السبت، 13 أكتوبر 2012

آيات الحج في القرآن الكريم (4) / الشيخ صالح المغامسي



الملقي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم آيات الحج في القرآن الكريم. نسعد في بداية هذه الحلقة بالترحيب بصاحب الفضيلة الشيخ: صالح بن عواد المغامسي إمام وخطيب مسجد قباء، فأهلاً ومرحباً بك يا شيخ صالح .
 وقبل أن نبدأ بذكر الآيات المتعلقة بهذه الحلقة، نذكر أننا توقفنا في الحلقة الماضية عند وعد وعدنا به، وهو السؤال عن قول الله تبارك وتعالى في معرض قصة إبراهيم ورفعه القواعد من البيت قال سبحانه على لسانه: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) [البقرة:129]
سؤالي: هل كان إبراهيم عليه السلام يعلم أن هناك قرآناً سينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل من مزية هذا النبي أنه سيتلو عليهم هذه الآيات؟
الشيخ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
 أنبياء الله جل وعلا يعلمون قطعاً أنه لا حياة للناس إلا بالوحي، ولما كان إبراهيم قد أنزلت عليه صحف وكان ظاهر الآية يشعر بأن إبراهيم عليه السلام يعلم أن الله جل وعلا سيمُنّ على نبيه صلى الله عليه وسلم بآيات من لدنه يكون بها حياة الناس، ولهذا قال العلماء: إن جبريل أوكلت إليه حياة القلوب، فهو الذي ينزل بالوحي، وميكال أوكلت إليه حياة الأبدان، فهو الذي ينزل بالقطر. فظاهر الآية: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) [البقرة:129]، أن إبراهيم كان يعلم أن هناك آيات تنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، ربما لم يكن يعلم أن القرآن سيكون بهذا الوضع، وأنه معجزة لكنه لما كان قد أنزلت عليه صحف علِم أن أنبياء الله لابد لهم في الغالب من كتاب يهدون الناس به.
 وصحف إبراهيم انقطعت فلا ذكر لها، ولا شهرة، ولا تعرف، لكن دل القرآن على بعضها: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم:36-39]، هذا معناه أن اللفظ: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، والآيات التي بعدها جاءت في صحف إبراهيم، وصحف موسى. الملقي: في قول الله تبارك وتعالى - وهو معرض حديثنا في هذه الحلقة - : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) [آل عمران:96].
 سؤالنا في البداية: هل لهذه الآية علاقة بآيات أخرى في مواضع أخرى؟
الشيخ: أنت تعلم أن القرآن ينظر إليه بمجموعه، وأن آياته يعضد بعضها بعضاً ويصدق بعضها بعضاً، وكذلك السنة، وقد أنزل الله - جل وعلا - على نبيه (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة:144]، وهذا كان في المدينة، فلما ولّى صلى الله عليه وسلم وجهه تجاه الكعبة ليكون قبلته ممن نقِم عليه اليهود. هؤلاء اليهود قالوا: لو كان محمد صادقاً في اتباعه لإبراهيم لكان ينبغي عليه أن يتولى أرض الشام، التي هي أرض المحشر، وأرض الأنبياء من قبله فأراد الله جل وعلا أن يجيبهم ويبين لهم حقيقة الأمر بجلاء ، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية في سورة آل عمران: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) [آل عمران:96]، يخبرهم جل وعلا أن أول بيت وضع للعبادة هو بيته الحرام الذي في مكة، فيكون في ذلك ردا على ما زعمته اليهود أنه كان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يُبقي على قبلته إلى الشام.
 الملقي: ذكرت قبل قليل العلاقة والربط بين الآيات، فجاء في ذهني أنه نسي مثل هذه العلاقات بعض أهل العلم ومنهم من قال: إنه لا توجد علاقة بين الآيات وأن هذا فيه تكلف، وبعضهم زاد في القضية وأثبت العلاقة في كل آية؟
 الشيخ: فيه تفصيل: وكلا طرفي قصد الأمور مذموم. بعض العلماء -كما قلتم- يتكلف تكلفاً وليست هناك قرينة على صحة ما يقول؛ لأنه لم يرِد أن الله جل وعلا أخبر أنه لابد من الربط، لكن هناك من الربط ما لا يمكن تجاهله، فمثلاً قال الله جل وعلا في خاتمة سورة طه: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) [طه:135]، يأتي السؤال: متى سنعلم؟ ويأتي الجواب في أول سورة الأنبياء: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء:1]؛ أي أن هذا يكون يوم الحساب، وهذا رابط مقبول.
 لكن بعض العلماء حتى بين الآية والآية يحاول أن يقحم ربطا غير موجود، والأصل أن القرآن معجزة خالدة ، كلام الله جل وعلا مُعجز بمجموعه، ولا يلزم أن يكون هناك ربط بين الآية والآية، إنما هو كتاب شامل، وبدهي أن يكون في كل مقطع منه عناية بأمر ما. الملقي: في قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) [آل عمران:96]، ما المراد بأول بيت؟ الشيخ: المراد أول بيت للعبادة، ليس أول بيت سُكن، لكن هنا يتكلم الله جل وعلا أن أول بيت وضع في الأرض ليُعبد الله جل وعلا عنده هو البيت الحرام، ثم المسجد الأقصى ، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (كم بينهما؟ فقال: أربعون عاماً). فأربعون عاماً ما بين الكعبة وبيت المقدس، وقد مضى معنا -أستاذنا الكريم- أننا رجحنا أن إبراهيم رفع القواعد ولكنه لم يضع قواعد البيت، وهذا من الأدلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن بينهما أربعين عاماً، ومعلوم أن بعد الأربعين من وضع القواعد لم يكن هناك أحد مسلم حتى يضع بيت المقدس، فإن الذين آمنوا بإبراهيم كانوا قلة، والله جل وعلا قال: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت:26]، ولم يذكر أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان له أتباع كثيرون، وإن كانوا موجودين: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:68]. فهذا من الأدلة على أن إبراهيم رفع القواعد ولم يضع أساسها، فقول الله جل وعلا: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [آل عمران:96] أي: أول بيت وضع للعبادة ليعبد الله جل وعلا عنده، وفي هذا رد على اليهود ومن وافقهم في قولهم إنه كان ينبغي أن يتوجه صلى الله عليه وسلم بقبيلته إلى أرض المحشر التي هي أرض الشام.
 الملقي: ما دام قررنا أن بينهما أربعين كما في الحديث الصحيح، فمعنى ذلك أننا لابد أن نوجد من وضع الكعبة ومن وضع بيت المقدس، حتى يكون الأربعين منضبطة؟
الشيخ: أما الكعبة فرجحنا أنها الملائكة، أما بيت المقدس فلا أعلم فيه نصاً صريحاً، ويمكن أن يقال: إنها الملائكة، لكني لا أجزم به، قد يكون آدم، أو أحد بنيه، ولا أعلم فيه نصاً مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا أثراً عن أحد ممن ينقل عنه. أما الذي ينسب ذلك إلى سليمان عليه السلام فهو خطأ، فقد يكون المقصود أنه أعاد بناءه، لأن سليمان بعد إبراهيم بآلاف السنين؛ فسليمان جاء بعد موسى، وبين موسى ويوسف أعوام عديدة، ويوسف من ذرية إبراهيم.
 الملقي: في قوله: (ببكة) هل هو من أسماء مكة؟
الشيخ: أحياناً يجيء في اللغة الإبدال، يقولون: (طين لازب) و (طين لازم) فالإبدال بين الميم والباء مشهور عند العرب، هذا تخريج.
وقال بعضهم: إن هذا اسم من أسماء مكة، والمقصود أنها تدك الجبابرة وتقصمهم، لا يستطيع أحد أن يصل إلى البيت بسوء، وهذا قوي جداً، ولعله أرجح من الأول. واسم (مكة) قديم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض)، ولا يعرف لها اسم قديم قبل هذا الاسم، يعني: مثلاً المدينة عرفت بأنها: يثرب، سميت باسم أحد العماليق على قول بعضهم، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسميت بالمدينة.
 الملقي: أيضاً في قوله تبارك وتعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) [آل عمران:96] ما المراد بالبركة؟
الشيخ: نبدأ من أصل المسألة "تبارك" فعل عند نحاة العرب لا يتصرف، لا يأتي منه مضارع ولا أمر، ويقولون: لا يخاطب أحد بالفعل: تبارك، ولا يسند إلا لله جل وعلا. وثمة ألفاظ لا ينادى بها إلا الله، يقال: تبارك الرحمن، تبارك الله، لكن لا يقال: تبارك النبي، ولا تباركت الملائكة، ولا أمثالها، كما أن لفظ (سبحان) لا يقال إلا في حق ربنا جل جلاله، ولهذا أُثر عن دعاء بعض الصالحين: (سبحان من لا يقال لغيره سبحانك). أما البركة فالمقصود بها: الزيادة والنماء والخير والقبول في العمل، وأثر ذلك في انشراح الصدر ورفع العمل وزيادة الأجر، هذا كله مندرج في قول الله جل وعلا (مبارك)،  فمن بركته حسية، وبركته معنوية، البركة الحسية: كأن الله جل وعلا يجبي إليه كل الثمرات. وأنت تعرف أن مكة ليست بأرض زرع، ومع ذلك قل ما يُفقد شيء فيها، فتأتيها الأرزاق من كل مكان بتسخير الله، من تسخير الله لها، وحب أهل الثرى والمال أن يوقفوا أموالهم في مكة، كل ذلك ناجم من بركة حسية.
 البركة المعنوية: في أن الإنسان هناك يجد الطواف بالبيت، وهو لا يوجد إلا في مكة؛ لأن الطواف لا يشرع إلا بالبيت، فهو عبادة لا تتم إلا في مكة، وكذلك الصفا والمروة لا يوجد إلا في مكة، فأداء هذه الأفعال من البركة التي يجعلها الله جل وعلا في ذلك المقام، ولهذا قال الله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) [آل عمران:96].
 أحياناً يرِد في القرآن شيئ اسمه (الحرم)، وآخر اسمه (مبارك)، وأحياناً (مبارك) تنوب عنها كلمة (مقدس) فمثلاً: لم يرد أن هناك حرم إلا مكة والمدينة، فالله جل وعلا حرم مكة، وإبراهيم كذلك حرمها، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. لكن كلمة (مقدس)، وكلمة (مبارك)، ليست محصورة في مكة والمدينة، فإن الله قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء:1]، وقال في قضية وادي طوى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) [طه:12]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في وادي العقيق الذي فيه مسجد الميقات في ذي الحليفة، قال: (أتاني آت من ربي، فقال: صلّ ركعتين في هذا الوادي المبارك). فلفظ (البركة) قد يطلق على الحرم، ويطلق على غير الحرم، أما الحرم فلا يطلق إلا على مكة والمدينة بحدودها المعروفة التي حددها الشرع.
الملقي: ما معنى قوله: (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96].
الشيخ: (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96]، لا شك أن أعظم الهداية توحيد الله، فلما جعل الله البيت مثابة للناس وأمناً وحرزاً لعباده، وحصناً في قضية التوحيد، أنه يُعظم الله جل وعلا عنده؛ كان بذلك هدى للعالمين، لذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة عام الفتح، وجد أن القرشيين وضعوا فيها صورتين لإبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله، والله لقد علموا ما استقسم بها قط)، أي: الأزلام.
 وهذا البيت كبّر النبي صلى الله عليه وسلم في نواحيه، وأمر بإخراج ما كان في الكعبة من أصنام.
استطراد : العجيب هنا - يقول بعض أهل العناية بالسير : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة قبل هجرته طلب من سدنة البيت أن يفتحوا له باب الكعبة فرفضوا، فقال لـعثمان بن أبي طلحة : (ليأتين يوم يكون المفتاح بيدي أضعه حيث أشاء، فقال عثمان : إذا هانت قريش يومئذٍ وذلت، فسكت صلى الله عليه وسلم)، فلما كان عام الفتح دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة. والله يقول في آية أخرى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)[القصص:68]، فاختيار قدري أن تكون السدانة في بني شيبة. وعندما كان آخذاً بعضدتي باب الكعبة أنزل الله جل وعلا عليه قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58]، فلما خرج بادره علي بقوله: يا رسول الله، اجمع لنا السدانة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام: أين عثمان ؟ فجاء فأعطاه المفتاح، ثم قال: (خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)، فهي إلى اليوم فيهم.
 تاريخيا : قبل ولاية هذه الدولة المباركة على البيت كانت ولاية الأشراف ومن قبلهم في تلك الحقبة، كان السادن يضع المفتاح في جيبه، ومفتاح الكعبة كبير، فكان الرجل يضع المفتاح في الجيب، وهو واقف عند الكعبة يدعو، فجاء أحد الحجاج، فقال للسادن: سبحان الله! ماذا تطلب من الله، فمفتاح الكعبة في جيبك، فماذا تريد تبغى أكثر من هذا! يعني: افتح باب الكعبة وادخل؟ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
فهذا البيت أعظم مناراته أنه هدى، إليه يُحجّ ويعظم، ومعنى الحج: القصد مع التعظيم، ولا يكون هناك تعظيم إلا لبيت الله، أما غيره فيحترم، وهناك فرق بين الاحترام والتعظيم، والعلم عند الله.
لما طلب علي من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع لهم ما بين السقاية والسدانة هل لازالت السقاية فيهم ؟
السقاية كانت في العباس ثم اشتراها بعض أبناء العباس من حفدة علي - فرطوا فيها - وأظن تاريخيا أن معاوية أو غيره من الخلفاء اشتراها منهم فخرجت إلى الحكم بدلا ممن كانت عليهم من آل البيت وإلا الأصل أنها كانت لهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرّ يوما ببني عبد المطلب وهم يسقون قال (لولا أن يزدحم عليكم الناس لنزعت معكم ).
-----------------------------------------------
التفريغ النصي من موقع إسلام ويب (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق