د. محمد بن عبدالله الخضيري
المجلس الأول
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿١٧﴾ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿١٨﴾ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴿١٩﴾}
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين. يستمر الحديث في هذه الدورة المباركة في هذه السورة العظيمة سورة لقمان الحكيم ولا ظلنا مع وفي وصايا لقمان ولا زلنا في وصاياه الأخيرة بعد أن وصّى رحمه الله، وصّى بالحذر كل الحذر من الشرك ومن هذا الظلم العظيم ثم وصّى بكل مظلمة كائنة ما كانت وإن كان حبة من خردل، هذه المظلمة يأتي بها الله وإن كانت في مثل ذلك الخفاء وفي مثل تلك الصخرة الجوفاء الملساء يأتي بها الله.
ثم بعد ذلك بعد أن أمر وذكّر بالوصايا في جانب الاعتقاد أكّد على جانب العمل وذكر أصول المعتقد ثم جاء في أصول الأعمال فأمر بإقامة الصلاة وبإيتاء الزكاة وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر أن ذلك من عزم الأمور، من حزمها وجزمها وممن إذا صنع ذلك فكأنه أخذ الدين بقوة. بعد ذلك هذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُخصّ بهذه الوصايا وإن كانت الوصايا للناس كلهم والناس ينبغي أن يكون الجميع ممن يحرص على إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويحرص على ما في الوصايا مما يرد.
فقال في وصاياه (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) والتصعير هنا من الآداب في معاملة الناس والناس عندما يشعرون بقرب الواعِظ والآمِر منهم يكون في ذلك مدعاةً لقبول قوله وبضده النفرة ممن تكبّر وتجبر عليهم. (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) وفي قراءة (ولا تُصاعر خدك للناس) والصُعار هو داء يأتي الإبل يكون سبباً في التفاف رقبتها ومصعِّر خده للناس نجد أنه لا يلتفت إلى الناس إلا بصعوبة فهو في علو وشموخ وتكبر ولذلك قال الله عز وجل جاء في هذه الوصية (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) يعني لا يلحظ الناس في خدك وأعز شيء في جسمك وهو الوجه أنك منصرف عنهم به.
ثم قال أيضاً (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) لما قوّم جهة الهيئة والوجه، والوجه مكان السماع والاستماع والقبول من الناس أيضاً في المشية، والمشية لها شأن عظيم فأمر بمشية ونهى عن مشية، نهى عن مشية (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) وأمر بمشية (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) فالله عز وجل أيضاً ركّ. في مسألة المسير حتى لا يتضح لا في حال وقوفك ولا في حال مسيرك أن فيك شيء من خِصال التكبر والتجبر فالناس يكرهون هذه الصفة في عموم الناس وخصوصاً في داعيهم وآمرهم وناهيهم، امشِ هوناً (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) والمرح شدة الفرح ولذلك في سورة الإسراء (إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) إذا عظُمت في نفسك ومشيت مشية المختال على الناس أنت تسير على هذه الأرض ولا تستطيع بسيرك أن تخرق هذه الأرض ولا أن تبلغ الجبال فتطامَن أيها المتكبر.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ) تأكيد وإظهار لفظ الجلالة والتأكيد (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ) العموم (كُلُّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) وأقرب اختيال يكون في وقوفه حال تصعيره لخده أو في مسيره بل في نفسه، كل مختال في نفسه (اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ) مختال في نفسه (فَخُورٍ) بقوله كما ذكر الشيخ السعدي بعض الناس يفعل هذه الأفاعيل ليوجد لنفسه شيئاً من العظمة ولفت الأنظار، فإذا شعر أن الناس لم يشعروا أو بجهله أيضاً أراد أن يزيد الطين بِلة افتخر بلسانه يعني بهيأته وكذلك بمنطقه ولذلك ينبغي للداعية طالب العلم أن لا يتطاول ولا يتعالى على الناس بحجّة تعليمهم أو توجيههم أو أن له مقام في ذلك فهذا كله غير صحيح.
ثم عادت الآية وعادت المواعظ مع المشية فقال هناك (وَلَا تَمْشِ) وهنا (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) هذه آداب أيضاً، الخفة الزائدة في المشي كما قال الله عز وجل (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) [الفرقان:63] يمشون بهون فالمشية قصد لا عجلة ولا أيضاً تماوت في هذه المشية. (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) الصوت له نبرات وطاقة يستطيع الإنسان أن يرفع صوته والصوت خلقه الله عز وجل يستطيع الإنسان بصوته أن يوصل هذا الصوت للقريب وأن يوصله للبعيد فهذا الارتفاع في الصوت وهذه القوة في الصوت إنما لم يعطينا الله هذه القدرة لنستخدمها في كل حالٍ في رفعها، الضابط في ذلك الغضّ من الصوت ولعل أيضا في الغضّ من الصوت لأن الغضّ عادة يكون في العين (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور:30] (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ (31) [النور:31] فالغضّ الأصل في العين فإذا جاء مع الصوت يكون خفض صوت وانكسار عين مثلما جاء في سورة الحجرات قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) غضّ الصوت هذا أدبٌ وينبغي لنا عامّةً ولأهل الخير وطلاب العلم والآمرين بالمعروف أن يلحظوا هذا الملحظ في مسألة رفع الصوت لا يكونوا كعامة الناس وأعراب الناس في جهلهم في رفع الصوت وعدم حسبانهم لهذا الصوت، فلو كان الصوت الرفيع يورث مهابة أو قوة لكانت الحمير ولذلك ذكّر الله عز وجل، الحمار صوته مرتفع، قال (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ليس منقبة ليس رفع الصوت، بعض الأحيان يكون رفع الصوت يكون دلالة على ضعف الحُجّة ولذلك (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصّلت:26] صياح! ما عندهم حجة! أما صاحب الحُجة فهو يكون متطامن الصوت، غاضّ الصوت وما أجمل أن يجتمع مع غضّ الصوت خاصة مع الأكبر سواء كان الكبير ذا هيئة أو كان الكبير شيبة أو أباً أو أماً أن يكون معه خفض صوت مع انكسار عين وكما قلنا في اللقاء السابق في قوله تعالى (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) [الإسراء:23] قال بعض أهل العلم نادهم مناداة كريمة ومن المنادة الكريمة أن تناديهم بأحبّ الأسماء وكذلك لا ترفع الصوت ولا تحدّ النظر إليهم في الحديث معهم بل تتحدث معهم خاصة الوالد والوالدة وأنت متطامن انظر إليهم وكأنك مستحي من هذا الكلام مع غضّ الصوت وانكسار العين. فالغضّ هو نقص قوة استعمال الشيء. كان من أدب الصحابة رضوان الله عليهم لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) [الحجرات:3] كان بعض الصحابة أقسم على نفسه ألّا يتحدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السِرار، أبو بكر يقول للرسول صلى الله عليه وسلم والله لا أكلمك ولا أناديك إلا كأخي السرار أو كأخي السرائر يعني مُسارّة وكان عمر ما عاد يرفع صوته حتى يساله الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا تقول؟ من شدة خفض صوتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ننتقل بعد هذه الوصايا من هذا الحكيم، لا زلنا أيضاً في سورة الحكمة، وقبل ذلك ذكر كثير من المفسرين عن هذا الحكيم أن رجلاً قال للقمان أنت لقمان عبد بني الجسّاس؟ قال نعم، قال أسود؟ قال كما تراني، فقال له بِمَ سُدّتَ الناس؟ بِمَ وطئ عقبك؟ بم سألوك وصاروا حولك؟ قال: "بِغَضّ بصري وكفّ لساني وعِفّة طُعمتي وقولي بصدق وتركي ما لا يعنيني" وهذه مهمة لأن كثيراً من الناس أن تكون حاله أن حديثه دائماً فيما يعنيه وفيما لا يعنيه. أيضاً ذكر كثير من المفسرين حكماً بل منهم من ألف أو جعل كتاباً مفرداً فيما روي من حِكم لقمان عليه السلام. بعض الحِكَم:
- من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ.
- ويقول موعظة جميلة: من أنصف من نفسه زاده الله عزّاً. في كثير من الأحيان ما ننصف، نظلم الناس بأننا نطفف مع الناس في المكيال فلا ننصف فمن أنصف من نفسه زاده الله عزاً.
- وقال ضرب الولد مثل السماد للشجر. يعني قليل، يؤثر ويجعل الولد أكثر نضجاً.
- ويقول إياك والدَيْن فإنه ذِلٌّ بالنهار وهَمٌّ بالليل.
- ويقول: لا يأكل طعامك إلا تقيّ ولا تشاور في أمرك إلا عالِم.
ننتقل بعد ذلك ونحن في سورة الحكمة والحِكم إلى ما جاء بعد ذلك من حِكم في هذه السورة ومنها: يقول الله سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) ولاحظوا هنا (ألم تروا) تورِث النظر، (ألم تروا) وردت في القرآن في موضعين هنا وفي سورة أخرى (1)، و (ألم تر) وردت كثيراً وردت ثلاثين مرة. لو تتبعتم السورة في المصحف لوجدتم أن ثلاث مرات وردت، (ألم تروا) مرة ومرتين (ألم تر) مع أنها وردت في القرآن في ثلاثين موضع لكنها 10 % جاءت في هذه السورة القصيرة مما يدل على أنها سورة أمر بالنظر. وحتى في (ألم تر) و(ألم تروا) كأن فيها دقة في النظر (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) مع أن خلق السموات جاء في كثير من الآيات بالإطلاق لكن هنا سرّ، تأمل في حكمتها.
هنا يأمر بالتأمل للجميع أن ينظروا في تسخير الله عز وجل لكم ما في السموات وما في الأرض وهذا التسخير ليس فقط ما في السموات والأرض بل والنِعم، ليست النعم العادية بل المُسبَغة والنعم المسبَغة هي: السابِغة التامة الوفية وليست ظاهرة فقط بل نِعَم ظاهرة وباطنة كلها تحتاج إلى تأمل، الباطنة تحتاج إلى تأمل وحكيم ينظر، والظاهرة قد يُغفل عنها لكن الحكيم لا يغفل، الإنسان الذي عنده حكمة لا يغفل -يتأمل- ولذلك قال الله (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ) إذا عرفنا (ألم تروا) لأنها مسألة الرؤية والنظر والقلب. في القرآن (ألم تروا) بدون (إلى) نظر قلبي وإذا جاءت (إلى) (ألم تروا إلى) نظر بصري.
إذا عرفنا في سورة لقمان جاءت مسألة الرؤية عشر مرات من ثلاثين 10% لأنها سورة الحكمة. تجدون في بعض السور الطوال، في آل عمران ورد مرة واحدة وفي مريم مرة واحدة، في الأعراف والأنعام (2) لم يرد ولا مرة كل سورة لها هدف تعالجه وتتحدث عنه وهذا مما يؤيد ما ذكرته لكم أن هذ السورة سورة الحكمة والنظر والتأمل.
إذا عرفنا في سورة لقمان جاءت مسألة الرؤية عشر مرات من ثلاثين 10% لأنها سورة الحكمة. تجدون في بعض السور الطوال، في آل عمران ورد مرة واحدة وفي مريم مرة واحدة، في الأعراف والأنعام (2) لم يرد ولا مرة كل سورة لها هدف تعالجه وتتحدث عنه وهذا مما يؤيد ما ذكرته لكم أن هذ السورة سورة الحكمة والنظر والتأمل.
قال الله عز وجل (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ) تأكيد وإظهار لفظ الجلالة (سَخَّرَ لَكُم) ودلالة (لكم) فيها زيادة للمنّة (لكم) والتسخير هو: التيسير بقهر سماوات أكبر منا، جبال، أرض، سُخِّرت بفضل الله عز وجل لنا. والعجيب أنه حتى آيات التسخير في القرآن جاءت في خمس آيات ونجد أن من أشدّها أمرٌ بالنظر في هذا التسخير وفي النعم الظاهرة والباطنة.
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) سبق أن أشرت لكن أؤكد وأعيد مرة أخرى مسألة تأمل القرآن بالقرآن والنظر في تفسير القرآن بالقرآن وجمع الآيات يورث عندنا كثيراً من الطمأنينة ونشعر ببركة القرآن، يقول ابن القيم -رحمه الله- "وتسجد العقول والألباب لهذا النظم ولهذا العجب بتناسق القرآن" ولذلك قال سبحانه وتعالى(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) .
جاءت (مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)
(ما في السموات) جاءت 38 مرة
و(خلق السموات) بدون (ما في) 35 مرة
والمُلك جاء 21 مرة
أنا أقول هذا الكلام لأني أريدكم أن تتأملوا في فروق الآيات وجمعها وهذا موضع بحوث سواء بحث شخصي أو بحث علمي تحتاج إلى مسائل لبحثها ويجد الإنسان فيها الكثير من الجمال. ولذلك كما في حديث الترمذي هذا القرآن لا تنقضي عجائبه لا يشبع منه العلماء ولا طلاب العلم ولا يخلق على كثرة الترديد تجد عجائب وغرائب في تأمل هذا الكتاب.
/ قال سبحانه وتعالى هنا (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ) والإسباغ الإكثار، سابغاً وافياً (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ) في أول الآية قال (سخّر لكم) وفي ثناياها (أسبغ عليكم) لماذا هناك (لكم) وهنا (عليكم)؟ "لكم" أنتم و"عليكم" كأنها أغرقتكم. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) والمراد بالنعمة التي يقصد فاعِلُها الإحسان للغير.
(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) الظاهرة مشكلتها الآن لو قلت تأمل في نعمة الله عليك بالسمع تنساها لأنها هي معك دائماً فتتغافل عنها وتنساها والبصر كذلك. والباطنة هذه تحتاج لحكيم، تحتاج أن يتأمل الإنسان ولذلك الواحد منا إذا ذهب إلى المستشفى وقالوا له عندك مشكلة في القلب يضطرب، ما كنت تستشعرها لأنها باطنة. فأيضاً الحكيم العاقل لا يغفل عن الظاهر ويتأمل ملياً في الباطن كيف أن الله سبحانه وتعالى أكرمه بهذه النعم ويمكن فيها أشياء باطنة تعرفها ويمكن هناك أشياء أبطن منها أشياء تعرفها وأشياء لا يعرفها إلا خواصّ الناس فاحمد الله عز وجل على هذه النعمة ولهذا قيل لبعض السلف: كيف أنت؟ قال أغرق في نعمة الله. ليس فقط في نعمة الله بل أغرق في نعمة الله عز وجل ينبغي للإنسان أن يكثر الشكر، والشكر هو أساس الحكمة والذي يشكر تطمئن نفسه ويصفو ذهنه ويرتاح ولا يشكر إلا لنفسه.
تأملوا في الآية (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) هذا يلفت النظر للحكماء، وهناك ناس عكس الحكماء قال الله عز وجل عنهم مثلما قال في أول السورة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) وهنا قال أيضاً (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) وقلنا (ومن الناس) في الذمّ.
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يجادل في الله، الذي يجادل عادة يكون عنده علم، (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) لا علم سابق ولا أحد يهتدي به ولا كتاب بين يديه ومع ذلك يجادل! هذا منهتى الجهل! هذا عكس الحكيم، لو يجادل ومعه شيء من العلم لكن هذا منتهى الجهل! (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ) ومع كل هذا من الناس من يجادل وهنا قال الله عز وجل وهذه مراتب الجهل ليس عنده اجتهاد ولا كتاب ولا علم ولذلك قد نواجه هذا الصنف من المجادلين هؤلاء في الغالب البعداء عن الحكمة لا يطيل الإنسان الجدل معهم لأنه لا نفع في جدالهم. الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "لو خاصمت عالماً لخصمته ولو خاصمت جاهلاً لخصمني". لأن الجاهل إذا كلمته يقول وإن؟! لا يعرف، تقول هذا الحديث في البخاري، يقول وإن كان في البخاري؟! ما يدري صحيح البخاري، لا يفقه، لا يفهم هذه الأشياء، ولذلك من الناس من هو في غاية الجهل. قال عز وجل هنا في وصفه (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) قال في وصفه هذا يعطي صورة، الله سبحانه وتعالى بين آيات الحكمة وآيات النظر وآيات التأمل ومع ذلك يوجد في الناس من هو في مثل هذه المثابة، هذا يعطينا أن المؤمن لا يشك فيما عنده. أهل الصلاح والخير إذا وجد من يجادل قد يجعل هذا الجدل يفتر فلا يفتر لأنه هناك من سيجادل ولذلك الإنسان الحكيم ينطلق في طريقه يدعو إلى الله سبحانه وتعالى ولا يبالي بأولئك الذي قالوا لماذا تفعلون كذا؟ (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) الأُلف والوجد هو طريقهم ليس لهم طريق ولا كتاب ولا هدى ولا شيء ولا أثارة من علم.
/ ثم ننتقل إلى قوله سبحانه وتعالى (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ) هذا في غاية الحكمة، هذا الحكيم كل الحكمة وهو المُسلِم وجهه فقط (إِلَى اللَّهِ). حتى هنا (إلى) في الآيات الأخرى "لـله" كأنه متاع كأنه أسلم كلّيته إلى الله وهي سورة الحكمة فهو مسلم بكُلِّه (ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) [البقرة:208] ليس مسلماً فقط في الأشياء التي على مزاجه، لا، هو مسلم مستسلم لله عز وجل وهو محسن ما معنى الإحسان؟ أحسن في قضية (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) [الكهف:110] العمل الصالح هو الإحسان (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2] الأحسن أي الأخلص والأصوب. فهنا جاءت الأخلص والإحسان في الأصوب هل هناك أحسن مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومما شرع الله وجاء على لسان النبي؟ فإذا متّبعي السنة والمقتدين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في كل حركة وسكنة وكلما كان الإنسان أكثر اقتداءً واتّباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم كلما كان أكثر إحساناً مع إخلاصه، يتّبع مخلصاً لا يتبع رياء إذا كان مخلصاً ومتّبعاً فهو من المحسنين ومن يُسلم هذا الحكيم. وقلنا "إلى" هنا لأن سياق الآية يختلف، هو محسن (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) ليس مَسَك فقط بل استمسك شدة التمسك من سار على هذا الطريق كأنما وجد الحلقة، استمسك وليس مسك، (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) وفي الآية الأخرى آية الكرسي (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا) [البقرة:256] وهنا العروة وهذه العروة من أمسك بها لا انفصام لها ولا انقطاع فينبغي أن نتذكر حال هذا الحكيم الذي أمسك واستمسك. ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
أيضاً من الحكمة (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) لأن في بعض الأحيان قد يكون بعض الدعاة يصاب بشيء من الحزن فيوجّه، النبي صلى الله عليه وسلم من حرصه حزِن فقال الله عز وجل (فَلَا يَحْزُنكَ) وقال (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [الأنعام:35] إذا لا يحزنك هذا الكفر ومن الحكمة أنك تُبلغ البلاغ المبين والهداية بيد الله عز وجل وهذا أيضاً الحكمة في باب بعد التبليغ هناك حكمة أن تبلّغ لكن الحكمة أن لا تحزن، يبقى أن الهداية هي من الله وإلى الله. (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) قال (ومن كفر) أيّاً من كان سواء كان قريباً أو بعيداً فلا يحزنك كفره أضاف الكفر له (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) الكفر ليس منك فلماذا تحزن؟! النبي صلى الله عليه وسلم بلغ من الحزن قال الله في سورة الكهف (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف:6] إذا لا تُهلك نفسك لأن الحزن الشديد يُقعد عن العمل. بعض الناس الصالحين الطيبين ابتعدوا عن الساحة بسبب التشاؤم والحزن الشديد قال "هلك الناس" "ومن قال هلك الناس فهو أهلَكُهم" كما قال عليه الصلاة والسلام أو "هو أهلَكَهم" أو أهلك نفسه كذلك أو هو أهلَكهم لأنه وصف الناس أنهم هلكوا فينبغي للإنسان ألا يحزن لأنه سيجد من يؤمن وسيجد من يكفر. وجاء الحزن في ثماني آيات وقد ذكرت لكم حزن النبي صلى الله عليه وسلم (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) والحزن مُقعِد، قال الله عز وجل (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) ثم قال (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) يعني أنت عليك البلاغ وعلينا الحساب.
/ ثم أخبر الله عز وجل أنهم ممتَّعون (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) والعجيب في القرآن أيضاً الاستطراد كل ما جاء التمتيع مع القِلّة في الغالب أنه تهديد وكل متعة في الدنيا كائنة فكيف إذا وصفت بالقلة؟ كل متعة في الدنيا مقارَنة بما يجده أهل الإيمان في الآخرة ومقارَنة بقِلّة الدنيا للآخرة، لا شيء، (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا) [المؤمنون:112] ولما رأوا طول يوم القيامة قالوا ليس يوماً (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وكأنهم شكوا قال (فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ) [المؤمنون:113] (عشية أو ضحاها) يوم القيامة خمسين ألف سنة! إذا كيف تقارَن هذه الحياة التي هي عشرين، ستين، سبعين، ليست شيئاً أمام الخمسين ألف؟! لا شيء، ومع الخمسين تصير كأنها أطول فإذا قال الله عز وجل (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ) وليس أيُّ عذاب (غَلِيظٍ).
/ ثم عادت الآيات (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) وهذا أيضاً سؤال فيه تذكير لهم، تكرار مثل هذه الآية في سؤال الكافرين وأكثر ما ورد السؤال عنه في القرآن أكثرها وردت في خلق السموات والأرض وأيضاً هم سيُجيبون بأن الله الذي خلقها فتحمد الله عز وجل إذن الحمد لله على وضوح ذلك والحمد الحقيقي ينبغي أن يكون، إذا كنتم تقولون أن هذا من الله فينبغي أن تكون عبادتكم لله سبحانه وتعالى. ختمت الآية أيضاً بقوله سبحانه وتعالى بعد أن بيّن خلق السموات والأرض (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) يعترفون بأن الله هو الذي خلقها (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) هنا ذكر عز وجل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) وهنا أيضاً أقف وقفة: "أكثرهم" يفيدنا هذا "أكثرهم" في القرآن و"أكثر الناس" لو أحصيتم في القرآن "أكثرهم" و"أكثر الناس" مادة واحدة لكن لا تخلطوا بين كثير وأكثر، كثير غير أكثر. (أكثرهم) جاءت في 63 موضع (أكثرهم) لا تخلطوا معها "كثير" جاءت في 63 موضع أكثر من 26 موضعاً (أكثرهم لا يعقلون، لا يعلمون، لا يرجعون، لا يؤمنون، لا يهتدون، لا يتقون، لا يتضرعون) وردت كثيراً لكن أكثرها (لا يعلمون) يكاد النصف، وتجد (لا يشكرون) (لا يؤمنون) (لا يتضرعون) هذا يدلّ على أن عِلّة الجهل هي المصيبة والله عز وجل هو الذي يخبرنا أن الكثرة الكافرة – وهذه مسؤولية طلاب العلم لابد أن يُعلموا الناس حتى يعلم الناس ونستطيع بهذا أن ننتهي من مشكلة أكثر الناس هذه أو ننتهي على الأقل من ثلث هذه المشكلة كما قلت لكم والآيات ترشد ولذلك هذا أيضاً يعطينا عطف وعَذر لأولئك الجُهّال، طالب العلم يحمل مسؤولية البيان والإيضاح لأن أصل كل بلاء الجهل وعدم العلم.
قال الله عز وجل (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذه الآية تدلنا على سعة علم الله عز وجل وحكمته فهو سبحانه وتعالى الذي له ما في السموات والأرض. والعجيب (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ما تأتي (بينهما) ولا تأتي مع (من في السموات).
و(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذه لغير العاقل، وإذا جاء للعاقل (لله من في السموات). قال الله سبحانه وتعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
ثم جاءت آية بيان سعة حكمة الله عز وجل (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) وهذه سعة كلمات الله وسعة حكمة الله عزّ وجلّ، إذا كانت بهذه السعة وهذا القرآن بين أيدينا فلماذا نبحث عن الحكمة والحكماء من غير هذا الكتاب؟! كما قال الله عز وجل في سورة الكهف (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف:109] وخُتِمَت (مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) تأكيد (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ما دام بهذه السعة لِمَ العقوبة؟ لأنه حكيم سبحانه وتعالى.
/ ثم قال الله عز وجل (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) لا فرق بينكم وبين غيركم إلا كنفس واحدة. لعلنا نكتفي بهذا ونتابع وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المجلس الثاني
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٢٧﴾ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿٢٨﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. نأتي بعد ذلك إلى آيات النظر والتأمل والحكمة وقلت إن الآية السابقة كانت:
(ألم تروا) ثم (ألم ترَ) ثم (ألم ترَ) مرة أخرى لهذا السرّ فقال الله عز وجل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) والإيلاج هنا كأنه تذكير أن الله عز وجل قال (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إن كان عندكم إنكار لذلك أو استبعاد لذلك فتأملوا وانظروا نظر الحكيم المتأمل في إيلاج الليل على النهار وإيلاج النهار، يدخل هذا على هذا ويخرج هذا من ذاك. وجاء الإيلاج في أربع آيات والعجيب أنه دائماً يُبدأ بالليل، والليل أهمّ من النهار في القرآن يعني تجدون الشمس والقمر متقاربة، السماء والأرض متقاربة، الليل والنهار لا، الليل في عناية القرآن نزل بالليل أيضاً والقرآن يحب الليل أكثر لأنه نزل بالليل (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:6] ولذلك قدّم الليل (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) والقسم بالليل أكثر من القسم بالنهار فجاء هنا، ينبغي التنبيه وعناية القرآن بذكر الليل والإحسان به بل جاء في 58 آية الليل والنهار جاء ثلث هذا العدد قريب من العشرين أو الواحد والعشرين آية وأقسم الله عز وجل بالليل في سبع آيات وبالنهار في آيتين لأنه -كما قلت لكم- القرآن نزل بالليل والليل فيه الهدوء والتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى وفيه الخفاء. ثم قال الله عز وجل (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) مثل ما قلنا في (سَخَّرَ) التسخير الأول ما هو؟ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ) التسخير للشيء كما قلنا المقهور فالله عز وجل سخّر الشمس والقمر هذه الأجرام الكبيرة سخّرها الله عز وجل وليس أي تسخير، تجري بأمر الله عز وجل، يعني كيف أنها تجري هذا الجريان على قوة خلقها وتستمر في الجري لولا هذا التسخير من الله ولكن هذا لا يتأمل فيه إلا حكيم، الكون يسير وفق نظام لكن عندما يحصل أي خلل يجعل الناس أهل البصيرة ينتبهون إلى ذلك، (سَخَّرَ) جاء التذكير بها في أكثر من ستة عشر آية، أكثر التسخير جاء في الشمس والقمر سخّرها بالجري وبأن جعل القمر ضياءً وجعل الشمس سراجاً، وأيضاً (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)) [يس] وأكثر ما جاءت المنّة في التسخير كما قلنا في هذا ليس بالشمس والقمر فقط بل بالجريان لأنه آية عظيمة والجريان كما قال العلماء هو المشي السريع، هذا الجري الكبير والسريع في هذا الكون (إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) ما هو الأجل؟ قيل يوم القيامة يعني تسخيرها يدوم إلى أن تنقضي ما في هذه الأكوان، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن الشمس والقمر اختارها الله لشهرتها وتسخيرها للناس.
ثم قال سبحانه وتعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) المتأمل في هذا الخلق والناظر نظر حكمة وتأمل يجد أن الله هو الحق وما دونه من معبودات باطل (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ) الأعلى وهو (الْكَبِيرُ) المستحق للعبادة.
ثم أيضاً جاء الأمر بالنظر مرة أخرى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) والفلك جريانها في البحر آية، لماذا هذه الخاصية في الفلك وهذا الخشب فيه هذه الخاصية وبقية الأشياء لا يمكن أن تبقى صامدة في هذا البحر (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) وأيضاً تسير حتى مع هذا الفلك ولولا فضل الله عز وجل ورحمته لحصل كثير من الرياح (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ) [العنكبوت:65] لأن الفلك عُرضة للهلاك بسبب ما يأتي لهذا الكون من رياح.
(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ)، هنا في قوله سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ) هذا هو الثالث كما قلت في طلب النظر في هذا السورة -سورة الحكمة- جيء به للتخلص منه إلى اتخاذ فريق من الناس -هذا هو السر عندما جاء بالفلك- جاء به للتخلص لفريق من الناس بدل أن يشكروا الله في حال نظر نعمة الفلك يشكر غير الله ويشرك مع الله يعني المفترض أن من ركب الفلك يكون أكثر الناس شكراً وأكثر الناس حكمة واهتداء، هو يهتدي في تلك الساعة ساعة اشتداد الغرق ثم يعود لجهله مرة أخرى ولذلك قال الله (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ثم بعد ذلك (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) جيء إذاً هنا بآيات الفلك والأمر بالنظر في الفلك لهذا السرّ ولذلك لاحظوا الختام أيضاً يسير مع هذا المسير (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) ولذلك حتى في الختام في الآية السابقة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) ثم قال في ختامها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قلنا إن لفت النظر لهذه الآية لتبيّن فضل الصبر والشكر، فضل الصبر عند ورود هذه المصيبة وهي غشيان الموج وأي موج يأتي في الحياة ومكدرات الحياة ولكن هنا في البحر بالذات، والشكور الذي يشعر بعد أن ينجو أن هذا من الله عز وجل. ثم بعد ذلك ثنّت الآية (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ) فكأن ختام الآية السابقة مقدّمة للآية اللاحقة.
ثم قال بعد ذلك الله عز وجل بعد ذلك (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) ختمت هذه السورة بهذا ولاحظوا أن في القرآن أيضاً جاء (لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) ولكن هنا نصّ على الوالد والولد لماذا؟ لأنهم مع الكفار هناك فبعضهم مسلمين الآيات نزلت وبعضهم كافرين فبعضهم -من الكافرين- يتصور أنه مادام ابنه مسلم أو العكس أنه قد يجزئ هذا عن هذا فجاءت الآيات لتقطع هذا الجزاء فيقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) إذاً كأن ما سبق توجيه لكل فريق على حدة، فلعل في ختام السورة توجيه للفريقين وكما قلنا ذكر الوالد والولد لأنهما أشد محبة وحمية فيعلم أن غيرهما لن يجزئ، وأيضاً حتى لا ترد الشبهة التي قلنا للنجاة والتقوى (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً) [البقرة:48] فهنا جاء بالوالد والولد وهذه الآية مكية وأهلها خليط بين مسلمين وكافرين فقد يتوقع إن الكافر ينفع إبنه المسلم أو أن أباه ينفعه فقطعت هذه الصلة.
(فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ) الغرور هنا يعني ما ظاهره خير ولكن باطنه غير ذلك، والحياة كثير ما تغرّ الناس، تغر ببهجتها وما فيها من الزينة فيغتر الناس بهذه الحياة ويتوقعون أنهم في بقاء واستمرار في هذه الحياة.
ثم قال الله عز وجل بعد ذلك (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) كان من جملة غرور الكافرين دائماً أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقت إمارة الساعة أنها غير واقعة لأنهم يقولون (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [يونس:48] فقال الله عز وجل وأسكتهم بهذا (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) "إن" هنا أفادت التأكيد بحرف التحقيق والله عز وجل وحده عنده علم الساعة ووقت وقوعها عنده لا عند غيره إشارة لاختصاصه سبحانه. (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) عنده وقت نزول الغيث لاحظوا عنده العلم اليقيني بوقت نزول الغيث لا وقت الإخبار، الإخبار قد يخبر به الناس -يتوقعونه- لكن علم النزول، لا.
(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ) يعني تجهل أخصّ الأحوال، إذا هم يسألون الآن يقولون لماذا لا يخبرنا عن الساعة؟ نريد أن نعرف الساعة أنتم الآن لا تعرفون ماذا تكسب كل نفس غداً لماذا هذا الجهل في أحوالكم الخاصة لا تعلمون (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) مع حرص النفس على أن تعرف هذين الأمرين يعني النفس حريصة كل الحرص على أن تدري ماذا تكسب وبأي أرض تموت ومع هذا الحرص لا تعلم فإذا كنتم جهالاً في هذا الباب فلماذا تبحثون في ذاك الباب؟! ولذلك قال الله عز وجل (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) سبحانه بالنسبة لعلم الأرحام قلنا الله سبحانه وتعالى يعلم ما في الأرحام من الخلق لكن لا يلزم من الذكر والأنثى لأن الملك بعد أربعة أشهر ينفخ فيه ويسأل أذكر أم أنثى؟ فالملك علم ولكن المراد بعلم الأرحام ليس فقط كما حصرها الناس في الذكورة والأنوثة، لكن ما في الأرحام خلق كامل غير كامل ما هو هذا الخلق يعني تفاصيله كل هذه الله سبحانه وتعالى وأيضاً علم الذكر والأنثى محجوب في الأيام الأولى.
جاءت (مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)
(ما في السموات) جاءت 38 مرة
و(خلق السموات) بدون (ما في) 35 مرة
والمُلك جاء 21 مرة
أنا أقول هذا الكلام لأني أريدكم أن تتأملوا في فروق الآيات وجمعها وهذا موضع بحوث سواء بحث شخصي أو بحث علمي تحتاج إلى مسائل لبحثها ويجد الإنسان فيها الكثير من الجمال. ولذلك كما في حديث الترمذي هذا القرآن لا تنقضي عجائبه لا يشبع منه العلماء ولا طلاب العلم ولا يخلق على كثرة الترديد تجد عجائب وغرائب في تأمل هذا الكتاب.
/ قال سبحانه وتعالى هنا (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ) والإسباغ الإكثار، سابغاً وافياً (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ) في أول الآية قال (سخّر لكم) وفي ثناياها (أسبغ عليكم) لماذا هناك (لكم) وهنا (عليكم)؟ "لكم" أنتم و"عليكم" كأنها أغرقتكم. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) والمراد بالنعمة التي يقصد فاعِلُها الإحسان للغير.
(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) الظاهرة مشكلتها الآن لو قلت تأمل في نعمة الله عليك بالسمع تنساها لأنها هي معك دائماً فتتغافل عنها وتنساها والبصر كذلك. والباطنة هذه تحتاج لحكيم، تحتاج أن يتأمل الإنسان ولذلك الواحد منا إذا ذهب إلى المستشفى وقالوا له عندك مشكلة في القلب يضطرب، ما كنت تستشعرها لأنها باطنة. فأيضاً الحكيم العاقل لا يغفل عن الظاهر ويتأمل ملياً في الباطن كيف أن الله سبحانه وتعالى أكرمه بهذه النعم ويمكن فيها أشياء باطنة تعرفها ويمكن هناك أشياء أبطن منها أشياء تعرفها وأشياء لا يعرفها إلا خواصّ الناس فاحمد الله عز وجل على هذه النعمة ولهذا قيل لبعض السلف: كيف أنت؟ قال أغرق في نعمة الله. ليس فقط في نعمة الله بل أغرق في نعمة الله عز وجل ينبغي للإنسان أن يكثر الشكر، والشكر هو أساس الحكمة والذي يشكر تطمئن نفسه ويصفو ذهنه ويرتاح ولا يشكر إلا لنفسه.
تأملوا في الآية (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) هذا يلفت النظر للحكماء، وهناك ناس عكس الحكماء قال الله عز وجل عنهم مثلما قال في أول السورة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) وهنا قال أيضاً (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) وقلنا (ومن الناس) في الذمّ.
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يجادل في الله، الذي يجادل عادة يكون عنده علم، (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) لا علم سابق ولا أحد يهتدي به ولا كتاب بين يديه ومع ذلك يجادل! هذا منهتى الجهل! هذا عكس الحكيم، لو يجادل ومعه شيء من العلم لكن هذا منتهى الجهل! (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ) ومع كل هذا من الناس من يجادل وهنا قال الله عز وجل وهذه مراتب الجهل ليس عنده اجتهاد ولا كتاب ولا علم ولذلك قد نواجه هذا الصنف من المجادلين هؤلاء في الغالب البعداء عن الحكمة لا يطيل الإنسان الجدل معهم لأنه لا نفع في جدالهم. الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "لو خاصمت عالماً لخصمته ولو خاصمت جاهلاً لخصمني". لأن الجاهل إذا كلمته يقول وإن؟! لا يعرف، تقول هذا الحديث في البخاري، يقول وإن كان في البخاري؟! ما يدري صحيح البخاري، لا يفقه، لا يفهم هذه الأشياء، ولذلك من الناس من هو في غاية الجهل. قال عز وجل هنا في وصفه (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) قال في وصفه هذا يعطي صورة، الله سبحانه وتعالى بين آيات الحكمة وآيات النظر وآيات التأمل ومع ذلك يوجد في الناس من هو في مثل هذه المثابة، هذا يعطينا أن المؤمن لا يشك فيما عنده. أهل الصلاح والخير إذا وجد من يجادل قد يجعل هذا الجدل يفتر فلا يفتر لأنه هناك من سيجادل ولذلك الإنسان الحكيم ينطلق في طريقه يدعو إلى الله سبحانه وتعالى ولا يبالي بأولئك الذي قالوا لماذا تفعلون كذا؟ (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) الأُلف والوجد هو طريقهم ليس لهم طريق ولا كتاب ولا هدى ولا شيء ولا أثارة من علم.
/ ثم ننتقل إلى قوله سبحانه وتعالى (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ) هذا في غاية الحكمة، هذا الحكيم كل الحكمة وهو المُسلِم وجهه فقط (إِلَى اللَّهِ). حتى هنا (إلى) في الآيات الأخرى "لـله" كأنه متاع كأنه أسلم كلّيته إلى الله وهي سورة الحكمة فهو مسلم بكُلِّه (ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) [البقرة:208] ليس مسلماً فقط في الأشياء التي على مزاجه، لا، هو مسلم مستسلم لله عز وجل وهو محسن ما معنى الإحسان؟ أحسن في قضية (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) [الكهف:110] العمل الصالح هو الإحسان (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2] الأحسن أي الأخلص والأصوب. فهنا جاءت الأخلص والإحسان في الأصوب هل هناك أحسن مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومما شرع الله وجاء على لسان النبي؟ فإذا متّبعي السنة والمقتدين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في كل حركة وسكنة وكلما كان الإنسان أكثر اقتداءً واتّباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم كلما كان أكثر إحساناً مع إخلاصه، يتّبع مخلصاً لا يتبع رياء إذا كان مخلصاً ومتّبعاً فهو من المحسنين ومن يُسلم هذا الحكيم. وقلنا "إلى" هنا لأن سياق الآية يختلف، هو محسن (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) ليس مَسَك فقط بل استمسك شدة التمسك من سار على هذا الطريق كأنما وجد الحلقة، استمسك وليس مسك، (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) وفي الآية الأخرى آية الكرسي (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا) [البقرة:256] وهنا العروة وهذه العروة من أمسك بها لا انفصام لها ولا انقطاع فينبغي أن نتذكر حال هذا الحكيم الذي أمسك واستمسك. ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
أيضاً من الحكمة (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) لأن في بعض الأحيان قد يكون بعض الدعاة يصاب بشيء من الحزن فيوجّه، النبي صلى الله عليه وسلم من حرصه حزِن فقال الله عز وجل (فَلَا يَحْزُنكَ) وقال (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [الأنعام:35] إذا لا يحزنك هذا الكفر ومن الحكمة أنك تُبلغ البلاغ المبين والهداية بيد الله عز وجل وهذا أيضاً الحكمة في باب بعد التبليغ هناك حكمة أن تبلّغ لكن الحكمة أن لا تحزن، يبقى أن الهداية هي من الله وإلى الله. (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) قال (ومن كفر) أيّاً من كان سواء كان قريباً أو بعيداً فلا يحزنك كفره أضاف الكفر له (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) الكفر ليس منك فلماذا تحزن؟! النبي صلى الله عليه وسلم بلغ من الحزن قال الله في سورة الكهف (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف:6] إذا لا تُهلك نفسك لأن الحزن الشديد يُقعد عن العمل. بعض الناس الصالحين الطيبين ابتعدوا عن الساحة بسبب التشاؤم والحزن الشديد قال "هلك الناس" "ومن قال هلك الناس فهو أهلَكُهم" كما قال عليه الصلاة والسلام أو "هو أهلَكَهم" أو أهلك نفسه كذلك أو هو أهلَكهم لأنه وصف الناس أنهم هلكوا فينبغي للإنسان ألا يحزن لأنه سيجد من يؤمن وسيجد من يكفر. وجاء الحزن في ثماني آيات وقد ذكرت لكم حزن النبي صلى الله عليه وسلم (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) والحزن مُقعِد، قال الله عز وجل (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) ثم قال (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) يعني أنت عليك البلاغ وعلينا الحساب.
/ ثم أخبر الله عز وجل أنهم ممتَّعون (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) والعجيب في القرآن أيضاً الاستطراد كل ما جاء التمتيع مع القِلّة في الغالب أنه تهديد وكل متعة في الدنيا كائنة فكيف إذا وصفت بالقلة؟ كل متعة في الدنيا مقارَنة بما يجده أهل الإيمان في الآخرة ومقارَنة بقِلّة الدنيا للآخرة، لا شيء، (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا) [المؤمنون:112] ولما رأوا طول يوم القيامة قالوا ليس يوماً (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وكأنهم شكوا قال (فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ) [المؤمنون:113] (عشية أو ضحاها) يوم القيامة خمسين ألف سنة! إذا كيف تقارَن هذه الحياة التي هي عشرين، ستين، سبعين، ليست شيئاً أمام الخمسين ألف؟! لا شيء، ومع الخمسين تصير كأنها أطول فإذا قال الله عز وجل (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ) وليس أيُّ عذاب (غَلِيظٍ).
/ ثم عادت الآيات (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) وهذا أيضاً سؤال فيه تذكير لهم، تكرار مثل هذه الآية في سؤال الكافرين وأكثر ما ورد السؤال عنه في القرآن أكثرها وردت في خلق السموات والأرض وأيضاً هم سيُجيبون بأن الله الذي خلقها فتحمد الله عز وجل إذن الحمد لله على وضوح ذلك والحمد الحقيقي ينبغي أن يكون، إذا كنتم تقولون أن هذا من الله فينبغي أن تكون عبادتكم لله سبحانه وتعالى. ختمت الآية أيضاً بقوله سبحانه وتعالى بعد أن بيّن خلق السموات والأرض (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) يعترفون بأن الله هو الذي خلقها (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) هنا ذكر عز وجل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) وهنا أيضاً أقف وقفة: "أكثرهم" يفيدنا هذا "أكثرهم" في القرآن و"أكثر الناس" لو أحصيتم في القرآن "أكثرهم" و"أكثر الناس" مادة واحدة لكن لا تخلطوا بين كثير وأكثر، كثير غير أكثر. (أكثرهم) جاءت في 63 موضع (أكثرهم) لا تخلطوا معها "كثير" جاءت في 63 موضع أكثر من 26 موضعاً (أكثرهم لا يعقلون، لا يعلمون، لا يرجعون، لا يؤمنون، لا يهتدون، لا يتقون، لا يتضرعون) وردت كثيراً لكن أكثرها (لا يعلمون) يكاد النصف، وتجد (لا يشكرون) (لا يؤمنون) (لا يتضرعون) هذا يدلّ على أن عِلّة الجهل هي المصيبة والله عز وجل هو الذي يخبرنا أن الكثرة الكافرة – وهذه مسؤولية طلاب العلم لابد أن يُعلموا الناس حتى يعلم الناس ونستطيع بهذا أن ننتهي من مشكلة أكثر الناس هذه أو ننتهي على الأقل من ثلث هذه المشكلة كما قلت لكم والآيات ترشد ولذلك هذا أيضاً يعطينا عطف وعَذر لأولئك الجُهّال، طالب العلم يحمل مسؤولية البيان والإيضاح لأن أصل كل بلاء الجهل وعدم العلم.
قال الله عز وجل (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذه الآية تدلنا على سعة علم الله عز وجل وحكمته فهو سبحانه وتعالى الذي له ما في السموات والأرض. والعجيب (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ما تأتي (بينهما) ولا تأتي مع (من في السموات).
و(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذه لغير العاقل، وإذا جاء للعاقل (لله من في السموات). قال الله سبحانه وتعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
ثم جاءت آية بيان سعة حكمة الله عز وجل (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) وهذه سعة كلمات الله وسعة حكمة الله عزّ وجلّ، إذا كانت بهذه السعة وهذا القرآن بين أيدينا فلماذا نبحث عن الحكمة والحكماء من غير هذا الكتاب؟! كما قال الله عز وجل في سورة الكهف (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف:109] وخُتِمَت (مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) تأكيد (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ما دام بهذه السعة لِمَ العقوبة؟ لأنه حكيم سبحانه وتعالى.
/ ثم قال الله عز وجل (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) لا فرق بينكم وبين غيركم إلا كنفس واحدة. لعلنا نكتفي بهذا ونتابع وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المجلس الثاني
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٢٧﴾ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿٢٨﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. نأتي بعد ذلك إلى آيات النظر والتأمل والحكمة وقلت إن الآية السابقة كانت:
(ألم تروا) ثم (ألم ترَ) ثم (ألم ترَ) مرة أخرى لهذا السرّ فقال الله عز وجل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) والإيلاج هنا كأنه تذكير أن الله عز وجل قال (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إن كان عندكم إنكار لذلك أو استبعاد لذلك فتأملوا وانظروا نظر الحكيم المتأمل في إيلاج الليل على النهار وإيلاج النهار، يدخل هذا على هذا ويخرج هذا من ذاك. وجاء الإيلاج في أربع آيات والعجيب أنه دائماً يُبدأ بالليل، والليل أهمّ من النهار في القرآن يعني تجدون الشمس والقمر متقاربة، السماء والأرض متقاربة، الليل والنهار لا، الليل في عناية القرآن نزل بالليل أيضاً والقرآن يحب الليل أكثر لأنه نزل بالليل (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:6] ولذلك قدّم الليل (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) والقسم بالليل أكثر من القسم بالنهار فجاء هنا، ينبغي التنبيه وعناية القرآن بذكر الليل والإحسان به بل جاء في 58 آية الليل والنهار جاء ثلث هذا العدد قريب من العشرين أو الواحد والعشرين آية وأقسم الله عز وجل بالليل في سبع آيات وبالنهار في آيتين لأنه -كما قلت لكم- القرآن نزل بالليل والليل فيه الهدوء والتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى وفيه الخفاء. ثم قال الله عز وجل (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) مثل ما قلنا في (سَخَّرَ) التسخير الأول ما هو؟ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ) التسخير للشيء كما قلنا المقهور فالله عز وجل سخّر الشمس والقمر هذه الأجرام الكبيرة سخّرها الله عز وجل وليس أي تسخير، تجري بأمر الله عز وجل، يعني كيف أنها تجري هذا الجريان على قوة خلقها وتستمر في الجري لولا هذا التسخير من الله ولكن هذا لا يتأمل فيه إلا حكيم، الكون يسير وفق نظام لكن عندما يحصل أي خلل يجعل الناس أهل البصيرة ينتبهون إلى ذلك، (سَخَّرَ) جاء التذكير بها في أكثر من ستة عشر آية، أكثر التسخير جاء في الشمس والقمر سخّرها بالجري وبأن جعل القمر ضياءً وجعل الشمس سراجاً، وأيضاً (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)) [يس] وأكثر ما جاءت المنّة في التسخير كما قلنا في هذا ليس بالشمس والقمر فقط بل بالجريان لأنه آية عظيمة والجريان كما قال العلماء هو المشي السريع، هذا الجري الكبير والسريع في هذا الكون (إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) ما هو الأجل؟ قيل يوم القيامة يعني تسخيرها يدوم إلى أن تنقضي ما في هذه الأكوان، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن الشمس والقمر اختارها الله لشهرتها وتسخيرها للناس.
ثم قال سبحانه وتعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) المتأمل في هذا الخلق والناظر نظر حكمة وتأمل يجد أن الله هو الحق وما دونه من معبودات باطل (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ) الأعلى وهو (الْكَبِيرُ) المستحق للعبادة.
ثم أيضاً جاء الأمر بالنظر مرة أخرى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) والفلك جريانها في البحر آية، لماذا هذه الخاصية في الفلك وهذا الخشب فيه هذه الخاصية وبقية الأشياء لا يمكن أن تبقى صامدة في هذا البحر (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) وأيضاً تسير حتى مع هذا الفلك ولولا فضل الله عز وجل ورحمته لحصل كثير من الرياح (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ) [العنكبوت:65] لأن الفلك عُرضة للهلاك بسبب ما يأتي لهذا الكون من رياح.
(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ)، هنا في قوله سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ) هذا هو الثالث كما قلت في طلب النظر في هذا السورة -سورة الحكمة- جيء به للتخلص منه إلى اتخاذ فريق من الناس -هذا هو السر عندما جاء بالفلك- جاء به للتخلص لفريق من الناس بدل أن يشكروا الله في حال نظر نعمة الفلك يشكر غير الله ويشرك مع الله يعني المفترض أن من ركب الفلك يكون أكثر الناس شكراً وأكثر الناس حكمة واهتداء، هو يهتدي في تلك الساعة ساعة اشتداد الغرق ثم يعود لجهله مرة أخرى ولذلك قال الله (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ثم بعد ذلك (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) جيء إذاً هنا بآيات الفلك والأمر بالنظر في الفلك لهذا السرّ ولذلك لاحظوا الختام أيضاً يسير مع هذا المسير (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) ولذلك حتى في الختام في الآية السابقة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) ثم قال في ختامها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قلنا إن لفت النظر لهذه الآية لتبيّن فضل الصبر والشكر، فضل الصبر عند ورود هذه المصيبة وهي غشيان الموج وأي موج يأتي في الحياة ومكدرات الحياة ولكن هنا في البحر بالذات، والشكور الذي يشعر بعد أن ينجو أن هذا من الله عز وجل. ثم بعد ذلك ثنّت الآية (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ) فكأن ختام الآية السابقة مقدّمة للآية اللاحقة.
ثم قال بعد ذلك الله عز وجل بعد ذلك (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) ختمت هذه السورة بهذا ولاحظوا أن في القرآن أيضاً جاء (لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) ولكن هنا نصّ على الوالد والولد لماذا؟ لأنهم مع الكفار هناك فبعضهم مسلمين الآيات نزلت وبعضهم كافرين فبعضهم -من الكافرين- يتصور أنه مادام ابنه مسلم أو العكس أنه قد يجزئ هذا عن هذا فجاءت الآيات لتقطع هذا الجزاء فيقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) إذاً كأن ما سبق توجيه لكل فريق على حدة، فلعل في ختام السورة توجيه للفريقين وكما قلنا ذكر الوالد والولد لأنهما أشد محبة وحمية فيعلم أن غيرهما لن يجزئ، وأيضاً حتى لا ترد الشبهة التي قلنا للنجاة والتقوى (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً) [البقرة:48] فهنا جاء بالوالد والولد وهذه الآية مكية وأهلها خليط بين مسلمين وكافرين فقد يتوقع إن الكافر ينفع إبنه المسلم أو أن أباه ينفعه فقطعت هذه الصلة.
(فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ) الغرور هنا يعني ما ظاهره خير ولكن باطنه غير ذلك، والحياة كثير ما تغرّ الناس، تغر ببهجتها وما فيها من الزينة فيغتر الناس بهذه الحياة ويتوقعون أنهم في بقاء واستمرار في هذه الحياة.
ثم قال الله عز وجل بعد ذلك (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) كان من جملة غرور الكافرين دائماً أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقت إمارة الساعة أنها غير واقعة لأنهم يقولون (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [يونس:48] فقال الله عز وجل وأسكتهم بهذا (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) "إن" هنا أفادت التأكيد بحرف التحقيق والله عز وجل وحده عنده علم الساعة ووقت وقوعها عنده لا عند غيره إشارة لاختصاصه سبحانه. (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) عنده وقت نزول الغيث لاحظوا عنده العلم اليقيني بوقت نزول الغيث لا وقت الإخبار، الإخبار قد يخبر به الناس -يتوقعونه- لكن علم النزول، لا.
(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ) يعني تجهل أخصّ الأحوال، إذا هم يسألون الآن يقولون لماذا لا يخبرنا عن الساعة؟ نريد أن نعرف الساعة أنتم الآن لا تعرفون ماذا تكسب كل نفس غداً لماذا هذا الجهل في أحوالكم الخاصة لا تعلمون (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) مع حرص النفس على أن تعرف هذين الأمرين يعني النفس حريصة كل الحرص على أن تدري ماذا تكسب وبأي أرض تموت ومع هذا الحرص لا تعلم فإذا كنتم جهالاً في هذا الباب فلماذا تبحثون في ذاك الباب؟! ولذلك قال الله عز وجل (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) سبحانه بالنسبة لعلم الأرحام قلنا الله سبحانه وتعالى يعلم ما في الأرحام من الخلق لكن لا يلزم من الذكر والأنثى لأن الملك بعد أربعة أشهر ينفخ فيه ويسأل أذكر أم أنثى؟ فالملك علم ولكن المراد بعلم الأرحام ليس فقط كما حصرها الناس في الذكورة والأنوثة، لكن ما في الأرحام خلق كامل غير كامل ما هو هذا الخلق يعني تفاصيله كل هذه الله سبحانه وتعالى وأيضاً علم الذكر والأنثى محجوب في الأيام الأولى.
------------------------------------------------
1- ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً) [نوح:15]
1- ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً) [نوح:15]
2- (
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ..) [الأنعام:6]
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق