السبت، 29 سبتمبر 2012

تفسير سورة الفتح / دورة الأترجة

د.محمد بن عبد الله الربيعة
 

 
المجلس الأول
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴿١﴾ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿٢﴾ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴿٣﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا ثم أما بعد.
 نواصل مجالسنا القرآنية التي نتلو فيها كتاب الله ونتدارسه ونرجو الله عزّ وجل أن يحفّنا بملائكته ويغشانا برحمته وتتنزّل علينا سكينته ويذكُرنا الله عزّ وجل فيمن عنده.
بين يدينا سورة عظيمة تُقرّ نفوس المؤمنين وتشرح صدور المتقين، تأنس لها النفوس التي حملت لواء نصرة دين الله عزّ وجل والدعوة إليه والجهاد في سبيله إنها سورة الفتح. إنها سورة الفتوحات الربانية، سورة يمكن أن نُبين مقصدها الذي يمكن أن تركز عليه -والله تعالى أعلم- أنها في كمال العناية الربانية بالمؤمنين وبيان فضلهم وجزائهم وتهدئة نفوسهم وتسكين قلوبهم وثورتهم حين منعهم أهل مكة دخول البيت الحرام.
إذاً هي في خلاصتها تهدئة قلوب المؤمنين وتسكنيهم وبيان رعاية الله عز وجل لهم حينما مُنِعوا من دخول مكة. هذه السورة سورة الفتوحات والعناية الربانية بالمؤمنين كان نزولها في السنة السادسة من الهجرة بعد مُنصَرف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية.
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا قد أتوا في عُدة واستعداد لدخول مكة وهم على استعداد وفورة لمقاتلة المشركين من أجل أن يصلوا إلى بيت الله الحرام، فوقف لهم المشركون وصدّوهم ومنعوهم من دخول البيت الحرام ومن يُمنَع من بيت الله الحرام؟! المشركون هؤلاء لم يكونوا يمنعون أحداً من بيت الله حتى أرباب الأديان الأخرى أو اليهود والنصارى، لم يكونوا يمنعون أحداً من البيت البتّة لكن الحميّة -حميّة الجاهلية- التي كانت في نفوسهم جعلتهم يمنعون النبي وأصحابه من دخول البيت فما كان من ذلك -والقصة طويلة - إلى أن حصلت قضية صلح الحديبية فإن النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته وبُعْد نظره أخذ الأمر بهوان وبحكمة وبعد سعي ومصالحة وحوار بينه وبين المشركين لجؤا إلى الصُلح. هذا الصُلح الذي هو أعظم صلح في الاسلام وكان فيه من الثمار العظيمة الذي سُمّيَ بذلك فتحاً مبيناً سبحان الله! لو تأملنا كيف يكون منع المسلمين فتحاً مبيناً؟! ولذلك ثارت نفوس الصحابة كيف يُمنعون؟ أنرضى الدنية في ديننا كما قال عمر وهو عمر رضي الله تعالى عنه -وهو أمر طبيعي- لكن حُكم النبي صلى الله عليه وسلم وحُكم الله من قبل كان في ذلك أمراً عظيماً كما سيأتي. فكان هذا الصلح الذي عُقِد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين مدته عشر سنوات ولم يفي به المشركون، بعد أربع سنوات نقضوه. الشاهد أن هذه السورة باختصار كما سيأتي في بيانها، هي نازلة بعد منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية.
يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) لاحظوا هذا التأكيد والتعظيم لهذا الأمر لم يقل "إنّي" قال (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) وما هذا الفتح أيها الإخوة؟
 اختلف المفسرون في هذا الفتح على أقوال لكن الراجح أن هذا الفتح هو صلح الحديبية لماذا؟ لأنه كان مقدمة لفتوح كثيرة منها فتح خيبر ثم فتح مكة.
أرأيتم لو لم يكن هذا الصلح لتأخّر فتح خيبر وربما تأخر فتح مكة. هذا الصلح كيف كان خيراً عظيماً؟ ابن القيم رحمه الله بدقة علمه وعمق فهمه استخرج ما لا يقل عن ثلاثين وجهاً من ثمرات هذا الصلح وأنه أعظم مما لو كان قتالاً كيف؟
أولا: لما كان هذا الصلح اطمأنت العرب والقبائل وكان ذلك سبباً في إقبال أناس ممن يرغبون في الإسلام فدخلوا في الإسلام من غير قريش، وهذا الذي يريده الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو غرضه ومقصد الشرع إدخال الناس في دين الله، فأقبل أناس واطمأنوا فدخلوا في دين الله.
الأمر الثاني: أن المسلمين الذين كانوا في مكة مستضعفين استقروا وأمِنوا على أنفسهم. الأمر الثالث: أن النبي اشتغل عن قريش بغيرها، بخيبر، والتي فتح الله له فيها فتحاً عظيماً وغنِم المسلمون فيها مغانم لم تكن على بالهم. فتح عظيم اغتنى المسلمون بها وصار لهم قوة وصار لهم مكانة.
الأمر الرابع: أن المسلمين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كم كان عددهم في صلح الحديبية؟ ألف وأربعمئة، كم كانوا يوم فتح مكة؟ عشرة آلآف. أرأيتم هذه المدة كيف كانت عزاً للإسلام وقوة للمسلمين وكثرة لهم بما كان لهم، لم يكن للمشركين بعدها سبيلاً إلى مواجهتهم إذ لو كانوا ألف وأربعمئة ربما واجهوهم وربما كانت مقتلة بين المسلمين والمشركين وكان فيها أمر قد يكون فيها ضرر على المسلمين. ولله الأمر من قبل ومن بعد. اقرأوا إن شئتم "زاد المعاد" لابن القيم في قصة الحديبية والله إنه لأمر عجب والله لتدمعنّ أعينكم مما ذكر من عِظم هذا الصلح وفوائده ونفعه العظيم، ولهذا قال (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) فاستبشر النبي صلى الله عليه وسلم واستبشر الصحابة.
ثم قال الله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) هذا من ثمرات هذا الصلح، لما كان الصلح ورضي النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكرم الله نبيه ومنحه فضائل لم يمنحه من قبل، ما هذه؟
أولاً: وعده بالفتوح.
 ثانياً: قال (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) ففي هذه القصة وعدٌ من الله بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لكن هذا الوصف ناله النبي صلى الله عليه وسلم وعُرِف به لذلك عائشة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبّد قالت ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال أفلا أكون عبداً شكوراً؟ فهو قد غُفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه وما غُفِر لأحد من هذه الأمة ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلا النبي صلى الله عليه وسلم وعداً من الله، قد يغفر الله لكن ما جاء في الأحاديث إنما هي في أمر النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في ما تقدم وما تأخر، جميع ذنبه ما تقدم وما تأخر.
قال الله سبحانه وتعالى (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) ما هي هذه النعمة التي يتمها الله عز وجل عليه؟ لا نحصيها عدداً:
- أتمّ الله عليه النعمة بأن آمن به قومه في فتح مكة وكثُر المؤمنون به. 
- وأتمّ الله تعالى عليه النعمة بأن جعل ما بعد هذه السورة كلها إتمام نعم من الأحكام تفصيلات وأحكام وهدي كلها من إتمام النعمة. ولذلك لو سبرنا ما نزل بعد هذه السورة لوجدناه إتماماً للدين كسورة التوبة، سورة المائدة كلها إتمام للدين.
 قال الله سبحانه وتعالى (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) ومن هدايته الصراط المستقيم أن الله تعالى أفاض عليه بالهدايات التي أنزلها في كتابه والأحكام البيّنات والتفصيلات فهذه من هدايته له والخير الذي أعطاه الله إياه.
قال الله (وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) لاحظوا قال (ينصرك الله) إظهار الجلال والهيبة في هذا النصر أن الله ينصره بقوته وعزته. (وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) والعزيز هو: الغالب، يعني هذا النصر عزيز أي أنك ستكون غالباً، وقد نصره الله عز وجل على قومه، ونصره على أهل الكتاب، ثم نصره على فارس والروم يعني نصر الله أمته بعد وفاته، فمكّن الله تعالى لدينه وأمته فأي نصر وأي فتح هذا الخير الذي كان منطلقه صلح الحديبية؟!.
قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك في شأن المؤمنين بعد أن أكرم الله نبيه أفاض الله على المؤمنين ما اطمأنت به قلوبهم بعد هذا الصلح الذي كان سبباً في تكدير نفوسهم وحزنهم أن لم يكونوا يصلون إلى البيت ولن يصيبوا المشركين وشعروا بالدنيّة شعروا بأنهم وهم أهل الاسلام ولهم القوة وهذا الصلح لم يمكّنهم من دخول البيت لكن الله عز وجل أفاض عليهم من رحمته ولطفه وسكينته فقال (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني بعد ذلك رضوا بحكم الله عز وجل يعني قبل نزول هذه الآية أنزل الله عليهم السكينة فرضوا بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
(لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ) أي هم مؤمنون مصدقون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الله زادهم بذلك حيث رضوا وقبلوا بحكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كل من رضي بحكم الله وإن كان الأمر فيه غضاضة عليه في أمر من الأمور فإن الله سيزيده سكينة وإيماناً.
 قال الله تعالى (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) ما مناسبة ذكر الجنود هنا؟ يعني كأن الله تعالى يقول -يشيد بهم- أنهم من جنود الله أي أنكم جنود الله بل من خير جنود الله في نصرة دين الله ولهذا قال (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فعبّر بالجند الذين هم أهل الغزو والجهاد والنصر.
 قال الله تعالى (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) عليماً بما في نفوسكم إن كنتم صادقين في الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم بالكفّ وأجرى لكم الصلح كان في ذلك خير عظيم وسلامة لهم، قال الله وكان الله عليماً بحالهم حكيماً إذ شرع ذلك الصلح لهم فيه مصالح لهم وإبقاء لهم وتمكين وتقوية.
قال الله سبحانه وتعالى أيضاً في ما يُطمئن به نفوس المؤمنين ويُكرمهم ويُشرفهم قال (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) الله أكبر! والله لو لم يأتِ من هذه الكرامات إلا هذه لكفى في ربط جأش نفوس المؤمنين وتسكينهم وتهدأتهم، قال الله تعالى (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) أي أن الله أجزل لهم الأجر وإن لم يجاهدوا فأجرى لهم أجرهم وكفر عنهم سيئاتهم بنيّتهم ولا شك أن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ منهم ما نوى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال (من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة والحسنة بعشر أمثالها) فهم همّوا وعزموا لكن الله عز وجل أراد بحكمته غير ذلك فكتب لهم الأجر. قال الله تعالى (وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا) يعني دخول الجنة وتكفير السيئات فوز هو خير الفوز وإنما تريدون أيها المؤمنون الفوز فهاهو الفوز قد منحكم الله إياه بأن وعدكم جنته.
قال الله تعالى (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) ما مناسبة ذكر المنافقين والمشركين هنا؟ هم في مقابل المؤمنين -إجابة-.
 يظهر -والله تعالى أعلم- أن صلح الحديبية لم يحضره أحد المنافقين لماذا؟ لأنه كان بينهم وبين المشركين صلة ومودة وتواصل وخشوا أن يأتوا مع المسلمين فيكون بينهم وبين قومهم الذين يظاهرونهم من خلف المؤمنين بخفائهم عن المؤمنين أنهم يواجهونهم وهم أصحابهم فلم يخرج من المنافقين أحد في صلح الحديبية.
قال الله (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ) ولذلك قدمهم هنا على المشركين ، السورة مدنية والقصة نازلة في المنافقين الذين لمّا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لمكة ظن هؤلاء المنافقون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيناله من الكفار نيل وأن المشركين سيوغلون في المسلمين إذ أن لهم القوة وهم أهل البلد فظنوا ظناً سيئاً وكأنهم سُرّوا بذلك لعل المسلمين يصيبهم من المشركين مصاب فيكونوا ذلك غنيمة لهم وغنيمة للمشركين أرأيتم الظن السيء؟! قال الله عز وجل (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) ظنوا أن المسلمين سيُهزمون وأنهم لن يستطيعوا أن يتمكنوا من دخول مكة وهزيمة المشركين فقال الله (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) أي أن السوء سيدور عليهم سيحيط بهم وقد أحاط بهم السوء حينما مكّن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
 (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) حُقّ لهم أن يغضب الله عليهم بتخلفهم وظنهم السيء بالله وبالمؤمنين وهذا دليل على أن من أساء الظن بالله في نصرة دينه ونصرة المؤمنين، أو أساء الظن بنفسه، أساء الظن بالله في ذاته فظن أن الله لن يوفقه، لن ينصره، لن يعينه، لن يُغنيه ذلك سبب لتخلي الله عنه وغضب الله عليه.
 قال الله تعالى (وَلَعَنَهُمْ) -عياذاً بالله- (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) انظروا كيف كان شأن المنافقين وما نالوه من تخلفهم وسوء ظنهم لعنة الله وغضبه وأعد لهم جهنم في مقابل ما كان من أمر المؤمنين الذين استجابوا لأمر الله ورسوله.
قال الله تعالى (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) ما مناسبتها؟ مناسبتها: أن ظنكم هذا فاسد ليس له واقع لأن لله جنود السموات والأرض ينصُر عباده حيث يشاء ولهذا قال هنا (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) وفي الآية السابقة قال (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) هناك الخطاب للمؤمنين فهو عليم بحالهم وبنيتهم وقصدهم في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه، وحكيم بأن الله تعالى أجرى ذلك الصلح.
 لكن هنا قال عزيز قادر على نصر المؤمنين حكيم في ذلك.
قال الله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) أي كيف لا يكون نصر الله لك وتأييد الله لك وأنت رسوله، وهذا ردّ على المنافقين والمشركين في سوء ظنهم وظنهم السيء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه سيُهزم كأن الله يقول كيف تُهزم وأنت رسول الله؟! (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا) وتأملوا قوله (شاهد) فهو عليه الصلاة والسلام شاهد عليهم وعلى المؤمنين بما يعِدهم به من الحق وما أمرهم به من الجهاد.
 قال الله (شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) ، في سورة الأحزاب قال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:٤٦]
سأطرح سؤالاً: ما الفرق بين هذه الآية وآية الأحزاب؟
 لماذا زاد في الوصف هناك واكتفى بهذه الصفات الثلاث هنا؟ (١)
قال (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ) يعني إنما أرسل رسوله وجعله كذلك ليتحقق إيمانكم بالله (ورسوله) الذي هو الإيمان به إيمان بالله تعالى.
 (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) الضمير لمن؟ لله تعالى لأنه قال (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ) وأدرج النبي صلى الله عليه وسلم تبع لأن الإيمان بالنبي تبعٌ للإيمان بالله. فقوله (وتعزروه) ما معناها؟ تؤيدوه وتعززوه وتنصروه تنصروا دينه، (وتوقروه) أي وتعظموه، (وَتُسَبِّحُوهُ) وتنزهوه ومن التسبيح الصلاة ولهذا قال (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) لتسبحوه صلاة لأن التسبيح ورد في القرآن بمعنى الصلاة كما في آيات كثيرة.
قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) أنظروا إلى هذه الآية العظيمة:
أولاً: افتتح الله هذه الآية التي تمثل قصة بيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه. هذه البيعة التي شرُف بها هؤلاء الصحابة والله ثم والله هذه البيعة لو لم يكن لهم في هذه الدنيا من الشرف والفضل والخير إلا هذه البيعة لكفى -بيعة الرضوان- هذه البيعة التي منحهم الله فيها شهادة الرضا فقد رضي الله عن المؤمنين وشرّفهم وأكرمهم بالمغفرة ووعدهم بها مغانم كثيرة فما أعظمها والله من شرف.
 بيعة الرضوان: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في صلحٍ، يرسل الرسل سفراء بينه وبين المشركين للصلح فأرسل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة فأبطأ عثمان على المسلمين فظن أو جاء مُخبر أن عثمان قد قُتِل، قد غدروا به المشركون فقتلوه، فنادى منادي رسول الله صلى الله عيه وسلم البيعة البيعة، فاجتمع المؤمنون من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه تحت شجرة -شجرة سدر أو طلح- بايعوه بيعة على ألا يرتدوا، على ألا ينهزموا وألا يرجعوا، بيعة صدق عل الجهاد والقتال ألا يفروا، وعلى السمع والطاعة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع كل إنسان بيمينه وكان عمر رضي الله تعالى عنه وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يضع يد النبي صلى الله عليه وسلم على يد أصحابه لكثرة الذين يبايعوه قرابة ألف وأربعمئة من الصحابة فبايعوه جميعاً. ثم أكرم الله تعالى نبيه بخبر عثمان أنه قد نجا وأنه رجع إلى الصحابة فغنم المسلمون صدقهم وبيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن بعد ذلك قتال والله إن هذه لبيعة عظيمة! هي أعظم بيعة بعدما بايع النبي صلى الله عليه وسلم النقباء من الأنصار الذين ناصروه وكان سبباً في هجرته. لكن هذه البيعة بيعة نصرة وجهاد شارك فيها ألف وأربعمئة فهي بيعة عظيمة. ولهذا تأملوا التعبير القرآني العظيم في وصف هذه البيعة يقول الله:
 (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) يعني كأنهم بايعوا الله ولهذا وصفها وصفاً أبلغ (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يعني كأنهم قد بايعوا الله تعالى مباشرةً ومدوا أيدهم  ليد الله تعالى مباشرة البيعة هنا (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) هي معنوية كأن المراد بها كأنهم بايعوا لله تعالى ومدوا أيديهم إلى يده عز وجل تشريفاً وتكريماً وفضلاً ولهذا قال (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).
 قال الله تعالى بعد ذلك (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) فمن ارتد بعد ذلك فإنما ينكث على نفسه (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) وقراءة (عليهُ الله) الضم هنا يفيد معنى البيعة العلو فهي تفيد مشهد البيعة والمبايعة. (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) وما هو الأجر الذي آتاهم الله إياه؟ ستذكره السورة بعد قليل.
قال الله سبحانه وتعال انقطع السياق هنا عن حال المؤمنين المبايعين إلى حال الأعراب وليس المنافقين قال الله تعالى (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ) يعني بعد رجوعك من صلح الحديبية سيتلقاك الأعراب الذين لم يذهبوا معك خشية أن يصيبهم ما يصيبهم من قتال أو نحو ذلك، يأتون ليعتذروا وهؤلاء ليسوا منافقين. يعني هناك خلاف هل هم من المنافقين أم لا؟ ولكن ذِكرهم بأنهم أعراب يدل على أنهم ليسوا من المنافقين أو قد يكون منهم منافقون.
 (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) أي بعد رجوعك إلى المدينة (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) أي عن الذهاب معك إلى الحديبية وإلى مكة (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إذ أنهم قد رضوا بأموالهم ومتع الحياة والزرع والرعي فاطمأنوا لها فهذه حياتهم هم قد يكونوا آمنوا لكن لا يريدون الجهاد الذي يقطعهم عن المصالح الدنيوية.
 (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) قال الله (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) ماذا يغنيكم مكوثكم في أموالكم وأولادكم؟ هل سيمنعكم ذلك من أن يصيبكم الله بضر أو نفع؟ ولذلك قدّم الضر هنا على النفع لأنه أنسب للسياق يعني لو أصابهم الله بدائرة على ديارهم وأموالهم وأهلكها ماذا سينفعهم ذلك؟ هل سينفعكم خوفكم من الموت أن لم تذهبوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لن ينفعهم.
قال الله تعالى (بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) الله تعالى خبير بما في نفوسكم وأعمالكم وما كان في قلوبكم من عدم الصدق في الاعتذار وعدم الرغبة في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله (بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا) هذا ظنهم مع المنافقين ظنوا أنهم لن ينقلبوا لماذا؟ ظنوا أن قريش ستحيط بهم وتقضي عليهم إذ أن قريش ذات قوة ومنعة وعندها القبائل التي تعززها فظن هؤلاء الأعراب لضعف عقولهم وجهالتهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو على الحق قال (بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) أنتم زينتموه في قلوبكم بأنكم رأيتم أن المشركين أكثر ولهم القوة والمنعة وأنهم أهل الدار إلى غير ذلك.
 (وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي قوماً في هلاك، أي في نفوسكم من الرداءة والضعف والهوان والعجز ما يكون من شأنكم الظن السيء وعدم الإيمان بالله ورسوله وصدق ما وعد الله عز وجل به. لأن البوار هو: الهلاك النفسي في داخلهم، الهلاك النفسي في الداخل أشد من الهلاك الخارجي لأنه يجعل الإنسان في حالة نفسية متردية من سوء الظن والهوان والعجز والكسل وغير ذلك عياذاً بالله!.
ثم قال الله تعالى (وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا) تهديد لهم أنه من لم يؤمن بالله ورسوله حقيقة فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً.
ثم قال الله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني هنا بيان بأن الله قادر رداً على سوء ظنهم إثبات أن المُلك لله عز وجل ثم عرّض لهم بالتوبة فقال (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء) لو كان السياق في تعريض العذاب عليهم لهم لقال يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء لكنه عرّض لهم التوبة قبل ذلك وأن رحمته سبقت غضبه قال (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).
في حال هؤلاء وطلبهم أن يشاركوا المسلمين في معارك أخرى أو سفر آخر (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) لم يقل (لك) لأن العذر الأول عذر وهمي أما هذا فهو طلب حقيقي يريدون أن يشاركوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مسيرهم القادم حتى ينالوا ما ينالون من الغنائم لعلهم سمعوا بما وعد الله تعالى نبيه والمؤمنين من الفتح والغنيمة فقال الله (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ) لاحظوا ما قال إلى قوم تقاتلونهم أو مشركين أو كافرين إلى مغانم، إذا كان قصدكم المغانم فنحن معكم هذه مصلحتهم وهذا قصارى همهم قال (لتأخذوها) كأن غرض سفرهم وخروجهم هو الغنائم. قال (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) لاحظوا من سفالة نفوسهم ورداءتهم ذرونا نتبعكم يعني نصير تبعاً لكم لو في مؤخرة الجيش لننال معكم ما تنالون على ألا نقاتل أنظروا إلى هذه النفوس السافلة الضعيفة التي لا حظ لها إلا في الدنيا. قال الله عز وجل (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ) ما هو كلام الله؟ أن الله أمر نبيه ألّا يخرج معه إلى خيبر إلا من كان من أهل الحديبية، فأراد الله أن يُكرم أهل الحديبية دون غيرهم (الذين معه) فهنا قال (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ) الذي حكم فيه ووعد لهؤلاء المؤمنين الصادقين. قال الله (قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ) كذلكم قال الله أنكم لن تتبعونا وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن أو أمر ألّا يخرج معه إلى خيبر إلا من خرج معه من المؤمنين في الحديبية.
(كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا) أي فسيقولون إنما غرضكم في منعنا أنكم تريدون أن تستقلوا بالغنائم دوننا. أنظروا لما كان همهم الغنائم تدور ظنونهم حولها في المؤمنين ظنوا بالمؤمنين أنهم أنما كان منعهم إياهم بسبب ألا يضايقوهم في أمر الغنائم وينقصوها عليهم هذا شأن أيها الإخوة أصحاب الحظوظ الدنيوية ما يظنون إلا في حدود ما يريدون من الحظوظ والمصالح الدنيوية.
قال (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) حقاً لا يفقهون إلا قليلاً لأنهم لا ينظرون إلا لمصالحهم وهذا فقهٌ قليل وفقهٌ ضعيف فيمن هو فقهه في أمر الله عز وجل وطاعته ونصرة دينه وتلك الهمم  والمعالي العظيمة العالية.
قال الله سبحانه وتعالى (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ) هؤلاء رجع إليهم إن كنتم صادقين في طلب الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قل لهم أي (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) من هؤلاء؟ قد يكون هؤلاء هوازن في غزوة حنين، أو غيرهم من فارس والروم بعد ذلك. كانت هوازن ذات شأن شديد ولذلك فرّ كثير من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه سلم يومها حينما قال الله عز وجل (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة:٢٥] فكان من قوة هوازن ومن معها من الجيوش شدة على المؤمنين، فالله تعالى يقول لهؤلاء (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا) في خروجكم مع النبي صلى الله عليه وسلم، كأن هذا في استنفارهم استعداداً لتلك المعركة العظيمة ولذلك خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وقتها عشرة آلآف ومنهم هؤلاء. (فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا) أي في الدنيا والأخرة (وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ) أي في الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
 قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك في رفع الحرج عن أهل العذر (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في أمر الخروج للجهاد (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ) أي يُدبِر ويتخلى عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعذبه عذاباً أليماً. وهذه قاعدة إذا نادى منادي الجهاد وتولى من تولى فإن هؤلاء يستحقون العذاب الأليم في الدنيا والآخرة فإنهم قد تولوا عن منادي الجهاد الذي هو فرض عينٍ عليهم إذا كان كذلك. لعلنا نقف هنا.

المجلس الثاني
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿١٨﴾ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿١٩﴾ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿٢٠﴾ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴿٢١﴾ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿٢٢﴾ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴿٢٣﴾)
هذه الآيات الكريمات أيها الإخوة والأخوات هي تفصيل ما وعد الله عز وجل به نبيه والمؤمنين إذ أن الآية الأولى التي مرت بنا في المجلس السابق (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) في تلك الآية ذكر الله حالهم وصدقهم وفضلهم لأنهم يبايعون الله وهنا ذكر الله جزاءهم بأنهم حازوا رضى الله عز وجل يعني ما بينهما من الآيات هي انتقال في حال المنافقين والأعراب الذين انشقوا وتخلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا مع المؤمنين فذكر الله حالهم كشفاً لهم وإظهارا لسوءتهم وأعمالهم السيئة التي كانوا عليها وظنونهم السيئة فقال الله تعالى هنا عودا للسياق في حال المؤمنين الذي ابتدأ من أول السورة (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الله أكبر! والله لو لم يحوزوا إلا هذه الكلمة لكفى. (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) هنا صرح ببيعتهم تحت الشجرة وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى مبايعتهم تحت الشجرة لاستحضار تلك الصورة المشرِّفة لهم فتلك الصورة لن تُنسى، لن يسنوها ولن ينساها التاريخ ولا زالت تذكر تلك الشجرة وتلك البيعة العظيمة إلى يومنا هذا لشرفها وشرف أهله بغض النظر عن قدسية الشجرة والتبرك حولها هذا أمر لا يشرع القول فيه إذ أن الحديث هنا في شرف هؤلاء وليس في شرف الشجرة شرف هؤلاء وتذكيرهم بذلك المشهد العظيم.
قال (إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) مع أن الآية نازلة بعد مبايعتهم فقال هنا (إِذْ يُبَايِعُونَكَ) ولم يقل (إذ بايعوك) لماذا جاء الضمير هنا بصيغة المضارع؟ جاء بصيغة المضارع لتجديد البيعة وتذكيرهم بها واستئناسهم بها ودوام استمرارهم عل هذه البيعة وثباتهم على ما هم عليه أو ما وعدوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوه عليه.
 قال الله (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) لاحظوا أيها الإخوة لم يقل (ما في قلوبهم من الصدق) والله ما أجمل القرآن وأعظمه إذ يذكر الفعل ويعلق المفعول ليحتمل كل الاحتمالات فعلِم ما في قلوبهم من الإيمان، من الصدق، من الرغبة في نصرة دينه، واليقين والفرح والرضى إلى غير ذلك، كأن الله عز وجل جعل في هذه الآية كل ما كان في نفوس الصحابة يومئذ بعضهم  بالرضا، وبعضهم باليقين، وبعضهم بالفرح، وبعضهم بالثبات إلى غير ذلك. (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) من الإيمان والصدق واليقين والثبات وغير ذلك (فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) هذه هي السكينة التي قال الله عنها (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)أعادها هنا والعجيب والسر أن السكينة هنا ذكرت في هذه السورة إنزالها ثلاث مرات مع أنها واحدة ليبين أن هذه السورة خلاصتها في هذا المشهد وما أنزله الله تعالى على المؤمنين من السكينة تطميناً لهم وتثبيتاً لقلوبهم وذهاباً لثورة نفوسهم على الكافرين وتحقيقا لرضاهم (فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) فقط؟! لا ليس هذا فقط بل منحهم الله عز وجل مِنحاً ربانية لا منتهى لها إلى قيام الساعة، نحن الأن أيها الإخوة ما زلنا نعيش بركات هذه البيعة كيف ذلك؟ تأملوا معي قال (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) ما هذا الفتح؟ هو فتح خيبر الذي كان لهم فيه غنائم عظيمة قال (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا) فإن أعظم مغانم حازها المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مغانم خيبر. (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا) وهنا تلاحظ قوله (يَأْخُذُونَهَا) هنا ملحظ لطيف نستنبطه ذكره بعض المفسرين وهو: أن جميع من كان في تلك الغزوة سيعيش إلى ذلك اليوم ولهذا لم يذكر أن أحداً توفي من هؤلاء الألف وأربعمئة قبل فتح خيبر كان بين الحديبية وخيبر شهر ونيف في تلك الفترة ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم خيبر كان هذا في نهاية السادسة وهذا في بداية السابعة كان في ذي الحجة وغزا في محرم.
قال الله عز وجل (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) ما "هذه"؟ مغانم خيبر كأنه يخاطبهم الآن وهم يعيشون ذلك الفتح (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ) ما هو هذا الكف؟ إما أن يكون المراد كف أيدي أهل مكة فلم يقاتلوكم
أو كف أيديكم من فتح خيبر فإنه لم يكن بقتال من المسلمين وهذا هو الأظهر.
(وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ) لأن لفظ "الناس" في القرآن الكريم غالباً ما يعود على قريش أو الكفار المشركين لكنه هنا لما جاء السياق في حال أهل خيبر اختلف المفسرون فيه. (وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ) ما هي؟
- إما أن تكون المقصود السكينة التي أنزلها الله على أولئك الصحابة فهي آية للمؤمنين بعد ذلك بأن يرضوا حكم الله فتستقر نفوسهم لما أمرهم الله عز وجل به ورسوله وترضى لحكم الله عز وجل في أي أمر من الأمور فإن ذلك السبب فيه خير لهم فهي آية.
 والله إنها لأية تلك البيعة ينبغي أن نأخذها منهجاً في حياتنا -أيها الإخوة- أنه إذا جاء حكم الله ورسوله والذي يمثله في أي وقت يراه أهل العلم الربانيين الراسخين في أن هذا حكم الله ورسوله والرضى بحكم الله ورسوله، الرضى بهذا الحكم سبب لخير كثير، بمعنى لو كان في ذلك أمر يتعلق بأمر الأمة فأفتى في ذلك أهل العلم الراسخين المعروفين في ديانتهم وصدقهم فينبغي الاستجابة لقولهم وإن كان في قولهم غضاضة على بعض المسلمين في أن في ذلك سبب في عدم القيام بأمر الجهاد، أو الوقوع في ... الكفار أو شيء من ذلك لكن حكم الله أعظم وما في هذا الحكم هو البركة وهو الخير والعاقبة الحسنة. قال لله سبحانه وتعالى (وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) ما أعظم هذا الجزاء أي يهديكم في دينه فأنتم على هداية وصراط مستقيم في دينكم باتباعكم أمر النبي صلى الله عليه وسلم. سبحان الله -يا إخواني الكرام- هنا قاعدة ينبغي أن نعرفها: من عقد قلبه على الدين صادقاً فإن الله سيفتح له فتحاً عظيماً. كلما صدق عقدك في قلبك على الدين وصدقت الله في ذلك فاعلم أن عاقبتك خير كثير وهذا استقرأته في كتاب الله كثيراً وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود)  [المائدة:١] يعني من صدق الوعد والعهد فستكون العاقبة عظيمة. يعني مثاله: الإنسان إذا قوي أساسه -قوي الأساس- كان البناء شاهقاً وعظيماً فكذلك في أمر الدين كلما قوي الأساس قويت العقيدة فإن خير هذا الرجل سيكون كثيراً وكلما عظم الصدق في قلب الإنسان كان ذلك بإذن الله سبباً في فتح الله له وتوفيق الله له وبركته وغير ذلك فضعوا ذلك في قلوبكم أيها الإخوة واصدقوا الله تعالى في نصرة دينه والبذل في سبيل هذا الدين بكل ما تستطيع فاعلم أن هذا سبب لتمكين الله فردا وجماعة.
قال الله سبحانه تعالى (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) معناه هناك غنائم أخرى ما هذه الغنائم؟ ما جاءهم من غنائم في حنين وهي كثيرةٌ أيضاً.
 ثم قال في الآية الأخيرة (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) ما هذه الغنائم؟ يعني ما كان في تصوركم أنكم تقدرون عليها لأنها بعيدة عن أذهانكم. غنائم فارس والروم، ما كان الصحابة يطمعون بها، ما كانوا يتطلعون لها، كانوا يتطلعون لقريش ومن حولهم من الأعراب فقال الله (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) إحاطة قدرة وإرادة بأن تخضع لحكم الإسلام (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا).
 وفي هذه الآيات تأتي البركات على الأمة إلى قيام الساعة فنحن اليوم يا إخواني الكرام من يتصور أن ينال المسلمون مغانم أوروبا وروسيا والغرب البعض يقول أين هذا؟ تعيش في أحلام؟! نقول يا أخي الكريم وعد الله صادق أنك إذا صدقت الله سيمنحك ما لم تكن تتوقع وتعلم فهنا قوله (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) نحن لا نتصور ذلك عندما نعيش في واقعنا الذاتي لكن عندما نعيش في سنن الله ونعيش في صدق يقيننا بالله ونصرتنا لدين الله إن نصرنا دين الله فوالله ثم والله سننال غنيمة أولئك، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، النبي صلى الله عليه وسلم وعد وعداً صادقاً بأننا في آخر الزمان سنُمنح غنيمة الروم حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ستقاتلون الروم يأتونكم في ثمانين راية تحت كل راية اثنى عشر ألف) -يعني حوالي المليون أو سبعمئة ألف وزيادة - في تفصيله أنه (يهزم منكم الثلث فهم شر خلق الله يومئذٍ، ويستشهد الثلث وهم خير الشهداء يومئذٍ، ويُنصر الثلث وهم خير عباد الله يومئذٍ) الله أعلم متى يكون ذلك اليوم. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال اليهود (لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود) والله لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود هؤلاء وسيقتلونهم لماذا؟ لأنه في الحديث أمر لم يحدث من قبل وهو أنه يقول (حتى يقاتل المسلمون اليهود فينطق الشجر والحجر إلا شجر الغرقد فإنه شجر اليهود يقول يا مسلم يا عبد الله تعالى فإن يهوديا خلفي فاقتله) هذا لم يكن من قبل معنى ذلك أنه سيكون -والله تعالى أعلم- أنه سيكون في اليهود الآن المعاصرين لأنهم الآن يغرسون الغرقد وهذا دليل صدق وعد الله ورسوله ونسأل الله عز وجل أن يُقِرّ أعيننا في أنفسنا في رؤية هذا المشهد وأن يجعلنا من أهله نصرةً وتمكيناً صادقين مقبلين.
قال الله عز وجل (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) أنظروا هنا مناسبة هذه الآية: كأنه يقول هنا بعد هذا الوعد كيف نتغلب على هؤلاء الكفار الذين هم في غلبة فقال الله هناك سنة ربانية قد خلت من قبلكم لا تزال مادامت السموات والأرض ما هي هذه السنة؟ أنه (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وكنتم على صدق وإيمان وصبر وثبات (لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) والله لو قاتل المسلمون الكفار اليهود أو النصارى صادقين مجتمعين حققوا أسباب النصر والله لن يُهزموا وسيولي الكفار أدبارهم لماذا؟ لأن الله تعالى قال في الآية الأخرى (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ) سنة ثابتة إلهية ومن هي؟ سنة من؟ سنة رب العالمين، سنة خالق الخلق أجمعين سبحانه وتعالى فهو أعلم بهم وبشؤونهم وبمن ينصر وبمن يهزم ويذل.
 (الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ) أي أنها سابقة فيكم فهي فيكم مُتحققة (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) لا تتبدل لكن قد لا تتحقق تلك السُنة في قوم لم يحققوا أسباب النصر كاملة، أو أن في ذلك الأمر الذي حصل كما حصل في غزوة أُحد مثلاً أمر أراده الله لحكمة، وأيضاً ما حصل في أحد هو بسبب اختلال أسباب هذه السنة وهو عصيان النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه وتعالى (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ) ما المقصود بهذه الأية؟ المقصود بهذه الآية والله أعلم أحد معنيين:
المعنى الأول: أن يكون المقصود بها ما حصل من كفّ الله عز وجل المؤمنين عن الكافرين وكفّ الكافرين عن المؤمنين في صلح الحديبية هذا المعنى الأول.
والمعنى الثاني: الذي عليه جمهور المفسرين أن المشركين بعثوا برجال منهم أختُلِف في عددهم فقيل ثلاثين أو يزيد لينالوا من المسلمين على غِرة حتى يقولوا قد نلنا من المسلمين من محمد وأصحابه فتكون لهم عند العرب كلمة أو مقالة فمكّن الله تعالى المسلمين من هؤلاء فأسروهم فأتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 فماذا فعل الحكيم عليه الصلاة والسلام؟ أمر بإطلاق سراحهم، لماذا؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام له أهداف بعيدة لأنه لو قتلهم لن يتم صلح ولن يكون قرار وستكون سبباً في ثورة أهل مكة ثم ثورة القبائل معهم لأنهم سيقولون محمد صلى الله عليه وسلم قد غدر بهؤلاء فتقوم قائمتهم فانظروا إلى القائد الحكيم تركهم وأطلق سراحهم ثم جرى الصلح بعد ذلك فقال الله تعالى وهو بأمر الله عز وجل لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحكم بأمر الله قال (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) لم يصيبوكم (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ) واختلف في المقصود بـ "بطن مكة" هنا فقيل: المقصود ببطن مكة هو الحديبية لأن الحديبية خارج مكة فهي تعتبر بطن -أسفل- يعني هي بين جدة ومكة تسمى اليوم الشميسي وهي في الطريق من جدة إلى مكة، فتسمى بطن لأنها أسفل مكة.
 وقيل: أن المقصود ببطن مكة وسط مكة كأن الله تعالى يقول (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) لو دخلتم إلى مكة عنوة حصل بينكم وبين الكافرين قتال فهو الذي حماكم من ذلك وكفّ أيديكم عنهم والله تعالى أعلم بالصواب في ذلك.
 (مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) وهذه الجملة هي التي تؤكد المعنى الثاني الذي هو أَسْر المشركين، (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا).
 ثم قال الله عز وجل في هذه الآيات القادمة كلها في إظهار سوءة الكافرين والتصريح بسيئاتهم والتشنيع عليهم وأنهم ليسوا أهلاً لولاية البيت الحرام وأنهم على حال مزري، أظهر عيوبهم عند العرب فهم سدنة البيت فكيف يكون ذلك منهم، ما هذه الصفات؟
 قال الله تعالى (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هم كفروا بالله فهل ينالون شرف ولاية البيت وقد كفروا بالله عز وجل وهو بيت الله.
 (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) هل لهم أن يصدوا المؤمنين عباد الله عن المسجد الحرام. (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا) أي منعوا أن يُنحر الهدي في محله عند بيت الله الحرام إن كان في العمرة فهو عند المروة وإن كان حجاً فهو في منى (أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) كيف يليق بهم وهم يزعمون الكرم والضيافة واستقبال ضيوف الرحمن أنهم يمنعون الهدي أن يبلغ محله؟! هم لم يمنعوه صريحاً وإنما منعوا أهله فمنعهم أهله منعهم للهدي.
 قال (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ) من هؤلاء؟ أي المستضعفون من المؤمنين في مكة الذين لم يستطيعوا أن يهاجروا لضعفهم ولقلة ما في أيديهم أو بسبب منع المشركين لهم، وقيل أنهم اثنى عشر رجل واثنى عشر امرأة وقيل أكثر من ذلك، قال الله (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ) كيف لم تعلموهم؟
 قيل: بعضهم لم يعرفهم الصحابة لأن بعضهم قد آمن سراً، وقيل:  (لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ) لن تميزوهم في خضم المعركة.
 (أَن تَطَؤُوهُمْ) والوطء هو: أن يطأ بقدمه والمقصود بذلك أن يطؤوهم في المعركة بأن يصيبهم منهم مصاب (فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) كيف معرة؟ لأنكم ستقتلون منهم أناس فيقول أهل مكة قتل محمد أصحابه فتكون معرة يعني معابة لكم عند العرب (فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يعني أنتم قتلتموهم بغير علم لكن العرب لن تسلموا منهم لأنهم سيجعلونه عيباً وعاراً عليكم. قال الله (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) يعني أن الله عز وجل أراد هذا الحكم ليُدخل في رحمته أولاً من هؤلاء الضعفاء فيهاجروا، ويُدخل الله في رحمته من أهل مكة فيسلموا، ويدخل الله في رحمته من أهل القبائل في دين الله عز وجل، فهذه الآية هي ظاهرة من حِكم الصلح الذي أراده الله ولو كان قتالاً لم تكن تلك الحكم أو المصالح، (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) فأدخلت هذه لإظهار حكمة الله عز وجل في أمر الصلح، قال الله (لَوْ تَزَيَّلُوا) ما معنى تزيلوا؟ تميّز المسلمون المستضعفون من الكافرين، لو لم يكن في مكة مسلمين مستضعفين أمرناكم بقتال المشركين ولعل هذا يُظهر أن من أعظم حِكم صُلح الحديبية وجود المستضعفين من المؤمنين في مكة، قال (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) في الدنيا وفي الأخرة.
ثم قال الله عز وجل في التشنيع أيضاً على الكافرين من أهل مكة بعد أن أثنى وأشاد بالمؤمينن اهل بيعة الرضوان الذين كاوا مع النبي صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الحديث عن هؤلاء المشركين في التشنيع عليهم وإظهار سوءتهم قال (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) يعني ما جعلهم يمنعون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن بيت الله إلا الحمية، يعني كيف تمنعون عباد الله من بيت الله إلا حميّة، يعني هذه مَعرّة وسوءة عليكم كيف تجعلون الحميّة في قلوبكم سبباً لمنع نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة ولهذا قال (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) ما يدل على أن الحمية قد احتمت في قلوبهم والحنق قد ظهر في نفوسهم ووصل بهم من الغيظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ظهر شأنه -وهو منهم- وقد خرج من مكة فأصابهم في قلوبهم من الغضب وحميّة الجاهلية ما جرأهم على منعهم من مكة يظنون أنهم قادرون على منعه أو النيل منه قال (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) لماذا وصفها بحمية بالجاهلية ولم يكتف بقوله الحمية؟ حتى يُعرف أن هذا جاهلية منهم. ولا شك -أيها الإخوة- قَرن وتعليق الحمية بالجاهلية للدلالة على سوءة هذه الحمية أنها متعلقة بأمر الجاهلية ليست على علم ولهذا ما جاء في القرآن وقُرن بالجاهلية فهو أمر سيء كما قال الله (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب:٣٣] وغيرها من الآيات التي قُرنت بالجاهلية. فالمقصود بها: أن هذه الحمية حمية سيئة وحمية باطلة خارجة عن حدود حُكم الله ورسوله، وأمر الله ورسوله وهذا نأخذ منه -أيها الإخوة-: أن الإنسان إذا منع إنساناً من الخير لسبب في نفسه فقط  حمية وأظهر قوته بلا سبب فإن ما فيه من هذه الحمية هي حمية جاهلية، وإن كانت الجاهلية انتهت لكنه اتصف بصفات أهلها.
قال الله عز وجل في مقابل هؤلاء المؤمنين هؤلاء المشركين انتقل السياق في الثناء على المؤمنين ما يزال ربنا عز وجل يرعى هذه الثلة الفئة الطيبة المباركة ويعيد الثناء عليها ويؤكد أيضاً ما أنزله الله في قلبها من السكينة والاطمئنان لحُكم الله قال الله (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يعني هي في مقابل حال هؤلاء في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية لكن الله عز وجل جعل في قلوب عباده وأوليائه ورسوله والمؤمنين السكينة (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) ما المقصود بقوله كلمة التقوى؟
قيل: هي كلمة التوحيد، وقيل: هي كلمة التقوى ذاتها هي اتقوا الله عز وجل ومن ذلك أنهم وثَّقوا أنفسهم بحكم الله ولم يخرجوا عن حكم الله وحكم رسوله في ذلك الصلح وهذا تقوى. اتقوا حظوظ أنفسهم ولم يجترؤا على مخالفة أمر الله عز وجل لأنهم لو اجترؤا على حكم الله. معنى ذلك أنهم أرادوا حظوظاً في نفوسهم لكنهم جردوا نفوسهم عن كل حظوظ وقرنوا قلوبهم بما أراده الله وحكم به، يعني خلصوها لحكم الله عز وجل ولهذا قال (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى)، قيل: المراد أيضاً بالتقوى هنا ألزمهم كلمة الالتزام بهذا الصلح فلم يجترئ أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مخالفته لم يخالفه أحد، أربع سنين لم يخالفه أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نقضه المشركون لما رأوا أن أهل الإسلام يكثرون والإسلام يقوى ورسول الله يعتز غاظهم ذلك فنقضوه، قال الله عز وجل (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) الله أكبر؟! يعني لاحظوا -أيها الإخوة- ألزمهم يعني أوثقها في قلوبهم وكانت لازمة في قلوبهم (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا) وصفهم الله بأنهم أحق بهذا الوصف كأنك تقول فلان أحق بهذا الوصف إذ أنه قد حققه كاملاً، حققه تحقيقاً وافراً كاملا، ولذلك قال الله (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) فأنت تقول هذا أحق بهذا الأمر وهو أهل له حينما تكون مقتنع تمام القناعة من اتصافه به وأن لديه الكفاءة التامة. الله عز وجل يشهد من فوق سبع سماوات هؤلاء بأنهم أهل للتقوى وأنهم أحقّ بها من غيرهم فهم لا شك ولا ريب أتقى لله من غيرهم من المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلم يقول أنا أخشاكم لله وأتقاكم له فأصحاب رسول الله الذين كانوا معه في هذه البيعة هم أتقى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أتى آتٍ من بعدهم في ذمهم أو الطعن فيهم فهو والله دال دلالة صريحة على أنه ليس من أهل التقوى لأن الله هنا أثنى عليهم بالتقوى وهو إشادة من ربهم لا يأتي أحد من بعدهم يذمهم إلا وكان وصفه خال من التقوى كيف يجترئ على الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين زكاهم الله تعالى من فوق سبع سموات قال الله (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) بما في نفوسهم وقلوبهم.
ثم قال الله (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤية قبل الحديبية ما هي الرؤيا؟ رأى أن أصحابه يدخلون البيت الحرام وراءهم مُحلّقين ومقصرين ولم يرد في الرؤيا أنه راءهم يطوفون لكن راءهم داخلين البيت الحرام وراءهم مُقصرين، بعضهم مقصر وبعضهم مُحلِّق فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه فاستبشروا وأيقنوا أن مُنصرفهم هذا إلى مكة هو تحقيق تلك الرؤيا لأنها رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيا الأنبياء حق. فلما كان ما كان من الصلح جاءت فرصة المنافقين فقالوا أين وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين البشرى؟ أرادوا أن يُدخلوا في نفوس الصحابة الشك والشبهة والريب، فما أعظم حكمة الله ورحمته إذ أنزل هذه الآية تثبيتاً وتحقيقا، أبو بكر رضي الله تعالى عنه بصدق إيمانه ولذلك سُمّي صدّيقاً قال لهم: وهل أخبركم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا يكون العام؟ أنظروا المؤمن أيها الإخوة يقينا، يجد في ما وعد الله به ورسوله يقيناً وإن كان يرى الظاهر خلافه لأن ذلك قد يكون أمر مستقبل فأنزل الله هذه الآية (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ) يعني هذه الآية نزلت بعد الرؤيا تحقيق (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) ما الحكمة من ذكر أوصافهم أنهم سيدخلون في أمن وأنهم سيحصل لهم ما وعدهم الله من العمرة لأن الصلح الذي حصل من بنوده أنهم يأتون من العام المقبل للعمرة والتي هي عمرة القضية أو القضاء وقد كان ذلك، كان في العام الذي بعده أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وأصحابه في عُمرة القضية، قال الله تعالى (لَا تَخَافُونَ) أي أنكم تدخلون مكة آمنين ولا تخافون أن يغتالكم المشركون أو أن يصيبونكم بأذى يعني تدخلون في تمام الأمن ولا تخافون. (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا) سبحانه وتعالى بما أراده (فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) ما هو هذا الفتح؟ (فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ) أي قبل ذلك فتح خبير.
ثم قال الله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) لاحظوا هناك قال (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) وهنا قال (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ) ما الحكمة من هذه الآية؟ إثبات أن ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به حق لماذا؟ لأنه رسول الله عز وجل (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) كأن الله يقول شهادة الله على ذلك فوق إخباره لكم وأي خبر يكون شاهده الله عز وجل وكفى به شهيداً.
ثم قال الله سبحانه وتعالى في ختم السورة بآية عظيمة -إي وربي- إنها لعظيمة شهادة في الختام لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) هنا لفتة لطيفة مهمة ما مناسبة قوله عز وجل (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) ما السر في قوله (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ)؟ سِر ذكر محمد رسول الله أنه في صلح الحديبية لما قال: هذا ما قاضى به محمد رسول الله قالوا لو علمنا أنك رسول الله ما منعناك من دخول البيت، ما حُلنا بينك وبين البيت فكتب النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ثم أثبت الله هذه الكلمة في كتابه في هذه الآية فقال محمد رسول الله رغم أنوفكم وأنه حق وإن كنتم أنتم لم تُقِروا به فقد أقرّ الله له بالرسالة وشهد الله له في كتابه وكانت هذه الكلمة لم تُذكر في الصحيفة فذكرها الله في كتابه تُتلى إلى يوم القيامة.
 الله أكبر ما أعظم مِنحة الله لنبيه وما أعظم حكمة الله، يعني محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يُعارض على أنه ليس رسول الله ثم يتخلى ويرضى أن يكتب محمد بن عبد الله حتى يتم الصلح والله إنها لحكمة عظيمة فمنحه الله جزاء ذلك الشهادة له في كتابه عليه أفضل صلاة ربي وسلامه تتلى في كتابه واثنى على الذين معه (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ) يعني ما يزال في قلوبهم من الشدة على الكفار مع أنهم قد أمرهم الله عز وجل بأن يكفوا لكنهم أشداء على الكفار متى ما تيسر لهم ذلك فأنهم أشداء على الكفار لا رخاوة بينهم فهنا الشدة في دين الله والقيام بأمره ومجاهدة ومقاتلة الكافرين.
 (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) تجدهم فيما بينهم رحماء في تكاتفهم وتآخيهم وتناصرهم ونحو ذلك لكنهم مع الكافرين لا يناصرونهم ولا يوالونهم ولا يلينون معهم وهذه الآية -أيها الإخوة- تختلف عن قول الله عز وجل في سورة الحشر (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) فتلك في المعاملة في شأن الذين لم يقاتلوا وهذه في شأن المقاتلين فالمسلم المؤمن شديد مع المحاربين لا يلين لأنه في قوم يحاربون دين الله عز وجل فلا ملاينة في ذلك، أما من كان بينه وبينهم صلح أو عهد فيختلف ذلك رجاء إيمانهم ورجوعهم إلى الحق.
 قال الله تعالى في وصفهم وأي وصف وصفهم الله (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) الله عز وجل يقول (تَرَاهُمْ) ليس الوصف للنبي فقط وإنما هو خبر عنهم (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) من الخبوت مع أنهم أشداء على الكفار في نفوسهم من القوة والعزة إلا أنهم مع ربهم في خضوع وذلة هذا معنى (رُكَّعًا سُجَّدًا) ولم يقل (تراهم يصلون) إذا ذُكر الركوع والسجود -أيها الإخوة- دون الصلاة فالمقصود به معنى السجود والركوع وهو الخضوع والإنابة إلى الله عز وجل والذلة لله عز وجل.
 (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) ما هو الفضل؟ الذي وعدهم الله عز وجل به من الفضائل والغنائم والفتوحات وغير ذلك والرضوان الذي وعدهم الله تعالى به وهو قوله (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال الله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يعني من أثر سجودهم:
- إما أن يكو سيماهم بأثر السجود في جباههم
- وإما اثراً معنوياً بتلألأ وجوههم بنور الإيمان فالأثر هنا إما حسي أو معنوي.
 قال الله عز وجل (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) أي أن هذا الوصف ذكره الله في التوراة (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ) أما مثلهم في الإنجيل (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) فروعه (فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ) قوي (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) والسوق هو: الجرم الذي تقوم عليه الشجرة (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) الله عز وجل مَثّل المؤمنين في نموهم وهو بيان أن هذا الدين سينمو وسيبلغ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما بلغ الليل والنهار، فمثّله بالزرع حين ينمو ويكثر ويتفرع (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أهل الزرع،  ثم انتقل للحديث عن الكفار (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) في كثرتهم ووفرتهم ونموهم.
 (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم) ممن؟ من هؤلاء لأن الخطاب في الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم (مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) لكن هذه الآية -أيها الإخوة- ذكر المفسرون أنها ليست في الصحابة فقط وإن كانت أظهر فيهم لأنه قال (وَالَّذِينَ مَعَهُ) إما أن يكونوا معه صحبة أو إيماناً فإن كان صحبة فالمراد بها الصحابة وإن كانوا معه في الإيمان وفي الاستجابة والاتباع فهم على وصف واحد إلى قيام الساعة. ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل هذه الأوصاف الذين ينالون فضل الله ورضوانه ووعده ومغفرته وأجره العظيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
——–––––––––––––––
المصدر / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
١- وقد وقع في سورة الأحزاب نظير هذه الآية وهو قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا*وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)  فزيد في صفات النبيء - صلى الله عليه وسلم - هنالك (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) ولم يذكر مثله في الآية هذه التي في سورة الفتح . ووجه ذلك:  أن هذه الآية التي في سورة الفتح وردت في سياق إبطال شك الذين شكوا في أمر الصلح والذين كذّبوا بوعد الفتح والنصر ، والثناء على الذين اطمأنوا لذلك فاقتصر من أوصاف النبيء - صلى الله عليه وسلم - على الوصف الأصلي وهو أنه شاهد على الفريقين وكونه مبشرا لأحد الفريقين ونذيرا للآخر ، بخلاف آية الأحزاب فإنها وردت في سياق تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مطاعن المنافقين والكافرين في تزوجه زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة بزعمهم أنها زوجة ابنه ، فناسب أن يزاد في صفاته ما فيه إشارة إلى التمحيص بين ما هو من صفات الكمال وما هو من الأوهام الناشئة عن مزاعم كاذبة مثل التبني ، فزيد كونه داعيا إلى الله بإذنه ، أي لا يتبع مزاعم الناس ورغباتهم وأنه سراج منير يهتدي به من همته في الاهتداء دون التقعير . [التحرير والتنوير / سورة الفتح / قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) ]
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق