الحياة الحقيقية هي حياة القلب وتلك الحياة لا تكون إلا بالقرآن وفي القرآن ولذا نقول: لم يذق طعم الحياة من لم يتدبر كتاب الله..
الاثنين، 1 فبراير 2021
مقاصد سورة آل عمران / د. محمد بن عبد العزيز الخضيري
الحمدلله الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد.. فحديثنا حول سورة آل عمران ، هذه السورة العظيمة الكريمة التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم مع سورة البقرة الزهراوين قال: (اقرأوا الزهراوين فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) والأحاديث الواردة في فضلها صحيحة وكثيرة ومرغبة للإنسان في أن يستمسك بها ويحرص على تلاوتها وحفظها.
هذه السورة الكريمة فيها قضايا كثيرة جداً لكن أبرز قضايا هذه السورة هي قضية التوحيد ، والذي يدلل على ذلك أنها افتُتحت بالتوحيد قال الله عز وجل : {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فافتتحها الله عز وجل بكلمة التوحيد وهي قوله {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وهذه الكلمة لم ترد في سورةٍ مثلما وردت في سورة آل عمران، فقد جاءت في خمسة مواطن ، بينما في سورة النساء جاءت في موطنٍ واحد {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}، وفي سورة ال عمران جاءت في خمسة مواطن اسمعوا : {الله لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هذا الموطن الأول.
وفي نفس السياق أو في نفس الصفحة الأولى من هذه السورة قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
ثم جاءت في آيةٍ أخرى مرتين {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وجاءت مرة خامسة في قوله عز وجل {وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
هذه الآيات كلها في التوحيد الخالص.هذا واحد من الشواهد على أن هذه السورة سورة التوحيد.
اما الشاهد الثاني فهو ورود كلمة الإسلام ، لم ترد في القرآن في سورة مثل العدد الذي وردت فيه في هذه السورة الكريمة، واسمعوا -مثلاً- قول الله عز وجل {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ثم قال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ، وقال سبحانه وتعالى {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} وغيرها من المواطن التي وردت في هذه السورة.
ويراد بالإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك.
وأيضاً مما يدلل على أن هذه السورة هي سورة التوحيد وأنها اعتنت بهذا الأمر عنايةً بالغة أنها سُميت سورة ال عمران.
س: فإن قلت كيف يعني؟ ما دلالة آل عمران على التوحيد؟
فنقول أن هذه السورة في أكثر من مئة آية منها جاءت في حوار النصارى ومناقشتهم في القضية الكبرى التي أخلوا فيها بإسلامهم وهي قضية تأليه عيسى أو ادعاء أنه ابن لله عز وجل ، فالله عز وجل لما أنزل هذه السورة نص فيها على هذه الأسرة الكريمة وهي أسرة آل عمران ليقول لك أن عيسى هذا ينتمي إلى سلالة بشرية معروفة كما تُعرف سائر السلالات البشرية والأسر الإنسانية المبثوثة في هذه الأرض، فهناك أسرة يقال لها آل عمران، منهم عيسى هذا الذي أنتم ادعيتم أنه ابن الله، فهو من سلالة بشرية معروفة . فهو يرمز باسم السورة. لماذا لم يُسمها مثلا بـ سورة الحي أو سورة أُحد؟ أو أي اسم آخر؟
سمّاها سورة آل عمران للرد على النصارى بأن عيسى هذا الذي تدّعونه إلها أو ابنا لله - تعالى الله عما تقولون علوا كبيرا - هو بشر كسائر البشر {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فإن كنتم تستغربون من عيسى وترون أنه ظاهرة مختلفة عن سائر البشر فأبونا آدم أشد غرابة لأن أبانا آدم لم يكن له أبوان، وعيسى كان له أمّ من دون أب.
ومما يؤكد -أيضا- أن هذه السورة سورة التوحيدمعنى بلاغيا في غاية الدقة وهو: هناك في البلاغة ما يسمى عند علماء البلاغة والبيان ما يسمى برد العجز على الصدر ، بمعنى أن المتحدث يبدأ بكلام يشير إلى ما يريد أن يتحدث عنه ثم يختم كلامه بالعَود على الموضوع الأساس الذي بدأ به حديثه، فيسمون هذا رد العجز يعني عجز الكلام على صدره أي على أوله، والقرآن كله بُني على هذه القاعدة البلاغية.
فإذا نظرت إلى السبع الطوال أو السبع السور الأولى التي افتُتح بها القرآن والسبع الأخيرة التي اختُتم بها القرآن وجدت أنهما من هذا النوع.
مثال يوضح هذا الأمر : انظروا إلى سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فجاء اسم (الله) ، و(الرب) ، و(مالك)، وفي آخر سورة وهي سورة الناس جاء {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ } الأسماء الثلاث الموجودة في سورة الفاتحة أعيدت في سورة الناس.
إذا نظرت إلى سورة البقرة ذُكر فيها قضية السحر والحسد بوضوح ولذلك من أعظم ما يُرقى به المسحور والمحسود سورة البقرة يقابلها سورة الفلق {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} .
إذا نظرت إلى سورة آل عمران {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} انظر إلى ما يقابلها آخر القرآن قال الله عزوجل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) .
هذه السورة فيها موضوعان أساسيان :
/ الموضوع الأول : الحوار مع النصارى وقد نزلت آياتها الأولى في مناظرة النصارى ومناظرتهم ومجادلتهم ومحاجتهم عندما جاء نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه السورة ليُقيم الحجة عليهم في أعظم أمر أخلوا فيه وهو قضية تأليه عيسى عليه الصلاة والسلام وادعاء أنه الله أو ابن إله - كما زعموا- تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فجاءت هذه السورة لتفند هذا تماما وأن عيسى بشر من البشر ، وتذكر وتحكي قصته من البداية (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وتأتي بالقصة كيف جاءت مريم ثم كيف تفرغت مريم للعبادة ثم إن الله عزوجل كفّلها زكريا ثم إن الله عزوجل جعل لها هذه الآية العظيمة العجيبة وهي ان يخلق عيسى في جوفها من غير أب. ثم يقوم عيسى بدوره الذي أناطه الله به، وهو القيام بالأمر بالتوحيد وذكر أنه عبد لله عزوجل كما في قوله جل وعلا لما قال لبني إسرائيل مبينا حقيقته قال : (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) فاختلف الأحزاب بينهم.
ثم بدأت الآيات تناقشهم وتجادلهم وتحاورهم إلى أن وصل الحوار إلى مرحلة المباهلة ، والمباهلة هي أن تدعو خصمك الذي لم يقبل بحجتك، تقول أنا متأكد أنا حجتي بالغة وأنها قد قامت عليك وأعلم أن الذي يمنعك من قبولها هو الكِبر وعدم الرضوخ للحق وإلا فبأي حق تدعي لبشر أنه إله؟ تعال.. تدعو علي وأدعو عليك، قال الله عزوجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) يعني أدعو أنا على نفسي إن كنت كاذبا فيما ادعيته في حق عيسى أن يجعل الله علي لعنته، وأنتم تقولون ذلك ، ثم نفذ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بنفسه فدعا فاطمة وعليا والحسن والحسين وقال للنصارى الذين جاءوه من نجران اخرجو نبتهل، فاجتمعوا وقالوا والله إننا نخشى أن تصيبنا هذه المباهلة بباقعة فلا تبقى منا نفسٌ منفوسة ، بل ارضوا بمصالحة محمد وادفعوا له الجزية. وهذا يدل على أنهم كانوا يعلمون أن الحق كان معه ، وأن الآيات التي أنزلها الله من سورة آل عمران قد أبلغت في الحُجّة وقطعت دابر أي شبهة لديهم ، ولذلك قال الله لهم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) رأيتم كيف تجلت هذه القضية بهذا الوضوح وهو قضية التوحيد في أكثر من مئة آية.
بعد هذا كله لما بيّن الله عظمة التوحيد وأهميته وأقام الحجة والدليل عليه بدأ يذكر مستلزمات هذا التوحيد ما هي مستلزمات ومقتضياته؟ من أهم مستلزمات التوحيد: [الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء، والجهاد في سبيل الله] إذا كنت مُوحد حق فإنك ستقوم لله عز وجل بأمره بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتوالي وتعادي في الله، وتجاهد في سبيل الله. وهذا ما جاء بعد ذكر التوحيد فانظروا بعدما ذكر الله عز وجل هذه القضايا قال للمؤمنين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} ثم قال : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ثم بعد ما انتهى من هذا ذكر قضية الولاء والبراء في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } أي لا تتخذوا أعدائي الذين يشركون بي بطانة تجعلونهم يعني وزراء ومستشارين عندكم فإن هذا يتعارض مع أصل التوحيد ، الولاء والبراء فرع عن التوحيد {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي يودون عنتكم والمشقة التي تنزل عليكم قال الله عز وجل (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118)هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)} هذا الأمر الثاني.
الأمر الثالث : الجهاد، وجاءت صورة الجهاد في غزوة أحد قال الله عزوجل { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) } الجهاد لا يستقيم إلا على عمود التوحيد ، هو ذروة سنام الإسلام لكن ذروة السنام يقوم على أشياء أهمها وأعظمها وأجلها: التوحيد ، لأنه لا جهاد إلا بتوحيد، والجهاد كله من أجل التوحيد، وإراقة الدماء وقتل النفوس إنما يكون لأجل هذه الكلمة (لا إله إلا الله) ولا يمكن أن يبذل الإنسان نفسه ويهجم في ميدان المعركة وفي ساحة الوغى إلا وقد امتلأ قلبه بالتوحيد، ولذلك جاءت هذه السورة لتُعبّر عن هذا المعنى وهو قصة غزوة أحد التي قال الله عز وجل {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} ثم ذكّرت بما حصل في بدر ثم قال الله عز وجل { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل} يعني ما يجوز لكم أن تعلقوا دينكم بوجود الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالرسول قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، أنتم تتعلقون بالله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).
/ ثم يضرب الله عز وجل لهم مثلا ممن سبقهم من الأمم التي ثبتت وصبرت على دينها مع شدة ما أصابها من اللأواء. قال (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين* فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين).
/ ثم يعود ليعقد صلة بين يعني ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في جهادهم فلا يتشبهوا بالكافرين ولا يطيعوهم ولا يسمعوا لهم لأن هؤلاء الكافرين لا يبتغون بنا إلا العنت والمشقة والذل والهزيمة والخيبة والخسران (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينََ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) تعلقوا بالله.
ثم تستمر الآيات على هذا المنوال إلى أن قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وما تزال الآيات على هذا المنوال تجد وتأتي بأنواع من الدروس والعبر المتصلة بقضية الجهاد وما ينبغي للمسلمين أن يكونوا عليه من الآداب وإذا هُزموا أن يعرفوا من أين جاءتهم الهزيمة (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
عادت مرة أخرى إلى التوحيد فاسمعوا ماذا قال الله عز وجل قال (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) ، ثم قال أيضاً بعدها (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) وهو ردٌ على أهل الكتاب في إتمامهم الحق والعهد والميثاق الذي أخذه الله عليهم.
/ ثم يقول الله لنا في موضوعٍ جاء في أول السورة وهو ألا نغتر بالذين كفروا ولا بأموالهم ولا بما آتاهم الله من زينة الحياة الدنيا ، جاءت في أول السورة وفي أوسطها وجاءت ايضاً في آخرها في قوله ( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ) أكثر ما يغري الناس بحياة الكفار هو هذه السعة والبسطة في الرزق وفي المال والرغد في العيش والتنظيم في الحياة، هذا يفتن الناس فالله يقول احذروا أن تدعوا هذا التوحيد وهذا الاستمساك بالدين والأمر بالمعروف والولاء لله والبراء لله والجهاد في سبيل الله اغتراراً بما عند الكفار من نعيم الدنيا (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) ، ثم يغريك بالجنة ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ).
/ ثم يقول مبيناً حقيقة عظيمة جداً ومُنصفة أن أهل الكتاب هؤلاء ليسوا كلهم على شاكلةٍ واحدة بل منهم من رضي بالاسلام دينا ووحد الله عز وجل قال (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
/ ثم خُتمت هذه السورة بهذا الأمر العظيم الذي يلزم كل مؤمن حتى يلقى الله عزوجل ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وبهذا انتهت هذه السورة الكريمة المكونة من مئتي آية وقد نزلت كلها في المدينة. أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإياكم بها وصلى الله وسلم على نبينا محمد واله وصحب اجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق