الشيخ/ خالد بن عثمان السبت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد:
فيقول الله -عز وجل-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [(1-8) سورة التكاثر].
هذه الآيات تضمنت حقائق وجملة من الأمور لا بد للعبد أن يتبصر بها، وأن يقف عندها، وأن يكشف الغشاوة التي تحول بينه وبين حقيقة الاعتبار، وإدراك الأمور على طبيعتها، فيرى الأشياء على ما هي عليها دون أن يكون في شغلٍ شاغل، وفي لهوٍ وعبثٍ وتسارع من غير طائل، يجري فيه خلف هذه الدنيا، فتشغله عما هو بصدده من طلب الآخرة التي خلق من أجل أن يسعى لها.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) : هذا خبرٌ من الله -عز وجل- يخبر به عن حقيقة ما يجري فيما يتسارع فيه المتسارعون في هذه الحياة الدنيا من التكاثر في كل شيء من أمر الدنيا، سواء التكاثر في المراكب، والسيارات، فيقال: هذه أفضل من هذه، ظهر لونٌ جديد، ونوعٌ جديد، وصياغة جديدة، وما إلى ذلك، فيجرون خلفها مرة بعد مرة، مرة بعد مرة، ثم بعد ذلك تتلاشى وتندثر، ويزهد الناس فيها، ثم يبحثون عن الجديد من جديد، ثم بعد ذلك ما يلبث أن يخفت بريقه الذي قد استهواهم واسترعى أنظارهم، ثم بعد ذلك يخرج الجديد، فيجرون بعده مرة بعد مرة في لهوٍ حتى يدركهم الموت.
ومن العبر العجيبة أنك تجد المحل الذي يباع فيه السيارات بجواره مقبرة السيارات، كل تلك المقبرة تحتوي على ألوان من المراكب التي استهوت الناس في يوم من الأيام وكانت نظيفة وجديدة ويتمناها كثيرٌ من الناس، وقد لا يحصل عليها إلا الواحد بعد الواحد، ثم ما تلبث أن تكون قديمة يترفع عنها حتى الفقراء، ثم بعد ذلك تطرح ويطرح أهلها بجوارها في مكانٍ تعرفونه، وهي عبرة عجيبة. في كل يوم نودع أناس إلى المقبرة، وندسهم في التراب ويتسابق يحثو عليهم التراب أقرب الناس إليهم، وأحب الناس إليهم.
تجد الولد هو الذي يضع أباه في حفرة، وهو الذي يدفنه، وهي حقيقة نشاهدها مرة بعد مرة، ثم ينطلق هؤلاء الناس الذين قد تجمهروا عليه راجعين، ويرجعون إلى دنياهم من جديد، وينسون ما ينتظرهم. ثم ما يلبث الواحد منهم أن يتسارع في تحصيل المساكن والعقارات أكثر من حاجته، فهو لا يكتفي بأرضٍ يسكنها، يريد أن يشتري ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة ومائة وألف، ولا يتوقف عند حد، ولو جئت بأكثر أهل الدنيا تجارة فإنه لا يتوقف عن طلب المزيد، ولا يشبع نهمته شيء، بل هو متسارع في تحصيلها، وتطلبها من كل وجه، يطلبها بأنواع مختلفة من التجارات، ويحتاط فيها لنفسه ألوان الاحتياطات، كل ذلك من أجل أن يجمعها، وأن يحوزها، وينقضي العمر، ويلوح الشيب في مفارقه، ثم بعد ذلك لا يزال يتمسك بها.
((يشيب ابن آدم ويشب معه طول الأمل وحب الدنيا))[1]، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فما رأينا شيخاً كبيراً قد زهد فيها، ولا رأينا شاباً يافعاً قد زهد فيها. الكل يطلبها، والكل يحرص عليها، فهو تهافت وتسارع من حلها وحرمتها، ثم بعد ذلك يسقط الإنسان على جنبه، ثم بعد ذلك ينقل إلى حفرته ويدرك حقيقة اللعب والعبث الذي شغل زمانه فيه، بجمع الحجارة الحمراء والبيضاء والصفراء، الذهب والفضة، يجمعها ويجمعها ويجمعها، ويتهافت عليها، ويوجد لربما عنده من الثروات ما يكفيه ويكفي عشرة أجيال من ذريته، ومع ذلك لا يزال يسرع ويشمر،
يحاسب الإنسان كما قال الله -عز وجل-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [(8) سورة التكاثر]، يحاسب عن شربة الماء البارد، ويحاسب على جلسته على هذا الفرش الوفير، ويحاسب على هذا المتكأ، ويحاسب على هذه الثياب اللينة، كل ذلك يحاسبه الله -عز وجل- عليه، وإن كان هذا ليس بحرام بل هو حلال، ولكن هل أدى شكره؟ أم لم يؤدِّ شكره؟
هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث- خرج -عليه الصلاة والسلام- ليلاً، فمرَّ بأبي بكرٍ فدعاه، فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: ((أطعمنا بسراً))، فجاء بعذق فوضعه، فأكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ثم دعا بماءٍ بارد فشرب فقال: ((لتسألن عن هذا يوم القيامة))، قال: فأخذ عمر -رضي الله عنه- العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: يا رسول الله، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: ((نعم، إلا من ثلاث: خرقة كف بها عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو جحرٍ يتدخل فيه من الحر والقر))[2]، أما القصور والنعيم والملاذ فيحاسب الإنسان عليها، هل أدى شكرها أو لم يؤدِّ شكرها؟
نحن لا نقول للناس: اسكنوا في جحر، ولا نقول: ناموا على التراب أو على الحصير لا، نقول: ناموا على الفرش واسكنوا البيوت النظيفة الجيدة، لكن لا يكون هذا شغل الواحد منا، لا يكون همه وغايته هو طلب هذه الحياة الدنيا، وينسى ما ينتظره في الآخرة التي يجب عليه أن يعمل لها، فيكون ممن ألهاهم التكاثر.
هذا رجل من السلف كان قد حفر في داره أو بيته قبراً، فكان يدخل فيه، ثم يقول لأهله: أهيلوا علي التراب، ثم يصيح ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت. يتذكر الموت والقبر؛ لأن الإنسان المجرم الظالم الذي لا يعرف الله -عز وجل- إذا مات ورأى العذاب يطلب الرجعة ويتمناها، ولكن هيهات، فهذا إنسان يذكر نفسه ذلك الموقف الرهيب.
ومما يدل على حقارة الدنيا وأنه شيء ينبغي للعبد أن لا يتعلق به، ولا يتشبث به، ولا يملأ قلبه بها، ما وقع بين ابن السماك وهارون الرشيد -الخليفة العباسي المعروف- دخل عليه ابن السماك فاستسقى الرشيد -طلب الماء- فأوتي بقلة فيها ماء مبرد، فقال: لابن السماك عظني، فقال: يا أمير المؤمنين، بكم كنت مشترياً هذه الشربة لو منعتها؟ قال: بنصف ملكي - هارون الرشيد ما يملك دولة مثل دول اليوم لا، كان يملك من الأندلس إلى حدود الصين دولة واحدة - يقول: بنصف ملكي لو منع هذه الشربة من الماء، فقال له: اشرب هنيئاً، فلما شرب قال: أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم تشتري ذلك؟ قال: بنصف ملكي الآخر. فقال: إن ملكاً قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة لخليقٌ أن لا يتنافس فيه، فبكى هارون. نحن ما عندنا مثل ملك هارون الرشيد، لكن لو سئل الواحد منا: هذا البيت وهذه الأرصدة والأسهم التي عندك لو منع منك هذا الماء كم تدفع؟ يمكن تنزلاً يقول: أدفع نصف ملكي، وإلا الواقع يدفع كل ملكه من أجل أن يشرب وإن لم فسيموت من العطش، ولو حبس منه يدفع النصف الباقي.
إذا: كل هذا السعي وكل هذا التعب في هذه الدنيا على شربة ماء!!
فأقول: ينبغي للعبد أن يتعقل وأن يفكر، وأن ينظر في حاله، وما هو بصدده، وما يحتاج إليه من العمل الصالح، وأن لا يغتر بمباهج هذه الحياة الدنيا، فعمَّا قليل تزول، وكل شيء فيها يذهب ويتغير. هذا البناء الجديد الذي ترونه، والفرش الجديد بعد مدة يكون قديماً ويحتاج إلى إصلاح، ثم بعد مدة يحتاج إلى هدم وبناء من جديد، ثم بعد مدة هذا الحي بكامله يزهد أهله فيه، ويبقى للعمال، ثم بعد مدة حتى العمال يتنزهون منه، أليس كذلك؟
انظروا إلى الأحياء القديمة وما كانت فيها من الفلل الفارهة الجميلة التي يتنافس الناس فيها، الآن يسكن فيها الفقراء والعمال، والناس يتنزهون من سكناها، ثم بعد ذلك ما يلبث الواحد أن ينتقل إلى مكانٍ آخر، ثم يزهد فيه، ثم ينتقل إلى آخر. ثم إلى أين في النهاية؟ إلى الحفرة الملحودة التي جدرانها غبرُ! فمن كان غافلاً نائماً فليستيقظ؛ فإن أفضل السيارات وأفضل المراكب الآن، بعد عشر سنوات ماذا ستكون؟ ستكون قديمة تباع ولا بثمانية آلاف، وهو مشتريها بمائتين وخمسين ألف، ثلاثمائة ألف بأربعمائة ألف، أليس كذلك؟
هذه السيارات التي تضغط الآن، تكون عبارة عن كوم من الحديد، ما كانت سيارات جميلة، وكانت سيارات فاخرة! وصاحبها لربما معلق عليها "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" يخشى أنه يصاب بالعين، والآن أين هي؟ مكدوسة، حديد مرصوص ما يساوي إلا نزراً يسيراً من المال بقيمة الحديد فقط.
هكذا طبيعة الحياة الدنيا، أين الثياب الجديدة التي لبسناها في الأعياد قبل خمس سنوات، أين النعال الجديدة أعزكم الله؟ هل تجدون منها شيئاً، الأجيال الذين قبلنا قبل مائة سنة أين حليهم؟ أين أثاثهم؟ أين الأشياء التي كانوا يأكلون فيها ويشربون منها؟ أين آثارهم في الأرض؟ أين مساكنهم؟ أين مراكبهم؟ أين الإبل التي كانوا يركبونها؟ أين عظامها؟ لا يوجد شيء ولا أثر، ولا موطئ قدم، كل ذلك يزول، وآثارنا جميعاً ستزول، وسنتلاشى ونذهب، ونندثر، ولا يبقى إلا العمل الصالح.
فينبغي على الإنسان أن يزور المقبرة، وينظر ويعتبر ويتعظ، وإذا نظر إلى إنسان قد شاخ وكبر في السن يتذكر أنه كان في يوم من الأيام في غاية القوة والفتوة، ثم ما تلبث الأيام أن تمر به والسنون، ثم بعد ذلك يتجعد الوجه، ويتحول السواد إلى بياض، ويترهل ويضعف، وتذهب قواه وغرائزه، وكثير من الأشياء التي كان يعتز بها ويفتخر بها، ولربما كان -ما شاء الله- لا يقف أمامه الجمع من الناس، ثم بعد ذلك تجده في غاية الذبول والضعف والعجز، ثم بعد ذلك يقفي ويدبر ويموت.
وكم من إنسان الآن قبره محفور وهو ينظر إلى شاشة الأسهم ويتابع ويجد ويخاصم ويجادل. فعلينا أن نعتبر، ولا نغتر بمباهج الحياة الدنيا، يأخذ الإنسان منها، ويكتسب ويعمل، ولا يقعد ولا يكسل، ولكن لا تملأ الدنيا قلبه، وتكون الدنيا بالنسبة إليه هي كل شيء، بها يفكر، وبها يقوم، وبها يقعد، ولا يكاد يأتي الصلاة إلا متأخراً، وقد لا يأتي إلى الصلاة أصلاً، وكل هذا انشغالاً بدنياه، فينبغي للعاقل أن يكون بعيد النظر.
نحن عمرنا في الدنيا وأصلحناها، لكن ماذا عمرنا في المستقبل الحقيقي في الآخرة؟ الذي سننتقل إليه جميعاً ماذا عمرنا له؟ ماذا بنينا من دورٍ سنسكنها هناك؟ والدور هناك ما تبنى بالأموال ولا بالأحجار، وإنما تبنى بالعمل الصالح، إذا تصدقت بني لك، وإذا سبحت وهللت بني لك وهكذا. فكل إنسان يحرص على الخير وعلى طاعة الله -عز وجل- لأنه وحده سيحاسب، ووحده سيقف أمام الله -عز وجل- ووحده سيوضع في القبر، ثم بعد ذلك يدرك حقيقة ما كان عليه من التفريط والتضييع.
هذا وأسأل الله -عز وجل- أن يلطف بنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
-------------------------------------------
1- أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق - باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر (6058) (ج 5 / ص 2360)، ومسلم في كتاب: الزكاة – باب: كراهة الحرص على الدنيا (1047) (ج 2 / ص 723)، واللفظ للبخاري.
2- رواه أحمد في المسند برقم (20787) (ج 5 / ص 81) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3221).
المصدر موقع الشيخ خالد السبت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق