الاثنين، 4 فبراير 2013

القريب والبعيد -2-



 الحمد لله الذي أحسن كل شي خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين وبعد :
 فهذا الجزء الثاني من لقائنا ودرسنا حول لفظي ومفردتي القريب والبعيد في كلام رب العالمين جل جلاله ، وبيّنا في اللقاء الذي أجملنا فيه في اللقاء الأول أن هاتين المفردتين وقعتا كثيرا في القرآن ، وجاءتا بمعانٍ عدة وهما في الأصل متقابلتان ، ويظهر المعنى من سياق الكلام ، لكننا بيّنا في الأول أنه قد يكون زمانا ، قد يكون مكانا ، قد يكون حضوة قد يكون نسبا وقد يكون غير ذلك . لذلك عندما نشرع في التفسير الآن لكثرة الآيات إنما نشرع في البيان المجمل لا في البيان المفصل مراعاة لكثرة الآيات فكل درس له ضوابطه وبواعثه وموانعه.
/ قال الله -عز وجل- لما ذكر التوبة (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) فجاء بلفظ (قريب) لكن كلمة قريب هنا : كل أحد تاب قبل أن يُعاين الموت ، قبل أن تغرغر روحه فأهلٌ لأن يقبل الله -عز وجل- توبته، فتوبته وقعت من قريب ولو كانت قبل وفاته ، قبل أن يعاين الموت بلحظات ، وهذا الأمر مطلوب عظيم لكل مؤمن أن يختم الله -عز وجل- له بالتوبة ولِيُعلَم أن المعاصي لن ينجو منها أحد لكن الإنسان إذا وقع في قلبه -وقر- حياؤه من الله ورغبته الصادقة أن يتوب فليكن على يقين إن صدقت نيته أن الله -عز وجل- سيكتب له التوبة . وأنت إذا تأملت فيمن حولك من المشاهير أو من المغمورين رأيت أقواما كُثُر أسرفوا على أنفسهم في المعاصي وسلكوا طرائق شتى لا حاجة للتفصيل فيها ومع ذلك يلحظ المؤمن ، يلحظ من يرقُب الوضع أنهم قبل وفاتهم قد يُهدَون إلى التوبة، والإنسان لا يتألى على الله ، ولا يعلم سرائر الناس وليعلم يقينا أن فضل الله واسع لكن قلّما ، بل لا يقع أن يكون أحد صادقا فيما يطلبه من الله ثم يُحرم ما يطلبه مُحال ، فوالله كل من هلك ومات على شيء غير مَرضيّ إنما مات على ذلكم الشيء غير المرضيّ لأن نيته لم تكن صادقة مع ربه ، وقد يكون أن الله -عز وجل- ولو مات هذا الرجل أو تلكم المرأة على شيء غير مرضيّ أن الله عز وجل بضمة القبر ، بسؤال الملكين ، بعذاب القبر، يطهّره من ذلك الذنب فإذا جاء يوم العرض وقف بين يدي الله ولشدة ما ناله ، ما وقع له من أهوال في القبر مُحيَ ذلك الذنب ، لكن إذا كانت كرامة العبد على الله أعظم طهّره الله قبل أن يلقاه ، قبل أن يموت ، استعمله ربه في عمل يحبه الله ، فما أن يدخل فيه ويتلبس به ويقوم به ويُرزق نية صالحة في تأديته ويُعان إلا وتراه يُقبض على ذلكم العمل ، وهذا كله مندرج في قول ربنا -تبارك اسمه وجل ثناؤه- (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) فـ (مِن قَرِيبٍ) أي قبل معاينة الموت ، هذا بالنسبة لأحوال الأفراد ، وأما كأمّة على ما يكون من أمر الثقلين فإن الشمس إذا طَلُعت من المغرب قُضي الأمر ، أي أمر يُقضى ؟ ليس أمر الكون لكن قُضي أمر التوبة ، يقول أصدق القائلين (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) فمن ابتُليَ بمعصية أو ذنب مازال يؤرقه ولم يقدر بعد على أن يتركه فلا أقل من أن يكون في قلبه حياء من الله من ذلك العمل قد بيّت النية الليلة أو غدٍ أو بعد غدٍ أن يتركه ، وليُعلم أن رحمة الله أوسع من كل شيء ، وهذا يسوقنا إلى قول الله ولفظ  قريب (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) الله جعل برحمته رحمته قريبة من أهل الإحسان ، والمحسن يتضمن وصفين :
 الوصف الأول : استحضار عظمة الله فهمنا قوله -صلى الله عليه وسلم- لما سأله جبريل عن الإحسان قال (أن تعبد الله كأنك تراه) . ومعلوم أن أحدا لن يرى الله حتى يموت وإنما يكون هذا للمؤمنين في الجنة - رزقنا الله وإياكم ذلك- فإن المراد أن الله يؤتي بعض خلقه ، بعض عباده أنهم يستحضرون عظمة ربهم في كل شأن ، واستحضار أي أحد لعظمة الله ينجم عنها يقينا أنه يهون في عينيه كل شيء يحول بينه وبين الله سواءً كان من الناس أو كان من الشهوات ، أو كان من الرغائب ، أو كان من غير ذلك ، والله يقول هنا (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) هذا الشق الأول .
 الشق الآخر: :في أن الإنسان يكون محسنآ للخلق يبدأهم بالمعروف ، يبدأهم بالعون ، يبدأهم بالعطايا ولا يرجو منهم ثوابا بل قطع الرجاء مما في أيديهم ، ويصنع ما يصنع لا يريد بذلك إلا وجه الله .
 وقد قالوا إن بعض نساء المسلمين في التاريخ كانت تُكثر من النفقة فإذا عاتبها بعض أهلها ، بعض أهل قصرها قالت : إن ثواب الله أعظم وإن أجر الله بغير حساب ، فعلمها بعظمة الله وعظيم فضله وجليل عطاياه جعلها لا ترى عطاياها شيئا ، وهذان الحالان الحال الأول إستحضار عظمة الله ، والأمر الآخر الإحسان إلى الخلق هذان سببان جليلان لأن يكون الإنسان قريبا من رحمة الله ونحن نتكلم عن مفردتي القرب والبعد ، قال أصدق القائلين في كتابه المبين (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) فإن جاء أحد -وكلنا ذلك الرجل- أضحت الحاجة له ، الكرب عليه عظيم فيفتقر ، وكل الناس في هذا الأمر سواء ، يفتقر إلى رحمة الله ، فكيف تُستدر رحمة الله ؟
 تُستدر رحمة الله الأول : باستصحاب واستحضار عظمة الله وجلاله وما له -جل وعلا -من صفات الجلال والكمال ، والآخر : تُستدر رحمة الله بالإحسان إلى خلقه .
 وبيان ذلك في حياة الناس المألوفة ، إذا وُجد أحد من الناس قلبه معلق بعطية من الله ، يؤملها من الله ، بعطية من الله قلبه معلق بها ، ثم جاءك أحد من الخلق قلبه معلق بشيء تملكه ، مالا ، جاها ، شيء تقدر أن تعطيه إياه ، جعله الله بيدك ، العاقل هنا من فقِه عن الله كلامه ، فقه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنته يعلم أن تحقيقنا لحاجة من تعلق قلبه بنا ، تعلق قلبه بأيدينا ليس تعلقا شرعيا يدخل فيه كفر و شرك إنما نفسه تعلقت بالشيء الذي في يدك فلما يريد الله أن يعطيك يعينك على أن تعطيه ، إذا أراد الله أن يعطيك أعانك على أن تعطيه فيكون عطاؤك وإحسانك إلى ذلكم الذي تعلق قلبه ، تعلقت نفسه بما في يدك يجعلك أهلا لأن تنال ما تعلقت به نفسك من ما هو في خزائن الله وهذا مندرج في قول الله (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) .
/  الله جل وعلا ضرب الأمثال وأقام الحجة على الخلق بما في كتابه المبين لكن ليس كل أحد يقدر أن يفقه عن الله كلامه ولهذا قال الله (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) والعلِم الحق الذي لا يُنازع فيه صاحبه : العلم بمراد الله من كلامه ، قال الإمام الشافعي -رحمه الله- في مقدمة كتابه الرسالة وهو كتاب في الأصول : "إن من أراد الله به خيرا وإمامة في الدين علّمه أن يفقه هذا القرآن و يعمل به". والمراد من هذا كله تحرير معنى قول الله (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) .
/ كما جاء لفظ قريب جاء لفظ بعيد أو بُعد والمعنى واحد ، قال الله عز وجل في سورة الزخرف (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) أي العاصي المتلبس بالكفر (قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي)  "ليت" تُسمّى عند النحويين حرف مشبه بالفعل يفيد التمني ، وغالب استعماله في الشيء الذي لا يقع ،  (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) يقوله في حق من كان يتبعه ، في حق من كان يُغويه (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) ومعلوم قطعا ، ظاهر لكل أحد أن الله -تبارك اسمه و جل ثناؤه- باعد ما بين المشرق والمغرب بعدا عظيما ، وقال هنا   (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ)  أي المشرق والمغرب لكن التثنية هنا بإعتبار أن المشرق أول هذا توجه ، والتوجه الآخر : أن قرني الشيطان جهة المشرق والمقصود أن الشمس تشرق بين قرني شيطان ، والمراد قول الله عز وجل هنا قضية البعد (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) وكما قاله الله هنا قال الله -جل وعلا- في حق عادٍ وثمود وهما قبيلتان عربيتان بُعث إليهما نبيان صالحان هما صالح وهود قال عنهما (أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) بعدٌ عن من ؟ بعدٌ عن الله . وثمة أقوال ، ثمة أفعال التلبس بها يبعد المرء عن ربه ، وثمة أقوال ثمة أفعال تقرب العبد من ربه ، فينظر المرء في أمر الله بالبعد عنه فيبتعد ، وفيما أمر الله -جل وعلا- أن يُقرب فيُقرب ، ومن أعظم ما أمر الله أن يُبتعد عنه قال الله (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ونبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول (لا أحد أغير من الله)  فوالله -وهذا مقام نصح- إن من أعظم ما يُدمي القلب أن يأتي أحد فُينفق ماله و جاهه ليدعو الناس إلى طرائق الفحشاء فيجمع ذكرانا وإناثا ، فتيانا وفتيات ، تحت أي مسمىً ، ثم يكون فيها من طرائق الفحشاء ما لا يمكن أن يتغافل عنه عاقل ولا أن يدافع عنه ذو لب هذا -والعياذ بالله- طريق إلى أسباب سخط الله وغضبه وهلاكه، قال أصدق القائلين (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) وقال ربنا (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) .
/ جاء لفظ القُرب كما جاء هنا في المحظورات جاء لفظ القُرب في العطاء لأنه جاء هنا منهي عنه، لكن جاء في قبيل الثناء فذكر الله الكليم موسى بن عمران فقال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا) ثم قال (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ) وإلى الآن لم يأتِ لفظ  قُرب ولا بُعد ثم قال بعدها (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) هذا قُرب حضوة ، قرب منزلة ، والله لما قال لإبليس (اخْرُجْ مِنْهَا) من أي شيء يخرج ؟
الناس يقولون الجنة ، إبليس لم يدخل الجنة أصلا ، والله ما كتب لإبليس الجنة ، (اخْرُجْ مِنْهَا) من المنزلة ، المكان الذي كنت فيه ، وأَخرج الله إبليس لمعصيته (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) وقد كان فيه من الكِبر والحسد ما جعله يفيء بغضب الله ولا يهلك على الله إلا هالك ، ومن أراد الله به الرحمة نجّاه من الكِبر ، نجّاه من الحسد ، وأبقاه على طاعته ، مُنكسر القلب ، وَجِلَ الفؤاد ، مقشعر الجلد في سيره إلى ربه ، قال الله هنا عن هذا العبد الصالح الكليم قال عنه (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) فظَفرَ وفاز بمقام التكليم ، قال الله -عز وجل- (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) .
/ ورد لفظ قريب في قول الله -جل وعلا- في سورة الأحزاب (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ) ثم قال لنبيه (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) ومن رأى في زماننا تصرّم الأيام والليالي وانقضاء الشهور والأعوام علم يقينا أن أمر الساعة قريب ، وليس المقصود أن هذا أوانها ، هذا كما قال الله (عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ) لكن توالي الأعمار ، وانقضاء الأيام وسرعة طيّها دليل على أن الأمر يقترب وقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم (بُعثت أنا والساعة كهاتين وأشار إلى أصبعيه السبابة والوسطى) . والمراد من هذا كله الإتيان بلفظ قريب .
 مجمل ما نريد أن نقوله إن أعظم القرب وأجلّه القرب من الله ، وأقبح البعد وأشنعه البعد عن الله ، و ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب فالإيمان والعمل الصالح كفيل بأن يقرّب العبد من مولاه .
بلّغني الله وإياكم من الخير أكمله ، وجعلني الله وإياكم مِن مَن يستمع القول فيتبع أحسنه ، هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمد وآله والحمدلله رب العالمين .
--------------------------------------------------
جزى الله أختنا في الله خير الجزاء على تفريغها للحلقة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق