الثلاثاء، 7 يناير 2025

 تدبر سورة الكهف | المحاضرة السابعة عشر| د. محمود شمس  


بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين وبعد: فإني أحييكم بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وإني لأسأل الله تبارك وتعالى. أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الكريم الذين هم أهل الله وخاصته وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف. بينت في اللقاء السابق المعنى المراد من قوله تعالى (واتل أوحي إليك من ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا) والمعنى العام استمر يا محمد في قراءة وتلاوة واتباع ما أوحي إليك من ربك فقط ولا تسمع لهؤلاء الذين يريدونك أن تغير الآيات التي ليست على هواهم فالله كما ذكر لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا يعني ملجأ لو سمعت كلامهم. 
ثم يأمره الله تبارك وتعالى بقوله (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)
 هذه الآية مرتبطة بالآية الأولى وهي آية (واتل ما أوحي إليك) لأنها كانت ردا على طلبهم، على طلب المشركين الذين ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إن كنت تريدنا أن نجلس في مجلسك ونسمع لك ونؤمن بك فاطرد هؤلاء، هؤلاء ضعاف وهؤلاء فقراء فنخشى أن يرانا أحد من العرب فيلوموننا كيف نجلس معهم في مجلس واحد، وهؤلاء بالنسبة لنا يعتبرون مستواهم أقل من مستوانا كثيرا. الله تبارك وتعالى نهى النبي صلى الله عليه وسلم أولا بقوله (ولا تطرد للذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) فأمره ألا تطرد هؤلاء مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل لكن ربما أملا في أن يؤمن هؤلاء الذين كانوا يعدون من كبار قريش. فالله تبارك وتعالى نهى النبي أن يطرد هؤلاء أولا، ثم أمره على الجانب الآخر أن يصبر نفسه معهم، يعني رقم واحد نهاه أن يطردهم، والأمر الآخر أمره أن يصبر نفسه معهم، وتأملوا إلى دقة التعبير القرآني عندما يقول الله (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) هذا نهي أن تطردهم لأن هؤلاء يدعون ربهم بالغداة والعشي، ما معنى يدعون ربهم بالغداة والعشي؟ معناها أنهم يؤمنون به، وفي هذا تعريض بالمشركين فالله تبارك وتعالى ينهاه أن يطردهم وهؤلاء هم عند الله أصحاب مكانة عظيمة، وتأملوا أنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي للغداة الذي هو وقت الصباح، والعشي الذي هو من وقت الزوال الذي هو آخر النهار ولذلك نأخذ منها هنا دلالة وجوب ذكر الله والاستغفار في هذا الوقت، وهو وقت الغداء في الصباح وهي أذكار الصباح، ووقت العشاء وهي أذكار العشي، فهؤلاء مدحهم الله تبارك وتعالى بذلك، وطالما أن رب العزة مدحهم بذلك إذا هو يحب ذلك جل وعلا، فيحب من عباده أن يدعونه بالغداة والعشي ثم وصفهم بوصف يتمنى الكثير منا أن يحقق هذا الوصف وهو الإخلاص في عبادتهم لربهم، فيبين الله أنهم لم يريدوا بتلك العبادة، أو بهذا الدعاء الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي إلا أن يريدوا وجهه فما يريدون بعبادتهم إلا وجه الله تبارك وتعالى، وهذا وصف لحالهم في الإخلاص أنهم يعبدون الله بإخلاص ثم بيّن الله قاعدة مهمة ها هنا (ما عليك من حسابهم من شيء) يعني عندما يحاسبهم سيحاسبهم الله تبارك وتعالى وهو الذي سيحاسبهم، وأنت غير مسؤول، وأنت لن تُسأل عن حسابهم في شيء، ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء.  بمعنى أنهم لن يحاسبوا نيابة عنك ولن يتحملوا أوزارك، فلا تزر وازرة وزر أخرى وأنت لن تتحمل أوزارهم فلماذا تطردهم؟ لا تطرد هؤلاء لكن الأهم هو الدرس الذي نتعلمه ها هنا مكانة الإنسان عند ربه تقاس بأي مقياس؟ هل تقاس بقبيلته؟ هل تقاس بعشيرته؟ هل تقاس بكثرة أمواله؟ هل تقاس بجاهه أو بسلطانه؟ لا، إنما تقاس بتقواه (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وفي قوله (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) بعض من أهل البلاغة يرون أن الجملة الثانية وهي (وما من حسابك عليهم من شيء) تسمى عندهم التتميم، يعني ذكر الله المقابل ليتم معنى الجملة الأولى وهي (ما عليك من حسابهم من شيء) كما نقول لا أنت تتحمل حسابهم ولا هم يتحملون حسابك. لكن عندما ننظر إلى ذكر الجملة الثانية هذه (وما من حسابك عليهم من شيء) نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع مقام هؤلاء الذين يرونهم المشركون أنهم ضعفاء، رفع مقامهم إلى أعلى عليين لدرجة أن الله تبارك وتعالى كما يخاطب النبي بأنك لن تتحمل شيئا من حسابهم يخاطبه بأنهم أيضا لن يتحملوا شيئا من حسابك، فهذا فيه جبر للخاطر، جبر الله خاطر هؤلاء الضعفاء عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم) يعني فإذا طردتهم (فتكون من الظالمين) فنقول: الله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم (فتكون من الظالمين) نعم، ولذلك أعاد كلمة فتطردهم مرة ثانية، مع أن (فتطردهم) مفهومة من قوله (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) بمعنى إنك إن طردتهم تكون من الظالمين. لماذا؟ لأنك ستطردهم إرضاء لهؤلاء المشركين وإذا فعلت أمرا إرضاء للعباد دون إرضاء رب العباد فتكون من الظالمين، ولذلك، جملة (فتكون من الظالمين) نعتبرها ثابتة في المعنى وإلا منفية في المعنى؟ هي منفية تماما لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطردهم، فطالما لم يطردهم انتفى كونه من الظالمين. إذا جملة (فتكون من الظالمين) منفية في المعنى ووقوعا لأن طردهم لم يحدث وهذا هو الأهم الذي ينبغي أن نفهمه. إذا نأخذ من هذه الآية أن مكانة الإنسان عند الله بتقواه (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره) فهي مكانة عظيمة بإخلاصه لله جل وعلا طاعة امتثالا للأمر، واجتنابا للنهي. بعد ذلك الفاء في قوله (فتكون من الظالمين) عاطفة على (فتطردهم) بدليل أن الفعل (تكون) منصوب يعني فتطردهم فتكون من الظالمين لأن فاء التفريع لا عمل لها في اللفظ الذي تدخل عليه، إنما دورها في المعنى فقط أنها فرعت كذا على كذا، فهي تفيد هاهنا العطف.
ثم يبين الله تبارك وتعالى أنه كذلك فتن بعضهم ببعض (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا) الفتنة هي: الاختبار والابتلاء، وأصل كلمة فتنة من إدخال الذهب النار ليذهب ما علق به. تعرفون الذهب إذا ذهبتم لبيعه أول ما يفعله المشتري منكم أنه يدخل هذا الذهب النار، النار هي التي تخرج ما علق بالذهب من أمور. إما أتربة، إما عجين، إما وإما، المهم حتى يجعله ذهبا خالصا فكذلك الفتنة استعملت في هذا المعنى أنها تكون اختبارا وتمحيصا.  ولذلك هل الفتنة مذمومة في ذاتها؟ لا، الفتنة ليست مذمومة في ذاتها. إنما يذم ما تؤول إليه. يعني أحد الناس فُتن فلم ينجح في الفتنة ولم ينجح في الاختبار، عدم نجاحه جعلها مذمومة بسببه، إنما الفتنة في الأصل ليست مذمومة لأنها تمحص، ولأنها تبين الصدق من الكذب. ولذلك ذكر الله في هذه الآية بعضين (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) بعض مستعلي مستكبر يطالب بطرد الضعاف والبعض الآخر ضعاف في نظر هؤلاء. ففتن هؤلاء بهؤلاء ليقولوا (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) هم يقولونها استهزاء واحتقارا، يعني هل هؤلاء هم الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ فيرد الله عليهم (أليس الله بأعلم بالشاكرين)
إذن في آية الأنعام نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يطردهم، طيب عندما ينهى الله النبي أن يطردهم هل يُفهم من ذلك بالضرورة أنه أمره أن يلازمهم ولا يتركهم لحظة؟ لا، لا يلزم، لأن النهي عن الإساءة لا يلزم الأمر بالإحسان، ولذلك قلت سابقا في قول الله تعالى (وبالوالدين إحسانا) في سورة الأنعام (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) إلى آخر الآيات، الآيات سياقها سياق نهي، يعني كل الآية أو الآيات الثلاثة سياقها سياق نهي لا تفعلوا، لا تفعلوا، إلا الأمر بالإحسان بالوالدين جاء بأسلوب الأمر وليس بأسلوب النهي. لماذا غاير القرآن عند الأمر بالإحسان بالوالدين إلى أسلوب الأمر وليس أسلوب النهي؟ لأنه لو استعمل أسلوب النهي لقال ولا تسيئوا إلى الوالدين، فهل النهي عن الإساءة يُلزم الأمر بالإحسان؟ بالتأكيد لا، ليس النهي بالإساءة ملزم للأمر بالإحسان، إنما الأمر بالإحسان ملزم بالنهي عن الإساءة. يعني طالما قال (وبالوالدين إحسانا) يعني أحسن بهما ولا يأتيهم أدنى أذى منك، كذلك هنا في هذه الآية الكريمة كما بينت لكم الله تبارك وتعالى جاء في سورة الكهف وأمره أمرا بمنتهى الدقة وأسلوب التعبير القرآني (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) يعني الأمر بالصبر هنا ليس مجرد الأمر بالصبر فقط، إنما الأمر بالصبر بأن تحبس نفسك عن أن تمتنع عن هذا الفضل، والأمر لنا لأن الأمر بالصبر هنا هو الأمر بالصبر على الطاعة. والأمر بالصبر على الطاعة هو أعلى مراتب الصبر ، يعني الصبر على الطاعة هو في المقام الأول وفي المقام الأعلى، والصبر على الطاعة يلزم الإنسان أن يصبر نفسه، يأمرها بالصبر لأن نفسك بطبيعتها ربما لا تتحمل، وربما تقول يعني ليس بالضرورة أن أفعل الآن، ليس بالضرورة أن أصلي في المكان الفلاني، أو خلف الشيخ الفلاني اللي يطول أو الشيخ اللي بيقصر أو...الخ (فاصبر نفسك) جاهد نفسك، والأمر بصبر النفس معناها الملازمة لهذا الأمر ، الملازمة والدوام لهذا الأمر. فمعنى (واصبر نفسك) أي داوم على أن تصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)
وقلت إن الله تبارك وتعالى مدحهم بفعلهم لإخلاصهم لأن (يريدون وجهه) معناها أنهم مخلصون، مخلصون في عبادتهم لله.
ثم يأمر الله نبيه (ولا تعدو عيناك عنهم) هذا ليس  صبر النفس فقط، لا تصرف عينيك عنهم بالنظر إلى شيء آخر، لا تصرف نظرك عنهم ولا تُبعد نظرك عنهم، (ولا تعدو عيناك عنهم) احبس نفسك معهم حبس ملازمة ولا تسمح لعينيك أن تنظر إلى غيرهم مهما كانوا ومهما علا شأنهم في الدنيا لا تلتفت إليهم وكن مع هؤلاء (ولا تعدو عيناك عنهم) عنهم حرف تجاوز، ومجاوزة (لا تعدو عيناك عنهم) بمعنى لا تصرف عينيك عنهم إلى غيرهم. إذن أمره بصبر النفس وأمره ألا يصرف نظره عنهم، وألا يصرف بصره عن النظر إليهم، وكما قلت إن هذا هو الصبر على الطاعة وهو أعلى مراتب الصبر، وأعطانا الله ضابطين هنا:
الضابط الأول: أن نجاهد أنفسنا في أن تصبر على طاعة الله تبارك وتعالى فتؤديها كما ينبغي، وألا ينشغل نظرنا، وألا تنشغل عينانا عن التفكر والتدبر في تنفيذ طاعة الله تبارك وتعالى لأن العينين لو انشغلت بالداخل و الخارج لن تستطيع أن تؤدي الطاعة كما ينبغي.
و لذلك في أحد المساجد كان بعض المأمومين إذا وقف للصلاة، كان يصلي ووجهه للباب مباشرة الذي على الشارع الذي يمر منه الناس فكنت أتأمل فأجده منشغلا ويكاد ينفعل حركيا مع الذي يسير في الشارع، والذي يحدث في الشارع، ويكاد يترك الصلاة ويخرج لكي ينظر، فيه طفل يمسك بطفل آخر، أو غير ذلك، ولذلك لو ربطنا هذا بأن مريم عليها السلام - وأنا أكرر هذا كثيرا - (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت) تخيرت مكانا، وتخيرت مكانا بعيدا عن أهلها حتى تستطيع أن تكون لله خاشعة وتستطيع ان تحضر قلبها.
يعني إذا صليت والتلفزيون -مثلا- أو صليتي والتلفزيون يعمل أو الأولاد يلعبون بالتأكيد ستنشغل وستنشغلين. إذن (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم) خليكوا فاكرين يعني ولا تبعد عينيك عنه، ولا تصرف عينيك عنه، لا تنشغل بغيره. طيب يا رب الذي لا يصبر نفسه في سبيل الطاعة وفي سبيل مرضاتك ولا يجعل نظره غير منشغل بغير طاعتك ما تفسيره هذا؟ ليس له إلا أنه يريد زينة الحياة الدنيا، صحيح الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لكن لا بد أن نوقعه على حالنا يعني الذين يعبدون الله بإخلاص وبخشوع وبخضوع يقابلهم المنشغلون عن طاعة الله، إنما هم منشغلون بأمور الدنيا فهم يريدون زينة الحياة الدنيا. وأريدكم أن تنقلوا هذا إلى الواقع لكل واحد منا، يعني معلم أو معلمة لتحفيظ القرآن، هؤلاء الذين يحفظون القرآن، فيه دليل على قوة علاقتهم بالله وإيمانهم بالله فاصبر نفسك معهم ولا تعد عيناك عنهم، وكما قلت سابقا يعني لا تنفر أحدا من حفظ كلام الله، ولا تقل لأحد أنت غير صالح للحفظ، لا، الناس يعني مداركهم تتفاوت فليس الكل سواء في الإدراك، لأن يحفظ حزبا واحدا أو جزءا واحدا أليس بأفضل من كونه لا يحفظ؟ لأن تصحح له الفاتحة والمعوذات والسور القصيرة التي يستطيع أن يصلي بها أفضل من أن تبعده عن هذا المجال فأنت اصبر نفسك معهم ولا تعد عيناك عنهم.
ثم انتقل الله بعد ذلك في قوله (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه وكان أمره فرطا) نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم وعباد الله المؤمنين ألا يطيعوا من أغفل الله قلبه عن ذكره. إغفال القلب إذا كان الله قد أغفل القلب فما ذنب صاحبه؟ يعني إذا كان الله قد أغفل القلب فما ذنب صاحبه؟ لا، هو بداية الذي غفل عن الله، وغفل عن طاعة الله فكانت عقوبته أن عاقبه الله تبارك وتعالى بأن أغفله عن ذكره، يعني هو غفل عن الله فأغفله الله عن ذكره. ولذلك في قوله (ولا تطع من أغفلنا قلبه) لها معنيان:
أغفلنا قلبه يعني وجدناه غافلا فأغفلناه.
وقلت سابقا إن الله تبارك وتعالى أرسل دلائل الهداية والإرشاد للناس جميعا وليست لفئة دون فئة، فمن أخذ بهداية الدلالة والإرشاد وفقه الله لهداية التوفيق والمعونة، ومن ضل أضله الله تبارك وتعالى. فالله تبارك وتعالى يبين أن هذا الإنسان هو الذي غفل عن الله أولا فأغفل الله قلبه عن ذكره. هذا معنى (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) و لذلك كان العطف في قوله (واتبع هواه) بالواو دون الفاء، لأن العطف بالفاء سيوهم معنى فاسدا، إنما العطف بالواو، الواو تفيد مطلق الجمع  ومعنى (أغفلنا قلبه) يعني وجدناه غافلا وبما أنه غافل فهو متبع هواه، لكن لو كان العطف بالفاء لجعلت فاتبع هواه مترتبة على إغفال الله قلب هذا الإنسان فيكون المعنى فاسدا. لأنه سيكون أن الله هو الذي أغفل قلبه فترتب على ذلك أو فتسبب عن ذلك اتبع هواه، ولذلك لم يكن العطف هنا بالفاء، حتى لا تفيد هذا المعنى. واضح.
إذا يعني هذا الإنسان غفل قلبه عن الله لأنه في الأصل متبع هواه ولأن أمره فرطا في الأصل، بمعنى أن الله تبارك وتعالى عندما أسند الإغفال إلى ذاته العلية وقال (ولا تطع من أغفلنا قلبه) ولو كان العطف بالفاء في (فاتبع هواه) لكان معنى ذلك أن اتباع هواه تفرع ونشأ عن إغفال الله قلب هذا الإنسان، فربما يُفهم أنه لم يتبع هواه إلا بسبب إغفال قلبه، إنما أراد الله أن يقول لا، هو متبع هواه في الأصل فغفل عن الله وغفل عن الإيمان بالله فأغفل الله قلبه عن ذكر الله.
(وكان أمره فرطا) (أمره) يعني كل أمور حياته يعيش كالحيوان يأكل و يشرب و ينام ويمارس شهواته، ويمارس رغباته. هذه (وكان أمره فرطا) جمع بين الإفراط والتفريط فتجاوز الحد في بعده عن الله تبارك وتعالى. وبذلك غفل قلبه عن الله، فأغفله الله. (وكان أمره فرطا) بمعنى أمره تجاوز الحد في البعد عن الله، تجاوز الحد في غفلته عن الله، فهو يترك الأمور كما تأتي.
ولذلك إذا طبقنا هذا على الواقع نقول إن في الواقع من المؤمنين من هو متصف بشيء من هذا، وكل أمر، أو وكل صفة يذكرها الله في الكافرين أو في المشركين، أو في الظالمين.. إلى آخره يريد منها دلالتين اثنتين:
● أن يبين أن هذا الذي كفر وهو الذي اتبع هواه، وهو الذي غفل عن الله ولم يأخذ بأسباب هداية الدلالة والإرشاد، فأغفله الله، وأضله الله كما قال (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم)  فكان عقاب له لأنه هو الذي غفل وكان أمره فرطا واستمر على ذلك.
لو أردنا أن نطبق (وكان أمره فرطا) على بعض الناس في هذا الزمان نجد أن هناك من الناس من لا يفكر في الحلال أو في الحرام قبل اتخاذ أي خطوة، يعني لا يأتي في باله هذا حلال أم حرام، ولا يفكر، حتى إنه لا يؤدي الطاعات بإنتظار لها، وترقب واستعداد و ترتيب ونية مسبقة، إنما قد يؤديها لمجرد أنه سمع الأذان دخل يصلي، لكن كم من آذان فات، وكم من صلاة فاتت ولم يصلي، هذا يُعد أن فيه فُرط في حياته. المؤمن معه ترمومتر مراقبة الله تبارك وتعالى، والحلال والحرام يتحرى هذا ويتحرى ذاك، إنما يعيش كالحيوان ويأكل ويشرب فقط.
وقلت سابقا إن الله تبارك وتعالى جمع بين النفس المؤمنة والنفس الكافرة في موقف واحد وفي حكم واحد. اقرأوا قول الله تعالى -وقلتها مرارا وأكررها حتى تحفظوها- (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها) (بعض آيات ربك) علامات الساعة الكبرى أو الاحتضار وبلوغ الروح الحلقوم. فإذا جاء هذا الوقت قال الله (لا ينفع نفسا إيمانها) لكنه فصّل بعد ذلك وبين أن هذه النفس تشمل نوعين إثنين: النوع الأول: لم تكن آمنت من قبل. إنسان كان كافرا ويأتي في هذه اللحظة عندما تبلغ الروح الحلقوم ويؤمن. الله يقول له لم يعد لك إيمان خلاص أُغلق الباب عليك.
النفس الثانية: هي التي تجعلنا نفكر (أو كسبت في إيمانها خيرا) هذه نفس مؤمنة إلا أنها لم تكسب الخير قط في إيمانها وهم المؤمنون إيمانا لغويا، أو إيمانا بالبطاقة، أو ولد في مجتمع مؤمن، أو أسرته مؤمنة لكنه لم يكسب الخير قط، لم يركع لله ركعة، ولم يفعل خيرا قط ابتغاء وجه الله، جمعه الله مع النفس التي لم تكن آمنت من قبل.
وأيضا لو أردنا أن نطبق ذلك على أرض الواقع لقلنا هناك أناس كثيرين فعلا موجودون في مجتمعات مؤمنة ولكنهم لا يكسبون الخير قط، هؤلاء هم مهمتنا، ينبغي أن نأخذ بيد هؤلاء ولا أقول لا تدعوهم، لا، إنما لا تعمل عليه داعية، لأنك أنت لو عملت أنك داعية سيستهزئ بك وسيبتعد عن الطاعة والعبادة، لكن أنت تتحايل عليه حتى يستجيب لك، و حتى تستطيع أن تأخذ بيديه حتى ينجيه الله تبارك وتعالى، ويكتب الله لك أجره. إذن هناك أناس كثيرين فيهم بعض من صفات الكافرين والمكذبين والضالين والله يذكرها حتى يُحذر المؤمن من أن يكون قلبه فيه غفلة، أو من أن يكون متبعا هواه، أو من كون أن يكون أمره فرطا.
ورب العباد لما ذكر لنا سؤال أصحاب اليمين لأهل سقر للكافرين (ما سلككم في سقر) ماذا قالوا؟ (قالوا لم نك من المصلين) هل هم مطالبون بأن يكونوا من المصلين؟ هم ليسوا مطالبين وهذه رسالة لنا احذر أن تكون فيك صفة من هذه الصفات، إحذر من أن تكون فيك صفة من صفات النفاق، من أن تكون فيك صفة من صفات الكفر، من أن تكون فيك صفة من صفات الشرك.
فالمؤمن ينبغي أن يحرر أموره كلها لتكون خالصة لله تبارك وتعالى.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من المخلِصين المخلَصين، وأن يبارك لي ولكم في وقتنا ووقتكم، وأن يجعلني الله وإياكم من أهل القرآن الكريم الذين هم أهل الله وخاصته .... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق