـ (ٱلْعَزِيزُ) متضمن للعِزة، ويجوز أن يكون صفة ذات يعني القُدرة والعظمة، وأن يكون صفة فعل بمعنىٰ القهر لمخلوقاته والغلبة لهم" ، فهو إذن يشمل كل معاني القُدرة والعظمة والقهر.

وكذلك (الْحَكِيمُ) فهو متضمن لمعنى الحكمة، وهو إما صفة ذات يكون بمعنىٰ العلم، والعلم من صفات الذات، وإما صفة فعل بمعنىٰ الأحكام، فلا يكون عزيزًا إلَّا أن يكون قادرًا، وقويًّا، وقاهرًا وعظيمًا، ولا يكون حكيمًا إلَّا أن يكون عليمًا، وخبيرًا وبصيرًا وهكذا.

قال الإمام الطاهر بن عاشور: "ثم أتبع ذلك بصفتي (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لأن العزة تشمل معاني القدرة والاختيار، والحكمة تجمع معاني تمام العلم وعمومه"

(ٱلْعَزِيزُ) يتضمن المعنيين التاليين:

١-أنه قوي قاهر قادر، يقهر ولا يُقهر، ويغلب ولا يُغلب، لا يعجزه شيء، ولا يمنعه أحد، ولا يرد إرادته راد، ولا ينتصر منه أحد عاقبه.

٢-تشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه، وشدة الحاجة تكمن في أنه يحتاج إليه كل شيء في كل شيء.

إن استقراء الآيات الكريمات التي ختمت بـ (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يشير إلى أن ثمّة نسق معين تسير عليه الآيات جميعها، سواء كان الأمر يتعلق بالآية أو السياق ذاته، بحيث لا يصلح غيره في موضعه، وإن بدا في ظاهر الأمر علىٰ غير ذلك.

إنَّ نظرة تأملية عميقة تكشف عن وجه الإعجاز في ورود الاسمين متجاورين ختما للآية، وذلك بإمعان النظر في الآية التي سبقتها أو تلك التي تليها، أو حتى السياق العام الذي انتظمت فيه الآية، والقارئ الملول الذي يتجول ببصره في ثنايا الآية فلا يجد وجه المناسبة عليه أن يعود إلى الآية التي قبلها، فإن أعجزه فالتي تليها، فإن أعجزه هذا وذاك، فإن السياق يكشف له بوضوح عن وجه المناسبة وعن حكمة التقدير.

 

س: متى تختم الآية بـ ( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»؟ وهل ثمة ضابط معين للختم بهذين الاسمين؟

والإجابة تنبع من معرفة حدود الاسمين، فالعزيز هو المتضمن لكل أشكال القدرة والقوة والغلبة والقهر، فحيثما يوجد في الآية أو السياق فعل أو أمر يتطلب تلك الأشكال مجموعة فالختم يكون بـ (الْعَزِيزُ)، فليس كل قادر عزيز، ولا كل قوي عزيز، ولا كل غالب عزيز، ولا كل قاهر عزيز، فـ (ٱلْعَزِيزُ) هو الذي يكون قادرا على الفعل مع قوته عليه فيُتمّه بحيث لا يمنعه مانع، ولا يغلبه غالب، بل يقهر كل من يخالفه، وينجز فعله علىٰ وجه العزة والاستعلاء.

وأما (الْحَكِيمُ) فحين يكون للفعل المراد تحقيقه حكمة، قد تكون ظاهرة، وقد تخفىٰ أماراتها، وفي كل لا يكون حكيما إلّا إذا كان عالمًا، خبيرًا، بصيرًا، فليس كل عالم حكيم، ولا كل خبير حكيم ؛ لأن (الْحَكِيمُ ) هو الذي يعلم وجه الحكمة من الفعل، ويعلم كيف يُتمه، ويعلم عواقبه، وعلى أي وجه يحققه، ويعلم العلة من وجوده فيأتي فعله في غاية الإحكام، وصنعه حيث ينبغي أن يكون، أو كما يقال أن (الْحَكِيمُ) هو "العادل في التقدير، المحسن في التدبير، ذو الحكمة البالغة الذي يضع كل شيء موضعه بحسب المصلحة"

 

من المحاور التي ورد فيها (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ختما:

١-محور النصر قال تعالى:

/ ﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران - ١٢٦]

/ ﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال - ١۰]

/ ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة - ٤۰]

 

فالآيات الثلاث السابقة تدور حول محور النصر وكيف أن اللّٰه سبحانه وتعالى نصر رسوله والمؤمنين، وكيف أنه قهر أعداءه، وهزمهم، وأيّد رسوله بجنود لم يروها وهم الملائكة، ومن المناسب إذن أن يكون الختم بـ (الْعَزِيزِ) لأن نصر المؤمنين، وتمكينهم من قهر أعدائهم، وإمداد المؤمنين بملائكة، أمر كله لا يقوىٰ عليه إلَّا عزيز، ثم كيفية مؤدّى الانتصار، وكيفية إحداثه، ولماذا كان بالملائكة ولم يكن بغيرهم؟ وهلا كان بطريقة أخرى؟ كل هذا أمر يدبّره حكيم، فإن سألت لماذا فاعمل ذهنك في البحث عن الحكمة، فإن خفيت فاعلم أن حكيمًا يقف خلفها.

قال الإمام ابن عاشور -رحمه الله- في معرض تفسير الآية السابقة الأولىٰ: "وإجراء وصفي (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هنا لأنهما أولى بالذكر في هذا المقام، لأن { الْعَزِيزِ) ينصر من يريد نصره، و(الْحَكِيمِ ) يعلم من يستحق نصره، وكيف يعطاه" .

ولنلاحظ في قول ابن عاشور "وكيف يعطاه" إن الكيفية التي يتم بها أمر الله مسألة مهمة في معرفة فهم (الْحَكِيمِ ) في ختم الآية، وحوله دار قول الإمام الألوسي: "( ٱلْعَزِيزُ ) فلا يعجزه الظهور بما شاء وكيف شاء، (الْحَكِيمِ) الذي ستر نصره بصور الملائكة لحكمة، وجملة (وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) تعليل لما قبلها، وفيها إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكمة البالغة"


٢- محور تنزيل الكتاب: من المحاور التي ورد فيها (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) ختمًا محور تنزيل الكتاب - القرآن الكريم - وهي آيات غالبًا ما تقع في بداية السور، فتنزيل الكتاب أمر لا يقوم به إلَّا عزيز، ذاك لأنه ليس المقصود بالتنزيل إنزاله من السماء إلى الأرض فقط، إذن لصحَّ أن تختم الآية بقادر مثلًا أو قدير، ولكن المقصود هنا الإنزال وقهر معانديه وغلبتهم بما انطوى عليه من إعجاز، وحكيم لأن هذا الكتاب إنما يشمل كل ضروب الحكمة، والحكيم يشير إلى علة إنزال هذا الكتاب الكريم، كأن قائلًا يقول: ولماذا كان التنزيل كتابًا ؟ قيل لحكمة أرادها الحكيم.

٣- المحور الآخر الذي ختم المولى سبحانه آياته بالعزيز الحكيم هو محور التسبيح، تسبيح الكائنات جميعها في السماوات وفي الأرض، وهذا المحور شمل مجموعة من الآيات، فالآيات التي اشتملت علىٰ تسبيح المولى سبحانه فيها إشارة إلى الربوبية والألوهية، ومن اليسير ملاحظة أن إخضاع الكائنات جميعها العلوية والسفلية بالتسبيح للمولى إنما يقوىٰ عليه إله عزيز، ولو لم يكن عزيزًا لما انقادت المخلوقات له مسبحة، ولو كان في هذا الكون رب غيره، أو إله سواه، لصرف المخلوقات جميعها عن هذا التسبيح، وهو حكيم لأنه ما طلب منها غير التسبيح، ولا فطرها علىٰ سواه رحمة بها، وهو حكيم لأنه هيأ هذه المخلوقات لما أمُرت به. يقول الإمام ابن عاشور: "و (الْعَزِيزِ) وصف ينفي وجود الشريك في الإلهية، و(الْحَكِيمِ) الموصوف بالحكمة وهي وضع الأفعال حيث يليق بها، وهذا الوصف يثبت أن أفعاله جارية على تهيئة المخلوقات لما به إصابة ما خُلقت لأجله، فلذلك عززها اللّٰه بإرشاده بواسطة الشرائع"

إن مناسبة الختم بـ ( الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) في آيات التسبيح واضحة، كما بان قبل قليل، بل إن ملمحًا آخر يمكن إدراكه وهو: أن (الْحَكِيمِ ) هو الذي صرف المخلوقات إلى ما يُصلحها وتستقيم به حياتها، وإن الإنسان أولى بهذا التسبيح وأجدر، فالتسبيح فيه صلاح لأحوال المخلوقات، فكيف بالإنسان؟!

إن الختم بـ (الْعَرِيزِ الْحَكِيمِ) فيه إغراء للإنسان أن يسلك ما يصلحه أسوة بغيره من لمخلوقات، فيسبِّح مولاه لتستقيم حركة الإنسان مع الكون، لأن الكون قد استقام بالتسبيح والامتثال لإرادة مولاه. ذاك إذن هو الضابط فعلٌ يكون في صدر الآية أو السياق لا يقوى عليه إلَّا عزيز يتمُّه على أكمل وجه، ويقمع معانديه، ويعجزهم، فيتفرد بالعِزة والغلبة، وهذا الفعل له وجه حكمة قد تكون ظاهرة وقد تخفى، وله كيفية يتمّ بها على أحسن الوجوه وأفضلها، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران - ٦] فالتصوير في الأرحام أمر لا يقوم به إلَّا عزيز، والكيفية التي يتمُّ بها إنما هي تدبير حكيم، إذن الفعل (يُصَوِّرُكُمْ) يتعلق بالعزيز الذي لا مثيل له، و(وكَيْفَ يَشَآء) يتعلق بالحكيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من كتاب لوامع البينات لما في ختم الآيات بأسماء الله الحسنى من دلالات


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق