الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين أما بعد :
هذه هي الوقفة الأولى من الجزء الثامن من كتاب ربنا - جل وعلا - قال أصدق القائلين (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ*وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ثم جاءت بعدها آيات .
يقول أصدق القائلين (وَإِذْ) وكل "إذ" في القرآن تتكلم عن شيء مضى والمعنى : واذكر إذ .
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) إبراهيم هو خليل الله وأفضل الأنبياء - على الصحيح - بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
بما أن الأفهام تختلف لابد أن النتائج في النظرة للنص الواحد تختلف . أهل النسب المعنيون بعلم الأنساب يقولون ليس في نسب إبراهيم أب لصلبه مباشر اسمه آزر ، يقولون هو إبراهيم بن تارح ليس بن آزر ، وربنا يقول هنا (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) .أجابوا عن هذا بتخريجين :الأول : قالوا الدليل الأول على أنه ليس أباه الذي إبراهيم ولده لصلبه أنه لو كان أباه لما قال آزر ، وأتوا بمثل: قالوا لو أن رجلا له أخوال أحمد ومحمد وعلي ، فإن قال جاءني خالي أحمد فهذا تمييز لأحمد عن علي ومحمد لكن لو أن من حوله يعرفون أنه ليس له قريب أخوال إلا واحد يقولون هذا لا حاجة له لأن يقول خالي فلان لأن الرجل لا يعرف له إلا خال واحد ، فقالوا الرجل ليس له إلا أب واحد فلو كان آزر أباه لما قال الله (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) . طيب كيف تخرجون كلمة "لِأَبِيهِ" ؟ قالو : هذه صيغة ، كيف هي صيغة ؟ قالوا : إن الأب في القرآن جاء تسمية للعم قال الله (أم كنتم ....) ومعلوم قطعا بالإجماع أن يعقوب ليس إسماعيل أبا له ، إنما هو عمه لأن اسحاق أخ لإسماعيل وإسحاق والد ليعقوب فهو يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم وأما إسماعيل عمه ومع ذلك سماه الله أبا . قالوا هذا دليل لنا على أن آزر ليس أبيه لنسب .
لكن يشكل على هذا حديث آخر ورد يوم القيامة أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يرد يوم القيامة وأنه يرى أباه آزر .
الذي يعنينا هنا وهو الذي أردت إيصاله إليك ألا تعجل في الحكم على أحد من المفسرين فالطرائق في فهم الآيات تختلف من أحد لأحد .
قال الله (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً)"اتخذ" من حيث الصناعة النحوية فعل متعد إلى مفعولين فالمفعول الأول هنا هو كلمة "أصنام" والمفعول الثاني "آلهة" والمعنى : كيف تجتزيز أنت وقومك ورهطك وأصحابك أن تجعلوا هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر آلهة تعبدونها ولذلك قال (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) .
قال الله بعدها (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) ثم أتى بلام التعليل قال (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) التأمل في ملكوت السموات والأرض ببصيرة هو الذي يورث اليقين . الله لما أتى بأشرف الرسل وخيارهم رزقهم اليقين ، ولما أراد برحمته أن يرزقهم اليقين رزقهم الأسباب التي تورث اليقين فجعلهم يرون ملكوت السموات والأرض . "ملكوت" هي نفسها كلمة "ملك" الزيادة فيها للمبالغة . لم يقل الله لنا ولم يخبرنا كيف أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أما نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عرج به إلى سدرة المنتهى فرأى ملكوت السموات والأرض حتى يكون على بينة في دعوته - عليه الصلاة والسلام - ، يخبرنا عن السماء وقد طرق أبوابها ، يخبرنا عن الجنة وقد رأى أهلها ويخبرنا عن النار وقد اطلع عليها ، ويخبرنا عن القبر وقد اسمعه الله شيئا مما يكون في القبر ، لكن أنا وأنت كيف السبيل ؟ إما أن تقرأ في كتب التاريخ ، في أحداث الزمان ما يجعلك على يقين أن الأمور تدبر في الملكوت الأعلى .
الحالة الثانية : أن تتأمل بيقين واقع الناس فيمن حولك لعرفت أن الكون محال أن يكون الناس قد خلقوا عبثا (أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) قراءة مثل هذه الآيات ، تدبرها ، يزيد المرء به يقينا ، هذا كلام الله ، ثم الأحداث التي تقع بين عينيك ، ثم قلب كتب التراجم وكتب التاريخ سترى فيها أشياء والله يشيب لها الولدان لكن يؤمن المرء بها أن هناك خالقا - جل جلاله - لا أحد يخلق ولا أحد يرزقك ولا أحد يقدم ولا أحد يؤخر إلا هو سبحانه وبحمده .
نعود للآية : قال الله (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ثم ذكر الله مجادلة وقعت بين إبراهيم وقومه قال (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) "جن" بمعنى أظلم ، وهذا الحرف في اللغة - الجيم والنون - تعني الاستتار ، يقال للجنين في بطن أمه جنين ، ونحن لا نبصر ندنا من الجن فيقال لهم جن ، والجنة مستترة فيقال لها جنة ، فالله يقول (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أظلم (رَأَى كَوْكَبًا) وإبراهيم كل بوم يرى الكواكب لكنه يخاطب أناس لا عقول لهم ، (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) فاقتنعوا أن إبراهيم يريد أن يصل إلى الحقيقة (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) وهم عبدة كواكب (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فهناك رب يهدي لكن أنا وأنتم نبحث عنه نريد الطريق إليه ، (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) وأتى بقرينة " أكبر" حتى يظهر لهم أنه يريد أن يقنعهم ، (فَلَمَّا أَفَلَتْ) كشف اللثام وأقام الحجة وأوضح المحجة ، قال الله (قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) فهو - عليه السلام - إمام الحنفاء لا ينازعه في ذلك أحد قال الله لنبيه (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) ومعنى الحنف في اللغة : الميل ، فهو مال عن طريق معوج ، عن طريق قومه ، فلما مال عن الطريق المعوج وصل إلى الطريق السوي ، إلى الطريق المستقيم فقالها لقومه (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فكما أعلن الإيمان تبرأ من الشرك ولهذا رزقه الله القبول في الأمم فنحن الآن في كل صلاة نذكره بالصلاة والسلام عليه ، وتمنت كل أمة أن يكون إبراهيم منها ، اليهود زعموا أن إبراهيم منهم ، والنصارى زعموا أن إبراهيم منهم ، ومشركوا قريش - على كفرهم - زعموا أن إبراهيم منهم ، فبرأه الله من كل هؤلاء قال الله (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثم قال (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ) فلا نحن في الذين اتبعوه في زمانه ولا نحن النبي المقصود بقيت واحدة (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ) فكل مؤمن ولي لإبراهيم وحتى أطفال المسلمين سئل عنهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقال : (هم في كفالة إبراهيم وسارة في جبال على الجنة ) .
قال الله بعدها (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) فهل بمكن أن يخزى أحد تولى الله - تبارك وتعالى - شأنه وهداه إلى أن يتبع ملة أبي الأنبياء وإمام الحنفاء - صلوات الله وسلامه عليه - ، ومن إجلال رسول الله له أنه لما دخل الكعبة رأى فيها صورة إبراهيم صنعتها قريش يستقسم بالأزلام فقال - صلى الله عليه وسام - (قاتلهم الله ما لشيخنا وللأزلام) فهو سيد الرسل وأشرفهم - عليه السلام - ويقول عن إبراهيم بأنه شيخه لأن إبراهيم والده ولهذا لما رحب به في رحلة المعراج قال - عليه السلام - "مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح" فهو في عمود نسبه . جعلنا الله وإياكم من أوليائه وخاصته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق