الثلاثاء، 30 أبريل 2024

تدبر سورة الكهف (1) / د.محمود شمس

سورة الكهف من السور التي تحتاج إلى أن نتدبر كل كلمة فيها ونستخرج فوائدها حتى تكون نبراسا لنا جميعا في حياتنا.  

الأحاديث الواردة في فضل سورة الكهف :
 الأحاديث التي وردت في فضل سورة الكهف ليست كلها صحيحة وإنما تخيرت لكم الأحاديث الصحيحة في فضل هذه السورة. 
▪︎الحديث الأول: عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال) هذا الحديث صحيح وموجود في عدة كتب صحيحة منها صحيح ومسلم. 

▪︎الحديث الثاني: عن البراء ابن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين- مثنى شطن وهو الحبل يعني مربوط بحبلين- فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: (تلك السكينة تنزلت بالقرآن). فمن خلال هذه الأحاديث، يتبين لنا فضل هذه السورة. 

▪︎ وبالنسبة للعشر آيات من أول سورة الكهف التي تعصم من الدجال. الرواية الصحيحة هي في العشر آيات الأولى، وهناك بعض الأحاديث وردت من طرق أخرى في العشر آيات الأخيرة. لكن العشر آيات الأولى هي التي ورد فيها الحديث الصحيح.

عندما ننظر إلى ما في سورة الكهف من دروس ومن عبر نجد الآتي: 
أولا: استهلت السورة بـالحمد لله على إنزال القرآن، وأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه. 
ثم ذكرت السورة ثلاث قصص لم تُذكر في غيرها. يعني مما اختُصت به سورة الكهف ذكر ثلاث قصص لم تذكر في غيرها. 
هذه القصص هي: 
 قصة أصحاب الكهف وهي مثل عالٍ ورمز سامي للتضحية بالوطن والأهل وكل شيء في الدنيا في سبيل العقيدة والفرار بعقيدتهم التي فعلها أصحاب الكهف بالتفصيل المذكور في القصة. 
 القصة الثانية:  قصة موسى مع العبد الصالح الخضر. وهي مثل للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم، وأن الله قد يمنح العبد بعضا من علمه ما لم يمنحه لبعض الأنبياء، كما فعل الله ذلك مع العبد الصالح وموسى. 
القصة الثالثة: ذو القرنين وهي تمثل حركة السعي في الحياة، والسعي وفق أسس، وفق خطة محكمة. ولا بد أن يكون الساعي في الأصل متقيا لربه جل وعلا، فهذا ذو القرنين رجل تقي تمكن من السيطرة على العالم، و مشرق الأرض ومغربها وبناء السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح. وهذه القصة تمثل المحاور التي يتم بناء الشخصية المؤمنة على أسسها. 
فالأساس الأول في بناء الشخصية المؤمنة العقيدة الصحيحة، والعقيدة الصحيحة عندما يدرك معتنقها أن كل ما يملكه في الدنيا لا يساوي شيئا في سبيل الخلل واختلال عقيدته. فإذا تيقن المؤمن من ذلك وفعل ذلك فقد تم بناء وضع اللبنة الرئيسية في الشخصية.

ذكر الله تبارك وتعالى عقب قصة أصحاب الكهف ثلاثة أمور لينبهنا أن هذه الأمور هي التي تجعل عقيدتك تختلّ:
 الأمرالأول هو: طغيان حب المال في قلبك. وأنا أقول طغيان حب المال ولا أقول مجرد حب المال. لأن حب المال أمر فطري.
 والفرق بين حب الماء وبين طغيان حب المال :
أن الذي يحب المال يجمعه من حلال وينفقه في حلال ولو دعي إلى الإنفاق بادر. فحب المال معناه: الحرص على جمعه من حلال وإنفاقه في حلال وحفظه بطريقة حلال وإذا دعي إلى الإنفاق يبادر. 
نجد هذا في قول الله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ... ) الآية
 (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) (على) حرف استعلاء فأهل اللغة: أنها هنا بمعنى (مع). لماذا؟ يرون أن حرف الاستعلاء هنا لا دور له، فماذا يستعلي على ماذا؟ 
 ولكن عندما نتأمل ونتدبر نجد أن الحق تبارك وتعالى يريد منا أن يستعلي حبنا للعطاء على حبنا للمال، يعني الأصل في المؤمن أنه يحب المال لكنه إذا دُعي للعطاء وللإنفاق فإنه يستعلي بالإنفاق على حبه للمال. 
أما لو كانت (مع) التي تعطي معنى المصاحبة لكان معنى ذلك أن حب العطاء يساوي حب المال، وإذا كان حب العطاء يساوي حب المال فلن يتغلب حب العطاء أبدا لأن النفس بطبيعتها تحب المال، فالنفس ستغلب حب المال على حب العطاء. إنما رب العباد آثر أن يكون بحرف الاستعلاء ليقول لك لابد أن يستعلي حبك للعطاء على حبك للمال.
حتى الطعام قال الله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ) أيضا ليس (مع حبه) لأن النفس بطبيعتها تحب الطعام فهي تكون في أشد الحاجة للطعام ومع ذلك إذا أتاها سائل فإنها يستعلي حبها للعطاء على حب الطعام، وإلا فإن حرف المصاحبة يفسد المعنى. 
أما طغيان حب المال فهو لا يبالي من أي طريق يجمع ولا يبالي فيما ينفق، ولا يبالي كيف يحفظ المال، لأنه في الأصل جمعه من حِل أو من حرام فهو لا يبالي في ذلك ثم بعد ذلك ينسب النعمة لنفسه.

 علامات طغيان حب المال: 
1- أنه لا يبالي في جمع المال أمن حلال أم من حرام.
2- أنه ينسب المال إلى ذاته كما قال قارون (إنما أوتيته على علم عندي) ، وكما قال صاحب الجنتين في سورة الكهف (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا ) ما أظن أن تهلك هذه أبدا ، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) يعني حتى ينفي قيام الساعة، لأن عدم قيام الساعة فيها مصلحته. ثم يذكر أنه وعلى فرض قيام الساعة (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) يعني أنا هناك في الآخرة سأجد أفضل منها. فهذا الرجل الذي نسب النعمة لذاته هو بالطبع هو بالتالي كفر بالله فكان نتيجة ذلك أن (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا).

المثل الآخر الذي ضربه الله تعالى مبينا أنه يفسد على الإنسان عقيدته: 

/ الاغترار بالحياة الدنيا قال الله جل وعلا: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45)) في هذه السورة هذه الآية يعالج الله بها قلوبا اغترت بالدنيا فقال: (كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا) عطف (فأصبح هشيما) على (فاختلط به نبات الأرض). 

س: أليس هناك بعد اختلاط الماء بنبات الأرض مراحل قبل أن يُصبح هشيما؟
ج:  بلى هناك مراحل كثيرة ، فالبنات ينبت أولا بعد اختلاطه بنبات الأرض (فنبت)، ثم يخضر النبات (فاخضر) ، ثم يصبح مزدهرا، ثم يُثمر الثمرة (فأثمر)، ثم بعد ذلك (فجعلناها حصيدا) كما ذكر الله في سورة يونس. والمرحلة التي بعدها (يكون حطاما) كما ذكر الله في سورة الحديد. (فأصبح هشيما) هذه هي المرحلة الأخيرة لأن معنى أصبح هشيما أي: أن عيدان الزرع تفتت وأصبحت مهشمة، وهي طبعا لا تتفتت إلا بعد أن تكون حطاما، حطاما يعني خرج منها الماء، ولن تكون حطام إلا بعد أن تكون حصيدا، يعني تُنزع من الأرض حتى نفصل بينها وبين الأرض لكن يبقى فيها الماء. إذا (فأصبح هشيما) هنا ليتناسب مع تذروه الرياح.
 ولما كان الأمر لا يتناسب مع العقل البشري إذ كيف يمر النبات بهذه المراحل حتى يصبح هشيما وفي الآية يصبح هشيما فجأة ويعطف الله بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب والسرعة!! ليقول الله لنا إن الدنيا بالنسبة للإنسان سريعة الزوال وسريعة الطي، يعني الزمن ينطوي بسرعة، ولذلك من الممكن أن تكون بعض الأحداث قد مضى عليها سنوات وأنت تظن أنها منذ أيام، فالله يقول لك أنت طالما ولدت فأنت ميت.
 ولذلك بعض الفقهاء له ربطٌ بين قضية الولادة وقضية الموت فيقول: إن من السنة أن الطفل إذا ولد يؤذن في أذنه اليمنى ويقام للصلاة في أذنه اليسرى لكن هل نصلي؟ لا نصلي، ويوم يموت هذا الإنسان نصلي عليه دون أذان ولا إقامة لأن الأذان والإقامة تمت يوم ولدت وأُجلت الصلاة إلى أن ينتهي أجلك. يعني كل واحد منا الآن أُذن له وأقيمت الصلاة أيضا ولكن الصلاة مؤجلة يعني آتية لامحالة. ولذلك العبد إذا فكر لا يُقصر في الصلاة أبدا لأنه ينبغي أن يصلي قبل أن يُصلى عليه.  فالله تبارك وتعالى أراد أن يقول لنا: لا تلتفتوا إلى هذه الدنيا ولكن اجعلوها فقط أسبابا تأخذون بها واجعلوها وسيلة لا غاية. الدنيا وسيلة توصلنا إلى غاية، الغاية هي الآخرة والفوز في الآخرة، لا بد أن يكون عندك. أمل وحسن ظن بالله لكن لا بد أن تعمل لذلك، فقال الله في ختام الآية (وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا)
 مقتدرا: يعني كامل القدرة لا تُعمل عقلك في هذا الأمر. 
إذن إلى الآن هناك أمران يؤثران في عقيدة الإنسان وانحرافه عن إيمانه وتوحيده بالله جل وعلا وهما:
 الأول: طغيان حب المال في القلب. ولا تنسوا الفرق بين حب المال وبين طغيان حب المال.

 الثاني: الاغترار بالحياة الدنيا.

 الأمر الثالث: اتخاذ الشيطان وذريته أولياء من دون الله.

الله ذكر آية واحدة في قصة إبليس مع آدم وقلت سابقا في محاضرة أخرى أن الله تبارك وتعالى ذكر في هذه الآية أن إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ثم استنكر على الإنسان أن يتخذ إبليس وذريته أولياء من دون الله (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) وبالطبع هذا لا يليق بالإنسان ولا يصح من الإنسان. إذن ثلاثة أمورتؤثر في إيمان الإنسان وفي توحيده وفي طاعته لله جل وعلا وفي عقيدته. 

/ ثم ذكر الله تعالى القصة الثانية وهي:  قصة موسى مع العبد الصالح وهي تدل على أن العلم اليقيني وهو العلم الغيبي الذي نؤمن به، وهو من أركان إيماننا لا بد أن تقوم الشخصية على أساسه وعلى اليقين به. لأن الله تبارك وتعالى هو الذي علّم العبد الصالح (وعلمناه من لدنا علما) فإذا على الإنسان ألا يُحكّم عقله، لأن عقله وحده دون حسن الظن بالله ودون الإيمان ودون اليقين فيما عند الله يجعل الإنسان يفكر كيف يعيش هذا الإنسان؟! يعني لو وجدنا إنسانا -مثلا- كفيف البصر مشلول الأركان كلها وليس فيه من شيء صحيح إلا رأسه. يعني الإنسان فينا قد يقول كيف يعيش هذا الإنسان؟! وكيف يُخدم؟! ومن الذي يخدمه؟! يعني الإنسان لو أعمل عقله بعيدا عن اليقين فيما عند الله وعن الإيمان بالله فستكون مقاييس عقله فاسدة، لأن مقاييس العقل وحدها تقول هذا الإنسان لن يجد من يخدمه، لكن إذا فكرنا بعقولنا أيضا لكن وفق الإيمان بالله ووفق اليقين فيما عند الله سنقول إن الذي خلقه لن ينساه، وهذه حقيقة الذي خلقه لن ينساه. فهذا يحتاج إلى إعمال العقل وفق الإيمان واليقين بالله تبارك وتعالى، إنما العقل وحده يقول لا هذا الإنسان لا يصلح هكذا. فبالطبع العلم اليقيني علمنا الله إياه عن طريق هذا العبد الصالح.
وسبحان الله عندما نفكر لم يعلمنا الله إياه عن طريق نبي مرسل وإنما جعل العبد الصالح هو الذي يعلم النبي المرسل، ولله حكمة في ذلك ليقول لنا عطاءات الله لا تتوقف، الله عندما يعطي ويمنح فلا تسأل لِم أعطى؟ ولمَ منح؟ ولِمَ منح هذا ولم يمنح ذاك؟ فمِنح الله تبارك وتعالى يمنحها من يشاء ويعطيها من يشاء، وهو اجتباء واصطفاء منه جل وعلا لعباده، لكن ليغرس فينا اليقين وليقول لنا كونوا على يقين فيما عند الله تبارك وتعالى.

ثم بعد ذلك تأتي قصة ذي القرنين : ذو القرنين وصل إلى ما وصل إليه بالأخذ بالأسباب يعني هو تقوى وعمل صالح وكان إنسانا تقيا إلا أنه بلغ مغرب الشمس وبلغ مطلع الشمس، مغرب الشمس في الغرب، ومطلع الشمس في الشرق. أنظروا إلى رحلاته والأخذ بالأسباب وعندما وجد يأجوج ومأجوج أقام السد بقدرة الله تبارك وتعالى. وهذا كله أيضا من عطاء الله لكنه عطاء متوقف على الأخذ بالأسباب. إذا هذا هو المحور الثالث في بناء الشخصية المؤمنة. 

إذا الشخصية المؤمنة:  
● عقيدة صحيحة تجعله يضحي بكل شيء في الدنيا ليفر بدينه.
● ثم بعد ذلك لا يطغى حب المال في قلبه ولا يغتر بالدنيا، ولا يتخذ الشيطان وليا من دون الله.
● ثم العقيدة قائمة على علم يقيني فيما عند الله، وقائمة على إيمان بالغيب وقائمة على أن عطاءات الله لا تتوقف.  
● ثم سعي وحركة في الحياة. 
 
وتأملوا ختام السورة الكريمة، ختمت السورة أيضا بثلاث موضوعات مرتبطة بسياقها: 
الموضوع الأول: إعلان تبديل أعمال الكفار وضياع ثمراتها في الآخرة وقد أشار إليها بقوله: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) 
الثاني: تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالنعيم الأبدي الأخروي : (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) 
والموضوع الثالث: أن علم الله لا يحده حد (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا). 
فهذه نظرة شاملة للسورة وبإذن الله لنا وقفات تفصيلية مع آيات السورة كاملة.
/ تبدأ السورة بقوله (الحمد لله) : ( الحمد لله) هذه جملة إسمية، والجملة الإسمية التعبير بها دلالاته الثبوت والدوام، أي أن الحمد لله جل وعلا ثابت وحاصل سواء حمده العباد أم لم يحمدوه ولذلك لم يرد الحمد لله في القرآن أبدا جملة فعلية، بينما التسبيح أكثر وروده في القرآن الكريم بالجملة الفعلية، بالمصدر نجد (سبحان الذي أسرى) و (سبحان الذي خلق الأزواج كلها) إلخ. وسبح بالماضي، ويسبح، وسبِح بالأمر. فالتسبيح في كل زمان وفي كل مكان.
 ولم يرد التسبيح اسما إلا مرتين في القرآن مرة في قصة يونس (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) أتت هنا بالاسم المسبحين لماذا؟ 
أي أنه كان يسبح تسبيحا دائما مستمرا، يعني يونس وهو في بطن الحوت ما كان يسبح مثلا مرة ويسكت، لا كان ملازما للتسبيح بالأسلوب الذي ذكره الله تبارك وتعالى في سورة الأنبياء وهو (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فإذا كان يونس في بطن الحوت لم ينقطع عن التسبيح فما الذي يقطعك عن التسبيح لله جل وعلا؟! ما الذي يقطعك؟ وما الذي يمنعك؟ وماذا يضرك لو أنك ألزمت نفسك بالتسبيح بحمد الله جل وعلا.
 ولذلك انظروا الموضع الثاني من ورود التسبيح اسما ورد في شأن الملائكة (وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون) والموضعان في سورة واحدة يعني سورة الصافات قصة يونس أولا ثم وصف الله الملائكة بهذه الصفة، والملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون أبدا، لا ينقطعون لحظة عن التسبيح. فأنت إذا داومت على التسبيح ستصبح فيك صفة من صفات الملائكة، وطالما فيك صفة من صفات الملائكة فإن الله تبارك وتعالى ينجيك من كل هم ومن كل غم في تلك الدنيا.
ما السر في ورود التسبيح بصيغ الفعل كلها؟ 
ليدل على شمول التسبيح لله في كل زمان وفي كل مكان.
لعل في ذلك إشارة إلى أن هناك شُبها ستظهر على الساحة وتتطلب منك أن تنزه الله عن كل نقص لا يليق به، هناك بدع ستظهر، وما أكثر البدع التي ظهرت في هذا الزمان. هناك بدع كثيرة وهناك من ينصر البدعة. فالله تبارك وتعالى يريد منا أن نسبح الله في كل زمان وفي كل مكان كلما ظهرت بدعة، كلما ظهرت بدعة نسبح الله تبارك وتعالى وننزهه عن تلك البدعة.

 إذن (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) 
( الحمد لله ) التي وردت في سورة الفاتحة قلنا أنها جملة إنشائية بمعنى الخبرية أي أن الله تبارك وتعالى حمِد نفسه سواء حمده العباد أم لا ويعلمنا كيف نحمده. وخبرية أي أن الله يخبرنا أنه حمِد ذاته العلية وليس بحاجة ألى حمد العباد له.
الجملة لو قلنا إنشائية أي أن رب العباد يعلمنا كيف نحمده، وهي لا تكون إنشائية إلا أن نُقدر لها "قولوا الحمد لله". وقد تكون خبرية أي أن الله تعالى يخبر بأن الحمد ثابت له سواء حمده العباد أم لا..
الجملة هنا لارتباطها بقوله (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) جعلت العلماء يقولون أنها خبرية لأن الله يخبرنا أن الحمد له بسبب أنه أنزل على عبده الكتاب.
 افتتح الله خمس سور في القرآن الكريم بالحمد لله:
● السورة الأولى سورة الفاتحة: (الحمد لله رب العالمين)
●والسورة الثانية سورة الأنعام: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور)
● وبعدها سورة سبأ: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)
● وسورة فاطر: (الحمد لله فاطر السموات والأرض)
● وسورة الكهف التي معنا.

 عندما ننظر إلى الرابط بين هذه السور نجد أن ( الحمد لله) الأولى في سورة الفاتحة يعلمنا الله أن نحمده أنه رب العالمين، ونجد الأربع سورالباقية تؤكد على ربوبية الله للعالمين:

/ سورة الأنعام (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور) طبعا رب العالمين لا بد أن يكون خلق السموات والأرض، فجملة (خلق السموات والأرض) تؤكد ربوبية الله للعالمين. 

/ أول سبأ (الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض) يعني خلق السموات والأرض وله ما في السموات وما في الأرض حتى لا يظن أحد أنه خلقها ومعه شريك، أو أنه خلقها وهناك شريك له. فأكدت سورة سبأ أنه له ما في السموات وما في الأرض.

/ وسورة فاطر (الحمد لله فاطر السماوات والأرض)  فاطر بمعنى أنه خلق الشيء على هيئة محددة تجعله يؤدي مهمته التي أوكله الله بها في الكون، فالله فطر السموات والأرض بمعنى أنه شقها وخلقها من عدم لكن على هيئة تجعل السموات والأرض تؤدي دورها ومهمتها المنوطة بها. وكلمة (فطر) وردت على لسان نبي الله إبراهيم (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)، ووردت على لسان الرجل الصالح في أصحاب القرية في سورة يس (ومالي لا أعبد الذي فطرني) بمعنى خلقني على هيئة تمكنني من تأدية مهمتي. فالله تبارك وتعالى خلق الإنسان لمهمة العبادة ومنحه الحواس التي بها يستطيع أن يؤدي تلك العبادة، وخلق كل دابة وكل حشرة لمهمة محددة.

/ لم يُعصَ رب العباد من أي مخلوق أبدا إلا من الإنسان لماذا؟ 
لأن الإنسان هو الوحيد الذي خيّره الله جل وعلا في العبادة. فمنطقة الاختيار هي المنطقة التي ينحرف العباد فيها. إذن عندما نفكر في هذه السور كلها نجد أنها تؤكد ربوبية الله للعالمين باتزان الكون. 
بقيت سورة الكهف: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) كأن القرآن الكريم والنبي الذي أنزل عليه القرآن الكريم ومن يحفظ القرآن الكريم ويتبع هديه به اتزان الكون. يعني يُتمم الله اتزان الكون بالقرآن، وبمن اتبع هدي القرآن، وبمن سار على هدي القرآن ولذلك علمنا الله أن نحمده أنه أنزل على عبده الكتاب، وسورة الكهف ابتدأت بهذه الميزة التي ميز الله بها هذه الأمة أنه أنزل على عبده الكتاب. وكان التعبير بالجملة الإسمية: (الحمد لله) ليعلمنا الله جل وعلا أن الحمد لله ثابت وحاصل سواء حمده العباد أم لم يحمدوه.

------------------------------

المحاضرة الصوتية 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق