الأربعاء، 5 فبراير 2025

تدبر سورة الكهف | المحاضرة الثانية والعشرون | د. محمود شمس

 


الحَمْدُ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِيْنَ، سُبْحاَنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين؛ وَبَعْدُ: فإني أحييكم بتحية الإسلام السّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل الله أن يشرح صدورنا وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته، وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف. 

توقفنا في اللقاء الماضي عند قول الله تبارك وتعالى: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرُ فَقَالَ لِصَاحِبهِ، وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) وقلت في قوله تَعَالَى: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) قراءتان: 
القراءة الأولى بفتح الثاء والميم: ثَمَرٌ، وَهُذَا جمع لكلمة «ثَمَرة».
والقراءة الأخرى: (وَكَانَ لَهُ ثُمُرُ) ، و(الثَّمَر) هو جمع لكلمة: ثمار، فالـ الثَّمَر - بفتح الثاء والميم - هو الثَّمَر المأكول، هو الثَّمَرِ الَّذِي يخرج من الزرع ويكون مأكولا، وَأَمَّا (الثُّمُر) فيعني: الأموال، وَهَذَا دليلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الرجل صاحب الجنتين كانت له أموال غير الثمر الَّذِي يأتيه من الجَنَّة، وقيل: كان المال هو العائد بالنسبة لهذا الثَّمَر، بمعنى: أنه لم يكن ثمر الجنتين يكفيه لأكله فَقَطَّ، وَإِنَّمَا كان يكفيه لأكله ويزيد، فالزيادة هذه كانت تعُمُّ عَلَى الجميع فيبيعها ويأخذ ثمرها ولذلك قلت إنَّ الإنسان ينبغي ألا يقتصر في عمله على ما يكفيه لأكله هو وأولاده وَإِنَّمَا لَا بُدَّ أن يعمل حسابه إما أن يتصدق بالفائض أو بالزائد، وَإِمَّا أن يبيعه، يعني حَتَّى لو أنه سيبيعه فقد قدَّم خدمةً لمن لا يستطيع العمل؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى رفع بعض العباد فوق بعض درجات للتسخير والخدمة، يعني هذا يستطيع أن يزرع وغيره لا يستطيع أن يزرع وقد يكون عنده المال لكنه هل سيأكل المال أم سيحتاج إِلَى ثمار يشتريها؟ سيحتاج إِلَى ثمار يشتريها؛ إذًا الَّذِي يعمل ليوفّر لغيره ولو بيعًا وشراءً هو أَيْضًا يقدِّم خدمةً للمجتمع لأن المجتمع يحتاج الثمار ويحتاج الزرع ليأكل حَتَّى لو كان لديهم الأموال فإنهم لن يأكلوا الأموال؛ ولذلك أحيانًا الإنسان يكون معه المال لكنه لا يجد ما يأكله، فَالَّذِي يعمل ليبيع لغيره هو أَيْضًا يقدِّم خدمةً؛ إذًا هو يعمل ليبيع لغيره، وليتصدق عَلَى غيره، لَا بُدَّ أن يكون عند الإنسان هذه الغايات. وقلت: إنَّ هذا هو معنى: ﴿ وَالَّذِينَ هُم لِلزَّكَاة فَاعِلُونَ ﴾، والله عبّر بقوله: ﴿ فَاعِلُونَ ﴾ هاهنا لأنَّ الفعل هو المؤدَّى بحبِّ كما وصف الله الأنبياء بقوله: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ ﴾ ففعل الخيرات هو فعل الإنسان بحبّ، فمعنى: ﴿وَالَّذِينَ هُم لِلزَّكَوةِ فَاعِلُونَ ﴾ أي: فاعلون لِلزَّكَاةَ، بمعنى أنهم يزرعون ويجتهدون لتكون لديهم صدقات يخرجونها، وعلى الأقل إن لم يستطيعوا أن يتصدقوا فليبيعوا ما زرعوه ليجد النَّاس هذا الصنف من الخضروات أو من المأكولات ليشتريه بقيمته. إذًا مهمة الإنسان أنه لا يعمل بقدر حاجته واحتياجاته فَقَطْ وَإِنَّمَا لَا بُدَّ أن يكون نافعًا للغير؛ لأنَّ القوي إذا عمل عَلَى قدر طاقته وحاجته وَفَقَط فمن أين يأكل الَّذِي لا يستطيع العمل، وَالَّذِي لا يقدر عَلَى العمل؟ لأنه ليس كل الناس يقدرون عَلَى العمل. فعَلَى الإنسان أن يخطط هكذا أن يعمل ليكون لديه الفائض إما لبيعه وَإِمَّا للتصدق به، يعني: أنت لست مجبرًا عَلَى أن تتصدق لكنك تعمل لنفسك وتعمل لأولادك.

 إذاً (وَكَانَ لَهُ ثَمَرُ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) الفاء هاهنا تُسمى «فاء التَّفْرِيع»، وهذه لها دلالة هاهنا لَا بُدَّ أن نفهمها.
ما دلالة فاء التَّفْرِيع؟ أنَّ النعم الَّتِي سبقت هذه الفاء من أول (جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابِ﴾ إِلَى قوله: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرُ﴾ كثرة هذه النعم ووفرتها تجعل النفس تغتر بما لديها من نِعم، وتجعل النَّفْس تتكبر بالنعم؛ ولذلك رب العباد يلفت نظرك إلى أنك إذا أنعم الله عليك بنِعم فَلَا بُدَّ أن تؤدي شكرها، وانتبه لأنَّ النِعم تغيّر نفسك، هذا الرجل عندما نظر إِلَى هذه النعم تغيَّر، وفرّع عَلَى هَذَا التغير أَنه قَالَ (لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالَا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ ما الَّذِي أداه إِلَى هَذَا القول مع أنَّ الرجل المؤمن لم يكلمه ولم يقل له شيئًا؟ إِنَّمَا هُذَا الرجل نظر إلى ما منّ الله به عليه من نِعم، فاغتر بتلك النعم فبدأ يتكبر عَلَى هذا الرجل الَّذِي لا جنَّة عنده مثل جنتيه، كأنَّ الإنسان إذا لم ينتبه لنِعم الله عليه، ويُسند النِعم إِلَى الله ويعلم أنَّه لا دخل له فيما منّ الله به عليه من نِعم فإنَّ نفسه تغتر بذلك غرورا.
 (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) معنى ذلك : أنَّ هناك حوارًا دار بين الرجل وبين صاحبه، فأوَّل ما نظر هذا الرجل صاحب الجنتين إلى ما لديه من نِعم فاغترت نفسه، فَقَالَ لهذا الرجل ﴿وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالَا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ مجرد قوله: (أنا) وقوله: ﴿أَكْثَرُ مِنكَ﴾ فقد أسند النِعم لنفسه فاغتر بسبب ذلك، أنه أسند النعمة لنفسه، قَالَ: ( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا)، وكلمة (مالا) هنا تمييز، يعني: أصل الجملة: مالي أكثر من مالك، فحدث حذفٌ في الجملة ثُمَّ جيء بالمضاف المحذوف الذي هو (مالي) ونُصب عَلَى التمييز، يعني: أنه قَالَ: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ ﴾، وقوله: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ ﴾ الاغترار جعله يُطلق الأكثرية على نفسه والأكثرية في كل شيء ثُمَّ أتى بكلمة (مالا) وجعلها تمييزا، يعني: أنا أكثر منك في كل شيء وخاصةً في المال، يعني: لم يجعل الأكثرية والاغترار في المال فَقَطْ، إِنَّمَا جعل الأكثرية في كل شيء لنفسه. واضح؟ (وَأَنَا أَكْثَرُ مِنكَ﴾ فجعل الأكثرية في عمومها لنفسه أولا ثُمَّ أتى بكلمة (مالا) ونصبها على التمييز فأصبحت ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ «أَعَزُّ» يعني: أشدُّ عزّةً، يعني: كثرةً، كلمة « نَفَر» تُطلق عَلَى العشيرة، وتُطلق عَلَى الأولاد، وتُطلق عَلَى الأهل، لكنها هاهنا أراد بها الولد والأولاد بقرينة أن الرجل وهو يحاوره قال له : (إن ترن أنا أقل مِنكَ مَالًا ﴾ وماذا؟ (أَقَلَ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا)، فقوله: (أَقَلَّ مِنكَ مَالَا وَوَلَدًا) جعلت كلمة (نفرا) هنا مراد بها الولد، يعني إذًا هذا الرجل اغتر بنِعم الله عليه، وبدأ يحاور صاحبه، وَقَالَ له: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾، وأنا قلت: إنَّ الحوار فيه حلّ لجميع مشاكل الناس، يعني: السَّبَب الرئيسي في مشاكل الناس وفي مشاكل البيوت عدم الحوار، يعني: لا حوار بين الوالدين، ولا حوار بين الأب والأبناء، ولا حوار بين الأم والأبناء، فَهَذَا يولّد مشكلة كبيرة، إنَّما لو أنَّ الأسرة تعودت على الحوار وعوّدت أولادها على الحوار؛ كانت كل المشاكل لها حل، فالحوار لَا بُدَّ أن يسمع الطرف للطرف الآخر، لا يقاطعه، حَتَّى هنا بالرغم أنه قَالَ: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالَا وَأَعَزُّ نَفَرًا) لم يرد الرجل الآخر عليه، (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) لم يرُد الرجل الآخر عليه، ﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُدِدتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا ﴾، هنا بدأ يرد عليه؛ إذا هو استمع لكلامه للنهاية، ولذلك عندما يستمع الإنسان للنهاية يستوعب ويفهم ويُكوّن ردًّا. ولذلك أهل علم النفس يقولون: إنك لا بُدَّ أن تجعل ولدك أو ابنتك وهما يتكلمان معك لَا بُدَّ أن يتمما الجملة، يعني: الجملة اتركهما يتممان الجملة، لا تقاطعهما حَتَّى لو تكلما معك في كلام ما ينبغي أن يتكلموه، اسمع للنهاية حَتَّى تعرف إلى أين وصل هذَا الولد، لأنك لا بُدَّ أن تعرف إلى أين وصل قبل أن تقاطعه، إذا استمعت لنهاية الكلام ستعرف هل الكلام الذي يحكيه لك هو يرغب في تجربته؟ يعني: نفترض أنَّ ابنك يقول لك مثلا: أنا سمعت الأولاد يقولون إنَّ هناك حبوبًا معينة يأخذونها وهي تساهم في كذا وكذا ..الخ، لو قاطعته لن تستوعب شيئًا ولن تفهم شيئًا، إِنَّمَا استمع له، قل: ها وبعدين؟ وماذا؟ حَتَّى تعلم هل هو يرغب في تجربة هذه الحبوب أم أنه رافض لتلك الفكرة، أم أنه استمع أنَّ الَّذِي يجرب هو الرجل؛ لأنه أحيانًا يستدرجون الأولاد في الكلام، فإذا لَا بُدَّ أن تسمع لنهاية الجملة بدأها الولد أو المحاور لك. واضح
والحوار - كما قلت سابقا - أنه لا بُدَّ أن تكون غايته الوصول إلى الحق والصواب، يعني أنا أحاورك لأصِل إلى الحق والصواب، فإذا وجدت الحق معك أُسلم لك به، وأنت إذا وجدت الحق معي تُسلّم لي به، هذا هو الحوار. فَهذَا الرجل (قَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، هذه أسوأ صفة في الإنسان أنه يُسند النعمة إلى نفسه، فيسند النجاح إِلَىٰ نفسه، ويُسند الفوز إلى نفسه، فكل نجاح وكل فوز هو الَّذِي فعل كذا وكذا من أجله فنجح وفاز، وما يعلم أنه بذلك يُسند النعمة الَّتِي أنعم الله بها عليه إِلى نفسه والنعمة ستزول بسبب ذلك.
 ثُمَّ بعد ذلك ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، وَهُوَ ظَالِمُ لَنَفْسِهِ ﴾ (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) الأسلوب يوضّح أنه دخل جنته ومعه صاحبه بقرينة قوله: ﴿ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ لأنَّ القول لَابُدَّ أن يكون لمخاطب، يعني هو قال لمَن؟ قَالَ لصاحبه، يعني إذاً هو (دخل الجَنَّةَ وَهُوَ ظَالِمٌ لنَفْسِهِ ) وكان مصاحبًا لصاحبه فكيف يظلم الإنسان نفسه؟ طيب الإنسان يظلم غيره ماشي لكن هل الإنسان يظلم نفسه؟ نعم، وهو أقوى ظلم وأكبر ظلم هو ظلم النَّفْس، يظلم الإنسان نفسه عندما يعينها على الاغترار، نفسك تغتر بالنِعم، وأنت الذي تعينها وتساعدها؛ لأنَّ النَّفْس لها جانبان: نفس تشتهي، هذا جانب، ووجدان يردع النَّفْس الَّتِي اشتهت بالفطرة، يعني الإنسان فيه فطرة، وفيه نفس تشتهي، فكل نفس تشتهي لكن وجدان الفطرة الَّذِي يدفع النَّفْس عن تلك الشهوة يكون أقوى عند إنسان عن الآخر، يعني من الناس من تكون نفسه الشهية أقوى من الوجدان الَّذِي يردعها عن الشهوة، ومن الناس من يكون عكس ذلك؛ لأنَّ كل نفس -كما قلت- تشتهي، ومن يقول غير ذلك فهو كاذب، لكن ليس كل نفس تشتهي ينبغي أن يُلبي الإنسان لها شهوتها، لأنه لو لبى لها شهوتها لن يستطيع أن يتحكم فيها بعد ذلك، ولذلك قلت سابقا في قول الله : (قَالَت فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ): الزَّاهد وجدان الفطرة الَّذِي يردع النفس التي تشتهي أقوى من النَّفْسِ الَّتِي تشتهي، يعني: قوة الشهوة في النفس أقل من قوة الردع لها؛ لأنَّ الأصل: أنَّ النفس تشتهي لكن هناك قوةٌ رادعة فيك، هذه القوة الرادعة فيك هي التي تمنع وتقلل الشهوة من النَّفْس، وعندما أقول: النَّفْس تشتهي ليس المراد الشهوة المعروفة بين النَّاسِ، لا، إِنَّمَا شهوات النَّفْس متعددة ومتنوعة، تفهمون ذلك؟ يعني أقوى شهوة في النَّفْس : حب النَّفْس ، ثُمَّ حب المال، فالإنسان إذا كانت لديه قوة الردع أقوى يستطيع أن يسيطر عَلَى نفسه، ولذلك امرأة العزيز بعد أن جمعت النسوة اللائي قطعن أيديهن ( وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كريم قَالَتْ فَذَلِكنَّ الَّذِى لَمْتُنَّنى فِيهِ)، (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَنِي فِيهِ) أليس معنى ذلك أنَّ امرأة العزيز تلتمس لنفسها العُذر؟ امرأة العزيز الآن تلتمس العذر لنفسها وإلا لا؟ تلتمس العذر لنفسها، طيب رب العباد وهو يقُصّ علينا القصص يقصّه للعِبْرَةِ: ( لَقَدْ كَانَ فِي قصصهم عبرة لأولي الألباب) هل أراد الله أن يخبرنا أنَّ نفسك إذا اشتهت الأمر بقوة فأنت معذور؟ معذور لأن الشهوة قوية فيك؟ لا، الله تبارك وتعالى ذَكَرَ نموذجين لنفسين بشريتين، ولذلك عندما تقرأ هذه الجملة لَابُدَّ أن تقرأ الجملة الَّتِي بعدها (وَلَقَدْ رَاوَاتُهُ عَن نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) إذا هنا معنا نفسان: نفس قوة الشهوة فيها قوية، والرادع فيها صفر فَهذه فتحت الباب أمامها تفعل ما تشاء، فهل رب العباد أراد أن يقول لنا أي إنسان فيكم كانت نفسه تشتهي بقوة فهو معذور؟ بالطبع لا، وَإِنَّمَا يقول: هاتان نفسان بشريتان، نفس لم تُفعّل الردع فيها أبدًا حتى يردع نفسها الشهوانية، ونفس استعصمت بالله فعصمها الله تبارك وتعالى. واضح. إذا عندي هنا نفسان: نفس المرأة فتحت الباب أمام نفسها لتفعل ما يحلو لها ولم تكن تفرّق بين حلال أو حرام، ونفس أخرى تقول أنا راودته (وَلَقَدْ رَوَدته عَن نَفْسِهِ فَاسْتَعْصم) استعصم بالله فعصمه الله. إذا نفس فيها قوة الردع قوية ونفس فيها قوة الشهوة قوية، فالله يعطيك النموذجان ويقول لك: اختر لنفسك لتكون مع أي نموذج، وَقَالَ: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام ﴾ إذا كنت تريد أن تكون كالأنعام فلتفعل ذلك، هذا معنى النَّفْس الشهوانية والوجدان الرادع بالفطرة في الإنسان. فَهذَا الرجل دخل الجَنَّة ومعه صاحبه وَهُوَ ظَالِمُ لنَفْسِهِ لأنه دخل مغتراً، ودخل مستكبراً، ودخل معتقدًا أنَّ هذه النعم الحسيَّة الملموسة أمام عينيه، النعم أمامه ويراها فهو يستبعد أن تزول تلك النعم؛ ولذلك الإنسان عندما ينظر إلى نعمة الله ولا يُسند النعمة إلى الله ويظن أنَّ تلك النعمة هي له، ويظن لن تهلك هذه النعمة أبدًا؛ فهو بذلك اغتر، وهو بذلك استطاع أن يكون من الخاسرين.
(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَر*وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أبدا) وأتى باسم الإشارة ليشير إِلَى الجَنَّةَ الَّتِي يقف فيها، هل هناك غرور أكبر من ذلك؟ فكذلك الإنسان، الإنسان قد يغتر بصحته، قد يغتر بعلمه، قد يغتر بماله، قد يغتر بقوته، قد يغتر بأمور كثيرة ولا يدري أنَّ هذه الأمور هو لا يملكها وقد تزول منك وتتركك، أو أنت الَّذِي تتركها وتذهب، هذه هي نعم الدنيا مهما كانت، فعندما نظر إلى النِعم المحسوسة أمام عينيه ورآها كثيرة: ﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ ﴾ وَالظَّنَّ هنا: اعتقاد حسب اعتقاده هو (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ) يعني: أن تهلك أو أن تفنى، و (هَذِهِ أَبَدًا) يعني: أبد الدهر وأبد الزمان. ثُمَّ انتقل بعد أن نفى أن تبيد هذه الجَنَّةَ، تجرَّاً عَلَى اللَّه أكثر، فهو تجرَّأَ عَلَى المعصية، والإنسان إذا تجرَّاً عَلَى المعصية ما في أمامه أبدًا أي شيءٍ يمتنع عنه، إِنَّمَا كل شيء يفعله، فهو بدأ بأنه تراءى له أنَّ هذه النعم المحسوسة الَّتِي يراها أمام عينيه لا يظن أن تبيد أبدًا.
 ثُمَّ قَالَ: ﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾ يعني: بدأ يُكذِّب بالبعث، وَالسَّبَب الرئيسي في أنه بدأ يُكذِّب بالبعث أنه أسند النعمة إِلَى ذاته أولًا فبدأ يُنكر أَيْضًا قيام الساعة، هذا معنى ﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائمَةً ﴾. ﴿ وَلَئن رُدِدتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا ﴾ الله! لقد أصبح يقول (ربي)، وهل هذا يعرف أنَّ له ربا؟ هو منكر الآن يُنكر البعث وينسب النعمة لنفسه ومع ذلك أجرى الله عَلَى لسانه : ﴿ وَلَئِن رُدِدتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَ ّخَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ﴾ ما معنى:  ﴿ وَلَئن رُّدِدتُ إِلَى رَبِّي ﴾؟ لأنه قال في سورة فصلت: (وَلَئن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّيَّ)، أليس كذلك؟ هل هناك فرق بين الرد وبين الرجعة؟ نعم، الردّ: فيه أسلوب تعنيف، وفيه وعيد، وفيه قوة، يعني لو تتبعنا كلمة (ردّ) لأدركنا أنَّ كلمة (الرَّدّ) دائما تُستعمل في هذا السياق،
الرجوع: يُستعمل في التلطف وفي التودد، وغالبًا ما يكون في حقٌّ المؤمنين يستعمل الله الرجوع، فلو قارنا بين الآيتين نجد ﴿ وَلَئِن رُدِدتُ إِلَى رَبِّي ﴾ فيه شدة وقوة لأنَّ الحوار هاهنا حوار لمشرك والرَّد لمشرك، إِنَّمَا الرجوع المذكور هناك في سورة فصلت المُخاطب فيه المؤمن والكافر لأنَّ الله قَالَ قبلها: (لا يسأم الإنسان مِن دُعَا الخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ يَسمُ فَيَئُوسُ قَنُوطٌ* وَلَئِنْ أَذَقْنَهُ رَحْمَةً مِّنَا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَتَهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّيّ) انظروا إِلَى بعدها: (وَلَئن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّيَ) (إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى) فَهُذَا عَلَى لسان المؤمن ومراد فيها التعريض بالكافر، إِنَّمَا (وَلَئِن رُّدِدتُ إِلَى رَبِّي) الكافر قولا واحدًا. لكن الغريب أنه يقول: (إلى ربي) مع أنه لم يعترف أبدًا بأنَّ له ربا، لكن أجرى الله هَذَا عَلَى لسانه للدلالة عَلَى أنَّ الإنسان المُنكر إذا خلا بينه وبين ربه فإنه يُقِر بالحقيقة، فَهُذَا قَالَ: (وَلَئن رددتُ إلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)، ﴿ لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا ﴾ يعني: خيرًا من الجَنَّةَ الَّتِي يقف فيها؛ ولذلك في قوله: ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ﴾ استعمل هنا أسلوب المفرد، أنهما جنتان لكنه بالتأكيد لن يستطيع أن يدخل الجنتان في وقت واحد، يعني هو لن يستطيع أن يدخل الجنتين في وقت واحد، إنَّما هو دخل جنة واحدة، وقَالَ (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ وَلَئِن رُدِدتُ إِلَى رَبِّي لَأَجَدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا) أي: خيرًا من هذه الجَنَّةَ ﴿ مُنقَلَبًا ﴾ يعني: مرجعا أرجع إليه. 
وفي قوله: ﴿ لَأَجَدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا ﴾ فيها قراءة أخرى:
 ﴿ لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهُمَا مُنقَلَبًا ﴾، إذًا (مِنْهُمَا) تعود عَلَى الجنتين. فَهُذَا الرجل تكلّم هذا الكلام واستمع إليه صاحبه إلى النهاية كما قلت ثُمَّ بدأ صاحبه يكلمه. ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَ ّسَوَّاكَ رَجُلًا ﴾، (أَكَفَرْتَ) هذه الهمزة للاستفهام الإنكاري، طيب هو كافر مشرك في الأصل فلماذا يقول له (أَكَفَرْتَ) وهو يعلم أنه كافر مشرك مُكذب بالبعث؟ لأنه أتى باسم الموصول وأتى بجملة الصلة: ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ﴾ جملة الصلة هذه هو لا ينكرها، فلأنه لا ينكرها أراد هذا الرجل أن يقيم عليه الحجة، إذا كنت لا تُنكر أنَّ الله الَّذِي خلقك فلا ينبغي أن تنكر أنه قادرٌ عَلَى إعادة خلقك وبعثك، يعني إذا أقررت بأنه خلقك في الأولى؛ إذا أنت تُقر بأنه سيخلقك في الثانية. هذا معنى : ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ﴾ الاسم الموصول وجملة الصلة هاهنا تبين أنَّه مُقِرٌّ بذلك، هو مُقر أنَّ الله خلقه، طيب وطالما أنك أقررت بأنَّ الله خلقك مِن ﴿ تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ فأنت إذًا تُقِر بأنَّه قادرٌ عَلَى إعادة خلقك ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ أصل خلق أبينا آدم وأمنا حواء من تراب ثُمَّ أودع الله في آدم قوة التناسل البشرية -حَتَّى لا تقولوا كيف خُلقنا من تراب ثُمَّ من نطفة- لأنَّ الله خلق النموذج الأول من تراب ثُمَّ أعطاه قوة التناسل فأصبح التناسل في هذا الإنسان. إذا هو خلقنا مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة، والنطفة -كما قلت- هي من النَّطْف ، والنَّطْف هو السيلان والصَّبُّ بقوة، فالنطفة تسيل وتُصب بقوة من الرجل. 

﴿ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾، ﴿ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ بمعنى: أنه خلقك وأعطاك كل ما يُمكّنك من أن تكون عبدًا لله تبارك وتعالى مخلوقا في أجمل صورة. ثُمَّ سرعان ما بيّن وضعه وحاله فَقَالَ ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ﴾، كلمة (لكِنَّا) تُقرأ بإثبات الألف ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ﴾، وقوله: ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ﴾ أصلها (لكن أنا هو الله ربي) فحذفت الهمزة تخفيفًا عَلَى غير قياس، ما معنى عَلَى غير قياس؟ يعني: ليس هاهنا سبب نقيس عليه حذف هذه الهمزة، الهمزة (لكن أنا) حُذفت لغير قياس، أي: لغير قاعدة نقيس عليها، فلما حذفت أدغمنا النون في النون ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾، والبعض يثبت الألف وصلا (لكن هو أنا الله ربي) أصلها هكذا، يعني: أنت كفرت (بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) لكن أنا هو الله ربي ﴿وَلَا أُشْرِك بِرَبّى أَحَدًا ﴾.
 ونتوقف هاهنا اليوم، وأسأل الله أن يرزقني وَإِيَّاكُمْ الإخلاص في القول والفعل والعمل، وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من الَّذِينَ يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يغفر الله لوالدينا وأن يرحمهم، وأن يغفر الله لكل من له فضل علينا اللهم آمين، وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلَّمَ وَبَارِكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق