الجمعة، 20 يوليو 2012

دلالة ( يصنعون ) في القرآن الكريم

قال الشوكاني في تفسيره لآية سورة المائدة : (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) " ثم وبخ علماءهم في تركهم لنهيهم فقال : (لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) وهذا فيه زيادة على قوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) لأن العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرّب فيه صاحبه، ولهذا تقول العرب : "سيف صنيع" إذا جوّد عامله عمله فالصنع هو العمل الجيد لا مطلق العمل، فوبخ سبحانه الخاصة، وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بما هو أغلظ وأشدّ من توبيخ فاعل المعاصي ". اه إذا الصنع هو عمل وصل مرحلة الإتقان والإتقان يحصل بسببين :
- مزاولة شديدة
 - عناية فائقة به وهذه العناية ناشئة من غلبة إرادة معينة .
الآيات :
الآية الأولى : قوله تعالى : "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" [النور : 30] لم يجتمع " خبير " مع " يصنعون " إلا في هذا الموضع من القرآن فهي من أفراده جاء الأمر في الآية بغض البصر وحفظ الفروج وخلافه نقيصتان تنقص كمال الإيمان وتجرح المروءة لذلك هما مما يُخفى عادة ، بل ويُحرص أشد الحرص على إخفائها لذا : - جاء باسم الخبير- المختص بعلم بواطن الأمور - وجاء بفعل ( يصنعون ) الذي يدل على عناية فائقة للإخفاء ، وعلل البقاعي لذلك بالحياء والحياء من الإيمان لذلك خوطبوا بهذا في أول الآية ، جاء في نظم الدرر  "ولما كان المقام صعباً لميل النفوس إلى الدنايا واتباعها للشهوات، علل هذا الأمر مرغباً ومرهباً بقوله : إن الله أي الذي لا يخفى عليه شيء لما له من الإحاطة الكاملة خبير ولما كان وازع الحياء مع ذلك مانعاً عظيماً فلا يخالف إلا بمعالجة وتدرب، عبر بالصنعة فقال: بما يصنعون أي وإن تناهوا في إخفائه، ودققوا في تدبير المكر فيه."اه 

 الآية الثانية : لكن جاء الحق - باسمه ( العليم ) مع ( يصنعون) في سورة فاطر : قال تعالى : "أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" [فاطر : 8] وتوجيه ذلك :
أولاً : أن المشركين كانوا يجاهرون بعداوة النبي عليه الصلاة والسلام فجاء باسمه العليم -جل في علاه -.
ثانياً : جاء بلفظ يصنعون دون غيره لأن الفئة الضالة المخاطبة في أول الآية تعتقد أنها على الحق- "زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا" - ومن كان هذا حاله كان سعيه أشد .
 قال البقاعي : " (بِمَا يَصْنَعُونَ) أي مما مرنوا عليه وانطبعوا فيه من ذلك حتى صار لهم خلقاً يبعد كل البعد انفكاكهم عنه."اه
وقال الطاهر بن عاشور : "وعبر بـ " يصنعون " دون : يعملون ، للإشارة إلى أنهم يدبرون مكائد للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين" .اه والمكائد تحتاج إلى تدبير وتخطيط ما لا يحتاج إليه العمل الظاهر .

الآية الثالثة : الرحمة العظيمة ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل] فلم يعذبهم حتى جعلوا كفر النعم صناعة . جاء في إرشاد العقل السليم : "وفي صيغة الصنعة إيذانٌ بأن كفرانَ النعمة صار صنعةً راسخةً لهم وسنةً مسلوكة".اه  .
وقريب من ذلك قوله تعالى : "وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ " [الرعد : 31] قال أبو السعود : "وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ من أهل مكةَ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وعدمُ بـيانه إما للقصد إلى تهويله أو استهجانه وهو تصريحٌ بما أَشعر به بناءُ الحكم على الموصول من علّية الصلةِ له مع مافي صيغة الصنعِ من الإيذان برسوخهم في ذلك . وقال : وفيه دِلالةٌ على أن ما يصيبهم عند ذلك من العذاب في غاية الشدةِ وأن ما ذكر سابقةُ نفحةٍ يسيرة بالنسبة إليه ." اه ، والجزاء من جنس العمل .
 وقريب منه أيضاً قوله تعالى : "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ" [الأعراف : 137] فإذا كان " النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ " فإن الهلاك والدمار مع صناعة الكفر . جاء في تفسير الدر المنثور للسيوطي : "وأخرج أبو الشيخ عن قتادة ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه قال : إن الله تعالى لا يملي للكافر إلا قليلاً حتى يوبقه بعمله." اه ، مع أن عامة المفسرين جعلوا يصنعون ويعرشون بمعانٍ متقاربة .

في ختام هذا : إذا كان الصُنع يطلق على مزاولة الكفر مزاولة شديدة فهل يطلق على العكس أي على إتقان العبادة هل ورد في القرآن الكريم إطلاق لفظ الصنع على العبادات؟ 
هذا يقود إلى قوله تعالى : "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" [العنكبوت : 45]
العبادة صناعة : أمر الله بعبادتين هما من أجل العبادات ومن أعظم القرب : - تلاوة القرآن - والصلاة ، فأما القرآن فحديث الرب إليك وأما الصلاة فمناجاتك له ، فكلما أتقنت وأحسنت فيهما وجعلتهما صنعتك وهمّتك كلما ازددت قربا وفي الحديث القدسي "وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا " وأفاد ذكر العلم في صورة الجملة الفعلية التجدد والحدوث فإنك كلما جددت إحسانَ صنعٍ في عبادة فإن الله يعلم هذا وسيزيدك قربا أكثر بمنه وفضله ، وفي مفاتيح الغيب : "وهذا أحسن صنعكم فينبغي أن يكون على وجه التعظيم ."اه ، لكن ماذا لو لم يحسن العبد في عبادته ، بل بناها على أساس فاسد ؟
يقول الحق - جل شأنه - : ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أما من كانت الدنيا إرادته فكل جنس عمله باطل ( لذلك جاء بالجملة الاسمية التي تفيد الاستمرارية "وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" ) ، لكن ذلك العمل المخصوص الذي تميز به وفُتح له بابه وبذل جهدا أكبر في إتقانه فقد نصّ الحق عليه بالحبوط ... إذا السؤال هاهنا : لماذا ذُكر بالذات مع أنه مشمول بالبطلان مع سائر عمله ؟ لسببين :
- إمعاناً في تبكيته لأنه مهما عظُم العمل فإن أساس القبول هو النية الخالصة
- لأنه قد حصّل عليه الأجر في الدنيا لأن الإنسان عادة يبتغي العلو والرفعة والسمعة والمال ... الخ فيما يحسنه ويتقنه ويتميز به عن غيره ، والله يقول " نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ" وحديث الثلاثة أول من تسعر بهم النار يوم القيامة فيه " فقد قيل ذاك " فقد حصلوا على مبتغاهم الذي طلبوه وانتهى الأمر ، ولعل هذا معنى قولهم ( لكل مجتهد نصيب ) فهؤلاء الثلاثة قد أتقنوا عملهم الديني الذي طلبوا فيه الدنيا لذلك جاء الحبوط وهو عدم النفع مع الصنع لأنهم يرجونه أكثر فقد تعبوا فيه ثم وصف باقي العمل بالبطلان وهو الفساد فلا ثواب فيه أصلاً .
وجعل أبو السعود الصنع لأعمال الدين التي تستتبع الثواب و" يعملون " لأعمال الدنيا حيث قال : "وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا أي ظهر في الآخرة حُبوطُ ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدِّي إلى الثواب لو كانت معمولةً للآخرة أو حبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البِرِّ إذ شرْطُ الاعتدادِ بها الإخلاصُ وَبَـٰطِلٌ أي في نفسه مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ في أثناء تحصيلِ المطالبِ الدنيويةِ، ولأجل أن الأولَ من شأنه استتباعُ الثوابِ والأجرِ وأن عدمَه لعدم مقارنتِه للإيمان والنيةِ الصحيحةِ وأن الثانيَ ليس له جهةٌ صالحة قطُّ عُلّق بالأول الحُبوطُ المؤذِنُ بسقوط أجرِه بصيغة الفِعل المنبىءِ عن الحدوث وبالثاني البُطلانُ المُفصِحُ عن كونه بحيث لا طائلَ تحته أصلاً بالإسمية الدالةِ على كون ذلك وصفاً لازماً له ثابتاً فيه ." اه ، وبين أن الصنع هو الأقل حيث قال : "وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماءٌ إلى أن صدورَ البرِّ منهم وإن كان لغرض فاسدٍ ليس في الاستمرار والدوامِ كصدور الأعمالِ التي هي من مقدّمات مطالبِهم الدنية. "اه .
قلت : ولأنه يندر أن يبرز ويبدع المرء في أكثر من صنعة كما في حديث الثلاثة أول من تسعر بهم النار ( ومن النوادر الصديق وأرضاه ) وأيضا لأنهم فقدوا شرط الإخلاص الذي هو من أكبر دوافع استمرار العمل فالمحب لا يهدأ ولا يكل حتى تحصل له غايته "مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " .
هذا فهمي وتدبري فإن كان صواباً ففضلاً من الله ومنة وإن كان خطأ فمن نفسي والشيطان والله وكتابه منه بريئان والله تعالى أجل وأعلم .
------------------------------------------------------------------------
المصدر: http://www.tafsir.net/vb/tafsir32303/#ixzz211YDkCkq

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق