توقفنا في اللقاء السَّابِق عند قول اللّٰه: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِه فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَآ أَنْقَقَ فِيْهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَاَ ليْتَنِي لَمْ أُشْرِك بِرَبِّىَّ أَحَدًا)، وقلت: إنَّ اللّٰه أهلك هاتين الجنتين لأنَّ صاحبهما كان قد نسب النعمة لنفسه، وقد طغىٰ حبّ المال عَلَىٰ قلبه وَقَالَ: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالَا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُدِدتُّ إِلَى رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) فكان يفتخر ويتعالى عَلَىٰ صاحبه بأنَّه أكثرَ مالًا وأنه أعزُّ نفرًا، وأنه لا يظنُّ أن تهلك هذه الجَنَّة أبدًا، ما الَّذِي يهلكها؟ فأراد اللّٰه أن يعطينا درسًا عمليًّا: أنَّ هُذَا الَّذِي طغىٰ وتجبر وتكبر أهلك اللّٰه جنته وهو لم يستطع أن يمانع أو أن يمتنع، أو أن يقول لجنته: لا تهلكي، وفي نفس الوقت لم يكن هناك من يناصره.
• فَقَالَ اللّٰه بعد ذلك: (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا)
(وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنَصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ) الفئة: هنا جماعة، وَالْجَمَاعَة لأنه زعم أنه أعزُّ نفرًا، وأنَّ هناك من النَّاس الكثير والكثير الَّذِينَ ينصرونه، فالله عندما أهلك جنته وأهلكها واقعًا عمليًّا وهو لم يستطع أن ينصر نفسه، ولم يجد من ينصره من دون اللّٰه. * لكن خلِّ بالكم: اللّٰه تحدَّث عن خسف قارون أَيْضًا عندما افتخر وخرج عَلَىٰ قومه في زينته، فخسف اللّٰه به وبدراه الأرض لكنه قالَ هناك: (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ)، هنا قَال: (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ)، هناك قالَ: (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنَصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ)، وفي سورة الملك قالَ اللّٰه تَعَالَىٰ: (أَمَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُم مِن دُونِ الرَّحْمَنِ).
فلو نظرنا في الآيات الثلاثة: نجد أنَّ سياقها تقريبًا يكاد يكون واحدًا لكن:
•هنا قَال: (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ)، وَقَالَ: (يَنَصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ)
• وَقَالَ في قارون: (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ) زاد في قصة قارون (مِن) وهي حرف الجر في قوله: (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ) وكان التعبير بالماضي، وَقَالَ أَيْضًا: (يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ).
• وَقَالَ في موضع سورة الملك: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُم مِن دُونِ الرَّحْمَنِ).
لم يذكر اللّٰه في قصة هلاك الجَنَّة - في قصة هذَا الرجل - لم يذكر (ينصرونه من دون الرحمن) لماذا؟ لأنَّ هلاك الجَنَّة هنا عقوبة واقعة، والعقوبة الواقعة لا تتناسب معها «الرَّحمَن»، وكذلك في قصة هارون لم يقل: ينصرونه من دون الرحمن لأنها عقوبة أكبر، والعقوبة الأكبر هي الخسف (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِه ألْأَرْضَ).
أما في سورة الملك فالعقوبة لم تقع، العقوبة افتراضية، يعني اللّٰه يقول للعباد (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ) من هَذَا الَّذِي هو جند لكم يستطيع أن (يَنصُرُكُمْ مِن دُونِ الرَّحْمَنْ إِنِ الْكَفِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ).
فلما كانت العقوبة وقعت في سورة الكهف فكان التعبير بالألوهية، وكذلك في قصة قارون التعبير بالألوهية، في سورة الملك كان التعبير بـ (الرَّحمن) لأنَّ فيها دلالة أنه حَتَّىٰ الآن لم يوقع عذابه بكم رحمةً بكم، ورحمةً بِمُحَمَّدٍ وبأمة مُحَمَّدِ صلى اللهَ عليه وسلم.
• يتبقىٰ لنا هنا: (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ)، وفي سورة القصص في قصة قارون: (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ)، أنا قلت قبل ذلك: أنَّ (مِنْ) إذا دخلت عَلَىٰ الاسم المَنْفِيِّ أو الخبر المَنْفِيِّ؛ فتفيد أن النَّفْي منصبُّ عَلَىٰ بداية ما يُطلق عليه جنس ما بعده، يعني: لو قلت لك: أعطني مثلا مائة ريال، فأنت قلت: ما عندي من مال، يعني: ما عندي من بداية ما يُطلق عليه مال وهو الهللة، أو هو القرش، يعني أدنى معاملة ليست عندي، ما في بيتنا من رجل، من بداية ما يُطلق عليه رجل. إِنَّمَا لو قلت: ما عندي مالٌ؛ فقد يكون في جيبي مثلاً بعض المبالغ لكنها لا تصل إِلَى المائة ريال الَّتِي تطلبها، قد يكون عندي مثلا خمسون ريالًا، سبعون، لكنها لا تصل إِلَىٰ المائة، فلماذا قالَ في قارون: (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ) من بداية ما يُطلق عليها فئة لم يجد من يقف معه أو ينصره من دون الله؟
لأنَّ العقوبة شديدة، العقوبة كبيرة، خسف: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِه الْأَرْضَ) فالخسف شمله وشمل داره، ولذلك يُثبت اللهُ أنه لم يكن هناك (مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ).
• أما هنا فصاحب الجنتين لم يهلك، الهلاك كان للجنتين فَقَطْ، فالعقوبة أخف من عقوبة الخسف ولذلك قالَ الله: (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ).
•عندنا في قوله: (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ) قراءتان:
•(وَلَمْ تَكُن) بالتأنيث على اعتبار أن (فِئَة) مؤنث وهو بمعنى الجماعة، وبمعنى الجماعة لأنَّ اللّٰه قالَ بعده: (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ) ولم يقل: تَنْصُرُه، لو كان المُراعى اللَّفظ المفرد لـ (فِئة) لقال: ولم تكن له فئةٌ تنصره، إِنَّمَا (يَنصُرُونَهُ ) يدل عَلَىٰ أنَّ الفئة هي الجماعة.
• وقراءة: (وَلَم يَكنِ لَهُ فِئَةٌ) عَلَىٰ اعتبار أنَّ الفئة جمع، عَلَىٰ تقدير الجمع: ولم يكن له جمعٌ من فئةٍ، أو جمع فئةٍ، والجمع من ثلاثة لتسعة، وَالْجَمَاعَة أكثر من تسعة، يعني: لم يكن له فئةٌ لا جمع فئةٍ وهم الَّذِينَ كان يدَّعي أنه أعزُّ نفرًا بهم، ولم تكن له فئةٌ جماعةٌ وهم الَّذِينَ كان يزعم أنه أعزُّ نفرًا، فأين هؤلاء النفر الَّذِينَ كان يظن أنه بهم عزيز، بل بهم أعز حسب تعبيره؟! لم يكن هناك فئةٌ ينصرونه من دون الله.
• (وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا) هو نفسه ما كان منتصرًا، كيف ينتصر؟
ينتصر أنه يمنع الهلاك من الوصول لِلجَنَّةِ، أو كان يمانع ويقول: لا يقترب أحد من جنتي ولا يحاول أحد أن يهلك جنتي، لكنه لم يستطع هذا، يعني: لم يجد من ينصره (وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا).
• قَالَ اللّٰه بعد ذلك: (هُنَالِكَ ٱلْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقَّ)
(هُنَالِكَ) اسم إشارة للمكان، أي: المكان الَّذِي وقعت فيه الواقعة، الذي هو هلاك الجَنَّة، هل الولايةُ الحقُّ لله، أو (الْوَلَايَةُ لِلَّهِ اَلْحَقِّ) هي الآن فَقَطْ؟ هل هي ثابتةٌ الآن فَقَطْ أم ثابتةٌ دائمًا ومستمرة دائمًا؟ مستمرةٌ دائمًا، طيب ولماذا قالَ الله: (هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقَّ)؟ انتبهوا.
ولذلك البعض يرى أنَّ اسم الإشارة يعود عَلَىٰ ما قبله، يعني: (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنَصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَا) يعني: وما كان منتصرًا في هذِه الحديقة أو في جنتيه اللتين زعم أنهما لن تبيدا أبدًا، فيكون اسم الإشارة عائد عَلَىٰ ما قبله، وعليه يجوز لنا الوقف عَلَى (هُنَالِكَ)، واضح المعنىٰ هكذا؟ (وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ ٱلْوَلَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا).
وهناك من يقول: لا، (هُنَالِكَ) اسم إشارةٍ يعود عَلَىٰ ما بعده، لكن هو خبر مُقدَّم، يعني كان المفروض أن يكون موقعه متأخرًا، يعني: «الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُنَالِكَ»، ويكون المعنى حِيْنئذٍ عَلَىٰ هذا التقديم والتأخير: يا من تريدون أن تعتبروا انظروا إِلَى صاحب الجنتين وما كان يزعمه، وما كان يقوله، {الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الحَقِّ) ثبتت فعلًا وواقعًا (هُنَالِكَ) أمام الأعين، والكل يدرك ذلك، لأنه أَيْضًا - خلِّ بالكم-: (هُنَالِكَ) وقعت في القرآن الكريم في تسعة مواضع، كم موضع وردت فيهم (هُنَالِكَ) في القرآن؟ تسعة، تسع مرات. المرات التسعة نجدها جاءت لتشير لأمرٍ عجيب، وتدعو إِلَىٰ أمرٍ أعجب في التسع مرات، يعني: (هُنَالِكَ) عندما تقرأها في القرآن؛ اعلم أنَّك أمام أمرٍ عجيب، ودعوةٌ إِلَى أمرٍ أعجب، تعالوا نستعرض التسعة مواضع بالترتيب:
١- (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) زكريا عندما كان يدخل عند مريم فيجد عندها طعامًا لم يحضره لها، ولم يدرك أن هناك أحدًا يحضر لها هذَا الطعام فسألها: (أَنَّىٰ لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فما كان من زكريا ليقينه بأنَّ المكان الَّذِي هو فيه مكانٌ مبارك، فهو قَالَ: إذًا عليَّ أن أتوجه بدعوةٍ إِلَى اللّٰه في هذَا المكان المبارك.
ولي وقفةٌ هنا: بعض النَّاس الَّذِينَ يزعمون أنهم أولياء ويذهبون إليهم متبركين يستدلون بهذه الآية أحيانًا، يقولون: زكريا عندما علم أنَّ المكان الَّذِي يقف فيه مبارك توجَّه إِلَىٰ الله، والله قَالَ: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَا رَبَّةُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةٌ) واستجاب اللّٰه دعاء زكريا، يعني إذًا زكريا علم أنَّه في مكانٍ مبارك.
قلت لهم وأقول لهم -وأرجو أن تتعلموا هذا-: إذا تيقنت أنَّك في مكانٍ مباركِ فعلًا، وأنَّ الولي صاحب الضريح الَّذِي تزوره رأيت منه عين اليقين مثلما رأى زكريا عين اليقين من مريم، أنا معك فيما تقول، فاهمين كلامي ولا كلامي صعب؟ يعني الآن: زكريا صاحب يقين لأنه رأىٰ بعينه، رأى عين اليقين، أنت مثلًا تذهب إِلَىٰ الضريح الفلاني - بلاش نسمي أسماء – صاحب هذَا الضريح هل رأيت منه مثلما رأى زكريا من مريم؟ وهل رأيت منه عين اليقين؟ طيب إذا وجد من ترىٰ منه مثلما رأى زكريا عين اليقين؛ قِفْ في هُذَا المكان وتوجَّه إِلَى اللّٰه بِالدُّعَاءِ، واضح كلامي؟
إِنَمَا أنت أمام مجهول، أمام مجهولٍ لا تعرف من هو ولا تعرف شيئًا عنه، إِنَّمَا أنت تسمع كلامًا وسمعت كلامًا، فكيف توقن بأنَّ هذَا المكان مبارك وتذهب إليه خِصِّيصًا؟ هذَا ليس بصاحب عقلِ أبدًا الَّذِي يزعم ذلك.
٢- الموضع الثَّاني: (فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَغِرِينَ) هَذِه في قصة سحرة فرعون عندما أتى بهم: (وَأَوْحيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلقِ عَصَاكَ فإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَغِرِينَ) [سورة الأعراف: ١١٧-١١٩] هذَا أَيْضًا موضع من مواضع (هُنَالِكَ) الَّتِي تشير إِلَىٰ أمرٍ عجيب: أنَّ السحرة الَّذِينَ فرح بهم فرعون، فقد أحضر السحرة الَّذِينَ سيطيحون بملك موسىٰ.
٣- (هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسِ مَا أَسْلَفَتْ) [سورة بونس:٣٠] أَيْضًا إشارة إِلَىٰ موضع عجيب.
٤- ( هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) [سورة الكهف:٤٤].
٥- أيْضًا: (دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبورًا)، (إِذَا رَأْتْهُم مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ تُبُورًا) [سورة الفرقان: ١٢-١٣].
٦- (هُنَالِكَ ٱبْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا)) [سورة الأحراب: ١١].
٧- (جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ) [سورة ص:١١].
٨- (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) [سورة غافر:٧٨].
٩- (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَفِرُونَ) [سورة غافر: ٨٥].
• إذا (هُنَالِكَ) لا تقع في القرآن إِلَّا إشارةً لأمرٍ عجيبٍ، وتدعو إِلَىٰ أمرٍ أعجب، فهنا اللّٰه يقول: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقَّ).
(الْوَلَايَةُ) فيها قراءتان:
· فيها: ((وَلَايَة)) بفتح الواو:(الْوَلَايَةُُ)
· وفيها: (وِلَايَة)) بكسر الواو: (الوِلَايَة)
وعندي قراءة ثانية في كلمة «الْحَقِّ):
· ( لِلَّهِ الحَقِّ)
· ( لِلَّهِ الْحَقُّ)
(الْوَلَايَةُ) بالفتح من الموالاة، أي: أنَّ الله وليُّ الَّذِينَ آمنوا كما قَالَ في أكثر من آية: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا) فـ { الْوَلَايَةُ) بالفتح من الموالاة، أي: أنَّ اللّٰه مولىٰ الَّذِينَ آمنوا.
(الوِلَايَة): بالكسر من المُلك والحكم: هنالك الحكم لله الحق، هنالك الملك
اللّٰه الحق.
•(الْحَقِّ) بالكسر تكون نعتًا لِلَّفْظِ الجلالة: (لِلَّهِ الْحَقِّ)
• وبالرفع تكون صفةً لـ (الْوَلَايَةُ) الولايةُ الحقُّ للهِ.
بالكسر مُلك وسلطان وليس موالاة، اللي بالفتح هي الموالاة.
هذِه (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ) ، (هُنَالِكَ ٱلْوِلَايَةُ)
(الْوَلَايَةُ)) من الموالاة فالله ولي الَّذِينَ آمنوا، و(الوِلَايَة) بالكسر هي الملك والسلطان.
سؤال : الثمُر بالرفع؟ لا، هي ليست بالرفع، هي بالضم وبالفتح:
(وَأُحِيطَ بِثُمُرِه) ، (وَأُحِيطَ بِثَمَرِه) ، الثَمر جمع ثِمار، إذا الثَمَر هي الثَّمرة نفسها، والثُمُر إِمَّا أن يكون جمع الجمع، يعني: جمع ثمار وثمار وثمار= ثُمُر، وَإِمَّا أن يكون بمعنى: المال لأنَّ الثِّمار تُباع بالمال فتُحوَّل إِلَىٰ مال، هذا معنى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِه).
وقراءة: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِه) يعني: بالثمُر الَّتِي كانت مؤهلة لأَنْ تُباع اليوم، فتُباع بأموالٍ كثيرة، ويحتفظ بها، وأنتم تعلمون: أنَّ هلاك الحديقة بالثُمُر الَّتِي أصبحت تُجمع وتُباع تكون أشدُّ إيلامًا من غيرها.
هذه (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} (الحقُّ) بالرفع صفة لـ (الْوَلَايَةُ)، إِنَّمَا بالكسر صفة لِلَّفْظِ الجلالة (الْحَقِّ).
• (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) قلت قبل ذلك أن الله تبارك وتعالى عندما
يقول: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا) أو (فَاللَّهُ خَيْرٌ) معناها: أنَّ الخيرية المطلقة لله تبارك وتعالى، وتأتي (ثُوَابًا) وتكون منصوبةً عَلَىٰ التمييز، بخلاف ما لو
قَالَ: هو خير ثوابٍ، لو قلت هو خير ثوابٍ؛ إذًا انحصرت خيريته في الثواب فَقَطْ، أو انحصرت خيريته في كونه (عُقْبًا)، أو انحصرت خيريته في كونه (حَافِظا) كما قَالَ: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظَا)، بهذا الأسلوب يعني: أنه (خَيْرٌ) أولًا خيريةً مطلقة، ثُمَّ يأتي التمييز ليبين ( الله خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) يعني: من العاقبة، فالله تبارك وتعالى عاقبته عاقبة خيرِ سبحانه وتعالى.
بعد ذلك يقول اللّٰه تَعَالَىٰ: (وَٱضْرِبٌ لَهُم مَثَلَ ٱلْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاءِ أَنْزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرِّياَحُ).
(اضْرِبْ لَهُمْ) اضرب لمن؟ اضرب لكل من يغترُّ بنعم اللّٰه ن في تلك الدنيا؛ لأنَّ اللّٰه تبارك وتعالى هو الوحيد القادر عَلَىٰ إيجاد كل شيءٍ في تلك الدنيا، وهو الوحيد القادر عَلَىٰ السلب في هُذِه الدنيا؛ ولذلك النَّاس لو أيقنوا أنَّ العطاء من اللّه نعمة، وأنَّ السلب من اللّٰه نعمة، واستقبلوا العطاء بنفس استقبالهم للسلب، واستقبلوا السلب بنفس استقبالهم للعطاء، هؤلاء هم الَّذِينَ فهموا الدنيا عَلَىٰ حقيقتها، اللّٰه لم يُحرِّم عَلَىٰ الإنسان أن يتمتع بمتاع الحياة الدنيا، لكنه فَقَطْ يريد منك أمرًا: أن يكون من حلال، وألَّا تغترَّ بجمعه، وأن تُحسِن حفظه - يعني حفظ النعمة نفسه يتطلب منك أن تُحسِن حفظها- وأن تزيدك النعمة شكرًا لله تبارك وتعالى وقربًا من الله.
إذًا أنت تجمع من حلال، وتحفظ بالطريقة الحلال، ثُمَّ تلك النعمة الَّتِي أنعم اللّٰه بها عليك تزيدك شكرًا لله ، فإذا كنت كذلك؛ فنِعم العطاء ونِعم ما أعطاك اللّٰه تبارك وتعالى من منح ومن نِعم. إذا كنت تجمع من حلالٍ أو من حرامٍ ما تدري ولا تفتِّش، ثُمَّ لا تحفظ بالأسلوب الحلال، ثُمَّ تزيدك النعمة طغيانًا وبعدًا عن الله؛ فأنت خاسرٌ لأنك لم تستطع أن تعلم نعمة اللّٰه عليك، وتعلم نعمة العطاء ونعمة السلب.
إذًا المطلوب من المؤمن: أن يُتقِن نِعم العطاء، ويُتقن نعمة السلب، ويُتقن نعمة السلب قبل نعمة العطاء، عندما يسلب اللّٰه منك إياك أن تظن أنَّ في هذَا حرمان، لا، السلب أحيانًا يكون عطاء، لكن عطاء في صورة سلب وأنت لا تدري، لا تدري أنه عطاء، لكنك لو رضيت بما منحك الله فأنت بذلك نعم العبد الَّذِي يشكر اللّٰه تبارك وتعالى عَلَىٰ عطائه وعَلَىٰ سلبه. ولذلك قلت في قوله تبارك وتعالى : (زُيّنَ لِلنَّاس حُبُّ الشَّهَوَتِ مِنَ النِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ من الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) هل هذَا الأسلوب يعني أنَّ هذِه الأشياء محرَّمة عَلَىٰ المؤمن؟ ليست محرَّمةً عَلَىٰ المؤمن، إِنَّمَا تأخذ منها بالقدر الحلال، يعني: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ) في ضوء ما أحلَّ اللّٰه لك (وَالْبَنِينَ) في ضوء ما أحلَّ اللّٰه لك، {وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وتكون عالمًا بهذا العطاء بأنه من الله فيزيدك شكرًا لله، ويزيدك قُربًا من الله حَتَّىٰ لو كانت القناطير (الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ مِن الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) لأَنَّك وازنت وفهمت حقيقة متاع الحياة الدنيا، وفهمت ما عند اللّٰه من حُسْن المآب. أي أنت لم تنشغل ولم تجعلها متاعًا للدنيا فَقَطْ وانشغلت عن حُسْن المآب، إِنَّمَا أنت وازنت بين الأمرين، فإذا وازنت فأنت المؤمن الحق، لم يحرِّم الله عليك شيئًا، تمتع بالدنيا كما تحب، المهم: أن يكون الأمر في إطار الحلال الَّذِي أحله اللهُ لك، وفي نفس الوقت يزيدك قربًا وشكرًا لله تبارك وتعالى.
• ولذلك عندما أهلك الله هاتين الجنتين ضرب لنا هذَا المَثَل للحياة الدنيا، ولأنَّ اللّٰه ضرب المَثَل لهؤلاء الَّذِينَ يغترُّون بالدنيا وينسبون النعمة لأنفسهم نجد أنَّ رب العزَّة حذف أهم المراحل الَّتِي يمرُّ بها النبات الَّذِي اختلط بالماء الّذِي أنزله اللّٰه من السماء، يعني: قَالَ: (وَاضْرِبٌ لَهُم مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءِ أَنزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) ماذا بعدها؟ (فَأْصْبَحَ هَشِيمًا) وعطف بالفاء والهشيم هي المرحلة الأخيرة (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا ) هناك مراحل كبيرة يعني: (فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ) لسا عندنا مرحلة فنبت؛ هذِه أول مرحلة، ثم فاخضرَّ، فازهرَّ، ثم فاصفرَّ، ثم فأثمر، وبعد أن أثمر:
(ثُمَّ يكون حطامًا) لا، أول مرحلة: مرحلة الحصيد: (فَجَعَلْنَهَا حَصِيدًا كَأَن لَمْ تغْنَ بِٱلْأَمْس) أول مرحلة من مراحل الحصيد بعد الثمرة، وبعدين ( يَكُونُ حُطَمًا) حطامًا لأنه بعد أن يحصُد الزرع ويترك أعواده في الهواء فإنَّ الماء بداخله يخرج وتُصبح الأعواد يابسةً يسهل تحطيمها، تحطيمها أي تكسيرها بعد أن خرج الماء من داخل الأعواد، بعد أن تتحطم تصبح (هَشِيمًا)، (هَشِيمًا ) حَتَّىٰ يتناسب مع (تَذْرُوهُ الرِيَاحُ)، يعني: الهشيم هنا في المرحلة الأخيرة، تقريبًا قبله يمكن سبعة مراحل أو ثمانية مراحل، أين ذهبت هذه المراحل؟ اللّٰه يقول: يا من تغترّ بالدنيا اطوي هذِه المراحل، احذفها، لا تذكر منها شيئًا، (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا) فَهُذَا فيه دلالة عَلَىٰ سرعة ذهاب الدنيا، وسرعة ذهاب ما فيها.
والله - كما قلت مرارًا- خلقنا للبقاء، لكن لنا حياة أخرى، هذه هي حياة الابتلاء، وحياة إلهام النَّفْس فجورها، وحياة الاختبار، وحياة التمحيص، وحياة التَّكْلِيْف، بعد أن تنتهي هذه الحياة تخرج الروح من الجسد انتظارًا للبعث للحياة الآخرة الَّتي أسأل اللّٰه تبارك وتعالى أن تكون خيرًا لنا جميعًا، وأن نجتمع في جنَّات النعيم عَلَىٰ سررٍ متقابلين، اللهم آمين.
وأسأل اللّٰه أن يرزقني وَإِيَّاكُمْ الإخلاص في القول والفعل والعمل، وأن يشفي اللّٰه مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يبارك في أولادنا وفي ذرياتنا، اللهم آمين، وأن يفغر اللّٰه لوالدينا، وأن يرحمهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم اجعلنا أثرًا صالحًا لهم يا رب العالمين، اللهم اغفر لمشايخنا ولأساتذتنا ولعلمائنا، ولكل من له فضلٌ علينا؛ اللهم آمين، وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمَ وَبَارِكَ عَلَىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعَلَىٰ آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق