الأحد، 10 فبراير 2013

إجابة الخضر عن (خرق السفينة - قتل الغلام - إقامة الجدار)



/ (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ) همزة السين للمستقبل القريب.
(سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) أصغى موسى للخضر يريد أن يعرف فيما كان منذ هذه الأيام وبدأ الخضر يُفصّل ، وبدأ بـ"أما" وهي للتفصيل ، قال :
/ (أَمَّا السَّفِينَةُ) وهي القضية الأولى بيني وبينك (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ) سماهم مساكين مع أنه أسند مُلك السفينة إليهم ، ففهمنا أن المسكين قد يملك شيئا لكن ربما ضاق دخله عن قوته .
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) وحسنٌ من المرء أن يأكل من عمل يده .
(يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) فنسب صُنع العيب إلى نفسه أدبا مع ربه .
(فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم) أي أمامهم ، وتأتي "وراء" في القرآن بمعنى أمام قال الله -جل وعلا- ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ومعلوم أن البرزخ أمام الرجل في مستقبل أيامه ، قال الله -جل وعلا- (وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)
ومعنى القضية كلها : أن الدين قائم على جلب أعظم المصلحتين ودرء أعظم المفسدتين . لكن تُبتلى الأمة في بعض أزمنتها بفقهاء لا يستحقون هذا الإسم ولا أن يتقلدوا ذلك الوشاح فلا يفقه مسألة دفع أعظم المفسدتين وجلب أعظم المصلحتين ، وإن كان كلٌ يدعيها لكن هذا التطبيق يقل والعاقل ينبغي أن يعلم فقه الأولويات ، فقه المصالح ، فقه المفاسد .
ذكر الذهبي في الأعلام أن رجاء بن حيوة كان جالسا ذات يوم هو ووزير لسليمان بن عبد الملك مع رفقة له فتذاكروا نِعم الله فجاء رجل يلبس بُردا فاطّلع عليهم فقالوا لا أحد يستطيع أن يُكافئ نِعم الله ، فقال الرجل : ولا أمير المؤمنين ؟ فقالوا بصوت واحد : ولا أمير المؤمنين . فذهب الرجل فقال رجاء وهو المُجرب الفطِن أُوتيتم من قِبل صاحب هذا البُرد . ثم إن صاحب هذا البُرد - أي هذا الرجل - ذهب إلى سليمان وأخبره ، فاستدعى سليمان رجاء فقال له : يا رجاء يُقدح في أمير المؤمنين وأنت تسمع ؟! قال : يا أمير المؤمنين والله ما كان ذلك ، قال : ألم تجلس أنت وفلان وفلان في يوم كذا ، في مجلس كذا وقلتم كذا وكذا ؟ قال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين ، فاستحلفه ، قال سليمان : ءالله يا رجاء ما كان ذلك ؟ قال : والله يا أمير المؤمنين ما كان ذلك . 
لما حلف رجاء فهِم سليمان أن الرجل كاذب لأن رجاء مع يمينه أصدق عند سليمان من الرجل فعمد إلى الرجل فجلده . فمرّ رجاء على الرجل بعد أن جُلد والدم ينزف منه فالرجل يشتاط غضبا ويقول لرجاء : ويقولون رجاء بن حيوة ، أي على أي شيء يمدحك الناس ، على أي شيء يرون أنك تقي ، على أي شيء يرون أنك عبد صالح ، ويقولون رجاء بن حيوة . قال : يا ابن أخي نعم ويقولون رجاء بن حيوة أسواط عدة في ظهرك ولا ضرب رقاب رجال من المسلمين . لأن هذا - أي سليمان - رجا ذو بطش ، ذو جبروت ، لا يُشاور أحدا ولا يُبالي ، لو فهِم فهما سيئا عن كلامنا قتلنا جميعا ، فوالله لأن تُحفظ رقبتي ورقبة من معي من المسلمين ممن ينفع الله بهم خير وأهون من يمين أستغفر الله منها - هذا المعنى - ومن أسواط في ظهرك جراء أنك أنت الذي ذهبت إليه بقدميك وأخبرته الخبر . 
فهذا من فقه المصالح ودرء المفاسد ومعرفة كيف يقول الإنسان الكلِم ويحتاط لنفسه ويحفظ من يعول ويقوم بشؤون الأمة لا أن تُرمى الأمة في المهالك بحجة أنه يُراد رفعة الدين ، والمقصود : قال (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) . 
/ وأما الغلام الذي لمتني على أنني قتلته (فَكَانَ أَبَوَاهُ) والتثنية بحسب أن الأب هو الذكر فيُقال في حق الأب والأم أبوان كما قال ربنا -جل وعلا- (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ) والمراد آدم وحواء ، ويُقال : المكتان ويُراد مكة والمدينة ، ويُقال : العمران ويُراد أبو بكر وعمر ، ويُقال : الحسنان ويُراد الحسن والحُسين ، وهذا كثير في اللغة .
قال الله -جل وعلا- هنا (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) .
المعنى : لأن يفقد الوالدان ابنهما مع بقاء الدين خير من بقاء الابن مع ذهاب الدين فيُصبح آخر معقل لنا ديننا ، يحتاط المؤمن يجعل دينه آخر شيء ما بعده إلا الموت فقال هنا لأن يبقيا مدة من الدهر يحزنان فيها على ذهاب الابن خير من أن يُعمّر هذا الابن ويكون في بلوغه حياته معهما ذهاب لدينهما (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) وقد قيل إن الله -جل وعلا- رزقهما بعد ذلك خير منه زكاة وأقرب رحما .
/ الآن فرغ الخضر من بيان قصة الغلام بقيت الثالثة قال :
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) اليتيم : من فقد أباه من الإنس قبل البلوغ ، ومن الطير من فقد أباه وأمه ، ومن سائر الدواب من فقد أمه . 
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) وهذا يدل على أن المدينة في القرآن يُقال لها قرية وأن القرية في القرآن يُقال لها مدينة بدليل أن الله -جل وعلا- قال (أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ) ثم قال (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) .
 (وَكَانَ تَحْتَهُ) أي تحت الجدار ( كَنزٌ لَّهُمَا) فسماه الله كنزا ، وقال بعدها (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فصلاح الأب لو لم يكن سببا في حفظ مال اليتيمين لما كان لذكره معنى ، وقد مرّ معنا أنه ينبغي أن يُعلم أنه لا تنافي ما بين الصلاح في النفس وما بين أن يدخر الإنسان لنفسه ولولده من بعده ما ينفعهم ويغنيهم عن الناس فقال (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) خير ما يدخِره الأب لأبنائه العمل الصالح . وقد ذكروا أن محمدا بن كعب القرظي ، هذا من بني قريظة أبوه لم يحتلم بعد وقت أن قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجال بني قريظة ثم بقي مأسورا ثم أسلم ثم كان منه محمد هذا الذي عُدّ من علماء التفسير ، جاءته مرة عطية -منحة- فتصدق بها ، فقال له بعض الناس : يا إمام لو جعلتها في ولدك لكان أفضل ، فقال -رحمه الله- : "أدّخر مالي لنفسي عند ربي وادّخر ربي لولدي" ، وهذا والله من جميل الجواب وبديع القول، ومن عظيم المعرفة بالله .
قال (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) فيبقى المال والكنز محفوظا لأن الجدار لن يسقط لأنني أقمته ، (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا) حتى ينفعهما بعد ذلك على أطوار الحياة .  
( وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) يعني كل ذلك وقع لُطفا من الله بهم .
(وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) وهذه قرينة على أن الخضر كان نبيا (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)
(ذَلِكَ) يا موسى (تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) جاء بها بالتخفيف لأن الأمر قد انقضى والمدلهمات قد حُلّت وانكشفت وأضحت ظاهرة بيّنة للكليم موسى .       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق