الاثنين، 30 ديسمبر 2024

مقاصد سورة المُلك/ أحمد السيد


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين كثيرا، طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا سبحانه وتعالى ويرضى، اللهم لك الحمد، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل وسلم وبارك على نبيك ورسولك محمد، نستعين بالله ونستفتح مجلسا جديدا من المجالس القرآنية المعنونة بمقاصد السور، اليوم مع سورة الملك.

 وسورة الملك كما ذكر بعض المفسرين أنها في معانيها ومقاصدها تشعر أنها أكبر من حجم آياتها أو عدد آياتها، يعني سورة الملك قصيرة ثلاثون آية ولكنها من حيث المعاني والمتعلقات واسعة جدا وممتدة، فسورة الملك وأنت تقرأ في هذه السورة تشعر أنك تتنقل وتتقلب في الملكوت ابتداء من الحديث عن، أو أولا الحديث عن الله سبحانه وتعالى ثم الحديث عن ملك الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض، وفي العذاب والنعيم، وما إلى ذلك.
سورة الملك من السور العظيمة وردت فيها أحاديث في فضلها وعظمتها ومكانتها، بعض المحدثين لا يصحح شيئا منها، وإن كان وارد حتى عن بعض الصحابة بأسانيد صحيحة أو جيدة في فضلها وذكروا أن هذا له حكم الرفع.
هذي السورة فيها مقاصد متعددة، يمكن أن تتبين للإنسان من خلال التدبر والتأمل والنظر ومطالعة كلام أهل العلم، وفي نفس الوقت هناك بعض الآيات التي لها ارتباط بسور أخرى ولها ارتباط بآيات في أماكن أخرى من القرآن فيمكن للإنسان أن يربط بين بعض المعاني في هذه السورة وبين معاني في سور أخرى، مثلا قول الله سبحانه وتعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) هذه تذكر بآيات في سور أخرى، في سورة الكهف (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) وأظهر في التطابق ما جاء في بداية سورة هود قال الله سبحانه وتعالى (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وهنا (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) من أعظم الطرق التي تبين المقاصد القرآنية بشكل عام، وليس مقاصد السورة الواحدة أن تفسر القرآن بالقرآن وتربط بين آيات كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا يكشف لك عن المواطن المكررة، يكشف لك عن المحكمات، يكشف لك عن المركزيات في كتاب الله سبحانه وتعالى.
من اللافت في هذه السورة تكرار لفظ الرحمن، وتكرارالحديث عن السماء، وحين يأتي الحديث عن الملك وتبارك (تبارك الذي بيده الملك) فالحديث عن السماء أكثر دلالة واتصالا بمثل هذه الألفاظ من الحديث عن بقية المخلوقات، الحديث عن السماء أكثر اتصالا بمعاني الملكوت، ومعاني ملك الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) السماء دائما أكثر ما يأتي ذكرها في القرآن قبل الأرض، وهنا الملاحظ بعد أن قال الله سبحانه وتعالى (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور* الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور* ثم ارجع البصرة كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير* ولقد زينا السماء) أيضا الحديث مرة أخرى عن السماء ولم يأتِ الحديث عن الأرض في هذا السياق، يعني أتى بعدها ذكر الكفار والمؤمنين، ثم جاء الحديث عن الأرض وهذا يلفت الانتباه إلى أن السماء لها شأن خاص ولها شأن عالي ولها شأن كبير في الدلالة على الخالق سبحانه وتعالى وفي تأمل ملكوت الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس عُرج به إلى السماء، فلما عرج به إلى السماء ثم نزل عليه الصلاة والسلام قال الله سبحانه وتعالى واصفا هذا المعنى وما رأى قال (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، وإن كان هذا أيضا له ارتباط بجبريل عليه السلام. وهكذا نجد أن السماء لها شأن في كتاب الله، وحتى في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك النبي صلى الله وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح كان كثيرا ما يرفع بصره إلى السماء وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي موسى في صحيح مسلم، قال (النجوم آمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فالحديث عن السماء والتأمل في السماء، والاتصال بالسماء له علاقة وثيقة في قضية الملك والملكوت وعظمة الله سبحانه وتعالى، على أن الأرض كذلك مما يلفت أو مما له اتصال بهذا المعنى، لكن التأمل في السماء من جهة العظمة هذا له اتصال وثيق بقضية الملك، ملك لله سبحانه وتعالى وعظمته ولذلك لعل الحديث عن السماء هنا مفردة بدون الحديث عن الأرض لعله لوثاقة اتصالها بهذا المعنى، والله تعالى أعلم.
 طيب السماء طبعا تكررت في هذه السورة أربع مرات، ذكرت في (الذي خلق سبع سماوات) ثم (ولقد زينا السماء) ثم (أم آمنتم من في السماء) ثم (أأمنتم من في السماء) والرحمن اسم الرحمن سبحانه وتعالى، تكرر فيه هذه السورة أيضا أربع مرات في قوله سبحانه وتعالى (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) وفي قوله سبحانه وتعالى (ما يمسكهن إلا الرحمن) وفي قوله (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) وفي قوله سبحانه (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا).
 الحديث عن الله سبحانه وتعالى وعن عظمته، وعن ملكه، وعن أسمائه وصفاته حديث استغرق كتاب الله سبحانه وتعالى، يعني يكاد يذهب هذا الموضوع بموضوعات القرآن حتى في الموضوعات الأخرى التي هي مثلا قصص الأمم السابقة وقصص الأنبياء، والحديث عن الجنة والنار، وما إلى ذلك من الموضوعات القرآنية تجد فيها ربطا بالأسماء والصفات، فتجد ختام الآيات بالغفور الرحيم، العزيز الحكيم، العليم الحكيم، وما إلى ذلك.  فمثلا بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى الآيات المتعلقة بإبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام قال (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم)، وكذلك في سورة يوسف أول ما بدأت السورة تجد قول الله سبحانه وتعالى (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم)، ثم تجد أيضا في ثنايا القصة قول الله سبحانه وتعالى على لسان يعقوب (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) وقبلها (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم)، ثم تجد في نهاية القصة (وقد أحسن بي إذا أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم* ربي قد آتيتني من الملك) وهكذا تجد القرآن كله متصل في الحديث عن الله سبحانه وتعالى سواء أكان الموضوع متمحضا في الحديث عن الله سبحانه وتعالى أو كان الموضوع متصلا بقضايا أخرى تجد أنها تُربط بالحديث عن الله سبحانه وتعالى، ولذلك من لا يعطي هذا الموضوع أهمية أو لا يدرك مركزيته في كتاب الله سبحانه وتعالى فقد فاته أهم العلم وأولاه وأعظمه، ولذلك وكما سمعتم مرارا أعظم سورة في كتاب الله ابتدأت بالحمد لله سبحانه وفيها خلاصة العبودية له، وأعظم آية في كتاب الله كلها حديث عن الله -آية الكرسي- (الله لا إله إلا هو الحي والقيوم)
ثم (وهو العلي العظيم) وكله حديث عن الله سبحانه وتعالى، والسورة التي عدلت ثلث القرآن هي سورة الإخلاص وهي كلها حديث عن الله سبحانه وتعالى وصفاته. فإذا كانت أعظم آية كلها حديث عن الله، وثلث القرآن سورة الإخلاص كلها حديث عن الله، وسورة الفاتحة حديث عن الله وعن خلاصة العبودية له، فلماذا لا ينتبه الإنسان المسلم أن هذا هو أهم الموضوعات على الإطلاق، وأن هذا هو العلم، العلم بالله والحديث عن الله، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يغرس في أصحابه هذا المعنى ولذلك نجدهم كانوا بداهة يجيبون عن الأسئلة المتعلقة بأعظم الموضوعات بالحديث عن الله، وتعرفون أبي بن الكعب لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ فاستنبط من خلال ما عرفه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلال ما فقهه من كتاب الله وأن الحديث عن الله هو أعظم شيء، وأن آية الكرسي فيها خلاصات الحديث عن الله سبحانه وتعالى، فقال (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) فأيده النبي صلى الله وسلم على أن هذا هو العلم، وهذا هو الفقه أن علمتَ أن الحديث عن الله سبحانه هو أعظم الحديث ثم استنبطت تلك الآية التي تدل على هذا المعنى في الحديث عن الله سبحانه وتعالى. فيعني لا يغيب عن الإنسان أو لا يفت الإنسان المسلم المتأمل المتدبر أن هذا هو خلاصة العلم، العلم بالله سبحانه وتعالى. ومن خلال كتاب الله والنظر فيه والتأمل وما يفُتح للإنسان تتكشف للإنسان معالم في الحديث عن الله سبحانه وتعالى، وفي العلم به وفي التعبد له سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته.
هذه السورة سورة الملك هي من جملة السور التي فيها الحديث عن الله سبحانه وتعالى، وهذه السورة هي في المقامات أو في السور أو في الآيات أو ما فيها من الآيات، خلينا نقول من النمط الأعلى أو المقام الأعلى في الحديث عن الله سبحانه وتعالى وما يتعلق به ولذلك من يحب هذه السورة وأمثال هذه السورة لما فيها من الحديث عن الله، فقد تأسى بأصحاب رسول الله صلى الله وسلم، وتعلمون ذاك الرجل الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم على سرية، فكان يؤم أصحابه وكان يقرأ في كل ركعة بسورة الإخلاص، طبعا اشتكى الصحابة إنه شيء غريب ما كان، فجاء الصحابة فاشتكوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم لماذا فعل ذلك؟ قال لأنها صفة الرحمن فأحب أن أقرأ بها لأنها صفة الرحمن فأحب أن أقرأ بها، فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الفضل فيه.
وهذا طبعا يقول لنا فائدة أخرى وهي متصلة بأصل المعنى، وهي فائدة مهمة جدا وهي: في أن الحديث عن الله وما يتعلق بأسماء الله وصفاته قد صارت فيه نقلة هائلة وكبيرة من حيث مركز الاهتمام من الأعلى إلى الأدنى في سياق التاريخ الإسلامي. وذلك أنه في وقت النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ربط بين هذه النصوص وبين التعرف على ومحبته والعمل بمقتضاها، فكان الصحابي الذي يسمع نصوص الأسماء والصفات لا يسمعها سماع المستشكل، أو سماع الذي لا يفقه معانيها، أو سماع الذي يعدها كلها من المتشابهات، أو سماع الذي يتعامل مع هذه النصوص على أنها استغفر الله، أستغفر الله ما أريد أن أفكر فيها، وإنما كان يتعامل مع هذه النصوص تعامل المتعبد الواعي الفاهم الذي يتعرف على ربه من حديث ربه عن نفسه. ثم مع كثير الأسباب والعوامل التي ليس هذا مجال ذكرها صار الحديث عن الأسماء والصفات عند بعض أو كثير من المسلمين - المشتغلين ببعض العلوم في العقائد - صار الحديث حديثا  جدليا يعني متعلقا بقضية ماذا نقول في هذه الآية؟ وكيف نؤولها؟ وكيف نصرفها؟ ومعاذ الله أن نتعامل معها بـ…الخ، وحتى صارت هذه النصوص كأنها ابتلاء من الله لعباده حتى يعلم من الذي يتعامل معها بذاك المبدأ الفطري الأولي، ومن الذي سيكون طبعا ضالا منحرفا -على قولهم-، ومن الذي يتعامل معها تعامل ضمن منظومة تأويلية متكاملة فإن تعامل معها كذلك فيكون مصيبا وإلا يكون ضالا مضلا وقد يكون كافرا. وصار كثير من الناس لا يتعامل مع نصوص الأسماء والصفات إلا بهذا الاعتبار، ولذلك من أشهر الأقوال عند بعض هذه الاتجاهات في (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) أن الحديث عن الله من المتشابه، الأسماء والصفات من المتشابه لماذا؟ لأنه يوهم ظاهره التشبيه ويوهم ظاهره كذا فهو من المتشابه. وهذا حياد أو ميل كبير جدا جدا عن مقاصد الأسماء والصفات أو إيراد الأسماء والصفات في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي المقابل أيضا قد ينتصر بعض من هو على موقف صحيح في نصوص الأسماء والصفات فينحى بها المنحى الجدلي من الجهة الأخرى وهي في الرد على من خالف في هذا، طبعا الرد ليس مُشكلا لكن إنه تنتقل النصوص إلى أن العقل الذي ينظر في هذه النصوص هو عقل استدلالي جدلي فقط، انظر هذه فيها رد على ذاك القول، وهذا فيه رد على الفرقة كذا، وهذه فيها رد على كذا، وبين المبالغة هنا والمبالغة هناك تضيع بوصلة مقاصد إيراد نصوص الأسماء والصفات في كتاب الله سبحانه وتعالى، أين مقاصد نصوص الأسماء والصفات؟ هي في ذلك الرجل الذي كان يأمُّ الناس ويقرأ بسورة الإخلاص في كل ركعة لماذا؟ قال لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، هذه مقاصد نصوص الأسماء والصفات، من أين أخذ هذه المقاصد؟ من مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم. فنرجع نقول إن من يحب آيات معينة من كتاب الله لما فيها من الحديث عن الله سبحانه وتعالى فقد تأسى بمن يُتأسى به بتأييد النبي صلى الله عليه وسلم، وسورة الملك هي من السور التي لها هذا المعنى، وأنا أعلق تعليقا أخيرا على قصة الصحابي ذاك، وهي أنه ما أجمل أن يكون للمؤمن إحساس خاص وهو يقرأ القرآن لأن اك الصحابي اجتهد في تفعيل محبته الخاصة لسورة الإخلاص، فما أجمل أن يكون للإنسان علاقته الخاصة بكتاب الله سبحانه وتعالى فيتعلق بآيات معينة، يزيد في آيات معينة، يكرر آيات معينة، مع الالتزام العام بالقراءة القرآنية العامة.
  من أعظم المعاني المتعلقة بالله سبحانه وتعالى في هذه السورة وهو من المعاني اللافتة في كتاب الله سبحانه وتعالى وإن كانت قد لا تكون متكررة بشكل صريح كثيرا ولكنه معنى مركزي ومهم وهو من المعاني -على المستوى الشخصي- من المعاني التي أحبها كثيرا، لذلك يمكن تلاحظون أني حين أصلي إمام أصلي ببعض الآيات من سورة الملك ابتداء من قوله (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) هذه الآيات - سأسألكم بعد قليل عن آيات مشابهة - لكن ركزوا معي الآن في أصل فكرة المعنى: الكافرون والمنافقون يذمون المؤمنين بأنهم قد استعجلوا في خيار الإيمان، وأنهم قد غرر بهم واغتروا في هذا الخيار، فما معنى أن تؤمن بالغيب كل هذا الإيمان، وأن تُسخّر حياتك له؟ خاصة الآن في في ظل الحياة المادية وكثرة المخرجات التي تجعل الإنسان بعيدا وتشتته عن أن يتوجه توجها يكون الاستمداد فيه استمدادا غيبيا، فالكافرون المنافقون والذين في قلوب مرض، كانوا يقولون للمؤمنين أنهم قد غُرر بهم، أو قد عاشوا في حالة من الخداع والوهم.
ونجد هذا -مثلا- في سورة الأنفال (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) طبعا غر هؤلاء دينهم هذا قد يكون في سياق بدر أنهم مصدقين أنهم على الحق وخارجين يقاتلونه، وأخذنا قريبا في أنوار الأنبياء لما قال قوم إبراهيم لإبراهيم هددوه بآلهتهم فقال لهم (ولا أخاف ما تشتركون به) ثم قال (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطان فأي الفريقين أحق بالأمن) طيب هذه (فأي الفريقين أحق بالأمن) تساوي بعض الآيات التي ستأتي بعد قليل، لكن الآن هذا المعنى، معنى الاستقرار، معنى أن المؤمنين قد غُرر بهم، أو أنهم على خطر، أو أنهم في إشكال، وأن الكفار هم على حالة الاستقرار والطمأنينة، لذلك نجد في قصة نوح عليه السلام لما خاطبه قومه قالوا (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) بادي الرأي. تمام. وفي هود قال قومه له (إن نقولوا إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) يعني أنت فيك شيء كأنه مسك شيء أو شيء وهذا بسبب آلهتنا، انظر الثقة إلى أين وصلت... إلخ. (ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك)، القرآن يثبت المعنى بالعكس، وهذا الإثبات العكسي نفي أن يكون لك أمان أو مستقر، أو استقرار قدم أو صلاح إلا بالتعلق بالله سبحانه وتعالى هو هذا المعنى العكسي، وهو من أعظم المعاني التي تخترق النفوس وتهيمن عليها وتسيطر، لذلك في هذه الآيات في سورة الملك نجد هذا المعنى حاضرا وواضحا فيقول سبحانه وتعالى (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) من الذي فيه غرور؟ (إن الكافرون إلا في غرور)، من المغرر به؟ من المخدوع؟ من المُخَادع؟ من المسكين؟ من الذي فيه غرور؟ الكافرون. ولاحظوا كيف قلب الكفة وأن القرآن يأتي لتصحيح المعايير، واحدة من أعظم المعايير التي يصححها هي أن المقاييس الظاهرة التي تقيسون بها من هو على صواب ومن هو على خطأ بالكثرة والقلة وعلو المرتبة الاجتماعية أو انخفاضها. هذه معايير خاطئة. لذلك لاحظوا (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) هذه الآية أتت في نفس السورة بعد تأسيس عظمة الله سبحانه وتعالى، يعني لماذا كان الكافرون في غرور وكان المؤمنون على الصراط المستقيم؟ لأن المؤمنين تعلقوا واعتصموا بالله سبحانه وتعالى الذي سبق الحديث عن عظمته وكماله وعزته و. و. و..إلخ فهذه السورة (تبارك الذي بيده الملك وهوعلى كل شيء قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذي خلق سبع سموات طباقا) إلى آخر الآيات. فالذي يتعلق بهذا الإله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون في غرور، بينما الذي يُشرك به ويخالف أمره، ويتعلق بأسماء سماها هو وقومه وآباؤهم هو الذي في غرور، وقس على هذا اليوم. نعم اليوم الفتنة ليست في أصنام منحوتة من حجارة وخشب تُعبد من دون الله سبحانه وتعالى ولكن هناك أصنام أخرى، وهناك أشياء لها أضواء وجواذب للعقل البشري في هذا الزمن يتعلق بها الناس ويظنونها كل شيء، ويسِمون من خالفها ومن لا يسير في فلكها بأنه المغرور المسكين، غره دينه، ما يفهم… إلخ ، والقضية تحتاج إلى إعادة معيرة وتأسيس أن من الذي في غرور؟ هل الذي غرته الحياة الدنيا؟ هل الذي تعلق بالحياة الدنيا وصار في أعلى مناصبها وأهمل كل شيء آخر متعلق بآخرته؟ هذا هو المغرور حقا طبعا، أو هو الذي تمسك بكتاب الله وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعاش في هذا الفلك ولو خالف شيئا من النمط السائد، ما بين هذا وهذا يجب أن تعاد المقاييس، وإذا تعلق الإنسان بالله سبحانه وتعالى وسار على الطريق الصحيح وهو واثق وعنده برهان فيكون أسعد الناس وأقواهم وأوثقهم بالله سبحانه وتعالى.
 تستمر المقارنة في هذه السورة (أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجو في عتو ونفور)، (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويا على صراط مستقيم) هذه الآية من أعظم الآيات التي تكشف هذا المعنى، وهي من أعظم الآيات التي ينبغي تفعيلها اليوم.
هذه الآيات في المقارنة بين منهج الله والطريق الحق وبين المناهج الباطلة وطرق الباطل، (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويا على صراط مستقيم) ائتِ لي بالطرق اليوم، ايتِ بمناهج الناس؟ بإتجاهاتهم، ائتِ بماء أفنوا أعمارهم في تحصيله وفي السير عليه، أين وصل بهم؟ إلى أين هم ذاهبون؟ خذ هذه المناهج وانظر فيها وانظر إلى مآلاتها ومقاصدها، ثم انظر إلى منهج الله سبحانه وتعالى ومآله ومعالمه تدرك المسافة الهائلة بين الطريقين، وإذا كان في السابق يمكنك التمييز بين الحق والباطل عن طريق المقارنة بين هذه الطرق فاليوم التمييز أسهل، لا لأنه لا توجد فِتن، ولا لأنه لا توجد أضواء جاذبة ومشتتة، وإنما لأن ما وصل إليه الإنسان بعيدا عن الله سبحانه وتعالى وعن وحيه وعن النور الذي أنزله في هذا الزمن هي أظهر في الانحطاط وفي السفالة وفي الخسة، وفي الوصول إلى أدنى الدركات من أي وقت مضى، أظهر من أي وقت مضى، وإذا كان سابقا يحتاج الإنسان إلى أن يكون باحثا حتى يصل إلى هذه النتائج، فاليوم النتائج منثورة في كل مكان - نسأل الله سبحانه وتعالى العافية - (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويا على صراط مستقيم).
 ثم تأتي آية أخرى في نفس هذا المعنى وهي في قوله سبحانه وتعالى (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم * قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين) وهذا هو المعنى نفسه الذي يخترق حُجب النفس ويجعل الإنسان المؤمن في حالة من العلو والاستعلاء على الباطل مهما كان ظاهرا، ومهما كان قويا، (فستعلمون من هو في ضلال مبين) نحن سنصبر على ما أرانا الله من الحق ونثبت عليه وأنتم ستلمزون وتقولون، هناك يوم سنجتمع فيه عند الله سبحانه وتعالى ستعلمون في ذلك اليوم أينا كان محقا وأينا كان ضالا ومبطلا، بل وفي القرآن وفي سياق النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الحديث أنه حتى في الدنيا ستعلمون، وهذه الآيات التي فيها هذا المعنى هي من أعجب الآيات في دلائل النبوة، آيات عجيبة جدا أن تنزل آيات في مكة في وقت الاستضعاف وتقول للكافرين بغاية القوة والوضوح وبدون أي استثناءات أنه سترون هذه الآيات التي فيها سترون معناها، يعني سترون من أعجب الآيات القرآنية ومن أظهرها في دلائل النبوة، وفي ربانية هذا القرآن، لذلك مثلا في سورة الطور (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون* قل تربصوا فإني معكم من المتربصين) أنتم تقولون إن محمدا ليس إلا شاعرا (نتربص به ريب المنون) نتربص به أن يهلك كما هلك غيره من الشعراء، أن تأتيه واحدة من قواسم وقوارع وريب الأحداث والدهر، انظر القوة في الخطاب (تربصوا إني معكم من المتربصين)، وفي أوائل ما نزل من كتاب الله سبحانه وتعالى في سورة القلم (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون) وهذه (بأيكم المفتون) تذكرك (إن الكافرون إلا في غرور)، (ستبصر ويبصرون بأيكم المفتون) وتأتي الآية - بالنسبة لي- رقم واحد في هذا المعنى كله آية سورة الحج، سورة الحج (من كان يظن أن لن ينصره الله) (ينصره الله) الهاء تعود على من؟ النبي صلى الله عليه وسلم، انظرالأسلوب الأسلوب مو ينص. من كان يظن ولو ظنا أن لن ينصره الله متى؟ في الدنيا قبل الآخرة، (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة) ماذا يفعل؟ (فليمدد بسبب إلى السماء) وقالوا هنا السماء سقف بيته، ومن السماء كل ما عليك أبو أولها السقف، (فليمدد بسبب) أي بحبل إلى السماء، هذا واحد من أقوال في التفسير مشهورة (ثم ليقطع) ليقطع نفسه وليشنق نفسه (فلينظرهل يذهبن كيده ما يغيظ) يعني إذا كان يخطر في بالك أيها الكافر أن محمدا عليه الصلاة والسلام لن ينتصر في الدنيا قبل الآخرة، فخير لك أن تُعلق حبلا وتشنق نفسك وتموت قبل أن، هذا الوعد *** فيه شيء أقوى وأعلى وأعز من هذا الخطاب؟ إيش في شيء أقوى وأعز في وقت؟ إيش كان الوقت؟ ما في معطيات، ولذلك تجد عائشة رضي الله عنها لما ذكرت قول الله سبحانه وتعالى (سيهزم الجمع ويولون الدبر) أو آيات في آخر صوت القمر نزلت فيه وهي صغيرة يعني في مكة، فقال بعض الصحابة أي جمع؟ يعني (سيهزم الجمع ويولون الدبر) أي جمع؟ أين هذا الجمع الذي سيأتي ويهزم؟! يعني حالة المسلمين، يعني المسلمين لماذا هاجروا المدينة؟ ما فيه شيء يستطيعوا فعله في مكة، لماذا هاجروا الحبشة؟ كما قالت أسماء بنت عميس (ونحن كنا في أرض البعداء البغضاء ونحن كنا نؤذى ونخاف) تمام، وأنتم عند رسول الله يطعم جائكم ويعظ جاهلكم. فهذا كله يعني  من أعظم المعاني القرآنية التي تثبت معنى الاستعلاء والثقة والثبات … إلخ من هذه المعاني الكبرى. طيب إذا من المعاني المركزية في سورة الملك - وهو معنى متكرر في كتاب الله سبحانه وتعالى - معنى أن المتعلق بالله المعتصم به، ولفظ الجلالة (الله) بين قوسين ثم اكتب يساوي (بيده الملك وهو على كل شيء قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع..)، (أأمنتم من في السماء)، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ضع لفظ الجلالة (الله) بين قوسين ثم اكتب يساوي واكتب كل الحديث عن الله الوارد في سورة الملك.
 بعد ما انتهى هذا الحديث عن الله وعرفت من هو الله سبحانه وتعالى الآن (أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن)، (أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) ثم هو (الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) إيش فيه شيء أقدر أعمله أوثق وأكثر طمأنينة وأقوى وأرسخ من أن أتعلق بهذا الرحمن سبحانه وتعالى الذي خلق وخلق وخلق وخلق، أعطني شيئا آخر أوثق أتعلق به وأستمسك، (فستعلمون من هو في ضلال مبين) فهذا من المعاني المركزية.
 من المعاني المركزية أيضا في سورة الملك المتصلة بالحديث عن الله سبحانه وتعالى، والمتعلقة به وهو معنى متكرر في القرآن تكرارا هائلا كثيرا جدا، وهو الربط بين عظمة الله وأسمائه وصفاته بشكل عام وبين المخلوقات، وأن المخلوقات والنظر فيها هو طريق للتعرف على عظمة الخالق سبحانه وتعالى.
 أول أمر في القرآن ما هو؟ أقصد في ترتيب المصحف؟ أول أمر ما هو؟ الصفحة الثانية من البقرة (يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) الآية التي بعدها الطريق الموصل إلى هذا المعنى (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء وأنزل من السماء ماء) إلى آخره، متكرر هذا المعنى في سورة البقرة ومتكرر في سورة آل عمران، وفي سور القرآن بشكل عام هذا المعنى دائما يرِد دائما، طيب لما يكون هذا المعنى دائم الورود وكثير التكرار ويُعاد في سور أخرى بالحديث عن مخلوقات متعددة، وهنا في سورة الملك يقول سبحانه وتعالى (فارجع البصر)، (ثم ارجع البصر) ويقول سبحانه وتعالى (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات)، (أولم يروا) انظر الأسلوب، أسلوب استنكار، و(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا) هناك (فارجع البصر)، (ثم ارجع البصر) تمام. وفي سورة الأنبياء أيضا فيه بمثل هذا الأسلوب قال سبحانه وتعالى (أولم يرى الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) ثم قال سبحانه وتعالى بعد آيتين (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون) طيب، وفي سورة يوسف (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) هذا الآن الأسلوب الذي يؤكد معنى التدبر من جهة أخرى، من أنه هناك من هو مُعرض ومن هو غافل ومن هو… إلى آخره.
 طيب هذا المعنى مركزي ومهم ومكرر في كتاب الله سبحانه وتعالى وهو: ضرورة النظر في المخلوقات والتأمل فيها لمعرفة عظمة الخالق سبحانه وتعالى، تمام. وهنا المعنى لا يُخاطب به الإنسان الذي عنده شك، أو يُخاطب الإنسان الذي لا يعرف الله فيقال له لن تستطيع أن تعرف الله إلا، لا، هذا خطاب لكل الناس المؤمن، الصالح، الموقن، المنافق، الذي في قلبه شك، الذي في قلبه مرض، الكافر، الكل مخاطب بهذا الخطاب، وهذا النظر والتفكر دواء للكل، للموقن يزيده يقينا، للمؤمن يزيده إيمانا، لمن في نفسه شيء أو في قلبه شيء يمكن أن يزول عنه هذا المعنى. في سورة آل عمران (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) وهذا استدلال ليس على مطلق وجود الله سبحانه وتعالى وإنما استدلال على الغاية والحكمة التي خلق الله الناس أو السماوات والأرض لأجلها (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) هذا حديث عن الغاية وليس حديثا عن أصل الوجود.
 لذلك لا نحرم أنفسنا اليوم من سنة التفكر والتدبر والنظر في المخلوقات، وفي عظمة الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى كما قلت معنى من الخطورة بمكان أن يفوتنا، ومن الخطورة بمكان أن نُحرم منه بسبب صعوبة الحياة المدنية التي نعيشها اليوم من جهة إشغال الإنسان. يمكن أن يستعيض الإنسان أحيانا ببعض البرامج الوثائقية التي تتحدث عن المخلوقات ويتعبد لله سبحانه وتعالى بالتعرف على دقائق المخلوقات، ولكن تنبه لاتكن من الإلحادية التي تقول لك: "وانظر إلى عظمة نظرية التطور التي أوصلت الناس إلى مثل هذا المعنى" لكن مثلا التعرف على قضية الجينات والخلية وما في الإنسان من هذا المعنى.
أمور يعني هي لعلها من رحمة الله سبحانه وتعالى أن تكون مُسهل الوصول إليها في هذا الزمن الذي كثُرت فيه الشبهات والإشكالات والماديات وما إلى ذلك، لم تتكشف مثل هذه المعاني سابقا، وما كان فيه الشروط الخارجية التي تتكشف من حيث الأدوات المادية، فهذه أيضا من رحمة الله سبحانه وتعالى، لذلك لزيادة اليقين الشخصي، طبعا هذا الأسلوب أو هذا الأمر الذي قدره الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام ليزيد يقينه أليس كذلك؟ أنا أقصد إنه في قضية المخلوقات، لأنه قال (أرني كيف تحيي الموتى  قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير..) فشاهد، الآن أيضا كذلك مشاهدة آثار عظمة الله سبحانه وتعالى. وهذا باب طويل وكبير جد ا، وهو باب من أقل الأبواب التي فيها العناية اليوم من حيث الحرص على التدبر والتفكر والتأمل في الملكوت، وخاصة السماء، لذلك الخروج عن المدن في الليل، والنظر في السماء وفي عظمتها، وفي النجوم وما يتعلق بها، ثم التفكّر في عظمة هذا الخالق سبحانه وتعالى من خلال النظر في المخلوقات هو أمر من أهم الأمور، كما قلت ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان كثيرا ما يرفع بصره إلى السماء، فلا يحرم الإنسان نفسه من هذا المعنى.
ممكن أختم بمعنى وهو أن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الملك (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا). بس دقيقة سأختم في الفقرة قبل السابقة في مسألة الغرور في الكافرين واحدة من أهم الصور أو الصورة الكبرى التي سينكشف للكافر فيها غروره هي في الآخرة، ولذلك جاء في هذه السورة نفسها التي فيها (إن الكافرون إلا في غرور) جاءت صورة الغرور هذه، ما هي هذه الصورة؟ (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) هنا يأتي انكشاف الغرور، عاينوا العذاب وجاء التقريع الآن والإشهاد (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالو بلى قد جاء نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير* وقول لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير* فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير)، اعترفوا بذنبهم يوم ألّا ينفع الاعتراف بالذنب وتشاركوا في العذاب يوم ألا ينفع الاشتراك في العذاب ولا يخفف عنهم ذلك شيئا (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) يعني الموت مع الجماعة رحمة ما ينفع، ما ينفع، (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) ولذلك (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) إظهار الندامة بحسب مستوى العذاب، بحسب مستوى الندامة، فإذا كان العذاب يسير فالندامة قليلة، إذا كانت أكبر شوية فممكن الإنسان يظهر الندامة، لما تصل إلى الحد المتجاوز لما يمكن أن يُتصور تيأس من إظهار الندامة، يعني إظهار الندامة ليس على حجم المصيبة (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) طبعا سيقولون يا حسرتنا، لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير لذلك (فسحقا لأصحاب السعير، وكذلك في سورة المؤمنون (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإن ظالمون* قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون) لكن هذاك الوقت هو من أكثر الأوقات التي سينكشف فيها، أو هو الوقت الأساسي الذي سينكشف فيه غرور الكافر (إن الكافرون إلا في غرور) ما صورة هذا الغرور؟ صورة هذا الغرور أنهم كانوا يتعلقون في الدنيا بما لا يغني عنهم شيئا وهذا الذي تقرر في سورة العنكبوت - كما في اللقاء السابق- وصورة هذا الغرور، أو نتيجة هذا الغرور أنهم سيدخلون النار وحينها سيقال لهم ماذا؟ في سورة الأنعام في هذا المعنى تحديدا سيقال لهم (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم) ما معنى (باسطوا أيديهم)؟ باسطوا أيديهم بالضرب والعذاب لهم، (أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون* ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) هذا النص الآن الذي فيه كشف حالة الغور (وما نرى معكم شفعاؤكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) ما نراهم، أين هم؟ ما فيه، (وما نرى معكم شفعاؤكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون)، وأيضا في سورة النور كشف حالة الوهم الشديد جدا قال الله سبحانه وتعالى (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) هذا كله في معنى الغرور، غرور الكافر، هذا حين ينكشف له غروره. أما في الدنيا فما صورة هذا الغرور الذي هو بمعنى الكبر إنما بمعنى الخداع، الوهم، غُرر به، هو في في حالة من الخداع والوهم والزيف أن هو على حق. أين هذه الصورة في الدنيا؟ الصورة في الدنيا هي في التعلق بما لا يغني شيئا، والمتقرر هذا في سورة العنكبوت (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) هذا المعنى متكرر في كتاب الله بشكل واضح.
اتذكرت أيضا آية في سورة الرعد (والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) نعود مرة ثانية لأول فائدة  أو ثاني فائدة ذكرتها في درس اليوم وهي: أن ربط الآيات ببعضها في مختلف السور الإتيان بآيات الموضوع الواحد في كتاب الله يكشف عن المقاصد، يكشف عن المعاني المركزية في كتاب الله سبحانه وتعالى.
 المعنى الأخير هو في قول الله سبحانه وتعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) في كتاب الله سبحانه وتعالى بيان للقضايا الكبرى التي يتساءل الإنسان عنها، أو يمكن أن تشغل بال الإنسان، والله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان وخلق قلبه وعقله وفطرته وهمومه وما إلى ذلك يعلم بتساؤلاته، والقرآن أتى ليبصر الإنسان بـ لماذا هو هنا، وإلى أين المصير، وبسبب ماذا هو هنا، هذه إجابات القرآن عن الأسئلة الكبرى بالنسبة للإنسان، هذه الإجابات لا تجدها في السياقات المادية والإلحادية وما إلى ذلك، طيب في سياق لماذا أنت هنا؟ تأتي مثل هذه الآية (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) فعندك معنى الأحسن عملا، وعندك معنى الابتلاء، فوجودك في هذه الحياة هو ضمن دائرة الابتلاء والاختبار والامتحان، ولم يكن وجودك في هذه الحياة وجود رغد، ولا وجود نعيم، ولا وجود سَعَة، أولا أنت لم تختر وجودك، وهذا بحد ذاته من أعظم الأدلة المُرسِخ لمعنى العبودية عند الإنسان، أنت عبد مقهور، مقهور يعني هناك قوة أعظم منك جعلت وجودك خارجا عن إرادتك أصلا، وستغادر هذه الدنيا رغما عنك ولو بلغت في هذه الدنيا ما بلغت، وهذه الحقيقة واضحة وقطعية لا شك فيها، وهي بحد ذاتها دليل على المتكبرين والمتجبرين والمغترين على أنه لا تغتر، لا تتجبر، لا تتكبر، أنت مخلوق، أنت مربوب، أنت عبد لمن هو أقوى منك وأعز و.. و..، ثم يأتي القرآن ليقول لك من هو هذا الخالق، وليؤكد لك حقائق أنت تعرفها ولكنها تغيب مع الزمن (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) من الذي خلقك؟ هل هو من الأشياء التي تراها أنت؟ هل أنت خلقت نفسك؟ هل لم يكن هناك سبب؟ أبوك، أمك، الطبيب، من؟ ثم تأتي الأشياء لتربط لك بين إنه لست أنت المُوجَد الوحيد، هناك سماوات خُلقت، وهناك مخلوقات وكائنات في كل مكان، والقضية ليست مجرد خلق وإنما خلق متقن، وليست القضية مجرد خلق متقن وإنما خلق متقن فيه قانون التدبير والتسخير والهداية (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) هداه إلى ما خلقه له، فتجد أنه خلاص أنظمة تسير على الكائنات الحية، وفي الأكل، وفي الرزق، وفي ال…، أنظمة، ويهدي الكائن إلى رزقه، إلى مكان يصلح له تمام. فأنت استيقظت على هذا العالم وعلى هذا الدنيا بهذه الطريقة، والقرآن يسلط لك الضوء، يقول لك انظر هنا، ثم يسلط لك الضوء هنا، ثم يسلط لك الضوء هنا، ثم يسلط لك الضوء هنا ويكشف لك الجوانب هذه كلها، ثم يقول لك وبعد هذا كله إياك أن تظن أن هذا خُلق عبثا، وإياك أن تظن أن القضية مجرد لهو ولعب (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) وإنما القضية ابتلاء، وأن الأمر عظيم (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) أن الأمر عظيم وفيه ابتلاء، وفيه حق وباطل، وأراد الله أن يكون هناك حق وباطل وصراع بينهما، ولذلك تجد في سورة هود (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك *ولذلك خلقهم)، وتجد في سورة الأنبياء (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين* بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) وذكر الحق والباطل هنا بعد ذكر خلق السماء والأرض هناك ارتباط بهذا المعنى فالقرآن يكشف لك عن هذه الزوايا ثم يقول لك القضية حق وباطل، ثم يقول لك القضية فيها ابتلاء، وهذا الابتلاء ليس هو ابتلاء شدة فقط (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) جعلنا ما على الأرض زينة الله لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وهنا (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، ثم يقول لك إنك أيها الإنسان لا تستطيع أن تهتدي بعقلك ولا بفكرك إلى الطريق الذي يريده من خلق كل هذه الأشياء وإنما هناك وحي أنزله الله وهذه معالمه، وهذه آياته، وهذه عِبره، ثم إنك ومع هذا الوحي، ومع أنه هادٍ لا تستطيع أن تهتدي إلا إذا هداك خالق السماوات والأرض (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، ويذكر لك الثواب والعقاب ونهاية الطريق ثم إذا التزمت بهذا سيخلق الله في نفسك وفي قلبك من المعاني ومن السعادة، ومن الطمأنينة ما ستدرك به أن هذا هو الحق، ليس هذا الآن هو الدليل، الدليل سابق لكن هذا مؤكِد، وما تستطيع أن تستدل بشيء منه على النعيم الأخروي، "وإن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" وهذه يعني عبارة من بعض العلماء تستطيع أن تأخذ عمومها ولا تأخذ لفظها، وإلى آخره من مثل هذه النصوص والمعاني.
فهذه السورة - سورة الملك - من السور المؤسسة لأصل هذا المعنى في قوله سبحانه وتعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسنوا عملا وهو العزيز الغفور). وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق