قال الرازي: "المقصود من هذه الآية بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعا أو قائما أو قاعدا مجتهدا في ذلك الدعاء طالباً من اللّٰه تعالى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالنعمة والمنحة، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدعُ اللّٰه تعالى لكشف ضره، وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه، وإنما ذكر اللّٰه تعالى ذلك تنبيها على أن هذه الطريقة مذمومة، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة "
- ( مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرِّ مَسَّةُ } هل كل أحد إذا مسه الضر ودعا اللّٰه وكشف اللّٰه عنه ضره يغفل عن الله؟ هذا إطلاق قيّده اللّٰه تعالى في سورة هود (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود: ١٠]، ثم استثنى جل وعلا (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَيِكَ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) فيصبح هذا المؤمن مستثنى من هذا الإطلاق الذي في سورة يونس بالقرآن، وكذلك مستثنى بالسنة في حديث (عجبا لأمر المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ). والمعنى: أن الإنسان بطبيعته كافرا أو مؤمن إذا جاءه الضر يلجأ إلى اللّٰه وهذه حالة يستوي فيها أهل الكفر مع أهل الإيمان ولكن الابتلاء يكون بعد رفع الضر فالله يقول عن جنس الإنسان عموما ( فَلَمَا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرِّ مَسَّةُ ) - نسأل اللّٰه العافية - فمن الناس -أعاذنا اللّٰه وإياكم- من يعبد اللّٰه على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنه انقلب على وجهه ،والمؤمن يعبد اللّٰه على كل حال مؤمنا بالله راضيا بقضاء اللّٰه وقدره ، ويعلم أن خيرة اللّٰه له خير من خيرته لنفسه وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن ما كان لك سيأتيك على ضعفك وما لم يكن لك لن تناله بقوتك جفت الأقلام وطويت الصحف، وحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأمة أن تقول "لو" لأن "لو" تفتح عمل الشيطان والمؤمن يرضى بقضاء اللّٰه وقدرته والرضا بالقضاء والقدر هو الحياة الطيبة التي قال اللّه عنها لأهل الإيمان (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ) ، فالرضا بقضاء اللّٰه وقدره هو معنى الإيمان الحق ."
/ لا تؤمل في الناس خيرا أكثر من اللازم فقد تُحسن إلى إنسان فلا يكافئك على إحسانك فلا تتعجب فإذا وجد من الناس من إذا كشف اللّٰه عنه الضر يمرُّ كأن اللّٰه لم يكشف عنه شيئا ، إذا كان هذا تعامله مع خالقه فمن باب أولى أن يكون تعامله مع عبد مثله ومخلوق مثله أردى من ذلك وأسوأ ،والعاقل أصلا لا يُؤمل مما في أيدي الناس شيئا ،يزرع الجميل ولو في غير موضعه فإن الجميل يُحصد في أي مكان وينفع.
ـ (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)
المسرفون هم المتجاوزون لحد الاعتدال والمبالغون في الإقبال على الدنيا وشهواتها مما جعلهم غافلين عن آخرتهم ومصيرهم ،ولا شك أن نفوسهم الأمارة بالسوء زينت لهم الإقبال على الدنيا والانصراف عن أمر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب.
ـ ( قُل لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَنٰكُم بِهِ فَقَدْ لَبِئْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
تأمل هاتين الحجتين القاطعتين تحت هذا اللفظ الوجيز :
/ إحداهما : أن هذا من اللّٰه لا من قِبَلي ولا هو مقدور لي ولا من جنس مقدور البشر وأن اللّٰه سبحانه وتعالى لو شاء لأمسك عنه قلبي ولساني وأسماعكم و أفهامكم فلم أتمكن من تلاوته عليكم ولم تتمكنوا من درايته وفهمه .
/ الحجة الثانية : أني قد لبثت فيكم عمري إلى حين أتيتكم به وأنتم تشاهدوني وتعرفون حالي وتصحبوني حضرا وسفرا وتعرفون دقيق أمري وجليله وتتحققون سيرتي هل كانت سيرة من هو من أكذب الخلق وأفجرهم وأظلمهم فإنه لا أكذب ولا أظلم ولا أقبح سيرة ممن جاهر ربه وخالفه بالكذب والفرية عليه وطلب إفساد العالم وظلم النفوس والبغي في الأرض بغير الحق . هذا وأنتم تعلمون أني لم أكن أقرأ كتابا ولا أخطه بيميني ولا صاحبت من أتعلم منه بل صحبتكم أنتم في أسفاركم لمن تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما لم أشارككم فيه بوجه ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما سيكون على التفصيل فأي برهان أوضح من هذا وأي عبارة أفصح وأوجز من هذه العبارة المتضمنة له ؟.
ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْكَذَّبَ بِايَٰتِهِ) أي: لا أحد أظلم، والاستفهام إذا كان مضمناً معنى النفي فإنه يدل على أنه قد بلغ في الظلم غايته، لا أحد أظلم .
ـ { أَتُنَبِئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَٰوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ } يعني بما لا يعلم وجوده ولا وقوعه، هذا المعنى هو التفسير بالمطابق، فابن جرير - رحمه اللّه- قال: " أتخبرونه بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض، فالذي لا يعلمه - سبحانه وتعالى - معنى ذلك أنه غير كائن، فمثل هذه القضية لا يمكن أن تحصل وأن تقع، هذا هو المعنى" .
/ لما بيّن اللّٰه تعالى في الآية السابقة فساد عبادة الأصنام وبطلانها بيّن في هذه الآية أن الأديان الفاسدة جاءت من اختلاف الناس ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاَحِدَةً فَاخْتَلَفُوا).
/ اختلاف الناس دليل على أنه سبحانه جعل لهم إرادة واختيارا وكسبا ،واقتضت مشيئته وحكمته سبحانه أن تكون الحياة الدنيا للابتلاء والتكليف، ولا يتم هذا إلا إذا تمتع المكلف بالإرادة والكسب والاختيار.
ـ (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَكْرٌ فِى آيَاِتنَا )
لما طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية أخرى سوى القرآن وأجابهم بقوله: (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) ذكر هنا جوابا آخر وهو أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف، وإذا كانوا كذلك فإن أعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم. وأنه قد حصل لهم الرفاهية وطيب العيش والرحمة بعد النقمة ولم يستفيدوا من ذلك ولم يعتبروا به.
ولما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء، واليسر بعد العسر، ذكر حالة تؤيد ذلك وهي: حالهم في البحر عند اشتداده والخوف من عواقبه فقال:
(هُوَ ٱلَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِ وَٱلْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنُتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحِ طَيْبَةٍ)
- { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيح طَيِبَةٍ ) من آيات اللّٰه الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يُدرك بحس اللمس عند هبوبه، يُدرك جسمه ولا يُرى شخصه فهو يجرى بين السماء والأرض والطير مختلفة فيه سابحة بأجنحته في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حرّكه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقِحا للسحاب يلقحه بحمل الماء . وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيما وأودعه عذابا أليما وجعله نقمة على من يشاء من عباده فيجعله صرصرا ونحسا وعاتيا ومفسدا لما يمرُّ عليه.
/ تسمى رياح الرحمة المبشرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقح، ورياح العذاب العاصف والقاصف وهما في البحر، والعقيم والصرصر وهما في البر.
ـ ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوْةِ الدُّنْيَا كَمَآءِ أَنزَلْنَهُ مِنَ السَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَمُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرَضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَذَلنَ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَٰهَا أَمّرُنَا لَيَلَا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَهَا حَصِيدًا كَأَن لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ )
شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر اللّٰه فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منها فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء وهذا من أبلغ التشبيه والقياس.
ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ) وفي هذه الآية دعوة إلى الزهد في الحياة الدنيا من خلال الاستفادة منها في طاعة اللّٰه وعدم تضييعها بسلوك طريق المعصية، فالدنيا رأس مال الإنسان إلى الآخرة.
/ قوله: ( تَغْنَ ) أي: كأن لم تنعم، تقول: غنينا بالمكان يعني بقينا أو أقمنا به مدة ثم ارتحلنا عنه، ومن أراد أن يعرف هذا المعنى فليرجع إلى نفسه وينظر إلى أيام الصبا وماذا تمثل له بالنسبة إليه، فهو لا يجد شيئاً من متعها ولذاتها، ولعبها وإنما يجد ما يعانيه في ساعته ويكابده من هموم وآلام ومشقات وكد في طلب العيش، وتلك الأيام تلاشت، وإذا فارق الإنسان الحياة الدنيا ستكون ذكرى قصيرة عابرة كذكرى الطفولة، وإذا كان الإنسان في لحظاتها الأخيرة تكون كأنه ما مر عليه عمر طويل ذاق فيه الحلوة والمرة، وأنس واجتمع بمن يحب، وصار له من ألوان اللذات ما لربما ينسيه ذكر اللّٰه - عز وجل - فكل ذلك يتلاشى، وتبقى ذكرى عابرة لا طعم لها، فهذه طبيعة الحياة الدنيا، ولذلك تجد الرجل يكون من أكثر الناس ثروة وغنىً وتمتعاً في الحياة الدنيا، ثم بعد ذلك يتلاشى ويموت، ويوضع في حفرة لربما بجوار أفقر الناس، فلا يُختار له حتى في حفرته من يشاكلونه في الغنى والثروة.
لما ذكر اللّٰه حال الدنيا وحاصل نعيمها، شوّق إلى الدار الباقية فقال: ( وَٱللَّهُ يَدْعُوَا إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمِ).
/ سَمّا اللّٰه الجنة "دار السلام" لأنه سبحانه هو السلام، وأضافها إلى اسم من أسمائه الحُسنى:
تعظيما لها
أو لكثرة ما فيها من التحية بالسلام
أو لسلامتها من جميع الآفات والنقائص وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه، وحسنه من كل وجه
أو لسلامة أهلها من النقص في خَلقهم وخُلُقهم، فلا يكرمهم اللّٰه تعالى بدخول الجنة حتى يهذبهم ويجملهم ويكملهم.
/ الإنسان محتاج دوما إلى هداية اللّٰه وتوفيقه ومعونته فالطريق طويل والعقبات كثيرة والمعوقات كبيرة.
/ عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- مرفوعاً قال: قال رسول اللّٰه - صلى الله عليه وسلم -: ( ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعه خلق اللّٰه كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، إن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى) (1). قال وأنزل ذلك في القرآن في قوله: { وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَمِ } الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
/ يجب على المؤمن ألا يغتر بالحياة الدنيا، وأن يكون إقباله على مستقبله الحقيقي في دار المقامة من النعيم الكامل، ويبتعد عن الفتن التي تجذبه وتستهويه إلى هذه الحياة الدنيا، وقد جاء في حديث أبى سعيد الخدرى - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الدنيا حلوة خضرة وإن اللّٰه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) (2)
ولما دعا إلى دار السلام كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها الموصلة إليها فأخبر عنها بقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد اللّٰه بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه أحمد (٥٢ / ٣٦)، برقم (٢١٧٢١)، وقال محققو المسند: إسناده حسن
2- رواه مسلم، كتاب الرقائق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق