الاثنين، 24 يناير 2011

الوصايا العشر في أواخر سورة الأنعام للشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -

قال تعالى في آخر سورة الأنعام:
  (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام:151)
 (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام:152)
 (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153)
 يمكن القول إن جميع الدين وصية من الله -عز وجل- ، كل الدين وصية من الله كما قال الله تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) [ سورة الشورى، الآية: 13] ، هذه وصية عامة (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) كلمتان اشتملتا على الدين الإسلامي كله وعلى توجيه المجتمع الإسلامي أن يقيم الدين وأن لا يتفرق فيه ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [ سورة النساء، الآية: 131]. لكن سميت هذه الوصايا بالوصايا العشر لأن الله تعالى جمعها في مكان واحد وكان يختم كل وصية منها أو كل آية منها بقوله تعالى : (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) [ سورة الأنعام، الآية : 151] .
إن الوصية هي: العهد بالشيء عهداً مؤكداً، فكأن الله تعالى عهد إلينا بهذه الأشياء عهداً مؤكداً محتماً علينا فبدأ:- بقوله عز وجل : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) [ سورة الأنعام، الآية: 151] . والخطاب هنا للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمره الله تعالى أن يقول هذا القول للناس عموماً. وأمر الله عز وجل لرسوله أن يقول للناس هذا هو أمر خاص وإلا فإن الله تعالى قد أمر نبيه على وجه عام أن يبلغ القرآن لكل الأمة.
 ( مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) أي ما حرم ربكم عليكم مخالفته، فهذه الأشياء التي سيوصي بها الله قد حرّم الله علينا مخالفتها، فلابد أن نقوم بها على الوجه الأكمل ، وفي قوله تعالى: (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) ولم يقل : ما حرم الله لأن الرب هو الذي له التصرف المطلق في المربوب فالرب هو الرب ويقابله العبد كما قال الله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[سورة الفاتحة، الآية:1] فوصف الله نفسه بأنه رب للعالمين كلهم، والرب هو الذي يملك أن يتصرف فيهم بما شاء من الأمر الكوني والأمر الشرعي .
 الوصية الأولى : (أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ) أي أن لا تجعلوا معه شريكاً والنهي عن الشرك بالله يشمل ثلاثة أقسام:
 القسم الأول: النهي عن الشرك به في ربوبيته.
 القسم الثاني: النهي عن الشرك به في ألوهيته.
القسم الثالث: النهي عن الشرك به في أسمائه وصفاته.
 القسم الأول : الشرك في الربوبية من المعلوم أن الله عز وجل هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ) [فاطر، الآية: 3] أبداً, الخالق هو الله وحده ولهذا حرم الله عز وجل أن يخلق أحد مثله ولو بالصورة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في المصورين : أنه يقال لهم : (أحيوا ما خلقتم) فلا يمكن أن يشرك بالله في خلقه أو ملكه أو تدبيره فمن اعتقد أن لله تعالى مشاركاً في الخلق فقد أشرك به ،لو قال : إن هذا بمقتضى الطبيعة وهذا بمقتضى الزمن وهذا بكذا وكذا مما يضاف إلى غير الله فإنه مشرك بالله ومن العجب أن هذا الشرك أعني الشرك في الربوبية لا يذهب إليه، ولا الكفار الذين قاتلهم النبي -صلى الله عليه وسلم -. الكفار الذين قاتلهم النبي -عليه الصلاة والسلام- هل كانوا يشركون في الربوبية ؟ الجواب: لا (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ). ويُقِرون بأن الله هو الخالق ولكن يوجد في عهدنا هذا من يكابر وينكر الخالق ويدعي -والعياذ بالله- أن هذا الكون ليس له مدبر وليس له خالق وإنما هي أشياء تتفاعل ويتولد بعضها من بعض وأرحام تدفع وأرض تبلع وليس هناك خالق. ولكن عجباً لهؤلاء كيف ينكرون أن يكون للعالم خالق وهم يعلمون أنه لا يمكن أن يوجد الشيء بلا مُوجد هل يمكن أن يوجد الشيء بلا موجد؟ أبداً ، لأنه إما أن يُقال : أوجد نفسه أو وُجد بلا موجد والأول ممتنع ،لا يمكن أن يُوجِد الشيء نفسه لأنه قبل الوجود كان عدماً والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يُوجِد شيئاً ولا يمكن أن يوجَد بلا موجِد ولهذا قال الله -عز وجل-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ). [الطور، الآية: 35]. إذاً فلابد من مُوجد وهو الله عز وجل هو الذي أوجد هذا الكون وخلقه بقدرته ودبره بحكمته. من الشرك في الربوبية أن يحلف الإنسان بغير الله لكنه شرك لا يخرج من الملة إلا أن يعتقد الحالف بأن المحلوف به له من العظمة ما لله عز وجل فيكون شركاً أكبر وإلا فهو من الشرك الأصغر ودليل ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " وقال -عليه الصلاة والسلام- : "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " لكن لو قال القائل : "ورسول الله" ،وحلف بالرسول -عليه الصلاة والسلام- وقال : إن رسول الله هو أعظم الخلق فلماذا لا يجوز القسم به ؟ فالجواب : أن أعظم الخلق هو الذي قال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" فيكون الحلف بالنبي من الشرك. فإذا قال إنسان: إن بعض الناس يجري على لسانهم هذا القسم يقول : "والنبي" بدون قصد ؟ فالجواب : أن نقول : إذا كان بغير قصد فإنه يلزمه أن يطهر لسانه منه، وأن لا يعود نفسه على هذا القسم المحرم حتى يتخلص منه.
 من الشرك بالربوبية أن يتخذ الإنسان أنداداً يشرعون تشريعات تخالف شرع الله، فيوافقهم فيها مع علمه بمخالفتها للشريعة، ولهذا ترجم الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ترجم على ذلك في كتاب التوحيد بقوله : " باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أربابا" فإذا وجد قوم يتبعون القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية مع علمهم بمخالفتها للشريعة فإننا نقول: هؤلاء قوم مشركون لأنهم اتخذوا حاكماً يحكم بين الخلق غير الله عز وجل ومن المعلوم أن الحكم بين الخلق من مقتضيات الربوبية فقد اتخذوهم أرباباً من دون الله ولهذا يروى من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال للرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) قال : يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم قال: " أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه" قال: نعم يا رسول الله قال: " فتلك عبادتهم" فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا من الشرك ولهذا منع النبي -صلى الله عليه وسلم- من طاعة ولي الأمر في معصية الله منع من أن يطاع أحد من الخلق في معصية الله. فقال عليه الصلاة والسلام "إنما الطاعة في المعروف" . فقد أرسل سرية وأمَّر عليهم رجلاً وقال لهم: أطيعوا أميركم. فغضب عليهم الأمير ذات يوم وقال : اجمعوا لي حطباً فجمعوا حطباً ثم قال : أوقدوها النار فأوقدوها النار ثم قال : ادخلوا فيها . طاعتهم في جمع الحطب صحيحة، وطاعتهم في إضرام النار صحيحة. لكن لما قال : ادخلوها توقفوا وقالوا : كيف ندخل في النار ونحن لم نؤمن إلا فراراً من النار فامتنعوا ولم يدخلوها فلما رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبروه الخبر قال: " إنهم لو دخلوا فيها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف ". إذاً متابعة الكبراء في مخالفة شريعة الله من الشرك بالربوبية لأن الحكم بين الناس من مقتضيات الربوبية والسلطان.
 القسم الثاني: الشرك في الألوهية وهذا هو الذي يكثر بين الناس، وهو الذي كان عليه المشركون في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. فكيف يكون الشرك في الألوهية؟ يتخذ الإنسان مخلوقاً من المخلوقات يعبده ويتأله إليه كما يعبد الله عز وجل يسجد للصنم يسجد للشمس يسجد للقمر يسجد للقبر يسجد للكبير يسجد لأبيه يسجد لأمه.. وهكذا. المهم أن يتعبد لمخلوق، نقول: هذا شرك في الألوهية لأنه اتخذ هذا المعبود إلهاً يعبده من دون الله. ومن ذلك : هؤلاء الذين يذبحون القربان للقبور يذبح عند القبر قرباناً ليتقرب به إلى صاحب القبر يعظمه بالذبح كما يعظم الله تعالى بالذبح هذا أيضاً من الشرك الأكبر المخرج عن الملَّة لأن الله يقول: (أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا )[الأنعام، الآية : 151]. وهذا الشرك هو الذي دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- المشركين إلى نبذه. ولما أبوا قاتلهم فاستحلّ دماءهم وسبى ذريتهم وغنم أموالهم لأنهم مشركون.
 هل تعلمون أحداً دعا إلى عبادة نفسه من البشر؟ نعم، فرعون دعا إلى عبادة نفسه وقال لقومه: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص ، الآية :38] يقول ذلك وهو يكذب فهو يعلم أن هناك إلهاً غيره، ولهذا قال له موسى: ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ ) [الإسراء ، الآية : 102] ولم ينكر فرعون. موسى كان يخاطبه بهذا ولم ينكر بل أقر وكان هو وقومه يقرون بذلك كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا). (النمل، الآية: 14).
 القسم الثالث: الشرك في أسماء الله وصفاته الشرك في أسماء الله وصفاته أن يجعل الإنسان لله مثيلاً فيما وصف به نفسه كلنا نقرأ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )[طه، الآية: 5]. والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الله جاء في الحديث: " أن السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة ". إذاً مخلوق عظيم اختصه الله عز وجل بالاستواء عليه. هل أنت أيها الإنسان تستوي على الفلك؟ تستوي على البعير ؟ تستوي عليه؟ استمع: (وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ ..) [الزخرف، الآيتان:12- 13]. وقال الله تعالى لنوح: ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (المؤمنون: الآية: 28).
 لو قال قائل : إن استواء الله على عرشه كاستوائنا على الفلك أو على البعير، نقول : هذا مشرك لأنه جعل صفة الخالق كصفة المخلوق فجعل لله تعالى شريكاً في الصفة ولكننا نقول: نحن نؤمن بأن الله استوى على العرش لكن بدون تمثيل لا مثيل لاستوائه كما لا مثيل لذاته عز وجل وهكذا بقية الصفات. إذاً من أثبت الصفات مع التمثيل فهو مشرك لأنه شرك بين الخالق والمخلوق في الصفة. لكن ما تقولون فيمن نفى حقيقة الصفات هل يكون ممثلاً؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "كل معطل ممثل، كل من عطل فقد مثل" الذي ينكر الصفات هو منكر وممثل ، قد يقول قائل : كيف يكون منكراً وممثلاً لأن التمثيل إثبات والإنكار نفي وهل هذا إلا جمع بين النقيضين؟ نقول : استمع: لماذا عطل المعطل صفات الله؟ لأنه اعتقد أن إثباتها يستلزم التمثيل . قال: أنا لو أثبت الصفة إذاً أثبت التمثيل إذاً يجب أن أنكر حقيقة الصفة لأسلم من التمثيل فمثل أولاً وعطل ثانياً.

 الوصية الثانية : (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فجعل الله تعالى حق الوالدين بعد حقه ومن هما الوالدان ؟ هما الأم والأب، وحق الأم آكد من حق الأب، ولهذا سُئِل الرسول -عليه الصلاة والسلام -: " من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أمك قال : ثم من؟ قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : أمك. قال : ثم من ؟ قال : أبوك" وذلك لأن الأم تعاني من الولد أشد مما يعاني الأب. قال الله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين) [سورة لقمان، الآية: 14]. والإحسان إلى الوالدين يكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بالمال. الإحسان بالقول أن يقول لهما قولاً ليناً لطيفاً كريماً بحيث يناديهما مناداة إجلال وتعظيم حتى إن بعض العلماء قال : يُكره أن ينادي الإنسان أباه باسمه مثلاً إن كان أبوك اسمه محمد لا تقول : يا محمد قل : يا أبتي، إبراهيم -عليه السلام- يقول لأبيه وأبوه كافر يقول له : يا أبتِ لم تعبد ، لأن هذا من باب الإكرام ، حتى إذا بلغ الوالدان سناً كبيراً يحصل منه شيء من التعب فإن الله تعالى يقول : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) [ سورة الإسراء، الآية: 23]. بعض الناس إذا كبر الوالد عنده أو الأم ملَّ منهما وصار ينهرهما وصار يقول لهما قولاً خشناً الله ينهى عن ذلك (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ) معنى ( أف ) يعني أتضجر منكما (وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) بالقول في الصراخ أو العتاب أو ما أشبه ذلك (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ) ليناً لطيفاً تقرُّ به أعينهما. هذا الإحسان بالقول إننا نرى بعض الناس يلين بقوله مع زوجته ولا يلين بقوله مع أمه، وهذا مشاهد ،تجده مع الزوجة يلين لها ويخضع لها ولا ينهرها لكنه مع أمّه بالعكس بل مع أبيه إن تمكن وهذا خلاف ما أمر الله به. الإحسان بالفعل يكون بالخدمة والقيام بمصالحهما. الخدمة البدنية إذا عجزا ساعدهما حتى عند المنام وعند القيام وعند الجلوس يجب على الإنسان أن يقوم ببر الوالدين عند العجز فيعينهما بكل ما يحتاجان إليه من عون. الإحسان بالمال يجب أن يحسن إليهما بالمال بأن يبذل لهما كل ما يحتاجان إليه من نفقة، كسوة طعام، شراب، سكن إذا كان يقدر على هذا. فصار الإحسان إلى الوالدين يتضمن ثلاثة أمور : الإحسان بالقول، الإحسان بالفعل، والإحسان بالمال. وبر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله قال ابن مسعود رضي الله عنه : سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- : " أي العمل أحب إلى الله؟ قال : الصلاة على وقتها قلت : ثم أي؟ قال: بِرُّ الوالدين. قلت : ثم أي قال : الجهاد في سبيل الله ". واعلم أن البر بالوالدين، كما هو واجب فإن الله تعالى يثيب البار في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا نجد - حسب ما علمنا بالسماع والمشاهدة -، نجد أن الذي يبر والديه ييسر الله له أولاداً يبرونه وأن الذي لا يبر والديه يسلط عليه أولاده فيعقونه -والعياذ بالله-  إذاًعرفنا الوصية الثانية الإحسان بالوالدين. فما ضد الإحسان؟ ضده أمران، إساءة ، وموقف سلبي بين الإحسان والإساءة.
 أما المسيء: فلا شك في أنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب لأنه عاق ،وأما السلبي الذي لا يبر ولا يسيء فقد ترك واجباً مما أوجب الله عليه وهو الإحسان إلى الوالدين .
 قد يقول قائل : لماذا لم يذكر الله حق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن المعلوم أن حق الرسول مُقدم على حق الوالدين بل مُقدم على النفس ولهذا يجب أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليك حتى من نفسك وأبيك وأمك وابنك والناس أجمعين . فإذا قال قائل: لماذا لم يذكر الله حق رسوله؟ فالجواب أن حق الله متضمن لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولهذا جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ،جعلهما ركناً واحداً من أركان الإسلام فقال: " بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" فيكون حق الرسول مقدماً على حق الوالدين، لأنه متضمن في حق الله.

 الوصية الثالثة: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) الإملاق: يعني الفقر ،و "من" هنا سببية أي بسبب الإملاق يعني لا تقتلوا أولادكم بسبب الفقر، (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)، (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [ سورة هود، الآية: 6] هل أحد يقتل أولاده؟ لا ،لكن الجاهلية العمياء كانت تجعل الجاهلين يقتلون أولادهم ، وقتل الجاهلين لأولادهم له سببان:
- السبب الأول: ما ذكره الله هنا وهو الإملاق أي الفقر.
السبب الثاني: العار.
 أما الأول الذي سببه الفقر فكانوا يقتلون الذكور والإناث: إذا جاءه ولد وهو فقير قال : هذا سيثقل كاهلي في الإنفاق فيقتله -والعياذ بالله-، أما الآخر الذي سببه العار فهؤلاء يقتلون الإناث دون الذكور. (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) [ سورة النحل، الآيتان:58- 59]. يقول الله عز وجل: لا تقتلوا أولادكم من الفقر. إذاً يبقون ولو كان الأب فقيراً لأن رزقهم على الله عز وجل (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) .
/ فإن قتل ولده فهل يقتل؟ لو أن رجلاً فقيراً جاءه ولد ذكر أو أنثى فقتله لأنه لا يجد ما ينفق عليه فهل يقتل الأب أو لا يقتل؟ قال بعض أهل العلم : إنه يُقتل ،إذا علمنا أنه تعمد القتل يُقتل لعموم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) (البقرة 178] ، وقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي على بني إسرائيل في التوراة، (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " لا يحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " قالوا : ولأن الرجل إذا قتل ولده جمع بين عدوانين : عدوان القطيعة وعدوان القتل فيقتل . وهذا مذهب الإمام مالك -رحمه الله -. لكن أكثر أهل العلم يقولون: إن الوالد إذا قتل ولده لا يُقتل، واستدلوا بحديث مشهور عند أهل العلم ( لا يُقتل والد بولده ) ولكن هذا الحديث ضعَّفه كثير من العلماء ،وقالوا أيضاً : إن الوالد سبب وجود الولد فلا ينبغي أن يكون الولد سبباً في إعدامه ،ولكن لا شك أن هذه العلة عليلة وذلك أن الأب سبب في وجود الولد لا شك لكن سبب قتله هو عدوان الأب وليس وجود الابن حتى نقول : كيف يكون وجوده سبباً في إعدام من أوجده أو من كان سبباً في وجوده . على كل حال هذه المسألة موضع ذِكرها ومناقشتها كتب الفقه لكن ذُكرت عرضاً عند حديثنا عن قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).
 وهنا نقف لننظر الفرق بين هذه الآية وبين آية الإسراء (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ) [ الإسراء : 31].
 لماذا قدم الوالدين في سورة الأنعام وقدم الأولاد في سورة الإسراء ما هي الحكمة؟
 يجب أن نعلم أن التعبير القرآني لابد أن يكون فيه حكمة لا يمكن أن يختلف التعبير إلا لسبب، في سورة الأنعام قال: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ) إذاً فالفقر موجود فبدأ برزق الفقراء فقال : نحن نرزقكم. وفي سورة الإسراء الفقر غير موجود لكنه متخوف (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فبدأ بذكر المحتاجين وهم الأولاد وهذا من بلاغة القرآن.

 الوصية الرابعة : (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) الفواحش: جمع فاحشة، والفاحشة كل ما أنكرته العقول واستفحشته واستكبرته واستعظمته من المعاصي فهو فاحشة ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من المعاصي الفواحش عدداً:-
 أولاً: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ) [ سورة الإسراء، الآية: 32].
 ثانياً : نكاح زوجات الآباء فقال: (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً ) [ سورة النساء، الآية: 22].
ثالثاً : قال لوط لقومه: ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ) [ سورة الأعراف: الآية: 80] ونقتصر على هذه الفواحش الثلاث. هذه الفواحش الثلاث لا شك أن كل ذي عقل سليم يستفحشها ويستعظمها مع أنها من كبائر الذنوب . فالزنى فاحشة لأنه يفسد الأخلاق ويفسد الأنساب ويوجد الأمراض ومصداق هذا ما ظهر في الآونة الأخيرة من المرض الخبيث الذي هو " فقد المناعة" ويسمى "بالإيدز" . هذا سببه الزنى أو أكبر أسبابه الزنى. ولهذا سماه الله فاحشة وساء سبيلاً. لا يمكن أن يكون سبيلاً للمسلمين أبداً لأنه طريق فاسد مرد مهلك. وتأمل هذه الآيات الثلاث التي ذكرناها : ففي الزنى قال الله تعالى: ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) ، وفي نكاح زوجات الآباء قال: ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً ) ، وفي اللواط قال لوط -عليه الصلاة والسلام - : ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) وكما قلنا آنفاً : لا يمكن أن يختلف التعبير القرآني إلا لسبب.
 في الزنى قال: ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) هذه نكرة .
 في فعلة قوم لوط عليه الصلاة والسلام قال: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) هذه معرفة .
 (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا) فاحشة نكرة لكن أضاف إليها ( ومقتاً ) أي مكروهاً مبغوضاً عند الله وعند الخلق.
 يتولد من هذا السؤال التالي: أي هذه الفواحش أعظم؟ اللواط أعظمها لأنه عرفها بأل قال (الفاحشة) فكأنها فاحشة معهودة عند كل ذي فطرة سليمة وعقل قويم فعرفت بأل كأنها هي الفاحشة المشهورة المعلومة التي ينكرها كل أحد ولهذا كان الفرج الذي استبيح بهذه الفعلة القبيحة لا يباح بأي حال من الأحوال وكانت على القول الراجح عقوبة اللوطي الذي يفعل اللواط القتل بكل حال يعني إذا ثبت أن شخصاً تلوط بشخص، وكان المفعول به غير مكره فإنه يجب قتل الاثنين جميعاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " حتى وإن كانا لم يتزوجا ـ أي وإن كانا بكرين فإنه يجب قتلهما . إذا قال قائل : أين الدليل؟ قلنا : الدليل هو هذا " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قتل الفاعل والمفعول به لكنهم اختلفوا كيف يقتلان فقال بعضهم: يرجمان بالحجارة ، وقال بعضهم: بل يرميان من أعلى شيء في البلد ويتبعان بالحجارة. وقال آخرون: بل يحرقان بالنار" . وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا بكر رضي الله عنه أمر بتحريقهما أي بتحريق الفاعل والمفعول به . إذاً اللواط أشد من الزنى ، لأن عقوبته القتل بكل حال، ولكن كيفية القتل اختلف فيها الصحابة فإذا رأى ولي الأمر أن يقتلهما على إحدى الصفات الواردة فلا بأس، المهم أنه لا مكان لهما في المجتمع لأن بلية اللواط -والعياذ بالله- بلية لا يمكن التحرز منها إذ إن الذكور كلهم يخرجون في الأسواق ويمشون جميعاً ويأتون جميعاً ويذهبون جميعاً فالتحرز منها غير ممكن فلهذا إذا عوقب الفاعل والمفعول به بالقتل كان هذا أقوى رادع عن هذه الفعلة التي تعتبر من أقبح الفعال ، ونكاح زوجة الأب يقع في المرتبة الثانية لأن الله تعالى وصفه بوصفين فقال : (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا) ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الرجل إذا زنى بمحارمه وجب قتله بكل حال، يعني لو زنى الإنسان -والعياذ بالله- بأخته وجب أن يقتل بكل حال، وإن زنى بابنته فكذلك، وإن زنى بزوجة أبيه وجب قتله ولو لم يتزوج يعني ولو كان بكراً لأن هذا أعظم من الزنى بغير ذوات المحارم. وتلك ثلاثة أمثلة لـ "الفواحش ما ظهر منها وما بطن " .
 قوله ( مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) لها معنيان:-
 المعنى الأول: ما ظهر منها بإظهاركم ، وما بطن، ما بطن منها بإخفائكم أي الفواحش سواء أظهرتموها أم أخفيتموها. وقيل : المعنى بل ما ظهر منها، أي ما كان فُحشه ظاهراً لكل أحد وما كان فُحشه خفياً لا يظهر لكل أحد. على كل حال الفواحش محرمة ما ظهر منها وما بطن.

 الوصية الخامسة : (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) في قوله : (الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) دليل على أن النفوس تنقسم إلى قسمين:- قسم لم يحرم الله قتلها. قسم حرم الله قتلها. فما الذي حرم الله قتله من النفوس؟ هم أربعة أصناف : المسلم ـ الذمي ـ المعاهد ـ والمستأمن. هؤلاء أربعة، المسلم معصوم بإسلامه، والذمي بذمته، والمعاهد بعهده، والمستأمن بأمانه. الذمي هو : الذي جرى بينه وبين المسلمين عقد وعهد على أن يبقى في البلاد الإسلامية محترماً ولكن يبذل الجزية دليل ذلك قوله تعالى: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [ سورة التوبة، الآية: 29] وإذا فعلوا ذلك وجب علينا حمايتهم وحَرُم علينا الاعتداء عليهم لا في المال ولا في النفس ولا في العرض . المعاهد هو : الذي عقد بينه وبين المسلمين عهد، " ومثال ذلك ما جرى بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش عام الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي القعدة " عاهدهم النبي -صلى الله عليه وسلم -عشر سنوات، لكنهم نقضوا العهد المهم أنه جرى بينه وبينهم عهد، فإذا جرى بين المسلمين وبين غير المسلمين عهد على عدم الاعتداء صار هذا العهد ملزماً ومانعاً من العدوان عليهم. والمستأمن : يعني الذي أخذ أماناً منا ودليل ذلك قول الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ )[ سورة التوبة، الآية: 6] هذه هي النفس التي حرم الله.
 فالله عز وجل قال: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) إذا قلنا : إن النفوس التي حرمها الله أربع فمن بقي؟ بقي الكافر الذي ليس بيننا وبينه عهد ولا ذمة هذا مهدر الدم ويجوز للإنسان أن يقتله حيثما وجده. ثم قال الله تعالى : (إِلاَّ بِالْحَقِّ )، فإذا كان قتل النفس بحق فلا مانع من قتلها، من الحقوق التي تبيح قتل النفس المحرمة : منها القصاص ومنها الزنى إذا كان الزاني محصناً ومنها على القول الراجح اللواط فإنه مبيح للقتل، ومنها الردة إذا ارتد الإنسان عن دينه فإنه يدعى إلى دينه فإن أبى قتل، وكذلك الحرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ)[سورة المائدة، الآية: 33] وهم الذين يعرضون للناس بالطرق ويقتلونهم ويأخذون أموالهم، المهم أن كلمة (بالحق) عامة تشمل كل ما أباح الشارع قتله من النفوس المحرمة.
 (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). (ذلكم) المشار إليه ما سبق وهن خمس وصايا وصانا الله بها لعلنا نعقل . ما المراد بالعقل هنا؟ نحن نعلم أن العقل نوعان : عقل إدراك، وعقل رشد، فعقل الإدراك ما يدرك به الإنسان الأشياء، وهذا الذي يمر كثيراً في شروط العبادات، يقول : من شرطها الإسلام والعقل والتمييز، هذا هو عقل الإدراك وضده الجنون . والثاني عقل رشد : بحيث يُحسن الإنسان التصرف ويكون حكيماً في تصرفه وضد هذا السفه لا الجنون. فالمراد بالعقل بهذه الآية، المراد عقل الرشد لأنه لم يوجه إلينا الخطاب إلا ونحن نعقل عقل إدراك، لكن هل كان من وجه إليه الخطاب، يعقل عقل رشد؟ لا، قد لا يعقل عقل الرشد، الكفار كلهم غير عقلاء عقل رشد كما قال الله تعالى في وصفهم : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) [ سورة البقرة، الآية: 171] لكن ليس معناه ليس عندهم عقل إدراك بل قد يكون عندهم عقل إدراك قوي وذكاء مفرط لكن ليس عندهم عقل رشد. وما هو العقل النافع للإنسان؟ عقل الرشد ،لأن عقل الإدراك قد يكون ضرراً عليه إذا كان ذكياً فاهماً ولكنه -والعياذ بالله- ليس عنده حسن تصرف ولا رشد في تصرفه وقد يكون أعظم من إنسان ذكاؤه دون ذلك وهنا نسأل عن مسألة كثر السؤال عنها هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب؟ قال بعض الناس في القلب وقال بعض الناس في الدماغ، وكل منهم له دليل، الذين قالوا : إنه في القلب قالوا : لأن الله تعالى يقول: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) [ سورة الحج، الآية: 46]. قال : ( قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ) ثم قال: (تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ). إذاً العقل في القلب، والقلب في الصدر فكان العقل في القلب. وقال بعضهم : بل العقل في الدماغ لأن الإنسان إذا اختل دماغه اختل تصرفه ولأننا نشاهد في الزمن الأخير نشاهد الرجل يزال قلبه ويزرع له قلب جديد ونجد عقله لا يختلف عقله وتفكيره هو الأول. نجد إنساناً يزرع له قلب شخص مجنون لا يحسن يتصرف، ويبقى هذا الذي زرع فيه القلب عاقلاً فكيف يكون العقل في القلب؟ إذاً العقل في الدماغ لأنه إذا اختل الدماغ اختل التصرف، اختل العقل. ولكن بعض أهل العلم قال : إن العقل في القلب ولا يمكن أن نحيد عما قال الله -عز وجل- لأن الله تعالى وهو الخالق وهو أعلم بمخلوقه من غيره كما قال تعالى: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله" . فالعقل في القلب والقلب في الصدر لكن الدماغ يستقبل ويتصور ثم يرسل هذا التصور إلى القلب، لينظر أوامره ثم ترجع الأوامر من القلب إلى الدماغ ثم ينفذ الدماغ إذاً الدماغ بمنزلة السكرتير ينظم المعاملات ويرتبها ثم يرسلها إلى القلب، إلى المسؤول الذي فوقه هذا القلب يوقع، يمضي، أو يرد ثم يدفع المعاملة إلى الدماغ والدماغ يأمر الأعصاب وتتمشى، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس وهو الموافق للواقع . وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في كتبه، والإمام أحمد أشار إليه إشارة عامة فقال : "محل العقل القلب وله اتصال بالدماغ". لكن التفصيل الأول واضح جداً الذي يقبل الأشياء ويتصورها ويمحصها هو الدماغ ثم يرسل النتيجة إلى القلب ثم القلب يأمر إما بالتنفيذ وإما بالمنع لقول الرسول -عليه الصلاة والسلام- : "إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله".

 الوصية السادسة : (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) اليتيم هو الذي مات أبوه قبل بلوغه سواء أكان ذكراً أو أنثى. ومن ماتت أمه قبل أن يبلغ فليس بيتيم. هذا اليتيم له مال ورثه من أبيه ولابد أن يكون لليتيم ولي يقوم عليه: إما بوصية من أبيه ،وإما بتوليه من الحاكم ،وإما بتولية من الشارع على قول كثيرمن أهل العلم - المهم ولي . يقول الله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، قربان مال اليتيم له ثلاث درجات: الأول: أسوأ . الثاني: أحسن . الثالث: لا أحسن ولا أسوأ .
 فالتصرف بما هو أسوأ في مال اليتيم حرام يعني: لو أنك أردت أن تشتري شيئاً بمال اليتيم وتعرف أن هذا الشيء سيخسر قطعاً ، فذلك حرام لأن هذا لا شك ضرر على اليتيم. وأما إذا تصرفت تصرفاً لا تدري هل هو أحسن أو ليس بأحسن هذا أيضاً حرام لأن الله يقول: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) . أردت أن تتصرف فيه تصرفاً حسناً لكن أمامك شيئان، تصرف فيه خير وتصرف فيه خير أكثر، أيهما الواجب؟ الواجب الذي فيه الخير الأكثر لأن الله قال: (إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ولنضرب لهذا مثلاً : جاءك رجل يقول : أقرضني مال اليتيم. وهذا الرجل معروف بالمماطلة وأنه لا يكاد يخرج الحق منه، هل يجوز أن تقرضه؟ لا يجوز لأن في ذلك مغامرة ومخاطرة في مال اليتيم.
جاءك رجل آخر يقول : أقرضني مال اليتيم وهو رجل وفي، لكن إقراضه ليس فيه مصلحة لليتيم هل تقرضه؟ لا، لأنه ليس فيه مصلحة.
 جاءك رجل ثالث يقول : أقرضني مال اليتيم وأنت تخشى على هذا المال لو بقي عندك أن يسرق، فهل في إقراضه مصلحة؟ هذا الرجل الثالث وفي، ولو طلب منه المال في أي ساعة من ليل أو نهار أعطاه، وأنا أخشى إن بقي المال عندي أخشى عليه من عدوان أو سرقة أو غير ذلك فهنا إذا أقرضته، جائز لأن هذا هو الأحسن .
 إذاً يجب على ولي اليتيم المتولي لماله أن لا يتصرف إلا بالتي هي أحسن، ومن هنا نأخذ قاعدة، وهي : أن كل ولي على كل شيء يجب عليه أن لا يتصرف إلا بما هو أحسن. الإنسان لو تصرف بشيء لنفسه فهو حر، لكن إذا تصرف بشيء لغيره وجب أن يتبع الأحسن، ومن ذلك ما لو تقدم إلى ابنتك رجلان يخطبانها، أحدهما صاحب دين وخلق، والثاني دونه في الدين والخلق، فما الواجب عليك، أتزوج الأول أو الثاني؟ الواجب أن تزوج الأول لأن ذلك أحسن فإن صاحب الخلق والدين إن رضي البنت أمسكها بإحسان وإن فارقها فارقها بمعروف ،ومن هنا نأخذ أيضاً أنه لا يجوز للأب أن يمنع تزويج ابنته برجل تريده، والأب لا يريده إذا كان صاحب خلق ودين لأن هذا خلاف الإحسان بالنسبة للتصرف في حق البنت ،وكذلك أيضاً إذا أعطاك شخص زكاته لتفرقها على مستحقيها، ووجدت فقيراً ووجدت شخصاً آخر أشد منه فقراً فما الواجب عليك؟ الواجب أن تعطي الذي هو أشد فقراً لأن هذا أنفع لصاحب الزكاة وللمُعطى أيضاً. فكل من تصرف لغيره فالواجب عليه أن يتبع ما هو أحسن.
 قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) : المراد بالأشد : الرشد لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً قال الله تعالى : (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) [سورة النساء، الآية: 6]. فإذا بلغ اليتيم وكان يحسن التصرف في المال وجب علينا أن ندفع إليه المال، ولهذا قال: (فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) لأنه الآن ليس لأحد حق في الولاية عليه.

 الوصية السابعة : (وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) إذا كلتم لأحد فأوفوا الكيل، إذا وزنتم لأحد فأوفوا الوزن ، يمكن أن نقول: إن هذا من باب ضرب المثل وإن المراد بإيفاء الكيل والميزان إيفاء الحقوق كلها يعني إذا كان عليكم حقوق فأوفوا الحقوق. إن كانت كيلاً فأوفوا الكيل وإن كانت وزناً فأوفوا الوزن. ولكننا نجد كثيراً من الناس على خلاف هذه الحال إذا كان الشيء عليهم فرطوا فيه وإذا كان الشيء لهم أفرطوا فيه وأضرب لهذا مثلين:-
المثل الأول: بعض الناس يكون عليه الطلب، الدين، فيماطل مع قدرته على الوفاء. يأتيه صاحب الحق يا فلان أعطني حقي، يقول : غداً ، أعطني، بعد غد ولا سيما إذا كان الحق للدولة فإن كثيراً من الناس يتهاون به وذلك في مثل وفاء صندوق التنمية العقارية، لأننا نسمع أن كثيراً من الناس عندهم ما يوفون به الصندوق ولكن يماطلون وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مطل الغني ظلم" أي القادر على الوفاء. والظلم ظلمات يوم القيامة، إذاً هذا المطلوب الذي يماطل نقول : لم يوف الكيل لأنه لم يوف صاحب الحق حقه.
 المثال الثاني : عكس ذلك إذا كان للإنسان حق أراد أن يستوفيه كاملاً حتى إنه إذا كان له غريم فقير قال إما أن توفيني وإما أن أرفعك إلى الجهات المسؤولة فتحبس فيضطر هذا الفقير المدين إلى أن يذهب ويتدين فيتضاعف عليه الدين أضعافاً مضاعفة.
 مثال آخر :- هؤلاء الكفلاء الذين استقدموا العمال، يريدون من العامل أن يقوم بالعمل كاملاً ولكنهم لا يوفون العامل أجرة عمله، حتى إن بعض العمال يتقدم يشكو يقول: أنا لي ثلاثة، أربعة أشهر عند كفيلي ما أعطاني شيئاً، وهذا ظلم وجور، بل قد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: " قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه حقه " هؤلاء الذين يتعاملون مع الناس هذه المعاملة إذا كان الحق لهم أخذوا به كاملاً، وإذا كان الحق عليهم فرطوا فيه، استمعوا إلى جزائهم يوم القيامة، قال الله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[ سورة المطففين، الآيات : 1-6]، ومن ذلك أيضاً أن بعض الأزواج يريد من الزوجة أن تقوم بحقه كاملاً ولكنه يماطلها بحقها تجده يريد أن تقوم بكل خدمة البيت على الوجه الأكمل ولكنه لا يعطيها حقها من النفقة حتى الإنفاق الواجب عليه لا يقوم به، وهذا يدخل في المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وفي هذه الحال يجوز للمرأة إذا امتنع زوجها من إعطائها النفقة الكافية يجوز أن تأخذ من ماله بلا علمه، هكذا أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإن هند بنت عتبة جاءت تشكو زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، وولدي بالمعروف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك" لأنه حق لها فإذا بخل به فلها أن تأخذ من ماله بلا علمه ، كما أن من النساء من تكون بالعكس تريد من زوجها أن يقوم بحقها كاملاً ولكنها هي تنقصه هؤلاء داخلون في هذه الآية بالقياس الجلي الواضح . (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [ سورة الأنعام، الآية : 152]. ما أحسن هذه الجملة بعد الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط. الإنسان يجب عليه أن يوفي الكيل والميزان بالقسط، لكن ربما يكون هناك تقصير لم يحط به فهل يأثم على ذلك؟ لا، ولهذا قال : (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) وهذه القاعدة ذكرها الله في عدة آيات:
 فقال تعالى في سورة البقرة: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة، الآية : 286].
وقال تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)[ سورة الأعراف، الآية: 42]. وهذا من كرم الله عز وجل أن الإنسان لا يكلف من دين الله إلا ما يطيق، وهو داخل في عموم قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الدين يسر" وقوله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث البعوث فقد بعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن وقال : "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا "، فالله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها في جميع الأوامر فما لم تستطع فانتقل إلى بدله إن كان له بدل وإذا عجزت عن البدل سقط عنك ، واستمعوا إلى القصة التي وقعت من رجل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقال : يا رسول الله هلكت، قال ما أهلكك؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام هل تجد رقبة؟ قال : لا ، قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال : لا، قال : هل تجد إطعام ستين مسكيناً ؟ قال : لا، ثم جلس الرجل فجيء بتمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خذ هذا فتصدق به، قال الرجل : أعلى أفقر مني يا رسول الله، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:أطعمه أهلك " . فأسقط عنه الكفارة بعجزه عنها مع أنها كفارة، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

 الوصية الثامنة : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) فالواجب على العبد إذا قال قولاً أن يعدل في قوله ومن باب أولى وأحرى إذا فعل فعلاً أن يعدل في فعله حتى لو كان مع ذي قربى . لو أن أباك وهو من أقرب الناس إليك أخطأ على شخص هل تقول لأبيك : إنك أخطأت؟ الجواب نعم هذا هو العدل: " وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ". لو أن صديقك أخطأ هل تقول : أخطأت؟ نعم لأن الله يقول: " وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى " .

 الوصية التاسعة : ( وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ) العهد: هو الميثاق، وعهد الله سبحانه وتعالى على الإنسان هو أنه عز وجل أمره ونهاه. وتكفل له سبحانه وتعالى أنه إذا قام بهذه الأوامر والنواهي أنه يثيبه على ذلك كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [سورة المائدة، الآية: 12]
 وقال تعالى في هذه الأمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ .يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). [ سورة الصف، الآيات: 10-12].
 فهذا عهد من الله لمن آمن وجاهد في سبيل الله أن يغفر له ذنوبه ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار. وقال تعالى في بني إسرائيل: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [ سورة البقرة، الآية: 40] . فأنت الآن قد عاهدت الله عز وجل على القيام بطاعته فأوف بهذا العهد.

 الوصية العاشرة : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) وهذه هي الوصية العاشرة، وهي جامعة لكل الشرع فيقول : هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، وصراط الله تعالى هو دينه الذي أرسل به رسله ودين محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الأديان، فيجب على كل أحد من الناس أن يتبع هذا الدين وأن لا يتبع السبل فتفرق به عن سبيل الله ويضل ويهلك وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التفرق واتباع السبل ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال : " هذا سبيل الله مستقيماً" وخط عن يمينه وشماله ثم قال: " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ، ثم قرأ ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) ، وفي الآية وحّد الله تعالى سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها وكثرتها.

 أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن أوفى بعهد الله وممن قام بطاعته، وأسأل الله لي ولكم القبول والتوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
 ـــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله -

هناك 5 تعليقات: