الثلاثاء، 27 مارس 2012

جـ (8) الوقفة الثانية مع قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ..)



الوقفة هي عند قول الله - جل وعلا - (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الخ الآيات عن الأعراف ونتدارس هذا في وقفتين .
أما قول الله - جل وعلا - (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) جاء بعد الإخبار عمن كفر بالله وسدت في أعمالهم ووجوههم أبواب السماء فقال أصدق القائلين : (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) أخذ العلماء من أهل الأصول من هذه الآية
فائدتين :الفائدة الأولى : أن الواجب يسقط مع العجز ، وأن المحرم يباح عند الضرورة .
(أُوْلَئِكَ) أي أصحاب الإيمان (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) مر معنا أن كلمة "صاحب" هي الاقتران بشيء ما في زمن ما ، فلما كان أهل الجنة يقترنون بها وفيها سموا خالدين فقال (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
قال بعدها (وَنَزَعْنَا) من الذي ينزع هنا ؟ الله .
(مَا فِي صُدُورِهِم) "ما" هنا موصولة أي الذي في صدورهم . من أي شيء ؟ "من" هنا بيانية وليست بعضية ، (مِّنْ غِلٍّ) أحيانا يحصل بين الناس - ولو كانوا خيارا - ما لا يمكن أن ينفكوا عنه فربما مات بعضهم وفيه شيء من العتب اليسير على أخيه ، ولما كانت الجنة دارا طيبة لا يدخلها إلا طيب كان من رحمة الله بأهلها الذين يدخلونها أنهم قبل أن يدخلوها ينزع ما بقي في الصدور من غل فيطيبون أجسادا وأرواحا حتى يكونوا أهلا لدخول الجنة . وفي معركة الجمل مات طلحة بن عبد الله - رضي الله عنه - فوقف علي - رضي الله عنه - عليه فقال "إني لأرجو الله أن أكون أنا" يقصد نفسه "وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ)" .
وهؤلاء يحبسون على قنطرة دون الجنة عندها ينزع هذا ، قال ربنا (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) ثم تبرؤا من كل حول وطول إلا حول الله وقوته فقالوا (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) وشعورك وإيمانك ويقينك بأن الله وحده هو ااذي يهدي أعظم سبيل إلى أن تثبت على الهداية (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) .
ثم إنهم يرون ما كانوا قد وُعدوا به قد وقع ، وما كانت تخاطبهم به الرسل يرونه الآن عيانا ؛ لأن الجنة يا بني غيب ، وعد لم نره .
وإذا هممت فناجي نفسك بالمنى وعدا *** فخيرات الجنان عدات
فنحن لم نر الجنة ، وعدنا بها رسولنا ، فإذا دخل المؤمن الجنة ورأى ما وعدت به الرسل يقول (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فينادون (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) وليست الجنة بعيدة عنهم وإن جاء بـ"تلك" لكن اللام للتعظيم .
(وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا) وقد مر معنا أن الإرث أعظم أسباب أو طرائق التملك (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) والباء باء السبب لا باء العوض والفرق بينهما في المثال التالي :
عندما يأتي إنسان يملك مالا وفيرا فيأتي لرجل لديه بناء فخما ، فصاحب المال الوفير اشترى البناء الفخم أو القصر من صاحبه فليس لصاحب القصر منة على صاحب المال لا يقول له أعطيتك قصري لأن هذا المال عوض عن القصر فهو أخذ المال عوض عن القصر فهذه باء العوض . لو فرضنا أن هذا الرجل نفسه يملك قصرا آخر فقابل ذات يوم رجلا فقيرا من قرابته - ببنهما رحم - فقال له : بسبب الرحم التي بيننا وهبتك هذا القصر ، هل له منة على من أعطاه أو ليس له منة ؟ له منة . فهو قال في الأول الباء الأولى باء عوض أما الباء الثانية باء سبب .
ربنا يقول هنا (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب عملكم الصالح وإلا ليس عملنا - عمل المؤمن الصالح - عوضا عن الجنة .
قال ربنا بعدها (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) هذا يوم تكون فيه نداءات فيخبر الله أن أصحاب الجنة هم الذين يبدؤن فينادون أصحاب النار . نحن لا ندري كيفية الوصول إلى تلك المناداة لأنه غيب حجبه الله عنا .
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) ربنا في الدنيا وعدنا الجنة فنحن نرى الجنة عيانا (فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) وعدكم الله بالعذاب والنكال والنار لأنكم كفار ، فيجيبون - عياذا بالله - (نَعَمْ) . (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أحد يعلن ، من الذي أذن ؟ لم يخبر الله وغالب الأمر أنه ملك (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) .
يقولون إن أحد السلف - ولا أذكره الآن وأظنه أبو حازم - دخل على هشام بن عبد الملك ، وهشام بن عبد الملك خليفة أموي من بني أمية من أبناء عبد الملك بن مروان ، فقال هذا الرجل من السلف لهشام : "يا أمير المؤمنين أذكر يوم اللعنة" خاف عليه أن يظلم ، قال : أين يوم اللعنة ؟ فتلا عليه قول الله - جل وعلا - (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) فأغشي على هشام بن عبد الملك حينها .
المقصود من هذا أن من أراد أن يخوف الناس ، من أراد أن يعظهم ، من أراد أن يرقق قلوبهم لا سبيل له إلا القرأن والسنة ، لا يمكن أن ترقق قلوب في المسجد أو في غيره بطرائق لا حاجة للتفصيل فيها .
العلم الحق ، السبيل الأعظم هو نور الوحيين القرآن والسنة .أنا أعرف رجلا كندي الجنسية يجلس في المدينة عند العلماء يأخذ عنهم العلم وقد هدى الله على يديه مشاهير في الولايات المتحدة وفي غيرها ، وجاءني في المدينة بصور معهم كيف كان حالهم قبل إسلامهم وحالهم بعد إسلامهم وزارني منهم في مكتبي كثير من المشاهير ، موضوع الشاهد الذي نريد أن نصل إليه : لا يقولن أحد إن هؤلاء المشاهير أو غيرهم لهم طرائق ، يحتاجون إلى كذا ، التسلية شيء مباح أما الدعوة شيء مقدس ولا يمكن أن يدعى الناس إلا بنور الوحيين ، بكلام الله وكلام رسوله ، والفيصل بيننا وبين أي أحد كلام الله ، والله يقول (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) فمن أراد أن يرشدهم بغير كلام الله إنما يحاول أن يعالجهم بدواء ليس لدائهم أبدا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق