الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

تفسير سورة المائدة من الآية ( 1-26) / دورة الأترجة

د. عبدالرَّحمن بن معاضة الشِّهري




المجلس الأول :  بسم الله الرّحمن الرَّحيم الحمدلله والصّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أمّا بعد:
 فحديثنا في هذا المجلس عن سورة المائدة، وسورة المائدة هي سورةٌ مدنية تتحدَّث عن الحلال والحرام، ونُلاحظ في هذه السُّورة أيُّها الإخوة أنَّه ورد فيها النِّداء بـ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا "، فأكثر سورة في القرآن الكريم ورد فيها النّداء بـ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " هي سورة المائدة .
 لو تتّبَعنا النِّداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في القرآن الكريم كاملاً لوجدنا أنّه ورد النّداء بوصف الإيمان ثمانية وثمانين مرّة، ورد في سورة المائدة فقط ستةَ عَشَرَ مرّة ومنه هذه الآية التّي في أوّل السُّورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.. ) وأيضاً:
 • ( يا أيُّها الذِّين آمنوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله...) .
 • (يا أيُّها الذِّين آمنوا إذا قُمتُم إلى الصَّلاة فاغسلوا وجُوهكم...).
 • ( يا أيُّها الذِّين آمنوا كُونُوا قوَّامين لله...).
(يا أيُّها الذِّين آمنوا اُذكُروا نعمةَ الله عليكم...).
(يا أيُّها الذِّين آمنوا اتّقُوا الله وابتغُوا إليه الوسيلة...).
(يا أيُّها الذِّين آمنوا لا تتَّخِذُوا اليهُودَ والنَّصارى أولياء)
(يا أيُّها الذِّين آمنوا من يَرتَّد منكم عن دينه فسوف يأتي الله ...).
(يا أيُّها الذِّين آمنوا لا تتَّخِذوا الذِّين اتَّخَذُوا دينكُم هُزُواً ولَعِباً...) .
 • (يا أيُّها الذِّين آمنوا لا تُحَرِّمُوا طيِّياتِ ما أحَلَّ الله لَكُم...).
(يا أيُّها الذِّين آمنوا إنَّما الخَمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عمل الشَّيطان فاجتنبُوه لعلكم تُفلحون).
(يا أيُّها الذِّين آمنوا ليَّبلونّكم الله بشيءٍ من الصَّيد تنالُهُ أيديكُم ورِماحكم....) .
(يا أيُّها الذِّين آمنوا لا تقتلُوا الصَّيدَ وأنتُم حُرُم).
(يا أيُّها الذِّين آمنوا لا تَسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكُم تَسُؤكُم).
 • (يا أيُّها الذِّين آمنوا عليكُم أنفُسَكُم لا يَضُّرُكُم من ضَلَّ إذا اهتديتم).
 • (يا أيُّها الذِّين آمنوا شهادةُ بينِكُم إذا حضَرَ أحَدَكُم الموت حين الوصية).
 ستةَ عشرَ نداءً بِوَصف الإيمان وَرَدَت في سورة المائدة.
 ما معنى هذا أيُّها الإخوة؟
 معناه: أنَّ هذه السُّورة بمعظمها تدورُ حول هذه النِّداءات السِّتَة عشر الــمُوَجَّهة للمؤمن وهو الذّي يُخَاطَب بهذه التِّشريعات. ولو نَظَرنا إلى سُورة النِّساء التِّي سبقتها، وإلى هذه السُّورة لَوَجدنا أنَّ سورة النِّساء ابتدأَت بالنِّداء (يا أيُّها النَّاس اتَّقُوا ربَّكُم) والنِّداء بـ ( يا أيُّها النَّاس) أعمُّ وأشمل من النِّداء بـ (يا أيُّها الذِّين آمنوا)، لأنَّ سُورةَ النِّساء وَردت فيها حُقُوق إن صَحَّ أن نُسَّمِيها "حقوق الإنسان" .
 سورة المائدة وردَ فيها أحكامُ الحَلالِ والحَرام والعقود التّي لا يَستجيب لها ويَأتمر بها إلا من اتَّصف بهذا الوَصف وهو وصف الإيمان . ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه "إذا سمعتم يا أيها الذِّين آمنوا فَأرعِهَا سَمعَك فإنَّه خيرٌ تُؤمَر به أو شَرٌّ تُنهى عنه" لذلك فيَنبغي علينا أن نتوقف مع هذه النِّداءات وسنُشير إلى بعضها فى هذا المجلس، وينبغى أيُّها الأخوة دائماً أن نحرص على التَّدَبُر والتَأمُّل فيما بعد النِّداء.
/ قال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) والعُقُود : كُلُّ ما عَقده المُسلم من عقدٍ لايُخالِفُ الكتاب والسُّنة، فإنَّه يجب عليه الوَفاء به عقد بيع، أو عقد إيجارة، أو عقد نكاح، أو عقد صُلح، أو ما شئت من العقودِ المُباحة الجَائزة، فإنَّهُ يجب عليك أن تَفِي به، وأمَّا ما كان عقداً مُخالِفاً لما في الكتاب أو السنة فهو عقدٌ باطل ولايجب الوفاء به لقول النبى صلى الله عليه وسلم (مابالُ قومٍ يَشترطونَ شُروطاً لَيست في كِتَابِ الله كُلُّ شَرطٍ ليس في كتابِ الله فهو باطل) أيّ أنَّ كل شرطٍ يُخالف ما في كتاب الله، أو ما في سُنَّة النَّبى صلى الله عليه وسلم فهو باطل. ولذلكَ مِن الخَطأ أن يُقال إنَّ العَقد شريعةُ المتعاقدين وإنَّما العقد الذِّي هو شريعةُ المتعاقدين هو ما كان موافقاً للكِتَاب والسُّنة،وما خالفهما فليس بمشروع. وَلِكَونِ سورة المائدة - أيّها الإخوة - من آخر ما نزل، فقد نَصَحَ الصَّحابة، والتَّابعون، والعُلماء بالتَّفقه فى معانيها . ولِضيقِ الوقت فإننَّا لا نستطيع أن نُعطيَ هذه الآيات حقَّها، ولكن سنحاول أن نُشير إشارات، وإِلمَاحات سَريعة إلى ما اشتملت عليه هذه الآيات العظيمة:
/ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ هذه الآية العظيمة فيها عِدَّة مسائل :
 المسألة الأولى: أنهَّا ابتدأَت بوصف الإيمان فَمَا جَاءَ بعدها فهو من الأمور التي لايستجيب لها إلا من اتَّصف بهذه الصِّفة، وكلما عَظُمت هذه الصِّفة في نفس المؤمن كلما زادت استجابته لهذا الأمر الذِّي أمر به الله جلّ وعلا، وكلما زاد إيمان المؤمن زادَ وفاؤه بالعُقُود، وزاد إيمانه واستجابته لما في هذه الآية ، ولذلك إذا رأيت أحداً يُخِلُّ بالعقد فاعلم أنَّ صِفة الإيمان فيه ناقصة،وإذا رأيت أحداً يَفي بعقده ويحرص عليه فإنَّ هذا من كمال إيمانه وهذه من المَعانى المُتكررة فى القرآن الكريم أنَّ الله سبحانه وتعالى يَربِط الجزاء بالصِّفة فمثلاً يقول: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ لماذا ؟ بسبب بِرِّهم فَكُلما زادَ بِرَّهم زاد نعيمُهُم. (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ لماذا؟ بسبب فُجُورِهم فكلما زَاد فُجورهم زاد الجحيم . هذه الآية من الآيات التى يتحدَّث عنها العلماء فى باب الإعجاز كثيراً ولن نطيل في هذا لأن الآية فيها نِدَاء وفيها أمر وفيها خَبَر وفيها استثناء بعد استثناء وفيها ختام بقوله (إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) لكن أُريد أن أُشير إلى مسألة رُبَّما لا يتعرض لها كثيرٌ من المُفَسِّرين وهى: ما العَلاقة بين الأمر بالوفاء بالعقود في قوله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" وبين قوله "أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ" ؟
قليلٌ من يُشير إلى هذا المعنى - وهو دقيق والسُّورة تكاد تدور عليه - وهو أنَّ الله سبحانه وتعالى جَعَلَ توسيع دائرة التَّحليل لهذه الأُمَّة مَربُوطاً وَمَرهوناً بوفائها بالعقود فكلما كانت أوفى بالعقد، وأَحرص على الوفاء به، بقدر مايُوسِّع الله سبحانه وتعالى دائرة الحلال ودائرة المُباح لها، وبنو إسرائيل لأنّهم كانوا أَهل نقضٍ للمِيثاق وللعَقد ،ضيَّق الله عليهم في دائرة الحلال، لذلك قال الله :(قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا...﴾ سورة الأنعام.
 أمَّا أهل الكتاب فقد حَرَّمَ الله عليهم في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ سورة الأنعام.
 فضيَّق الله على بني إسرائيل بنقضِهم للميثاق، ووسَّع الله على هذه الأمّة دائرةَ المباح لوفائها بالعقد،وفي هذا إشارة أيُّها الأخوة إلى وجوبُ الالتزام بالعَقد والعَهد حتى تَكمُل النِّعمة التِّى ذكرها الله في قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ بكمال الاستجابة والانقياد لله سبحانه تعالى. ولذلك لاحظُوا سورة البقرة وهِى أطول من سورة المائدة، سورة المائدة عدد آياتها عشرين ومائة (120) آية، بينما عدد آيات سورة البقرة ستٌّ وثمانون ومائتين (286) آية ، ورد في سورة البقرة النِّداء (يا أيُّها الذِّين آمنوا) عشر (10) مرات، بينما في سُورة المَائدة ستة عشر (16) مرة. لاحظوا سورة البقرة كيف تَدُور على بني اسرائيل، وتلكُّئهِم فى الاستجابةِ لأوامر الله حين أمرهم مُوسى عليه الصَّلاة والسَّلام بذبح البقرة قالوا" ما لونُها..." الخ لكن لاحظوا فى أواخر سورة البقرة عندما ذكر الله صِفَةَ المؤمنين الصَّادقين كيف استجابوا لأمر الله سبحانه وتعالى عندما قال: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ ثم جاء التَّخفيف فقال الله : (لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) فلاحِظُوا دائرة التَّوسيع على هذه الأمة وذلك لكمال الانقياد و لكمال الاستجابة لله عزَّوجل. ولذلك حتى الرُّخَص التى يُرَخِصُّها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، رخَصَّها لنا فى السَّفر، وفي المَرض، لكمال الانقياد، والاستجابة لأَمرِ الله سبحانه وتعالى وسَّع الله على هذه الأمة،ولشدة بني إسرائيل  وتَلكُئهم، وتكذيبهم، وعِصيانهم ضيَّق الله عليهم دائرة الحلال،وأكثَرَ عليهم من المُحرَّمَات بقوله (حرَّمنا عليهم) حتَّى في هذه السُّورة عندما أمرهم الله بِدُخُول بيت المقدس تلكَؤا فقال (فإنَّها محرمةٌ عليهم) فعاقبهم بتحريم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى لِغيرهم من الأُمم جزاءَ تكذيبهم وعصيانهم. فهذه هى سِرُّ المناسبة بين قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ " وبين "أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ". فكان الوفاء بالعقد جزاؤه توسيع دائرة الحلال، والعِصيَان وعدم الانقياد جزاؤه تضييق دائرة الحلال.
يَذكرون عن أَحد الفلاسفة – لا أدري عن مدى صحة هذه القِصَّة - وهو الفَيلسوف الكِندي من الفَلاسفة المَنسُوبين للإسلام المَشهورين أنهم قالوا له: هل تَستطيع أن تُعارِض القُرآن؟ فحاول أن يُعارِض القرآن فَوقَع نظره - كما يقولون - على هذه الآية التِّي في سورة المائدة فلما نَظَر فيها "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴿١﴾ فقال: لايَستطيعُ أحدٌ أن يقول مثل هذا الكلام! فقد نادى، وأَمَرَ، واستثنى، وأَخبَر، وخَتم، في آيةٍ واحدة! ولذلك يَقول القُرطبى رحمه الله:"وهذه الآية على وَجَازتها مثالٌ لِكَمال الفَصَاحة والبلاغة" .
/ قال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) البَهيمةُ مأخوذةٌ من الإبهام وهو الانغلاق فَسَمَّى الله سبحانه وتعالى كل بَهيمة لا تفهم كلامها لأنَّها عجماء سُمِّيت بهيمة، ثم أضَافَها إلى الأنعام فقال "بَهِيمَةُ الْأَنْعَام" والأنعامُ قد ذكَرها الله سبحانه وتعالى فى كتابه أنَّ المَقصود بها " ثمانيةَ أزواج (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (الزمر‏:6)‏. وهي - الإبل والبَقَر والغَنَم والمَعز - وذكرها الله في سُورة الأنعام أيضاً قال الله (إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) فالله سبحانه وتعالى قد فصَّل لنا المُحرَّمات فى آياتٍ أُخرى، فالمقصود بقوله (إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ) أىّ إلاّ ما فُصِّلَ لكم في القرآن الكريم في مواضع أخرى.
/ قال (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)  فيها نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن استحلال الصَّيد وقت الإحرام إذا كان المُسلم مُتَلَبِساً بالإحرام في داخل الحَرم فهو منهيٌ عن الصَّيد.
 / (إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) هذا الخِتَام أيُّها الأُخوة فيه تقريرٌ لمسألة وهى أنَّ الله سبحانه وتعالى هو المُتَفِردُ بالتَّحليل والتَّحريم ولايَملكُ أحدٌ أن يُحلِّل أو يُحرِّم إلا الله سبحانه وتعالى، وهذه السُّورة - سُورة المائدة - هي في الحَلال والحرام ولذلك بدأها بهذه الآية  (إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) ولِذَلك الذِّي يُكثِر من الأسئلة يقول لماذا حَرَّم الله كذا؟ ولماذا حَلَّل الله كذا؟حتى تَضعُف عنده دَواعِي الاستجابة،نقول له نحن نُحرِّم ماحَرَّم الله، ونُحِلّ ما أحَلَّ الله، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ( ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ما الفَرق؟ فلم يَرُدَّ عليهم ببيان الفرق بينهما، بل قال سبحانه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) لأنَّه هو الذِّي يَملِكُ هذا الحَقّ. ولذلك يقول الشَّوكانى أو غيره "وفي هذا دلالة على أنّه لا اجتهاد مع النَّص"، (وأَحَلَّ الله البَيع) ولذلك فهو حلال، ليس لأنَّ فيه منافع، وإنَّما لأنَّ الله أحلَّه وحرَّم الرِّبا.ولذلك حتى ولو كان فى الربا منافع فهو مُحرَّم لأنَّ الله حرَّمه، وهَذا الذِّي ينبغي أن يكون عليه المؤمن ونحن نقول أنَّ سُورة المائدة مَبنية على كَمال الانقياد،ولذلك كرَّر الله فيها النِّداء بـ" يا أيها الذين آمنوا" لأنَّهم هُم مَظنة الاستجابة .
 / ثم يقول الله سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا ءآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا...).
 الله سبحانه وتعالى ينهى عن استحلال شَعَائر الله (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ) وشعائرُ الله هي كل مايُشعَر لله سبحانه وتعالى من الهَدي أو القلائد. وهنا فيه نوعٌ من عطف الخاصّ على العام، فالله سبحانه وتعالى يقول (لاتُحِلُّوا شَعَائِرَ الله) بـِمَعنى لاتَستَحِلُّوا المحرَّمَات التي حَرَّمها الله سبحانه وتعالى، قال "وَلَا الْهَدْيَ" وهو كُلُّ ما يُهدَى الى الكَعبة من الإِبل أو البقر أو الغَنم وهذه سُنَّة من سُنن الأنبياء، سُنَّة إبراهيم عليه الصّلاة والسَّلام أن يُهدِي إلى الحَرَم، والنَّبى صلى الله عليه وسلم قد أهدى، قال (وَلَا الْقَلَائِدَ) والقَلائد هي جُزء من الهَدي، فتُلاحظون أنَّه يَعطِف خَاصّ على خاصّ يعنى يقول ( لاتُحِلُّوا شعائر الله) يدخُل فيها الهَدِي ثم قال (ولا الهَديَ ولا القَلائد) والقَلائد تَدخُل في الهَدي، ولكنَّه يَخُصُّ تخصيصاً بعد تَخصيص للإشارة إلى عَظَمَةِ حُرمَةِ هذا الهَدي وهذه القلائد، والقَلائد المقصود بها التى تُقَلَّد. مثال ذلك: جَمَل يُهدِيه المُسلم إلى الكعبة فَيُقَلِّدُهُ بمعنى أن يجعل فيه قلادة يعرفها الناس، كما يعرفون اليوم الإبل بالوَسم، فإنَّها تُقَلَّد هذه الإبل وهذا الهدي بمعنى أن يُجعل فيها جُرح أو علامة يَعرفُ من يَراها أنَّها مُهداة إلى الكعبة، فالله ينهى في هذه الآية عن استحلال أو التَّعرض لهذا الهَدي بِسرقةٍ، أو قَتلٍ، أو إخافة أو نحو ذلك.
 قال الله ( وَلَا ءآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) أيّ لا تُحِلُّوا ولا تَستَحِلُّوا قتل، أو إخافة، أو مَنع من يذهب إلى بيت الله الحرام قاصداً المَغفرة وقاصداً الحَجّ وقاصداً للعمرة وهذا نهيٌ عن قَطعِ طَريق الحُجَّاج والمُعتمرين، وهذه للأسف كَثُرت في أَزمنة مَضَت، قطع طريق الحاجّ من هؤلاء الذِّين يعترِضُونهم في الطُّرق فيقتلونهم، وينهَبُونَهُم، ويَسلبُونَهُم، وفي هذه الآية تعظيمٌ لحُرمة قاصدِ بيت الله الحرام بقصد الحَجِّ والعُمرة، (يَبتَغُون فَضلاً من ربِّهم وَرضواناً) ، وفى قوله تعالى ( يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) إشارة إلى أنَّ من يَقصِد بيتَ الله الحَرام بحربٍ أو إفسادٍ أو إهانةٍ أو إخافة. فإنَّه مِنَ المَشروع أن يُتعَرَّض لَهُ، وأن يُمنَع ويَصُدّ عن بُلُوغ غَايته، وأمَّا من يذهب إلى البيت الحرام بقصد الحجِّ والعمرة،فإنه يَحرُم التَّعرض له وقَطع طريقه.
/ ثم قال: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) لأنَّه قال في الآية التِّي قبلها (غيرَ مُحِلِّي الصَّيدِ وأَنتم حُرُم) فقال في هذه الآية (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) أَيّ إذا حللتم من الإحرام، وخرجتم من الحَرَم فاصطادوا . وهذه الآية لَيسَت دِلالة على وُجُوب الصَّيد لأنَّ هُناك قاعدة في أصول الفقه تقول أن الأمر المُجَرَّد عن القرائن يَقتضي الوجوب فإذا قال الله (وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة) نحن لانَجد أيّ قَرِينَة تَصرِف الأمر عن الوُجُوب إلى الاستحباب فنقول الأَمر فى الآية "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " يَدُلّ على الوُجُوب لكن هنا يقول  (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) "فاصطادوا" هنا فِعل أمر، هل نقول أنَّه يجب على كل من دخل الحَرم وأحرم، أو أحلَّ من إحرامه أنَّه يجب عليه أن يَصطَاد؟، لو كان الأمر للوُجوب لكان فيه مشقة عظيمة، أليس كذلك ؟ لكن هذا الأمر للإباحة يعني إذا أردتم أن تَصطادوا بعد إحلالكم من الإحرام، وخُرُوجكم من الحَرَم فلكُم ذلك، ولذلك يقولون إنَّ الأمر بعد الحَظرِ يَعُودُ لِمَا كان عليه قبل النَّهى، ما حُكم الصَّيد أصلاً ؟ حُكمُهُ أنّه حلال، لكنَّ الله ينهانا عن الصَّيد في الحَـرَم، ونحنُ مُحرمين فإذا انتهينا وَخَرَجنا من هَذِه الحالة رجع الأمر إلى ما كان عليه. ماذا كان؟ كَان مباحاً، فيعود إلى ما كان عليه مع أنَّه جاء التَعبيرُ عنه بصيغة الأمر.
/ ثم قال الله (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا) النَّبى صلى الله عليه وسلم عِندما جَاءَ في الحُديبية،أَراد هو وأصحابه رضي الله عنهم أن يعتمروا فمَنَعَهم المشركون، فلما نزلت سورة المائدة بعد ذلك وجاء النّبي صلى الله عليه وسلم للحَجّ - لأنَّ هذه السُّورة - سورة المائدة - نزلت قبل حَجَّة الوداع أو قبل الحجّ، وبعد صلح الحديبية رُبَّما فى السَّنة التاسعة إلى أوَّل العاشرة – فالله يقول وينهى المؤمنين (ولايَجرِمَنَّكم) بُغضُ المشركين لأنّهم صَدُّوكم عن المسجد الحرام فلا يحملكم ذلك على أن تعتدوا في فِعل أو في قول. وهذه قَاعدة أيُّها الأخوة أدَّبنا الله بِها في هَذه السُّورة وفى مواضع كثيرة : من أنَّه يَنبغي علينا أن نكون أَهلَ قسط، وَأَهل عَدلٍ، ولايحمِلُكَ كُرهُ أَحَد، أو بُغضِه أو أيّ شيء حَصَل بينك وبينه لأَيّ سَبب مِن الأَسباب، أَن تَظلِمَه (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا) .
/ ثم قال (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ هذه الآية من أجمع الآيات فى القرآن الكريم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ولو أردنا أن نُخَصِّص حديثنا هذا اليوم في هذه الآية فقط، لَمَا كَفَاها هذا المجلس ولا غيره، لما تشتمل عليه هذه الآية من جوامع الكلم، ومن الدّلالات الواسعة على كُلِّ شعائر الإسلام فالله سبحانه وتعالى أَمَرنا هنا بالتعاون على كل بِرّ، والبِرّ: هو ما أمر الله به من الشَّرائع ،كُلها تدخل فى البِرّ ولذلك قال (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) وقال (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ سورة البقرة ، فدَخَلَ الدِّين كُلُّه فِي هذه الكلمة .
 وقال هنا (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ) وكلمة التَّقوى هنا كلمة يدخُل فيها شَعائرُ الإسلام كُلُّه (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فَجَمعت هذه الآية الأَمر بالتَّعاون على كُلّ بِرّ، وكُلّ معروف، وكُلّ خير، ونَهَت عن التَّعاون على كل إثم ومُنكَر وشَرّ. ثم خَتَمت الآية بختام عظيم فيه تهديد(وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ .
/ ثم يقول الله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ) يقول أبو مَيسَرة - رضي الله عنه - وهُوَ من التَّابعين الفُقَهَاء "اشتملت سورة المائدة على ثمانية عشر فريضة ليست فى غيرها " سُورةُ المائدة فيها ثمانيةَ عَشَر حُكُماً، والقرطبي أضاف الحكم التاسع عشر ليست إلاّ فى سورة المائدة مما يَدعُو إلى ضرورة التَّفقُه فيها، والحِرص على مافيها من الأحكام والمعاني . منها هذه الآية ،فهي من أجمع الآيات يقول الله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) هذا مَوجود في سورة البقرة أيضاً، والْمَيْتَةُ هي: كُلُّ ما مَاتَ حَتفَ أنفه ولو كان ممّا يحِلُّ أصلاً أكلُهُ ، فمثلاً الخروف الذِّي مَاتَ حَتفَ أنفه، وُجِدَ مَيِّتاً لِسَبَب لمَرض فمات،فهو مُحرَّم.
/ قال (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) والدّم يَحرُم أيضاً شُربُه وأكلُه إذا جَمَد، ولكن الله سبحانه وتعالى قيَّد المقصود بالدَّم المُحرَّم فى سورة الأنعام قال الله (أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا﴾ الدَّم المسفوح هو المَصبُوب الذِّى يخرُج من العُرُوق هَذا مُحرَّم، فمثلاً يأتى شخص فيأخذ دمَ خروف ويَشربَه فهذا مُحرَّم، إلاّ إذا اُستُخدِمَ لِضرورة كالخمر مثلا فيبُاح للضرورة ولكن الأَصل فِيه التَّحريم . وعَكس الدَّم المَسفوح، الذِّي بَقي فى العُرُوق من الدّم، فإنَّ الله تعالى أباحه لأنَّ في استخراج كل الدَّم من الذَّبيحة مَشقة ولكن عندما تُطبَخ الذَّبيحة فيزول الدّم،فالمقصود بقوله (والدَّم) هذا الدّم المَسفوح وليس كُلُّ دم.
 وهذه الدِّلالات في القرآن الكريم : تدُل على أنَّك لا تستشِهِد بآية من آيات القُرآن الكريم حَتَّى تَعرِف هل هُناك آية أخرى تُقَيُّدُهَا، فمثلاً قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) فدِلالتها على أنّ كُلّ دَمٍ مُحرَّم، والدَّم الذِّي يَبقى في العُروق مُحَرّم بِدلالة هذه الآية،ولكن الله فى آية أخرى قال (أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا) فهذه الآية قيَّدت ذاك الإطلاق الذّي في سورة المائدة ، هذه دلالات القرآن والسُّنة ينبغى أن تُفهَم بهذه الطَّريقة أن يُحمل المطلق على المقيد بشروطه والعام على الخَاص وهكذا، أمَّا الذى ينتزع الآية من سياقها، ولا يعرف هل هي منسوخة أو لا فإنَّه يقع فى مطبَّات، ويقع في أخطاء كثيرة، ولذلك نَفهم معنى قول على بن أبي طالب - رضى الله عنه - حين سَمِعَ أحدهم يتكلَّم فى القرآن: فسأله سؤالاً قال: هل تعرف النَّاسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال:هَلَكتَ وأَهلكت. لأنك قد تأتى فتذكُر لهم آيةً منسوخة وتُقَرِّرها كما سيأتى معنا فى سورة المائدة.
الله سبحانه وتعالى قال في سورة النِّساء قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ﴾ فهذه الآية تَدُلّ على أنّه يجوز أن تَتناول المُسكِر لكن لا تقرب الصَّلاة حتى يذهب السُّكر وهذه دلالتها صحيحة، لكن الآية التِّى معنا فى سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فهذا أمرٌ، فيجب عليك اجتنابه فحَرُمَت بهذه الدَّلالة، لو تأخذ آية النِّساء وحدها فقط وقَعت فيما حرَّم الله مع أنَّك تستدِل بالقُرآن، ولذلك ينبغي على الوَاحد منّا أن يتفقه في الدِّلالات. وسورة المائدة التّي بين أيدينا من أوسع السُّور التي فيها الحديث عن الحلال والحرام .
/ ثم يقول الله تعالى (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ) أيّ مُحرَّمٌ عليكم لحم الخنزير مع أنَّ المحرم كُلُّ الخنزير لحمُه، وشحمُه، ودمُه وكلُّ شىءٍ فيه،لكنَّ الله ذكر لحم الخنزير لأنَّه أبرز ما يُؤكل منه، وإلا فشحمُه مُحرَّم كذلك.
 (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ) أي ما ذُبِحَ لِغَير الله، فالله سبحانه حرّم الميتة التِّي ماتت حتف أنفها، فإذا ذبحتُ خروفاً بيدي، ولكنِّي لم أذكر اسم الله عليه، بل ذكرت اسم هُبَل أو أيّ اسمٍ غيرَ اسمِ الله فهو مُحرَّم أيضاً، ولذلك قال الله (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ) أيّ وما ذُكِرَ عليه غيرُ اسم الله، ولذلك قال الله (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّـهِ عَلَيْهِ﴾ فيكونُ التَّحريم هنا تعبُدي لأمر الله سبحانه وتعالى، لأنه لم يُذكر اسم الله عليه والتَّحريم فى الميتة كذلك. هناك الآن من يتحدَّث فى الإعجاز ويقول إنَّ الله قد حرَّم الميتة لأسباب طِبيِّة : منها أنَّ الدَّمَ يحتبسُ فى الميتة فيتكاثر فيه الجراثيم، ويُسبِّب الأمراض...الخ . لكن حتى لو أننّا لم نعرف هذه الحقائق فنحن لا نأكل الميتة لأنَّ الله نهانا عن ذلك، حتى لو لم نعرف هذه الحِكَم، فلا تزيدنا معرفة مثل هذه الحِكَم إلا إيماناً بديننا، ويقيناً بما عندنا . لكن طيب (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ) مذبوح من أحسن ما يكون ، بالسِّكين، ولكن ذُكِرَ عليه غير اسم الله سُبحانه وتعالى، فنقول هو مُحرَّمٌ أيضا، ولو كُنَّا لا نعرف ما الحِكمة، هل الجَراثيم تتكاثر على الشَّيء الذّي لا يُذكر عليه اسم الله أم لا؟ ولو اكتشفنا أنَّه لا يَحدث لهُ أيَّ مشكلة صِحيّة فهو محرَّم أيضا فهذا هو معنى قول الله فى بداية السُّورة (إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).
/ ثم يقول الله (وَالْمُنْخَنِقَةُ) أيّ من المُحرَّمَات عليكم أيضاً (الْمُنْخَنِقَةُ). وهذا ما تفرَّدت به هذه السُّورة فلم يَرِد ذِكرُ (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) إلاَّ في هذه السُّورة . • (وَالْمُنْخَنِقَةُ) هو الخَروف، أو الإبل، أو الشَّاة، ما يَحِلُّ أكله إذا مات مُنخنقاً، مثال ذلك: شاةٌ قد رُبِطَت بخيط ثم التفت حول هذا الخيط، فجاء صاحبها فوجدها منخنقة بالحبل، سواءٌ بِفعلها أو بِفعل غَيرها فهي مُحَرَّمة.
 • (وَالْمَوْقُوذَةُ) وهي مأخوذةٌ من الوَقذ وهو الضَّرب، فقد كان النَّاسُ فى الجَاهلية يَضربُون الشَّاة أو الخَروف حتى تموت ثم يأكلونها، ويدخل فيها الآن فِعلُ غير المسلمين في ذلك، ويَدخل فى هذا أيضاً لو صَدَمَت سيارةٌ مثلاً شاةً أو خروفاً، أو جَملاً فمات من هذه الصَّدمة فلا يجوزُ أكلُه، لأنَّه يَدخل تحت هذه الموقوذة . فالقَول (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) يدخل فيها (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) لكن لأنَّ الإنسان يَشترك فى فعل هذا (الوَقذ، والتَّردي) نصَّ الله على تحريمها أيضاً حتى لا يقول قائل المَوقوذة أنا الذِّي وَقذتُها، وأنا الذِّي قتلتها، إذاً يجوزُ لي أكلُها ونحو ذلك فنصَّ الله على تحريمها مع أنها تدخل في الميتة. وعطفُ الخاص على العام كثير وله دلالات، أو لأنَّها كثيرة فى المجتمع فأراد الله أن يَخُصَّها بالحديث أو يخصُّها بالذِّكر ونحو ذلك.
 • (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) هي التى تَرَدَت من عُلُّوٍ سواءٍ كان من شاهق كجبل ونحوه، أو في بئر تردت فماتت .
 • (وَالنَّطِيحَةُ) هى التى ماتت من النَّطح، وهذا يَحدُث أحياناً بين الغنم، وبين التُّيُوس تتناطح فيما بينها حتى يموتُ أحدها، فهو أيضا مُحرَّم لأنّه نطيحة.
 • (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) السبع : يُطلَق عَلى الكَلب غير المُعلَّم، ويُطلق على النِّمر، والأسد والذئب،والفَهد ونحوها من الجَوارح. فَمَا أَكلَهُ السَّبُع من الأنعام فهو مُحرَّم ولذلك قال: "السَّبع كُلُّ ذِي نابٍ من السِّباع، وذي مَخلَبٍ من الطَّير،وحُرِّم ما يأكُلُه أيضاً".
 قال (إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) لاحِظُوا فإنَّ الاستثناء هذا يعودُ على كُلِّ ما تقدم:
 * قال الله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) هذه واضحة.
 * (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ) هذه لا استنثاء فيها.
 * (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ) هذه لا استثناء فيها لأنَّ لها أدلة خاصَّة في تحريمها.
 لكن الاستثناء يعود هنا على المُنخنقة لو أَدركها صاحبُها قبل أن تموت، بمعنى جاء وهي على وَشَك أن تختنق وتموت فذكَّاها. والتَّذكية هي (الذَّبح) أيّ قَطعُ مَجرى النَّفس، ومَجرى الطَّعام هذا هو الذَّبح وهذه هي التَّذكية ، بعضهم يَشترط الأوداج. وبعضهم يَكتفي بمجرى النَّفس، ومجرى الطَّعام. فالتَّذكية هي التَّطييب ومنه الرائحةُ الذَّكية، لكن سُمِّيت التذكية هنا بهذا الاسم لأنَّ فيها تطييبٌ للذَّبيحة، بمعنى أنَّ الذبيحة تخبُث لو لم تُذكَّى لذلك حرَّم الله الميتة، فقال الله (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) أيّ ما أدركتُمُوهُ حيّاً فذبحتموه.
 • (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) كان العرب في الجاهلية يذبحون الذَّبائح لهذه الأصنام.
 • (وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ) والاستقسام بالأزلام هي عادةٌ كان يعتادُها بعض العرب فإذا أراد أحدهم أن يُقدِم على أمر، أو يخرُج في سفر، أو نحو ذلك، فإنّه يستقسم بهذه الأزلام وهي الأسهم أو القداح وهي ثلاث : فالأول : مكتوب فيه أَمَرني ربي ، والـثــاني: نهـَانِي ربي ، والثالث: لم يُكتَــــب فيه شيء.  فيُدخِل يَدَه في هذا القَدح فإذا خرجَ له أمرني ربي مضى في طريقه، وفي مشروعه ، وإذا خَرج نهاني ربي توقف ، وإذا خرج الفارغ أعاد الاستقسام مرة أخرى. فالاستقسام كأنَّه يبحث عن قِسمته التي قَسمها الله له، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك.
/ ثم قال الله سبحانه وتعالى (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) هذه الآيات من أواخِرِ ما نزل على النَّبي صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه وتعالى : قد انقطع رجاءُ المشركين من أن تَعودوا عن دينكم، فقد بلغ هذا الدِّين مبلغاً عظيماً من النُّصرة، والانتشار حتى لم يَعُد هناك مجالٌ لِكَبته وإخماده. ولذلك قال تعالى (وَاللَّـهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ وقال (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ فيقول (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ)

/ ثم قال الله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) وهذه الآية آيةٌ عظيمة فَطِنَ أحدُ اليهود فقال: لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم - وهذا يَدُلُّ على أنَّهم يقرؤون - لو عَلينا معشر يهودٍ نزلت لاتَّخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وما هي؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) فقال عمر: "والله إننَّي لأَعلم أينَ نَزلت، ومتى نَزلت، وفي أي يومٍ نَزلت، قال لقد نزلت على النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم الجُمُعة فى عَرَفة ونحن في حَجَّة الوداع".
 فهذه الآية العَظيمة أَيُّها الإخوة فيها شَرفٌ لهذه الأُمَّة وفيها تشريف لهذا الدِّين، ولكلِّ أتباعه بأنَّ الله سبحانه وتعالى قد أكمل علينا هذا الدِّين،وأتمَّ علينا هذه النِّعمة بأن وفَّقنا لاتباعه وَوفقنا سبحانه وتعالى لِبَيان هذا الحق. وأُذَّكِر أيُّها الإخوة، ونحن نتحدَّث عن هذه السُّورة العظيمة: أننّا نتحدَّث عن الوَحي، وعن كلام الله سبحانه وتعالى الذِّي فيه بيانُ، وإيضاحٌ للأحكام والتَّشريعات، والحلال والحرام. ونحن المُسلمون - كثيرٌ مِنَّا - لا يستشعرُ هذه النِّعمة أنَّه يسيرُ على منهج ربَّاني ليس فيه آراء بَشَر، وإنَّما هو يُصلِّي، ويصوم، ويَحُجُّ، ويتعبد الله ويستغفر، ويتهجد، ويَقرأ القرآن ويعبد الله سبحانه وتعالى وينوي بِكُلِّ ذلك وجه الله سبحانه وتعالى، بناءاً على الوَحِي ودستور القرآن الكريم.
 نحن لا نتَّبِع شرائع بشرية، ولا آراء بشر، ولا قوانين وضعية، ولاشيء. ولذلك الواحدُ منا في طُمأنينة شديدة لِمَا يقوم به من الأَعمال ومن العبادات. فالله سبحانه وتعالى عندما يقول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فإنَّما هو يُقررنا على هذه النِّعمة العظيمة التى امتن بها علينا. ولاتجدون أيُّها الإخوة في كتابٍ من الكتب السماوية مثل هذه الآية، ولامثل هذه الطُّمأنينة، ولاتجد في التَّوراة والإنجيل آية تقول مثل هذا الكلام أنَّ هذا الدِّين قد اكتمل وأنَّ الله قد أتمَّ عليكم النَّعمة مِمَّا يستوجب الشُّكرَ العظيم لله سبحانه وتعالى.
/ المجلس الثاني :
بسم الله الرَّحمن الرحيم، الحمد لله والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسول الله وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً. هذا هو المجلس الثَّاني من مجالس سورة المائدة وقد وَقَف بنا الحديث عند الآية الثَّالثة، وأستميحكم عُذراً أيُّها الإخوة في أن نَطوي الآياتِ طيًّا، ونتوقف مع الأشياء المُهمِّة حتى نستطيع أن نأخذ أكبر قدر من الآيات.
/ يقول الله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ اُنظروا إلى توسيع الله سبحانه وتعالى على المسلمين؛ أيّ نحنُ قررنا عليكم المُحرَّمات وبيَّنا لكم الحلال والحرام لكن إذا اُضطر أحدُكم لشدةٍ، أو حاجةٍ، أو مرض أو نحو ذلك إلى أن يأكُل من هذه المحرّمات ، فلا إثم عليه. قال الله (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) والمَخمصة هي الشَّدةُ والحَاجة, (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ) أي لا يُريد بذلك المَيل إلى الحَرَام، والحرص عليه (فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) انظروا إلى كَمَال سعة رحمة الله بهذه الأمة.
/ ثم يقول الله تعالى : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ) والخِطَاب هنا للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا إشارة إلى عناية الصَّحابة رضي الله عنهم بالحَلال والحَرام،وأنَّهم كانُوا يسألون النَّبي صلى الله عليه وسلم عن دينهم، وقد قُيَّدت أسئلة الصَّحابة رضي الله عنهم في القرآن الكريم ،قال الله : 
(يسألونك عن الأهلة) .
 قال الله: (يَسألونك عن الخَمر والمَيسر).
 قال الله : (يسألونك عن اليتامى).
 أسئلةٌ محدودة، وكُلُّها أسئلة عملية يترتب عليها عمل،وهناك سؤال مثلاً في القرآن الكريم لا يترتب عليه عمل ولكنَّ الجَواب جَاءَ بما يُوجَّه إلى العَمل فقال الله سبحانه وتعالى هنا (يسألونك عن الأهلة) فالمُتبادر للذِّهن أنَّ الجواب : قل هي نجومٌ تظهر في السماء وتختفي أو نحو ذلك،ولكن الجواب جاءَ بخلاف ذلك فقال الله (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للنَّاس والحَجّ) فوجَّه الجواب إلى ما ينفعُهُم، أيّ أنت ماذا ينفعُك إذا عرفت أنَّ الأهِلة هي أجرامٌ، أو كواكبٌ، أو أنّها تعكسُ الضَّوء أو لا تعكس الضَّوء، فهذا لا ينفعُك في دينك، لكنَّ الذِّي ينفعُكَ أن تعلم أنَّ هذه الأهلة هي مواقيت تَستدل بها على أوقات العبادات، أمَّا بقيةُ الأسئلة فهي أسئلةٌ يَترتَبُ عليها عمل، بخلاف أسئلة بني إسرائيل فإنَّهم كانوا يُكثرون من الأسئلة التي لا يترتب عليها عمل.
 (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) وهذا من أوسع ما يكون من التَّحليل  (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) وفي هذا إشارة إلى أنَّ دائرةَ المُباح في الإسلام أوسعُ الدَّوائر، فالطَّيبات كُلّ ما طاب لك أكلُهُ فهو حلال لك، إلا ما حرَّم الله عليك - استثنى - لذلك قال (حُرِّمت عليكم الميتة والدَّمُ ولحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغير الله به والمُنخنقة والموقوذة والمتردية والنَّطيحة وما أَكَلَ السَّبُعُ إلاّ ما ذكَّيتُم وما ذُبِحَ على النُّصُب) فهذه أشياء محدودة .
 قال الله (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) أيّ وأحلَّ الله لكم أكلَ صيدِ ما علَّمتم من الجوارح؛ والجوارح: هي كلابُ الصَّيد وما يقوم مقامها، سمَّاها الله سبحانه وتعالى جوارح لأنها تَكسِب لصاحبها قال (ويعلم ما جَرحتم بالنَّهار) أي ما كسبتم فالجَارح هو الكاسِب قال (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ) ولاحِظُوا هنا أيُّها الإخوة كيف فَضَّل الله سبحانه وتعالى الكَلبَ المُعلَّم على الكَلب غير المُعلَّم وهذا تفضيلٌ له بِالعِلم، فصيدُ الكلب المُعلَّم يجوز أكلُه، وصيدُ الكلب غير المُعلَّم الجَاهل حرامٌ أكلُهُ، فقال الله سبحانه وتعالى هنا أيّ وأحلّ الله لكم أكلَ صيدِ ما علَّمتم من الجَوارح (مُكَلِّبِينَ) المُكلِّب: هو الذِّي يُدرِّب الكلب ويُعلِّمه كيف يصيد . هل يجوز أنّك تصيد بنمر أو فهد؟
قال العلماء يجوز ذلك، إن كان مُعلماً. ولكن الله تعالى نَسَبهم هنا إلى الكلب فقال (مُكَلِّبِينَ) لأنَّه هو أكثرُ ما يُصادُ به من الحيوانات.
 / قال الله (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّـهُ) وفي هذا إشارة إلى أنَّ هَذِه الكِلاب يُمكن أن تتعلم مِمَّا يستطيع الإنسان أن يُعلِّمها كيف تصطاد، بحيث أنَّها تأتي فتصيد بطريقةٍ لا تقتل الفريسة حتى يتمكن الصَّائد وصاحبها أن يُدركها ويذكِّيها ونحو ذلك.
/ قال تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَيْهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) وفي هذه الآية إشارة إلى أنَّه من المَشروع لصاحب الكلب إذا أطلقه أن يُسمِّي فيقول بسم الله، والله أكبر ويُطلِق الكلب فإذا صاد له فقد سمَّى على هذا الصيد.
 لاحظوا هنا أنَّ الله أحلَّ لنا أطعمة كثيرة بهذه الآيات، ثم يقول هنا (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ) أهلُ الكتاب يستحلِّون الخمر، ويستحلون لحم الخنزير، فهل يعني هذا أنّه يجوز لنا أن نأكله لأنَّ أهل الكتاب يأكلونه؟ نقول : لا؛ لأنهم هم قد استحلوه وهو محرَّم، وقد نصَّ الله على تحريمه فقال (حُرِّمت عليكم الميتةُ والدَّمَ ولحمُ الخنزير) وحرَّم الخمر أيضا في هذه السُّورة. فقوله (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ) باستثناء ما نصَّ الله على تحريمه من أطعمتهم (وطعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) فأهلُ الكتاب المَقصود بهم اليهود والنصارى، فيجوز أكل ذبيحة اليهودي والنَّصراني بِنَصِّ هذه الآية، وأما المَجُوسِيّ ومن ليس له كتاب فإنَّه لا يجوز أكل ذبيحته.
/ قال الله سبحانه وتعالى (وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ) أيّ أنَّ طعامُ المسلم حلال أن يأكله الذِّميّ لأن المسلم لايأكلُ إلاّ حلالاً طيِّباً.
/ قال الله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أيضاً أحلَّ الله تعالى للمُسلم أن ينكح الكتابية - اليهودية أو النَّصرانية - بشرط أن يُعطيها مهرها، وأن تكون مُحصنة غير معروفة بالفِسق، وفي هذا إشارة أيها الإخوة إلى أنه يجوز للمسلم أن يتزوج اليهودية والنصرانية. قد يقول قائل اليهودية والنصرانية اليوم لا تؤمن بالله وهي لا دين لها ولكنها تنتسب لليهودية أو النصرانية زوراً وادَّعاءً، فقالوا ما دامت تقول عن نفسها أنَّها يهودية أو نصرانية فنصُّ الآية يدل على جواز نكاحها.
 ومعنى قوله سبحانه وتعالى (مُحْصِنِينَ) أيّ عفائف، لأنَّ الإحصان يَرِد في القرآن الكريم بمعنى النِّكاح، ويَرِد بمعنى العَفاف. وهنا قال (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) أي أهل عفة، وأهل صيانة، والسِّفاح هو الوقوع في فاحشة الزنا. (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ) أي متخدي أخدان يخادِنُونهم، ويُعاشرونهم، والخِلّ خليل يقع معه في الفاحشة سِرَّاً فهذا هو الخِدن.
/ (وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
وختامُ الآيات في سورة المائدة تستحق حقيقةً أن نتوقف مع ختام كلِّ آية حتى نُبيِّن مناسبتها للآية، لكن ضيق الوقت يحول بيننا وبين التفصيل في ختام كل آية،لكن لاحظوا هنا أيُّها الإخوة أنَّه قال (وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) فكأنَّ الذِّي لا يستجيب لهذه الأمور كُلَّها التِّي مَرت معنا وهي متعلقة بأمرين : متعلقة بالطَّعام والشَّراب،ومتعلقة بالنِّكاح، وهذا هو سبب تسمية سورة المائدة بهذا الاسم لأنَّ أكثر الحَديث الذِّي دار في سورة المائدة يتحدث حول الأطعمة والأشربة، والصَّيد، والذَّبائح وهذه كلها تُناسب المائدة؛ والمائدة هي مائدةُ الطَّعام التي يُوضَع عليها الطَّعام لأنَّه قال في آخرها (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّـهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿١١٢﴾ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّـهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾  فسُّميَت سورةُ المائدة بهذا الاسم والحديث في هذه السُّورة عن الطَّعام، وعن الشَّراب، وعن النّكاح، وعن الصَّيد، وما أحلَّ الله وما حرَّم منه، يتناسب مع تسمية السُّورة بسورة المائدة.
 ثم بعد أن تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن ما أحلَّه وما حرَّمه من المَشروبات، والمطعومات والمَنكوحات. انتقل الحديث الآن إلى موضوعٍ أهمّ وهو الصَّلاة، أيّ بعد أن ذكر الله تعالى حاجات الجسد، انتقل الآن إلى حاجات الرُّوح. فقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ولحمُ الخِنزير..) وكُلُّها مأكولات وهي من حَاجات الطّعام والشّراب، ثم جاء عند قوله (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) فقال (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ) وما يتعلق بالنِّكاح وهي كلُّها من حاجات الجسد، ثُمّ جاء الآن إلى الحديث عن حاجات الرُّوح فقال الله :
 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
تُلاحظون أنَّ هذه الآية تتحدَّث عن الوُضوء، وهذه الآية تسمى آية الوُضوء؛ والوُضوء: هو مُقدِّمة للصَّلاة، فيقول الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) أيّ إذا أردتم القيام إلى الصلاة ،كما في قوله (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) أيّ إذا أردت أن تقرأ .
/ قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) وهذه صفة الوضوء. (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). وفى الحديث هنا وأرجلَكم (بفتح اللاّم) وسياقُ الكَلام اللُّغوي المُفترض أن تقول امسحو برؤوسكم وأرجلِكم (بكسر اللاّم) الى الكعبين أليس كذلك؟ وهذه قراءةٌ أخرى فنقول :(وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وأرجلَكم هنا معطوفة على منصوب، ما هو المنصوب الذِّي سبقه؟ فإذ به يقول (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلَكم (بالفتح) فكأنَّ حقَّ الأرجُل هنا هو الغّسل، وأما الرأس فحقه المسحَ ( وامسحوا برؤوسكم وأرجُلَكُم) والقراءة الأُخرى: (وامسحوا برؤوسكم أرجِلِكم) - بالكسر- فيكونُ جوازُ المسح على الخُفّ وهذا في حَقّ من يَلبَس الجورب، أو من يلبس الخُفّ فإنّه يجوز له أن يمسح على الخفين فتكونُ الآية قد اشتملت على حُكم الغَسل والمَسح معاً.
 قال الله (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) أيّ فاغتسلوا من الجَنابة، والجنابة هي الحدثُ الأكبر (وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) أي إذا انتقضَ وضوءُ أحدكُم بشئ من هذا، ولم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً، وفي هذا إشارةٌ أيُّهَا الإخوة إلى أنَّ الأصل فى الطَّهارة هو الماء، فلا يُعدَل عن الماء إلى غيره إلا إذا عُدِمَ الماء أو كان في استعماله ضَرر.
 قال (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) فيه إشارة إلى صِفة التَّيَمم
 / (مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه الآية العَظيمة فيها إشارةٌ وتَعليل أنَّ الله سبحانه وتعالى ما أراد بهذه التَّشريعات،وهذه الأحكام، وهذه الأوامر، وهذه النَّواهى إلاَّ التَّيسير علينا. وقد فهمها كثيرٌ من العُصَاة،ومن الُمنافقين،ومن المُكذِّبين فَهمُوا هذه الأَوامر وهذه النَّواهي على أنَّها قيود، وعلى أنَّها أغلال، وعلى أنّها آصَــار فالله سبحانه وتعالى ينفى ذلك فيقول (ما يُريدُ الله ليجعل عليكم من حرج) فهذه الآية فيها دلالة على رفع الحرج عن المسلم في الشّريعة الإسلامية ، (وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نسأل الله ان يُوزِعَنَا وإيَّاكُم شُكر هذه النِّعَم. 
 هنا فَائدة ذكرها الإمام الجُويني فى كتابه (نهاية المَطلب) وهو إذا عُدِمَ الماءُ فما الحكمة من استخدام التراب للتيمم؟ والمعروف أن التَّيمم بالتراب لا يُطهِّر، بل رُبَّما يُلوِّث ثيابه. فَذَكر هنا تعليلاً لَطيفاً فوق ما ذكرتُهُ لكم في المَجلس الأوَّل من هذه السُّورة أن الأصل فى المسلم أن يستجيب وينقاد لأوامر الله تعالى لمُجرّد أنّها صادرة من الله، لكنّ يقول: "بأنَّ النفس إذا تعوَّدت على أمر من أمور الخير فإنّها لا تنقطع عنه".
 مثالُ ذلك: إذا تعوَّدتَ على أنّك تتوضأُ دائماً للصَّلاة، فإذا فقدتَ الماء وصلَّيت بدون وضوء فإنّك تشعر بأنَّ صلاتك ناقصة، حتى أنَّك نفسياً لا ترتاح، وفي المقابل إذا صليتَ بدون وضوء مرَّة أو مرتين أو ثلاثة وقد تطول بك المدة في فقدك للماء فسيكون العودةُ للوضوء بعد ذلك فيه نوع مشقة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يَربِطك بهذا الشَّرط وهو الوضوء ، جتى لو لم تَجِد الماء، فلو ضربتَ بيديك على البَلاط ولو كان خالياً من الغبار، فإنّه يقوم مقام الوضوء، حتى أنَّ النَّفس إذا تعوَّدَت على أمر من أُمُور الخير فإنّها لا تنقطع عنه. وهذا تعليلٌ لطيفٌ من الإمام الجُويني رحمه الله تعالى.
 / ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فالنَّبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذِّي أَخذَ عَلى الصَّحَابة رِضوانُ الله عليهم المِيثاق والعهد ولكن الله يقول (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذِّي وَاثَقَكُم بِهِ) فنَسَبَ المِيثاق إليه، ففيه إشارة إلى أنَّ من أَخَذَ عليه النَّبى - صلى الله عليه وسلّم الميثاق - فكأنَّ الله هو الذِّي أخذ عليه هذا العهد والميثاق، كما قال الله سبحانه وتعالى فِي سُورةِ الفَتح ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وفى هذا إشارة إلى ضَرورة الوفاء بالعهد وهذه السُّورة كلها تدور على الوفاء بالعقد، وأنه ينبغى على المسلم أن يَفِيَ بما عاهدَ اللهَ عليه من الاستجابة والانقياد إليه في الصَّلاة،والزكاةِ، وفي الحجِّ، وفي أوامره سبحانه وتعالى وفى نواهيه وأنَّه يدخُلُ في هذا العهد.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى فى آيات النِّداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ﴾ هذه آيةٌ جامعةٌ في وُجُوبِ القيام بالعدل لوجه الله سبحانه وتعالى ليس لمُحَابَاة لأحد ، ولا خوفاً من أحد. قوله (بالقِسطِ) هنا أي بالعَدل .
 قال الله (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا) وهذا تأكيدٌ لِمَا مَرَّ معنا في أوَّل السُّورة. (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿٨﴾ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿٩﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾
/  قال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يَذكُرُ العُلماءُ فى سببِ نُزولِ هذه الآية: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ بِعُسفان هو والصحابة رضى الله عنهم فرءاهم المُشركون وهم يُصلُّونَ صلاة الظهر فهمُّوا بالانقضاض عليهم وقتلهم ولكن تردَّدُوا،وكفى الله المؤمنين شَرَّ هؤلاء، فأضمروا في أنفسهم أن يفعلوا ذلك إذا صَلُّوا العَصر، فأنزل الله تعالى قبل صلاة العصر آيات صلاة الخَوف التي في سُورةِ النِّساء، فقال الله سبحانه وتعالى مُمتناً على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ .
/ ثم يذكُرُ الله سبحانه وتعالى طَرَفاً من نبأ بني إسرائيل، وأنا قلت لكم أنّ بنو إسرائيل قد ذُكِروا في هذه السُّورة، وفي سورةِ البقرة كثيراً كأمثلةٍ حيَّة على أُمَمٍ كذَّبت،ونقضَت العقد. سورة المائدة ذكرنا أنَّها سورة العقود والوفاء بالعقد، فالله سبحانه وتعالى ذكر لنا أوامر ونواهي، وذكر لنا أيضاً أمثلةً على من استجاب، وأمثلة على من نَقَضَ العَهد، وبنو إسرائيل هم أبرز مثل في التَّاريخ لنقض العهد، وهم مُتَمَرسين في نقض العُهُود ولديهم خبرة واسعة جداً فى هذا الأمر. فهم لا يُوفُون بعهد، ولا يُؤمنون بعهد، ولا بميثاق كلما عاهدوا عهداً نقضوه .
 فيقول الله سبحانه وتعالى ذاكراً شيئا من طرف قصة بني إسرائيل (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) بمعنى وأخرجنا منهم اثنا عشر نقيباً، والنَّقيب هو الرئيس أو المندوب أو العَرِيف الذِّي يُمثِّلُ قَومه ، يُقال له (النَّـقيب) فاختار موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلام منهم اثنا عشر نقيباً، يُمثِّلُونَ اثنى عشرَ قبيلةً من قبائلهم.
 فقال الله (وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) وهذا من أخذ العهد والميثاق عليهم.
 لاحظو يا إخوان أنَّه قَدَّم الصَّلاة، ثم ثنَّى الزكاة ثم قال وآمنتم برسلي، والإيمان بالرُّسُل يَدخُل فيه ما تقدَّم من الصَّلاة فلو قال (لَئِن آمنتُم بِرُسُلي) لَدَخَلَت فيها إقام الصَّلاة، وإيتاء الزكاة فلماذا أخَّرَها،وقدَّم الصَّلاة والزكاة؟
 يقول المفسرون في سبب ذلك :
  الأمر الأوّل : قدَّم الصلاةَ والزَّكاة هُنا لكثرةِ الإخلالِ بهما من جِهة بني إسرائيل .
 والأمر الثاني : حتى يَتناسب لما بعد الإيمان بالرُّسُل وهو قوله (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً) ، فَأَخَّرَ ذكر الرُّسل عن ذكر الصَّلاة والزكاة، فقال هنا (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) فالتَّعزيرهو: التَّوقير،والتَّعظيم ، والتَّعزير في اللُّغة يأتِي أيضاً بمعنى التَّعذيب أيّ بِمعنى إقامة حَدّ التَّعزير، ويأتي أيضاً بمعنى التَّعظيم والتَّـوقير والسِّياق هو الذِّى يُفرِّق بين المعنيين.
/ قال (وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً) أيّ تصَّدقتم، وأنفقتم في سبيل الله والله سبحانه وتعالى يسمى الإنفاق في سبيل الله قَرضاً لأنَّه يعود لصاحبه أضعافاً مُضاعفة يوم القيامة.
/ قال (لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) وسواء السَّبيل هو الطَّريق الواضح، وسواء الطَّريق هو وسطه ومعظمه، واسع الطريق. فقال الله سبحانه وتعالى- انظروا ماذا كان صنيع بني إسرائيل - قال (فَبِمَا نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجَعلنا قُلوبَهم قاسية) فهُم لا يَستطيعون الوَفاء بالعُهُود ، قال (فَبِمَا نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجَعلنا قُلوبَهم قاسية) فَكان نقضهم للميثاق انعكس عليهم أنَّ الله سبحانه وتعالى لعنهم وترتب على هذه اللَّعنة أنَّها قَسَت قلوبهم، لذلك وصفهم الله بالقسوة في مواضع كثيرة من القرآن قال (ثُمَّ قَسَت قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ولذلك قلوبُ بني إسرائيل - قلوبُ اليهود - مَضرب المَثل فى القَسوة، يُعذِّبُون الأمم الأخرى ويقتلونهم، ولا يُبالون بذلك يَقتُلون من المسلمين مثلا عشرة آلاف، ولا ينظرون إليهم ولا قيمة لهم، فإذا قُتِل منهم شخصٌ واحد أقاموا الدُّنيا، تُلاحظون هذا، أليس كذلك؟ قال الله سبحانه وتعالى (وجعلنا قلوبَهم قاسية) وهذا من قسوة القلب.
 قال الله (يُحرِّفُون الكَلم عن مواضعه ونسوا حظاً بما ذُكِّروا به) أيضاً بنو إسرائيل مَشهُورون بتحريف الكتاب الذِّي جاء به موسى عليه الصَّلاة والسَّلام،
 • يُحرِّفونه تَحريفاً لفظياً.
• ويُحرِّفونه تَحريفاً معنوياً.
 تحريفا لفظياً يُغيِّرون في مَعانيه كما قال الله تعالى (وقولوا حِطَّة) قالوا حِنطة فهذا تحريفٌ في اللَّفظ، ويغيِّرون في المَعاني أيضاً ويتركون اللَّفظ كما هو ولكن يُحرِّفون في معانيه، وفي تأويله،  قال (ونَسُوا حظاً مما ذُكِّروا به) أيّ أنَّهم يَنسَون الكثير من الشَّرائع، والأوامر والنَّواهي التي أمرهم الله سبحانه وتعالى بها.
/ ثمَّ قال سبحانه وتعالى في صِفَة بني إسرائيل هؤلاء (ولاتزالُ تَطَّلِعُ على خَائنةٍ منهم إلا قليلاً منهم) خَـــوَنة، وتُلاحظون أنَّ الله عبَّر عنهم بالمُضارع فقال (ولا تزالُ تطَّلعُ على خائنةٍ منهم) ممَّا يَدُل على أنَّ هذه الصِّفة مستمرة ومُتكررة تتجدَّد كل زمان مع هؤلاء. قال الله (إلا قليلاً منهم) وهذا من العَدل والإنصاف، أَلم يَقُل الله سبحانه وتعالى في الآيات التي قبل قليل (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) هنا قال (إلا قليلاً منهم) يعنى هؤلاء اليَهود خَــوَنة، لكن فيهم من ليس كذلك (إلا قليلاً منهم) وهذا من العدل لذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عُمران (ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمة يتلون آيات الله) ويَمدحهم، ولكن الغَالبية هُم من هؤلاء.
 قال (فاعفُ عنهم واصفح إنَّ الله يحب المحسنين ) انتهى الحديث عن اليهود. 
/  قال الله (ومن الذِّين قالوا إنَّا نصارى أخذنا ميثاقهم) ولاحظوا أنَّه لم يَقُل ومن النَّصارى قال (ومن الذين قالوا إنَّا نصارى) هم يَدَّعُون ذلك ولكن هل هذا صحيح، أو ليس بصحيح هذه يحتاج إلى دليل فهم يدَّعون أنَّهم نصارى، وهم ليسوا كذلك قال الله (أخذنا ميثاقَهُم فنسُوا حظاً ممَّا ذُكِّروا به) ولاحظوا قوله (فَنَسُوا حظاً) يُنكِّرها، يعني أنَّهم نَسُوا أكثر مِمَّا أمِرُوا به لأنَّ التَّنكير هنا للتَّعظيم (فأغرينا بينهم العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة وسوف يُنبئُهُمُ الله بما كانوا يصنعون) يعني ألزمنا بينهم العَداوة والبغضاء، وبعض أهل اللُّغة يقول أغرينا هنا مأخوذة من الغِراء الذِّي تُلصَق به الأشياء يعني كأنَّا جعلنا العداوةَ والبغضاءَ بينهم لاصقةً فيهم كَالغِراء،وهذا واضحٌ في التَّاريخ أنَّ الله سبحانه وتعالى نشر العداوة بين النَّصارى وبينَ اليَهود طيلةَ القُرون الماضية، ولِذَلك قامت بينهم حروبٌ شديدة وشَرِسَة لايَعلمُ مَداها إلاّ الله، والتَّاريخ لم يَحفظ لَنا إلاّ جُزءٌ بَسيط مِن هَذِهِ العَداوة والبَغضاء التي وقعت بينهم، فبَينَ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلام وعيسى قرون كثيرة، وبين عيسى ومحمد عليه الصَّلاة والسلام قرون كثيرة، يذكر بعض المفسرين كقتادة وغيره أنَّها تقرُب من (560) سنة ، أو(540) سنة بين عيسى ومحمد، وما بين موسى وعيسى أكثر.
 / ثم يقول (يا أهل الكتاب قد جَاءَكم رسولنا يبيِّن لكم كثيراً مما كنتم تُخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين)
هنا جاء النِّداء لأهل الكتاب، وإذا جاء النِّداء في القرآن بـ (يا أهل الكتاب) فالمقصود بهم اليهود والنَّصارى،فالتوراة لليهود والإنجيل للنَّصارى، وفي النِّداء لهم هنا بـ (يا أهل الكتاب) فيه توبيخٌ لهم لعدم الاستجابة، لأنَّ معناها أنتم أهل الكتاب، وقَرأتم فيه الحقّ، وتعرفونه فلماذا تُكذِّبون به وتُنكرونه ، قَال (يا أهل الكتابِ قَد جَاءكم رسولُنا) أيّ محمد صلى الله عليه وسلم (يُبيِّن لكم كثيراً مما كنتم تُخفون من الكتاب ويَعفو عن كثير) وفعلاً الله سبحانه وتعالى قال (إنَّ هذا القرآن يقُصُّ على بني إسرائيل أكثر الذِّي هم فيه مختلفون) النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قد جاءه نفر من اليهود يقولون إنّ فلان وفلانة زنَيَا ونريد أن تَحكم فيهما. فقال النَّبى - صلى الله عليه وسلم - :ماذا في كتابكم؟ فوضع أحدهم يده على آيه الرَّجم وهم محصَنين، فقال عبد الله بن سلاَّم - وهو موجود مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه - قال : يا رسول الله مُرهُم فليرفعوا أيديهم. لأنَّ النّبي قال لهم :ما حَدَّهُ عندكم ؟ قالوا التَّشويه، أو التَّسويد، والجَلَد ونحو ذلك،فلمَّا رفعوا أيديَهم فإذا فيها حُكمُ الرَّجم، فالقرآن الكريم جاءِ لِكي يُبيِّن لليهود كثيراً مما كانوا يُخفونُه من الأَحكام التِّي جاءت في كتابهم فقال الله سبحانه وتعالى (ويعفُو عن كثير قد جَاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين) الله سبحانه وتعالى قد عفا عنَّا في أشياء كثيرة، ونَهانا عن السُّؤال الذِّي قد يترتب عليه تحريم ما أحلَّه الله فقال (يا أيُّها الذِّين آمنوا لا تَسألو عن أشياء إن تُبدَ لكم تسُوءكم) وهذا نهيٌ عن السُّؤال الذِّي قَد يَترتب عليه مشَّقة أو تحريم ما أحلَّ الله أو نحو ذلك، ثم قال الله سبحانه وتعالى في وَصف هذا القُرآن العظيم (يَهدي به الله من اتَّبع رضوانه سُبُلَ السَّلام ويُخرجُهُم من الظُّلمات إلى النُّور بإذنه ويَهديهم إلى صِراطٍ مستقيم) وهذه صفةُ القرآن فهو كتابُ هداية، وكتابُ نور.
/ ثم قال الله (لقد كَفَــر الذِّين قالوا إنَّ الله هو المَسيحُ ابن مريم) هُناك طائفة من النَّصارى يُسَّمُونَها اليعقوبــية يرونَ أنَّ الله سبحانه وتعالى حَلَّ في عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، ويؤلِّهُونَ عيسى ويعبدُونه من دون الله، فكفَّرهم الله بذلك فقال (لقد كَفَرَ الذِّين قالوا إنَّ الله هوَ المسيحُ ابنُ مَريَم ) ثم قال الله (قُل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يُهلِك المسيحَ ابنَ مريَمَ وأُمَّهُ ومن فِي الأرض جميعاً ولله مُلكُ السَّماواتِ والأرض وما بينهما يخلُقُ ما يشاء والله على كل شيءٍ قدير) فعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضَراً، ولا مريم عليها الصَّلاة والسَّلام تملك لنفسها نفعاً ضَراً،وهو عبدٌ مخلوق لله سبحانه وتعالى وهو (رَسُولٌ ونَبــِي) وليس أكثر من ذلك،والله سبحانه وتعالى هو الخَالق وهو الذِّي يستحق العبادة .
 / ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وقالتِ اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ الله وأحبّاؤه) يذكرُ المُفَسرون أنَّهم جاءوا للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - فوَعظهم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وشدَّد عليهم فقال أحدهم كيف تُشَدِد علينا ونحن أبناءُ الله وأحباؤه فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم وتوبيخاً (وقالت اليهُود والنَّصارى نحن أبناءُ الله وأحباؤه) تعالى الله عمَّا يقولونَ عُلُوا ًكبيراً. فماذا كان الجوابُ الذِّى لقنَّه الله للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله (قُل فَلِمَ يُعذبُكُم بذنوبكم) أي لو كُنتُم أبناءُ الله وأحباؤه،ما عذَّبَكُم بذنُوبِكُم لمحبَّتكم،ولكن لأنَّه يُعذِّبكم بذنوبكم فدلَّ هذا على أنَّكم لستم أبناءاً له، ولا أحباءً (بَل أنتم بشراً ممن خَلَق يغفرُ لِمَن يشاء ويعذِّبُ من يشاء ولله مُلكُ السَّموات والأرض وما بينهما وإليه المَصير) . / (يَا أهلَ الكتاب قد جاءكم رسولُنا يُبيِّنُ لكم على فترةٍ من الرُّسُل) وهذه الفترة من الرُّسل كما قلت لكم هي (540) سنة، أو(560) سنة بين موسى وبين عيسى ومحمد عليهم الصَّلاة والسَّلام أجمعين. (يُبيِّن لكم على فترةٍ من الرُّسُل أن تقولوا ما جَاءَنا من بشير ولا نذير) يعنى الله سبحانه وتعالى أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - حتى لا تقولوا يا معشر اليَهُود والنَّصارى أنَّه لم يأتنا لا بشير ولا نذير (فقد جَاءكم بشيرٌ ونذير والله على كُلِّ شئ قدير).
/ ثم يذكر الله سبحانه وتعالى قصَّةً لمُوسى عليه السَّلام مع قومه بعد أن أنجى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام وقومه بنى إسرائيل من هذا الذُلّ الذي كانوا فيه، وخرجوا من البَحر. قال الله سبحانه وتعالى (وإذ قال موسى لِقومه يا قومِ اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعلَ فيكُم أنبياءَ) يعقوب نفسه هو إسرائيل، فجَاءَ من ذُريّة يعقوب يوسف، وإسحاق، وموسى، وعيسى، وزكريا، ويحيى. وكُلُّ هؤلاء الأنبياء هم من ذُرِّية يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم الصَّلاة السَّلام جميعاً، وجاء محمد عليه الصَّلاة والسلام فقط من ذُرِّيَة إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصّلاة السَّلام، فتلاحظُون عندما تنظرون إلى ذُريَّة يعقوب بن إسحاق الأنبياء فيهم كثير، فيقول موسى عليه الصلاة والسَّلام لقومه ( اُذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ) لم يحصلها أحد (وجَعلكم ملوكاً وآتاكم مَا لم يُؤتِ أَحداً من العَالمين) يُقرِّرهُم بهذه النِّعمة التِّي هُم فيها.
 (يا قومِ ادخلوا الأرضَ المُقدَّسةَ التي كَتَب الله لكُم ولا ترتدُّوا على أدباركم) يُشيرُ إلى دخولهم إلى بيتِ المَقدس وإلى فِلسطين.
 (قالوا يا مُوسى إنَّ فِيها قوما جبَّارين) الله قَد انتدب هؤلاءِ النُّقباء فخرجوا، وذَهبوا، نظروا في الوَضع في فلسطين وفى المناطق التي يُراد أن يُهَاجر إليها فوجدوا فيها قوماً جبارين ، بعض العُلماء وبعض المُؤرِّخِين يذكرون أنَّهم يُقال لهم العَماليق كانوا ذوي أجسام قَــوِّية ، فلما رجعَ هؤلاء النُّقباء الى قومهم - بني إسرائيل - قالوا فيها قوم جبارين ، فَنَكَصَ بني إسرائيل على أدبارهم ورفضوا أن يخرجوا مع مُوسى (قالوا يا موسى ان فيها قوماً جبَّارين) والجبَّار هو الذي يَجبُرك على مَا يريد قسراً، وهي في حقِّ الله صفة كمال، وفى حق البَشر صفة ذمّ.  فإذا قيل لله سبحانه وتعالى جَبَّارُ السَّماواتِ والأَرض فهو مدحٌ له جلّ جلاله ، وإذا قيل في فُلان جبَّار فهذا ذمٌّ له بالظُّلم والتَّعالي. (قالوا يا مُوسى إنَّ فِيها قوما جبَّارين وإنَّا لن ندخُلَهَا حتى يَخرجُوا منها فإن يخرجوا منها فإنَّا داخِلُون) غاية الجُبُن والخُنُوع
/ (قالَ رجُلانِ من الذِّين يخافون أنعم الله عليهما) قيل أنَّهُمَا يُوشَع بن نون، ورجلٌ آخر. (قالَ رجُلانِ من الذِّين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنَّكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) هذه الآية فيها فائدة عظيمة تربوية أيٌّها الإخوة : وهي ينبغي عليك إذا أردت أن تَدخل في مشروع،أن تبدأ فيه فعلاً، وسوف يَفتح الله عليك ويُعينُك إذا استعنت بالله.
 (قال رجُلانِ من الذِّين يخافونَ أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب) فأوَّلُ شيء ابدأوا في العمل، اخرجوا من المنطقة التى أنتم فيها وادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنَّكم غالِبُون، أما أنكم تجلسون في الصحراء وتقولون لن نَدخلها حتى يَخرجوا منها، فبأيِّ حقٍّ يخرجوا منها هل لمجرد أنَّك أنت تريد أن تدخل ؟ ولذلك الله سبحانه وتعالى يذكر ذلك حتى في سورة البقرة – وهذا استطراد - يقول الله سبحانه وتعالى عندما ذكر جالوت ومن معه، وذكر طالوت ومن معه قال (ولمَّا برزوا لجالوتَ وجنودِه قالوا لاطاقةَ لنا اليوم بجالوتَ وجنوده قال الذِّين يظنُّون أنَّهم مُلاقُوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله والله مع الصَّابرين) ثم قال الله سبحانه وتعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده) دخلوا في المشروع ولم ينتظروا (قالوا ربَّنا أفرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله) .
فكذلك هنا (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنَّكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين). (قالوا يا موسى) يعني بني إسرائيل رافضين تماماً الاستجابة، انظر حتى سوء الأدب مع موسى عليه السلام (قالوا يا موسى) فما تجد في القرآن الكريم أنَّ الصَّحابة يقولون يا محمد، وأمَّا اليهود يا موسى يتكلمون معه كأنَّه واحد من الأفراد العاديين.
 / (قالوا يا موسى إنّا لن ندخُلَها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربُّك فقاتِلا إنَّا ها هُنا قاعدون) هذه الآية فيها لفتة، تذكرون سعد أحد الصحابة رضي الله عنه، فِي غَزوة بَدر بعد أن تكلّم المهاجرون. قام النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشيروا عليّ أيُّها الناس. قال سعد: يا رسول الله كأنَّك تَعنينا يا رسول الله، واللهِ لو خضتَ بنا البحر لخُضناه معك، ولا نكون كَبَني إسرائيل الذِّين قالوا لموسى (اذهب أنت وربُّكَ فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون) ولكن نقول اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون.ممَّا يَدُلّ على أنَّ هذه الآية أو القِصَّة قديمةُ النُّزول.
/ قال الله (قال ربِّي إنِّي لا أملكُ إلاّ نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين) فكان الجواب ( قال فإنَّها محرمةٌ عليهم أربعينَ سنةٍ يتيهونَ في الأرض فلا تأسَ على القومِ الفاسقين) هذه القِصَّة باختصار تُشير إلى عدم انقياد بني إسرائيل لموسى عليه السلام ، (يا أيها الذِّين آمنوا أوفوا بالعُقُود) فانظروا بني إسرائيل مثالٌ أيُّها المسلمون إلى عدم الوفاء، وعدم الاستجابة لنبيِّهم، وعدم الانقياد له وإنَّما إعراضٌ مُتكرِّر، وعصيانٌ متكرر، فدائماً قَصَص بني إسرائيل تَرِد أيُّها الإخوة في القرآن الكريم لِكي تؤكد لنا هذه العبرة وهي اُنظُر إلى من عَصَى لِكَي تعتبر بعصيانه بأن تُطيعَ الله سبحانه وتعالى فيما أمرك، وتنتهي عمَّا نهاك الله عنه.
 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُفقهني وإيَّاكم فى كتابه، وأن يجعلنا وإيَّاكم ممن يستمعُون القولَ فيتبِّعُون أحسنه، وقد أَطلتُ عليكم فاعذروني، أسأل الله أن ينفعنا وايَّاكم بالعلم وحتى نلتقي في (المجلس الثالث) وصلى الله وسلّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لتحميل المقطع الصوتي :






-----------------------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق