د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري
ونبدأ اﻵن بالمثل اﻷول معنا في هذا المجلس وهو في سورة البقرة في أولها وهو قول الله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة في اﻵية السابع عشرة منها (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) [سورة البقرة 17]
نحن سنحرص على أن نبين معنى اﻵية وبيان المثل وبعض الفوائد من المثل حتى نستطيع أن ننهي اﻷمثال كلها اليوم وغدا -إن شاء الله-.
هنا هذا المثل ورد في وصف حال المنافقين، والله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة ذكر أصناف الناس في مقابل قبولهم للوحي أو عدم قبولهم للوحي، وذكر سبحانه وتعالى ثلاثة أصناف:
الصنف اﻷول: هم المؤمنون الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا.
والصنف الثاني: هم الكفار الذين كفروا به ظاهرا وباطنا.
وهذان فريقان واضحان لا لبس فيهما .
الفريق اﻷول وهم المؤمنون ذكرهم في خمس آيات فقط والكفار ذكرهم في آيتين فقط وجاء عند
الصنف الثالث: وهم المنافقون فخصّ لهم ثلاث عشرة آية وهذا لشدة خطورتهم وخفاء أمرهم على الناس. وهذا صحيح -أيها الإخوة- فالمنافقون هم أخطر أعداء اﻷمة كما قال الله عنهم قال (... هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ..)
[سورة المنافقون 4] يعني معنى اﻵية هم العدو فقط يعني كأنهم هم العدو فقط لا تشتغل بغيرهم لا من اليهود ولا من النصارى ولا من غيرهم، هؤلاء المنافقون هم أعداؤك الحقيقيون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) قال (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) جاء هذا المثل في بيان حقيقة حال المنافقين فقال الله سبحانه وتعالى (مَثَلُهُمْ) أي مثل هؤلاء المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) رجل أو جماعة في ظلماء استوقدوا نارا أي طلبوا إيقادها من غيرهم ﻷنهم هم لا يملكون هذه النار، هذا معنى "استوقد" يعني طلبوها من غيرهم، فلما أوقدوا هذه النار العظيمة قال الله سبحانه وتعالى (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فالمثل اﻵن بهؤلاء أو بهذا الرجل الذي أوقد نارا عظيمة وأضاءت ما حوله، "حول" هنا هو ظرف مكان للمكان القريب المحيط بك. أضاءت هذه النار وأصبح هذا الذي استضاء بها يشاهد ما حوله من آثار إضاءت هذه النار وكأنه -والله أعلم- لم يُوقد هذه النار إلا من أجل النور وليس من أجل الدفء أو من أجل الاستفادة منها في غير ذلك ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل "ذهب الله بنارهم" قالوا فيه إشارة إلى أن المقصود من النار هو النور وليس الحرارة أو ما فيها من اللهب. قال (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ).
اﻵن هذا هو المثل: رجل أو فريق جاءوا فأشعلوا نارا في الظلماء حتى أضاءت لهم وأصبحوا يرون كل ما حولهم ثم فجأة انطفأت هذه النار ﻷي سبب من اﻷسباب قال (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) والواحد منا يشاهد هذا -أيها الإخوة - أنك عندما تكون فيه إضاءة -مثلا- فى الصحراء أو حتى في البيت عندما تكون -مثلا- النور مُضاء في البيت ثم ينطفئ فجأة كيف تكون حالك بعدها مباشرة؟ تصبح في ظلام دامس لا ترى شيئا ثم بعد أن تصبر قليلا تبدأ العين تستطيع أن تتلمس موضع قدمها، طبعا هم يفسرونها من الناحية الطبية أو من الناحية الفيزيائية أن بؤبؤ العين عندما يكون الضوء واسع يكون متسع يعني مرتاح لأن الضوء موجود فعندما ينطفئ الضوء فجأة يكون البؤبؤ منفتح بشكل واسع فما يستطيع أنه يغلق بسرعة فتحتاج إلى وقت حتى يتأقلم ويركز البؤبؤ كما هو الشأن في الكاميرات عندما تركز الزوم أو تقربه وتبعده.
قال (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) (صُمّ ) قالوا لا يسمعون الحق وإنما هم يسمعون لكنهم لم يستجيبوا للحق فكأنهم صُم، والله سبحانه قد وصف الكفار الذين لم يستجيبوا بأنهم صم كما قال في سورة اﻷعراف (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)
[سورة اﻷعراف 179] ليس معنى الآية أن قلوبهم لا تضخ الدمّ أو أن عيونهم لا يُبصرون بها، يمكن ستة على ستة ويمكن أقوى لكنهم ﻷنهم لم يستجيبوا للحق ولم ينقادوا له فكأنهم عُميّ وصُم،فكذلك هنا وصفهم بأنهم صم بكم عمي.
هذا المثل يصور حال المنافقين الذين سمعوا اﻹسلام وسمعوا اﻹيمان وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا فنور هذا اﻹيمان أضاء لهم وعرفوا الحق من الباطل ولكنهم كانوا يُضمرون في أنفسهم الكره والكفر فهذا النور الذي استفادوه من اﻹيمان الظاهر سوف ينطفئ وهم أحوج ما يكونون إليه. فمن المفسرين من قال إن هذا حالهم في الدنيا ومن المفسرين من قال إن هذا حالهم في اﻵخرة. فيكون المنافق في الدنيا يُظهر اﻹيمان ويُبطن الكفر فإذا مات انكشف له حقيقة الأمر فكأنه تماما كهؤلاء الذين دخلوا في ظلام دامس،كانوا في نور ودخلوا في ظلام دامس، ويشهد لهذا قول الله سبحانه وتعالى(وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)
[سورة الفرقان 23]
ﻷنهم جاؤا بعمل ﻷن المنافقين يعملون بعمل أهل اﻹسلام في الظاهر ولكنهم يُبطنون كره اﻹسلام وكره النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه في باطنهم ولذلك لا ينفعهم هذا النور الظاهر ﻷنهم يُبطنون خلافه.
فهذه اﻵية -أيها الإخوة- جاءت في سياق الحديث عن هؤلاء المنافقين، وهذا المثل المطابق لحالهم أن الله سبحانه وتعالى ضرب لهم مثلا بهؤلاء الذين استوقدوا هذه النار العظيمة ثم فجأة انطفأت هذه النار وأصبحوا في ظلام دامس.
والسورة تتحدث -كما هو معلوم- سورة البقرة تتحدث عن الخلافة في اﻷرض في كلام كثير من النفسرين باعتبار أن سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن الكريم جاءت بالحديث عن التكاليف التي كلف الله بها المؤمنين وأشار سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة منها إلى قصص بني إسرائيل المكذبين والمعارضين للنبي صلى الله عليه وسلم ولموسى عليه الصلاة والسلام فكأنه ضرب بهم مثلا يجب علينا نحن المسلمين أن نحذره وأن نتجنبه. وجاءت قصة البقرة في سورة البقرة نموذجا لهذا التردد والتكذيب الذي كانوا عليه فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لنا احذروا سبيل هؤلاء اليهود وهؤلاء المكذبين المترددين الذين لا يستجيبون.
هذا هو موضوع السورة موضوع الخلافة في اﻷرض وما ينبغي أن يكون عليه الخليفة المسلم المؤمن، الخليفة يعني اﻹنسان المسلم وليس المقصود به الخليفة الملك أو الوالي. وقد جاء في آخر السورة خلاصة موقف المسلمين والصحابة الكرام رضي الله عنهم وما ينبغي علينا نحن أيضا أن نكون عليه مقابل هذه التكاليف التي ذكرها في سورة البقرة قال الله سبحانه وتعالى في آخر السورة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
[سورة البقرة 285] لكن بني إسرائيل (سمعنا وعصينا) وكلما أُمروا بأمر قالوا ما لونها؟ إن البقر تشابه علينا، فهم متلكؤن مترددون، ولذلك نقول أن مناسبة هذا المثل لسياق السورة الذي ورد فيها أن الله ضرب هذا المثل للمنافقين المكذبين الذين لم يُحسنوا الاستخلاف الذي استخلفهم الله فيه في اﻷرض فجاء مناسبا ضرب هذا المثل لهؤلاء المكذبين وهو نموذج لمن لم يُحسِن الخلافة ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وينقاد له وقد ذكر الله تفاصيل قبل هذه اﻵية ثم جاءت هذه اﻵية لتكون خلاصة لهذه الصفات عندما قال في اﻵيات التي قبلها (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ)
[سورة البقرة 8 - 12] الخ اﻵيات فبعد هذه الصفات والتفصيل في صفاتهم لخّص هذه الصفات في هذا المثل فقال (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) اشتغل يعني تعّب نفسه
(فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) فكذلك هؤلاء المنافقون هذا الضوء الذي جاءهم من إيمانهم الظاهر أعقبه ظلام دامس هو حقيقة ماهم عليه من الكفر الباطن.
ولاشك أن هذه صورة محسوسة واضحة يشاهدها الجميع، كم واحد منا أوقد نارا ثم انطفأت؟ كثيرون وهو مشهد مألوف عند الناس وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه أنه جاء بهذا اﻷسلوب السهل الذي يُدركه الجميع. القرآن -أيها الإخوة- كله واضح وسهل وميسر والهدف منه بلاغُ الرسالة فلابد أن تكون الرسالة واضحة حتى يفهمها الناس ولذلك يقول اﻹمام الطبري -رحمه الله- في مقدمة تفسيره "عجبت لمن يقرأ القرآن الكريم ولا يفهم معانيه كيف يلتذّ به" والواحد منا يشاهد هذا أنت عندما لا تفهم آية من اﻵيات ثم تسمع اﻹمام يتلوها لا تتوقف عند هذه اﻵية كثيرا لكن عندما تقرأ تفسيرها وتفهم معناها عندما يقرأها اﻹمام مرة أخرى يكون لها في نفسك معنى آخر ﻷنك قد فهِمتها وأدركت معناها، والله سبحانه وتعالى بهذه اﻷمثال يُقرِّبها حتى يعقِلها الناس وقال الله سبحانه وتعالى (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) ويمكن أن نتوقف عند بعض اﻷمثال أو عند الفوائد من هذا المثل فنقول:
- أن اﻹيمان بالله سبحانه وتعالى والاطمئنان به كالنور الساطع وكالشمس الظاهرة في وضوحها وطمأنينتها وخلافه النفاق والكفر ولينظر أحدنا في السفر إذا سافر الواحد منا في النهار وإذا سافر في الليل، السفر في النهار طمأنينة وسكينة والسفر في الليل فيه خوف لولا تيسُر الوسائل لنا في هذا الزمن وإلا السفر في الليل مخاطرة بل حتى السفر اليوم هو مخاطرة في الليل فإن النظر يضعُف في الليل والخطر الذي يُمكن يعترض اﻹنسان في الطريق كثير، فكذلك هنا اﻹيمان واﻹسلام والتصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مثل النور المضيء ومثل الشمس، وأما الكفر والنفاق فهو مثل الظُلمة بل سمّاه الله سبحانه وتعالى ظُلمات، والله سبحانه وتعالى قد وصف اﻹيمان ووصف اﻹسلام ووصف القرآن بأنه نور (...قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ..)
[سورة المائدة 15]
وقال (أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)
[سورة هود 17]
وقال (...فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ..)
[سورة الزمر 22]
وقال في آية أخرى (... كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..)
[سورة اﻷنعام 122]
فالله قد شبه اﻹسلام والقرآن واﻹيمان بالنور وشبه الكفر والنفاق بالظُلمة، وهذا ينبغي أن نتفطن له جميعا وندرك هذا حتى لا يقع الخلل أو يتوهم اﻹنسان أنه قد يجد في سبيل المنافقين أو في سبيل الكفار نورا والله قد نفى ذلك.
- أيضا المنافق لم يستقر اﻹيمان في قلبه وإنما هو في قلق ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) استوقدها يعني طلبها وتعِب في تحصيلها وهي ليست عنده ولقوله سبحانه وتعالى (أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) ولم يقل أضاءته، فالنور لم يدخل قلبه وإنما حوله وهذا دليل -أيها الإخوة- على أنهم لم يدخل اﻹيمان في قلوبهم ولم يستقر في قلوب هؤلاء المنافقين وإنما هو حول هذه القلوب التي لم تسقِرّ بنور اﻹيمان ولذلك قال هرقل -لاحظوا أيها الإخوة لم يكن على الإسلام- وكان أعقل من هؤلاء المنافقين الذين جلسوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمِعوا كلامه عليه الصلاة والسلام حيث لما جاءه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة علمية منطقية تدل على عقله وعلى فهمه فكان من ضمن اﻷسئلة التي سألها أبو سفيان قال له: هل يرتدُّ أحد ممن تبع نبيكم سخطة لدينه -هل يدخل أحد منهم اﻹسلام ثم يرتد؟- قال أبو سفيان: لا، طبعا هذا السؤال كان في أول اﻹسلام وإلا قد وقعت بعض صور الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وسألتك -حين جاء يشرح له لماذا سألت هذه اﻷسئلة- قال: وسألتك هل أحد يرتدّ أو يخرج من دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلت: لا، وكذلك اﻹيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإنه يستقِر فيها ويثبُت أما المنافق الذي لم يستقِر اﻹيمان في قلبه فإنه لا يثبُت إيمانه. (١)
/ المثل الثاني الذي معنا وهو أيضا يتعلق بالمنافقين فقد ضرب الله لهم مثلين وسنختم بهذا المثل هذه الجلسة -إن شاء الله- ثم نكمل اﻷمثال اﻷخرى.
ضرب الله في أول السورة مثلين للمنافقين مثل مائي ومثل ناري، فأما المثل الناري فقد سمعناه وهو قوله سبحانه وتعالى(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) فشبّه حال هؤلاء بالذي استوقد نارا ثم انطفأت فجأة.
والمثل المائي هي اﻵية التي بعدها وهي قوله سبحانه وتعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)
[سورة البقرة 19]
يعني ومثل هؤلاء المنافقين (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) والصيب هو المطر الشديد (صيّب )، (صيّب ) هي أصلا -كما يقول علماء الصرف- (صَيوِب) على وزن (فيعَل) ثم لما التقى حرف الياء وهو حرف علة بحرف الواو وهو حرف علة ثقُل في النطق فاستثقلت العرب أن تقول (صيوب ) فأدغمتها مع بعّض وحولت الواو إلى ياء وأصبحت (صيّب ) وتلاحظون أنها أسهل في النطق، ولذلك يعجبني ابن جني يقول: "ولا نزعم أن العرب كانت أول اﻷمر تقول صيوب ثم أصبحت تقول صيب وإنما هي قالت صيب مباشرة لكننا نُخمن كيف كانت ثم كيف أصبحت" وهذه -بالمناسبة- هي طريقتهم في التعليل الصرفي هم على هذا المنوال.
ومثلها -أيضا- (جيّد ) عندما نقول "والله هذا أمر جيد" هو مثلها أيضا أصلها (جيود) ثم أصبحت جيد، فكذلك صيوب أصبحت صيب. والصيب سُمي صيبا ﻷنه ينزل بغزارة كأنه يصيب أهدافه بدقة
"سقتك روايا المزن حين تصوب" يعني حين تنزل بغزارة.
ومعنى قوله سبحانه وتعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) أن هؤلاء المنافقين مثلهم كمثل قوم تحت هذا الرعد وهذا البرق وهذا المطر الشديد فهم يتقون المطر وأيضا البرق إذا أضاء لهم أضاء إضاءة شديدة وهذا كنور اﻹيمان الذي حصل للمنافقين لكنه سرعان ما يختفي، يومض إماضات فقط (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) من شدته. فكذلك هذا تشبيه -أيها الإخوة- لحال المنافقين بحال هؤلاء الذين يسيرون تحت هذا المطر الشديد وهذه الرعود القاصفة وهذه البروق الخاطفة فإن هذا الضوء الخافت مثل نور اﻹيمان الذي أضاء في قلوبهم ثم لم يستقر، وكذلك الرعد الذي قصف أسماعهم فهم عندما يسمعون القرآن ويسمعون السنة كأنهم يسمعون الرعود القاصفة التي تقصف آذانهم.(٢)
ولعنا نختم بفوائد وجيزة لهذا المثل فنقول من فوائد ضرب هذا المثل المنافقين:
- الاضطراب والقلق الذي يعانيه المنافقون، المنافق دائما يعيش في قلق وفي اضطراب كما قال الله سبحانه وتعالى (.... فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)
[سورة التوبة 45] قلقين، وهذا القلق ليس له إلا علاج واحد وهو اﻹيمان فقال الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) ثم قال (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
[سورة الرعد 28 ] يعني فقط ليس بغيره.
-ومن فوائد هذا المثل وهي فائدة عظيمة جدا لكم ولنا جميعا أن دلائل القرآن على حجج المنافقين كقصف الرعد ولمع البرق الخاطف وفي هذا فائدة عظيمة للدُعاة والمصلحين أن يجاهدوا في سبيل الله ببيان الحق وإظهار حُجج الوحي لذلك قال الله سبحانه وتعالى (...وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)
[سورة الفرقان 52] أي بالقرآن والانتصار للإسلام ممن ينتقصه ببيان الحق وتوضيح القرآن وبيان تفسيره وبيانه للناس هذا يعتبر أكبر من الجهاد في سبيل الله.
وأختم بهذه الفائدة من فوائد هذا المثل وهي: إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء فلا يخرج عن ملكه سبحانه وتعالى شيء بدليل قوله في آخر هذا المثل (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وهذا يُثبِّت المؤمن ويُقنِّط المنافق أنه لا مفر له من الله، وقديما قال النابغة الذبياني يعتذر من النعمان بن المنذر قال :
فإنك كالليل الذي هو مدركي ** وإن خِلت أن المنتهى عنك واسع
يعني ورائي ورائي لا يمكن أن أنجو.
فقوله سبحانه وتعالى (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) يُثبِّت المؤمنين ويُقنِّط المنافقين بأن الله سبحانه وتعالى لا يخرج عن أمره شيء.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم فهم كتابه. ونكتفي بهذا في هذا المجلس اﻷول ونُكمل إن شاء الله بعد صلاة العصر وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---------------------------
---------------------------
١- هذا المثل الناري أنهم استوقدوا من المؤمنين نورا بالإيمان الظاهر فإذا ذهبوا إلى الكفار وجدوا الظلمة والوحشة والقلق والاضطراب ظلمات وهكذا ذهب الله بنورهم . وتأملوا قول الله عز وجل (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل بنارهم أو ضياءهم لماذا ؟
يعني ذهب الله بالنور وبقي الإحراق يعني من مصدر النار، النار فيها أمرين إحراق ونور فالله عز وجل سلب منهم النور فبقي الإحراق وهو الظلمة في قلوبهم ، ثم حكم الله عليهم بقوله (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ) ما دام هذا حالهم. [تفسير سورة البقرة / د. محمد الربيعة / الأترجة.]
٢- هذا المثل يُبيّن حال المنافقين مع القرآن المثل الأول حالهم مع الإيمان، هذا المثل يبين حالهم مع نزول القرآن ,كيف كان حالهم ؟ انظروا إلى ما ذكره ابن عطية في تأويل هذا المثل قال :" قال جمهور المفسرين مثّل الله القرآن بالصّيب لما فيه من الإشكال عليهم والعمى وهو الظلمات وما فيه من الوعد والزجر وهو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم وهو البرق ,وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعلهم أصابعهم في آذانهم ,وفضح نفاقهم واستهان كفرهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها في الجهاد والزكاة هي الصواعق وهذا كله صحيح بيّن" . يعني القرآن مثل هذا المطر هو عليهم عذاب ,المطر مع أنه أصله رحمة هو عليهم عذاب لماذا ؟ لأن هذا المطر فيه خير وهو هذا الماء , وفيه شيء ضار وهو هذا الرعد والبرق ,فهذا الرعد والبرق هو نصيب المنافقين ,وهذا الماء والغيث هو نصيب المؤمنين ,فهذا المثل يبين هذا الحال ,فإذا نزل عليهم القرآن كان نصيبهم من القرآن الوعيد وفضيحتهم وبيان صفاتهم والتحذير منهم وذكر عقوباتهم في الدنيا والآخرة , فيملؤهم رعبا ًوخوفا ،ولذلك (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) وهم المنافقون ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) هذا حال أهل النفاق مع القرآن. فهذان المثلان يمثّلان حال المنافقين مع الإيمان ومع القرآن. [المرجع السابق]
٢- هذا المثل يُبيّن حال المنافقين مع القرآن المثل الأول حالهم مع الإيمان، هذا المثل يبين حالهم مع نزول القرآن ,كيف كان حالهم ؟ انظروا إلى ما ذكره ابن عطية في تأويل هذا المثل قال :" قال جمهور المفسرين مثّل الله القرآن بالصّيب لما فيه من الإشكال عليهم والعمى وهو الظلمات وما فيه من الوعد والزجر وهو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم وهو البرق ,وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعلهم أصابعهم في آذانهم ,وفضح نفاقهم واستهان كفرهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها في الجهاد والزكاة هي الصواعق وهذا كله صحيح بيّن" . يعني القرآن مثل هذا المطر هو عليهم عذاب ,المطر مع أنه أصله رحمة هو عليهم عذاب لماذا ؟ لأن هذا المطر فيه خير وهو هذا الماء , وفيه شيء ضار وهو هذا الرعد والبرق ,فهذا الرعد والبرق هو نصيب المنافقين ,وهذا الماء والغيث هو نصيب المؤمنين ,فهذا المثل يبين هذا الحال ,فإذا نزل عليهم القرآن كان نصيبهم من القرآن الوعيد وفضيحتهم وبيان صفاتهم والتحذير منهم وذكر عقوباتهم في الدنيا والآخرة , فيملؤهم رعبا ًوخوفا ،ولذلك (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) وهم المنافقون ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) هذا حال أهل النفاق مع القرآن. فهذان المثلان يمثّلان حال المنافقين مع الإيمان ومع القرآن. [المرجع السابق]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق