توقفت في اللقاء السابق عند قول الله تبارك وتعالى (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا* وتحسبهم أيقاظا وهم رقود)
هنا في قوله تعالى : (وتحسَبهم) قراءتان:
●قراءة بفتح السين (وتحسَبهم)
●وقراءة أخرى بكسر السين (وتحسِبهم).
● بفتح السين يكون ماضيها حسِب يحسَب وتكون بمعنى يظن، فيكون المعنى: وتظنهم أيقاظا وهم رقود.
● والقراءة الأخرى - بكسر السين- الماضي حسَب يحسِب، بمعنى يعُدّ فيكون المعنى: وتعدُّهم أيقاظا وهم رقود.
وبالطبع هناك فرق في المعنى بين القراءتين:
● فالتي بمعنى تظن تفيد أنك تشك في ذلك ولا تملك اليقين.
●إنما (وتحسِبهم) التي بمعنى تعدُّهم فيها دلالة على يقينك من ذلك، ودلالة على أن الذي يطّلع عليهم ويراهم وهم رقود يظن أنهم يقِظون وفي حال اليقظة.
إذا في قوله تبارك وتعالى (وتحسَبهم أيقاظا وهم رقود) اليقِظ ضده النائم فلماذا كان التعبير بقوله (رقود) ولم يقل "وهم نائمون"؟
لأنه لو قال على قراءة (وتحسِبهم أيقاظا) يعني تعدُّهم أيقاظا وهم رقود، ولو قال "وهم نائمون" فسيكون هناك تناقض بين المعنيين كيف أعدُّهم أيقاظ وهم نائمون في نفس الوقت!! لأن الراقد قد يكون نائما وقد يكون غير نائما، فلكي يتناسب معنى (وتحسَبهم أيقاظا) قال الله (وهم رقود) لأنك تظن من تقليب الله لهم ومن كون أعينهم مفتوحة -كما يقول بعض المفسرين- أنهم أيقاظ، فالله تبارك وتعالى عبر بالرقود ولم يعبر بالنوم.
ثم بعد ذلك قال الله: (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) ، (ونقلبهم) يبدأ الله المضارع (نقلب) بالنون الدالة على التعظيم لله سبحانه وتعالى ليُسند فعل التقليب لذاته العلية. ويستفاد من استعمال المضارع بنون التعظيم أن التقليب إنما كان إكراما وتقديرا لهم وليس كما يظن البعض أنه كان لسلامة أجسادهم، لأن الله تبارك وتعالى قادر على حفظ أجسادهم دون أمر هذا التقليب. فالتقليب كان إكراما وتقديرا لهم ولو كان لسلامة الأجساد لكان التقليب للكلب أيضا، لكن الكلب لم يُقلَّب ومع ذلك (باسط ذراعيه بالوصيد) يعني لم يتأثر جسده بشيء، فالتقليب من باب أولى أن نجعله إكراما وتقديرا. ويستفاد الإكرام والتقدير من التعبير بنون التعظيم لله تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى هو الذي يقلبهم بنون التعظيم لله تبارك وتعالى. و(ذات اليمين وذات الشمال) يعني ناحية اليمين وناحية الشمال. وقلت إن ذلك إكراما لهم لأن هناك قرائن في الآية الكريمة تدل على معان لابد أن نفهمها. يعني في الآية التالية التي ستأتي بعد ذلك الكل يقول إن قوله (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) هل الإنسان الذي يطلع عليهم يولي منهم فرارا نظرا لشكلهم المُرعب الذي هم عليه بسبب طول المدة وبسبب تغير وطول شعورهم وطول لحيتهم و...الخ كما يقول البعض. لأنهم ثلاثمائة سنين وتسعة بالتأريخ الهجري. طيب عندما نقرأ في قول الله تعالى (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) طيب هم قالوا (لبثنا يوما أو بعض يوم) أليس هذا يدل على أن الذي أجاب بذلك لأن أطول مدة ينامها الإنسان هي اليوم أو بعض اليوم. لكن ألا يدل ذلك على أنه لم يحدث تغير في شكلهم وفي ذواتهم أمامه؟ يعني الذي قال لبثنا يوما أو بعض يوم لو كان هناك تغير لدرجة الرعب في ذواتهم وفي شكلهم ما كان قال (لبثنا يوما أو بعض يوم) إنما كان سيدل ذلك على أنه رأى هذا التغير، لكن هذا يدل أيضا على أنهم لم يتغير شكلهم ولم تتغير ذواتهم. ولذلك عندنا في الآية التي ذكرها الله أيضا في بيان كمال قدرته على البعث في العزير، الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها (قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم) لماذا قال (لبثت يوما أو بعض يوم) والله قال بل لبثت مئة عام؟ هنا رد من الله على قوله على (لبثت يوما أو بعض يوم) فالرجل يقول لبثت يوما أو بعض يوم، والله قال له بل لبثت مئة عام، والله تبارك وتعالى بين دليلا على صدق قوله وهو الذي جعله يقول ذلك، وبيّن دليلا يدل على أنه لبث مئة عام. فالطعام الذي كان يحمله الرجل وجده بحاله كما هو، الحار حار والبارد بارد، فبالطبع إذا كان الطعام لم يتغير بل وجد الطعام الذي كان حارا وجده حار كما هو فهذا دليل على أن الشيء لم يتغير. وهل أخبر الله تبارك وتعالى أن الطعام كان هناك من يوقد عليه نارا حتى يجعله حارا كما هو؟ أبدا. ثم قال له (أنظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس) فالحمار الذي عقلا لا يهلك بسرعة يعني يأخذ وقتا طويلا ومع ذلك وجده قد هلك. فالشيء الذي لا يستغرق إلا سويعات ويفسد بقي المئة عام ولم يفسد، لأن الله تبارك وتعالى القادر على كل شيء، والله تبارك وتعالى هو الذي يملك الزمن وهو الذي يملك المكان وهو القادر على التغير من عدمه جل وعلا.
إذا (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) (ونقلبهم) بالفعل المضارع، المضارع يدل على التجدد والحدوث، يعني يدل في الزمان على الزمان الحالي أو المستقبل. ففي قوله (ونقلبهم) إذا دل على الحال أي: ونقلبهم الآن. وإذا دل على المستقبل أي في المستقبل، لكنه دلالته هنا حالية يعني ونقلبهم الآن وأنزل الله القرآن منذ أربعة عشر قرنا إلى الآن، إلى جانب المدة التي كانت بالنسبة لأهل الكهف ومع ذلك مازلنا نقرأ (ونقلبهم) بالمضارع الدال على الزمن الحالي فهل التقليب يحدث الآن؟ التقليب حدث فيما مضى لكن الله تبارك وتعالى في القصص القرآني يريد أي يصور لنا الحدث كأنه واقع أمامنا الآن، يعني ينقلنا إلى موقع الحدث وإلى زمان الحدث، أو يأتي لنا بالحدث وبزمن الحدث وكأنه يحدث الآن ليقول لنا عليكم باستحضار تلك الصورة التي كان رب العزة فيها يقلبهم بذاته العلية.
إذا الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم لأنه هو الذي يملك الزمن فنجده يعبر عن الزمن المستقبل بالفعل الماضي (أتى أمر الله) ثم يقول (فلا تستعجلوه) طيب (أتى) فعل ماض!! نعم. لأن الله جل وعلا هو الذي يملك الزمن، فلأنه يملك الزمن فهو يعبر بما شاء على ما يشاء. ويريد الله أن يصور أمامنا الصورة كاملة وكأن الحدث يحدث أمام أعيننا الآن. هذا معنى (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال)
(وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) ، ( باسط) اسم فاعل، واسم الفاعل يدل على الذات التي أحدثت الحدث والحدث. يعني (كاتب) تدل على أن هناك من كتب وذاتٌ كتبت، كتابة وذات. (ضارب) ضرب وضارب ...الخ.
وكلمة (باسط) هنا وإن كانت اسم فاعل إلا أنها في مفهوم النحويين بمعنى الزمن الماضي لأنها تحكي حدثا كان في الزمن الماضي. هذا معنى (وكلبهم باسط) أي بسط. لكن اسم الفاعل هذا نصب مفعولا بعده (وكلبهم باسط ذراعيه) فنصب هاهنا مفعولا، واسم الفاعل لا يعمل عمل فعله فينصب مفعولا إلا إذا كان بمعنى الاستقبال أو بمعنى الحال ولا يكون بمعنى الزمن الماضي فكيف نصب هنا اسم الفاعل مفعولا مع أنه بمعنى الزمن الماضي؟ وهذه القاعدة انتصر لها البصريون من النحويين أن اسم الفاعل لا يعمل عمل فعله فلا ينصب مفعولا إلا إذا كان بمعنى الزمن الماضي. لكن الكسائي الكوفي النحوي استدل بهذه الآية على أن اسم الفاعل يعمل عمل فعله في هذه الآية لأن الله تبارك وتعالى عطف قوله (وكلبهم باسط ذراعيه) عطفها على (ونقلبهم ذات اليمين) فطالما عطفها على (ونقلبهم) وهي مضارع، (ونقلبهم) هنا بمعنى الحال والاستقبال إذا (وكلبهم باسط) هي بمعنى يبسط ذراعيه بالوصيد. لأن فعلا إسم الفاعل لا يعمل عمل فعله إلا إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال. ولذلك عندنا في قول الله تعالى: (إن الله بالغ أمره) (بالغ) اسم فاعل وهو مضاف و (أمرِه) مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله. يعني على هذه القراءة لم يعمل عمل فعله. لكن وردت قراءة أخرى (إن الله بالغٌ أمرَه) (بالغٌ أمرَه) اسم الفاعل عمل عمل فعله فنصب المفعول. وهذه لها دلالة في القراءات ودلالة في المعنى:
● فقراءة (بالغُ أمرِه) تكون بمعنى إن الله بلغ أمره فيما مضى.
● وقراءة (بالغٌ أمرَه) تدل على إن الله يبلغ أمره في ما هو آت.. وهذا هو المناسب لقوله (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) لأن الإنسان إذا علم أن الله تبارك وتعالى بلغ أمره فيما مضى ويبلغ أمره فيما سيأتي فإنما يحسن التوكل على الله تبارك وتعالى.
هذه (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) الوصيد: قيل هو الفناء ، وقيل: هو مدخل الكهف، أو على باب الكهف. وهذه عادة الكلب أن يجلس هذه الجلسة، أمام باب البيت، أو أمام باب الغرفة.
ثم بعد ذلك يقول الله تعالى (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) (لو اطلعت عليهم) هل الذي يطلع عليهم يولي الفرار من شكلهم المرعب ومن شكلهم المخيف؟ قلنا لا.. شكلهم وذواتهم ليست بمرعبة، إنما جعل الله لهم هيبة حتى يبعد عنهم أذى الناس، وحتى لا يقترب منهم أحد، فالله حفظ أجسادهم وفي نفس الوقت حفظهم من الاعتداء عليهم وهم نائمون من خلال وجود الكلب، لأن الكلب الذي يوجد أمام الباب يمنع أي عدو يقترب، لأن الكلب يحدث صوتا يوقظ النائم. فالله تبارك وتعالى حفظهم بهذه الأسباب، لكن (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) هذا من باب الهيبة وليس من باب الرعب من شكلهم ومما حدث في ذواتهم.
مع أن بعض المفسرين يقول بخلاف ذلك، لكن كما نعلم حتى لو كان هناك بعض المفسرين طالما أن الكلام لم ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم فالكل يُؤخذ منه ويُرد، وخاصة عندما يكون في الآيات ما يدلل على القول الذي نؤيده. فالقول هنا عندما قالوا (كم لبثتم) قال الآخر (لبثنا يوما أو بعض يوم) لو كان رأى تغيرا، يعني لو كان رأى تغيرا في ذواتهم وفي شكلهم أما كان سيدرك ذلك؟ إنما (لبثنا يوما أو بعض يوم) هذه للنائم العادي، النائم الذي ينام أقصى مدة مثلا ينامها يوما كاملا، وأظن ما في أحد ينام أكثر من ذلك.
(لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) هل في الآية تقديم وتأخير؟ لأننا نعلم أن الرعب يملأ القلب أولا ثم بعد ذلك الإنسان يولي الفرار. فلم قدم الله (لوليت منهم فرارا) ثم قال (ولملئت منهم رعبا)؟
الرعب الذي يدخل قلب الإنسان عندما يرى شيئا يدخل قلبه الرعب منه على نوعين:
● هناك شيء يدخل الرعب في القلب لكن عندما يبتعد الإنسان عن المكان يزول الرعب.
●وهناك رعب يدخل القلب ومهما ابتعد الإنسان عن المكان فلا يزال الرعب موجودا. أليس كذلك؟
الناس التي تخاف من الصراصير مثلا عندما ترى صورصارا في الغرفة إذا انتقلت إلى مكان آخر يزول الرعب صح؟ طيب ماذا لو قابلك أسد في الشارع وحاول الأسد أن يلحق بك، فمهما ابتعدت عن المدينة التي أنت فيها وذهبت إلى مدينة أخرى سيظل الرعب في قلبك. إذا هنا يصور الله مدى الرعب الذي يدخل القلوب من الهيبة التي جعلها الله لهم أنه رعبان..
● رعب بداية فيجعل الإنسان يولي فرارا..
● ورعب يظل مستمرا في قلب من اطلع عليهم حتى لو ابتعد عنهم.
فبالطبع هذا الرعب بنوعيه لا يمكن أن يكون بسبب تغير في طول شعر، ولا في طول لحية، ولا.. لا يمكن. هل يكون كذلك؟ يعني لا يمكن أن يكون كذلك. الرعب هنا كما قلت الحكمة منه هيبة وضعها الله عليهم حتى يحفظهم ممن يرونهم من الناس وهذا دليل على حفظ الله لهم. فبالطبع يعني مهما تغير شكلهم لا يمكن أن يترتب على تغير الشكل هذان النوعان من الرعب، لا يمكن، لكنه رعب يقذفه الله في قلوب من يطلع عليه. نعم.. ألم ينصر الله رسوله بالرعب كما قال صلى الله عليه وسلم (ونصرت بالرعب).. ألم يقل الله (وقذف في قلوبهم الرعب) في شأن اليهود. فماذا تنتظرون إذا كان الله تبارك وتعالى هو الذي يقذف في قلوب العباد الرعب، أظن أنه سيكون أشد رعبا من الرعب الحسي، يعني لو كان الرعب بسبب حسي ما كان الرعب يستمر إلا لأن الله هو الذي قذف في قلوبهم الرعب.
وعندنا أيضا في قوله (ولملئت منهم رعبا) قراءتان :
●(ولمُلِئت منهم رعبا) بالتخفيف ، الملئ العادي
●(ولمُلِّئت منهم رعبا) من المبالغة في الملئ.
س: ما فائدة القراءتين؟
لأن الناس امتلاءُ قلوبها بالرعب على درجات، يعني هل كل الناس تمتلئ قلوبهم رعبا من شيء يرونه؟ حتى لو امتلأت قلوبهم بالرعب فهو رعب نسبي، يعني كل إنسان له نسبة معينة من الرعب تدخل قلبه..
● فقوله (ولمُلِئت) مبالغة يتناسب مع بعض الناس التي لا يمتلك قلوبها رعبا.
● (ولمُلِّئت) المبالغة تتناسب مع من يمتلئ قلبه رعبا.
قال الله تعالى:(وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم) ، (وكذلك بعثناهم) الكاف هنا في قوله (وكذلك) حرف تشبيه. الله يشبه ماذا بماذا؟ يشبه بعثهم. أين المشبه به؟ المشبه به كما أنمناهم كذلك بعثناهم، يعني الذي أنامهم بقدرته الثلاثمائة سنة وتسع سنين هو الذي بعثهم بكمال قدرته. إذا المشبه به هنا نومهم لأن نومهم آية "وكذلك بعثهم آية". إذا (وكذلك) أي كما أنمناهم بعثناهم.
وقوله (ليتساءلوا بينهم) هل اللام هنا تصلح أن تكون لام التعليل؟ هل رب العباد بعثهم لكي يتساءلوا بينهم؟ يعني هل بعثهم خصيصا ليتساءلوا بينهم؟
لا.. التساؤل فيما بينهم دليل واقعي ملموس على بعثهم، يعني التساؤل والحوار الذي دار و (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) هذا الحوار كله ليؤكد الله تبارك وتعالى أنهم بُعثوا ومارسوا الحياة، حصل ممارسة للحياة الطبيعية التي يمارسها الناس والتي يمارسها الأحياء في الدنيا.
إذا التساؤل فيما بينهم والحوار الذي دار هذا وسآتيكم بأدلة الأن وإن كنت أود أن أبين الدليل في حينه لكن الآن أفضل، أين الدليل على كلامي هذا؟ الدليل أنهم أول ما فكروا في ممارسة الحياة أرسلوا في إحضار طعام، وسنقول إنهم أرسلوا في إحضار طعام بناء على أنهم جاعوا فالمدة طويلة، والنائم الذي ينام وقتا طويلا يقوم من النوم وهو جائع. أليس كذلك؟ يعني الذي ينام طويلا يقوم من النوم وهو جائع .
طيب لو كانوا جوعى أما كانوا يطلبون مطلق الطعام وفقط؟ هل الجوعى يتخيروا طعاما؟ إنما هؤلاء يعني (فلينظر أيها أزكى طعاما) انظر أي المناطق أزكى طعاما في المدينة التي تذهب إليها واشتري لنا من هذه المنطقة، لأن الطعام يكون في كل منطقة مختلف عن الأخرى (فليأتكم برزق منه وليتلطف) يعني أردت أن أقول لكم هي ممارسة للحياة تامة، ممارسة كاملة.
● إذا اللام هنا لا بد أن نُقدر لها يعني تعليلا آخر محذوفا "وكذلك بعثناهم للدلالة على كمال قدرتنا فتساءلوا بينه" إذا التساؤل دليل على أنهم بُعثوا ليمارسوا الحياة. والبعث كما قلت مشبه والمشبه به هو النوم، فالله تبارك وتعالى يبين كمال قدرته في ذلك. وسنأخذ دلالة على البعث من خلال نومهم الدال على كمال قدرة الله، والنوم يقابله الموت، والنوم هو الموتة الصغرى، والله تبارك وتعالى بعثهم واستعمل البعث بمعنى الإحياء لأنه كأنه أحياهم، يعني القادر على حفظهم في هذا المكان وبهذه الصورة (وترى الشمس إذا طلعت تزَاور، تزَّور، تزوَرُّ) وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال...) إلى آخره. القادر على حفظ أجسادهم، والقادر على بعثهم بعد طول المدة التي ناموها قادر على أن يبعث العباد، هو القادر المقتدر جل وعلا.
إذا هم تساءلوا بينهم والتساؤل تفاعل، ومعنى التفاعل أن كلا منهم يسأل والآخر يجيب. يعني كأن التساؤل على التوزيع ولذلك قال الله (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا) فهل الذي قال كم لبثت هو الذي قال (لبثنا يوما أو بعد يوم) أو حتى هو كان مع من قال (لبثنا يوما او بعض يوم)؟ لا. هو مجموعة تساءلت ومجموعة أخرى أجابت هذا معنى (ليتساءلوا بينهم) والتساؤل دلالة على أن الحياة كانت حياة طبيعية، بعثهم الله ومارسوا الحياة كما لو كانوا لم يناموا هذه المدة.
ستكون لام التعليل، لكن (يتساءلوا) ليست هي المعللة (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا).
وهناك فعلا من قال إنها لام العاقبة، لكن لام العاقبة تدخل على حدث كان عاقبة للفعل أو للحدث الأول والذي أحدثه لم يتوقع هذه العاقبة، يعني (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) هم طبعا لو كانوا يعلمون أنه سيكون لهم عدوا وحزنا كانوا التقطوه؟ ما كانوا يلتقطونه، هم كانوا يعني يلتقطونه ليكون لهم قرة عين فكانت العاقبة أنه أصبح عدوا وحزنا.
إنما هل التساؤل كان عاقبة للبعث؟ لم يكن عاقبة، إنما هو دليل على ممارسة الحياة. يعني حتى لو كان هناك من قال إن اللام للعاقبة المعنى لا يتناسب مع العاقبة. إذا (وكذلك بعثناهم) للدلالة على قدرة الله تبارك وتعالى فتساءلوا بينهم.
( قال قائل منهم كم لبثتم) يعني كم لبثتم في نومكم؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. وبينت ذلك أن المراد أنهم أجابوا عن المدة التي ينامها الناس غالبا، فالمدة التي ينامها الناس غالبا هي اليوم أو بعض يوم. وقلت لكم إنه أجاب بذلك دليلا على أن هيئتهم لم تتغير ولو كانت تغيرت ما قال يوما أو بعض يوم.
هناك قضية مهمة جدا لابد أن نفهمها في قصص القرآن: الله تبارك وتعالى لا يذكر في القصص إلا ما فيه العبرة لنا و ما لا عبرة فيه لا يذكره. فهو لا يذكر هذه الأشياء التي تسألون فيها، يعني هل هناك فرق بين أن شعرهم أصبح مثلا أبيض وإلا أسود كما هو؟ لم يذكر الله ذلك فلنسكت عنه لأن رب العزة لم يذكر، ولو كان في ذكر ذلك فائدة لذكره الله تبارك وتعالى. هذا قوله (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم).
(قالوا ربكم أعلم بما لبثم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا) بعد التساؤل (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) هذه (ربكم أعلم بما لبثتم) تعطينا فائدة مهمة جدا وهي: إذا وصل الحوار إلى مستوى لا فائدة فيه يتحول الى جدال والأولى أن نحوله إلى شيء مثمر نافع. إذا تحول الحوار إلى مجرد كلام لا فائدة فيه وكل طرف يتكلم بلا فائدة، وفيما بين الناس في هذا الزمن كل يريد أن ينتصر لنفسه، يعني كل واحد يريد أن ينتصر فيتحول الأمر إلى جدال، الله تبارك وتعالى يقول لنا من خلال (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) كأنهم يقولون يا جماعة كفوا عن هذا الحوار، هذا الحوار لا فائدة فيه، هذا سيوصل إلى جدل.
● وبعد ذلك انتقل لفاء التفريع مباشرة (فابعثوا أحدكم بورقكم) يعني افعلوا ما فيه المنفعة، حولوا الحوار والجدال إلى شيء ينفعكم، لا تتكلموا كثيرا فيما لا ينفع لأن الكلام فيما لا ينفع سينقلب إلى ما يضر. وهذه مهمة جدا جدا قضية تحويل الحوار من شيء غير نافع إلى شيء نافع وبسرعة. هذه رسالة الله لنا من هذه الجملة القرآنية وهي (قالو ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا احدكم بورقكم هذه إلى المدينة). وبعض العلماء يطلقون على هذا شبه الأسلوب الحكيم. يعني يقولون هذا الأسلوب شبيه بالأسلوب الحكيم لكنه ليس هو الأسلوب الحكيم عينه، يعني حتى هؤلاء يقولوا لولا أن الله قال (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) لكنا نقول إنه هو الأسلوب الحكيم، يعني لو كان قال (ابعثوا أحدكم بورقكم) كان معنى ذلك أن الذي تساءل كم لبثتم سؤالك ليس في محله وإنما دعونا نبحث عما ينفعنا، لكن (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) جعلت الأسلوب شبيها بالأسلوب الحكيم.
أتوقف هنا ونكمل بحول الله وقوته في لقائنا القادم.
--------------------
هنا الملف الصوتي للمحاضرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق