إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد :
فهذه وقفات مع آيات الحجّ في سورة البقرة.
فهذه وقفات مع آيات الحجّ في سورة البقرة.
وآيات الحجّ في القرآن كثيرة ولا يكاد يوجد في أركان الإسلام العملية الأربعة آيات مفصلة في صفة ذلك الركن غير الحجّ، فالصلاة أُمرنا بها في القرآن أمرا متكررا ولم تُذكر هيئاتها وإنما ذُكرت أهم أركانها من تلاوة القرآن والركوع والسجود والقيام ونحو ذلك من دون دخول في التفاصيل، والزكاة أيضا أُمرنا بها أمرا عامّا مع تفاصيل يسيرة في كتاب الله والأغلب أن يكون في السُّنة، والصيام ذُكر في موطن واحد في سورة البقرة ولم يُكرر في القرآن الكريم -أي في أحكامه- والأحكام التي ذُكرت أيضا قليلة.
وأما الحجّ فقد ذُكر مُفصّلا في كتاب الله حتى قال بعض العلماء "الحجّ كله في كتاب الله" والحجّ هو الوحيد من بين أركان الإسلام الذي أُفردت له سورة كاملة وسُمِّيت باسمه [سورة الحجّ] التي قال الله في أولها ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)
[سورة الحج 1]
واليوم لا يسعنا أن نتحدث عن كل آيات الحجّ لأن هذا حديث يحتاج إلى وقت طويل ولكن سنتحدث عن آيات الحجّ في سورة البقرة التي افتُتحت بقول الله عز هذه (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[سورة البقرة 196]
هذه الآيات يقول العلماء نزلت في السنة السادسة الهجرية في صُلح الحُديبية وقد قال الله عز وجل فيها (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) واختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في معنى قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) هل المقصود بـ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي إذا بدأتم بهما وجب عليكم أن تُتِمّوهما ولم يجُز لكم أن تقطعوهما.
وقيل: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) المقصود فعلهما خالصين لله عزوجل.
وقال بعض المفسرين: إن هذه الآية فيها فريضة الحجّ.
والصحيح أن فرض الحجّ في سورة آل عمران في قول الله عزوجل (.. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران 97] وأما هذه الآية فليست في فرض الحجّ وإنما في إيجاب إتمام الحجّ لمن دخل فيه وهذا ليس في شيء من شعائر الإسلام إلا في الحجّ فالصلاة والصوم وغيرها من الأعمال يجوز للإنسان أن يقطعها خصوصا إذا كانت ليست فرضا، إذا كانت غير فرض جاز للإنسان أن يقطعها أما الحجّ ولو كان نفلا لا يجوز للإنسان إذا دخل فيه إلا أن يُتِمّه ولا يجوز له أن يرفض الإحرام.
والصحيح أن فرض الحجّ في سورة آل عمران في قول الله عزوجل (.. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران 97] وأما هذه الآية فليست في فرض الحجّ وإنما في إيجاب إتمام الحجّ لمن دخل فيه وهذا ليس في شيء من شعائر الإسلام إلا في الحجّ فالصلاة والصوم وغيرها من الأعمال يجوز للإنسان أن يقطعها خصوصا إذا كانت ليست فرضا، إذا كانت غير فرض جاز للإنسان أن يقطعها أما الحجّ ولو كان نفلا لا يجوز للإنسان إذا دخل فيه إلا أن يُتِمّه ولا يجوز له أن يرفض الإحرام.
واليوم نحن نشاهد كثير من الناس عندما يذهب إلى مكة ويجد زحاما في العمرة -وخصوصا في رمضان- يفكر في أنه مادام هذا نافلة -تطوع- وأنا سبق أن اعتمرت أو حججت فإني سأرفض الإحرام وأرجع إلى بلدي، نقول: وإن رفضت الإحرام ولبست ثيابك ورجعت إلى بلدك فأنت مُحرِم ويجب عليك أن ترجع إلى بيت الله الحرام وتطوف وتسعى ثم تحلِق أو تُقصِّر ثم تُحِلّ ولا تحِلّ بغير ذلك.
وكذلك في الحجّ متى أحرمت بالحجّ وجب عليك أن تُتِمّه ولم يجُز لك أن ترفض إحرامك بالحجّ إلا أن تُحصر كما سنُبيّن بعد قليل.
وكذلك في الحجّ متى أحرمت بالحجّ وجب عليك أن تُتِمّه ولم يجُز لك أن ترفض إحرامك بالحجّ إلا أن تُحصر كما سنُبيّن بعد قليل.
ومما يؤكد -يا عباد الله- على أن معنى قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) هو أن من دخلهما ولبى بهما وجب عليه أن يُتِمّهما قوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة 196] أي فإن مُنعتم عن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فاذبحوا شيئا يتيسر لكم من الهديّ ثم أحِلّوا.
وقول الله عزوجل (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال العلماء: فيها بيان مكانة الإخلاص وأنه يجب على الإنسان إذا حجّ أو اعتمر أن ينوي بحجّه وعمرته وجه الله وذلك لأنه يشيع -حتى بين العرب- الذهاب إلى الحجّ لأجل المفاخرة أو لأجل الدنيا أو -كما هو الحاصل في هذه الأزمان- أن يحُجّ ليحمل لقب حاجّ وأن يُقال له الحاجّ فلان. فنقول: يجب على الإنسان إذا خرج لحجّ بيت الله الحرام أن يخرج وليس في قلبه ولا من نيّته إلا إرادة وجه الله عزوجل.
قال الله عزوجل (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي مُنعتم، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- هل المنع يقتصر على منع العدو أو يشمل منع العدو والمرض وأي مانع يمنع الإنسان؟ كالمانع الرسمي الآن في هذه الأزمان، يذهب الإنسان ويُلبي ثم يُوقف ويُقال له -مثلا- ارجع ليس معك تصريح قال الله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي متى مُنِعتم عن الذهاب والدخول إلى البيت والقيام بأركان الحجّ فإنكم تتحللون من إحرامكم بالهديّ. والهديّ هو أحد الأشياء الثلاثة المعروفة من بهيمة الأنعام [الإبل والبقر والغنم] والإنسان مُخيّر أن يذبح بدنة أو بقرة أو شاة أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة. خمسة أشياء مرتبة كما وصفت لكم، فيذبح هديه ثم يُحِلّ كما فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الحديبية عندما صدّه المشركون عن الدخول إلى بيت الله الحرام فإنه عليه الصلاة والسلام أمرهُ ربه سبحانه وتعالى أن ينحر هديه وأن يُحِلّ من إحرامه فأمر النبي ﷺ أصحابه قال: انحروا هديكم وحُلُّوا إحرامكم فلم يقُم منهم أحد فدخل رسول ﷺ إلى أم سلمة مغضبا قال: هلك الناس آمرهم وأنا رسول الله فلا يمتثلون!! فقالت: تريد أن يمتثل الناس يا نبي الله؟ قال: نعم، قالت: اخرج ولا تكلم أحدا وانحر هديك واحلِق رأسك. فلما رأى الناس النبي صلى الله عليه وسلم يعمل ذلك تسابقوا وحتى كاد بعضهم أن يقتل بعضا غمّا لأنهم ما امتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر.
فإن لم يكن مع المُحصَر هديّ -لا يستطيعه أو لا يقدر عليه- حلّ (***) وبعض العلماء يُلزِم المُحصَر بصوم عشرة أيام قال إذا لم يكن معه هديّ صام عشرة أيام قياسا على المُتمتِع والقارن إذا لم يكن معهما هديّ فإنهما يصومان ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة أيام إذا رجعوا إلى أهليهم.
وقد جاء في السُّنة أن الإنسان إذا كان خائفا من طروء شيء يمنعه من الحجّ أو العمرة فإن له أن يشترط كما في حديث ضباعة بنت الزبير -رضي الله عنها وأرضاها- قالت: يا رسول الله إني أريد الحجّ وأجدني شاكية؟ فقال النبي ﷺ (حُجِّي واشترطي فإن لك على ربكِ ما استثنيتي) يعني قولي اللهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. فإذا حُبِس الإنسان وقد اشترط فإنه يُحِلّ -مجانا- يعني بلا هدي ولا شيء.
وهل يُشرع للإنسان أن يقول هذا الاستثناء وهذا الشرط؟
للعلماء في ذلك قولان:
- منهم من يقول إنما يقولها الخائف الذي يخاف أن يُمنع كالمرأة التي تخاف أن ينبعث عليها الدم وهي معروف يريدوا أن يعتمروا ثم لا ينتظروا، وكالمريض .. كبير السِّن ونحوهم.
ومنهم من يقول - كشيخنا العلامة بن باز رحمه الله- قال: "هذا الزمن فيه متغيرات كثيرة وطوارئ كثيرة فيُشرع لكل من حجّ أو اعتمر أن يقولها فإذا حبسه حابس حلّ من غير شيء".
قال الله عزوجل (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)
اختلف المفسرون -رحمهم الله تعالى- هل قوله (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ) عائد على قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فيكون المعنى "أتموا الحجّ والعمرة لله ولا تحلقوا رؤوسكم أي في الحجّ والعمرة حتى يبلغ الهديّ محله" يعني لا يجوز لكم حلق رؤوسكم أو التقصير منها حتى يبلغ الهديّ محلّه الزماني والمكاني وهو يوم عيد النحر فإذا جاء يوم العيد جاز لكم أن تحلِقوا رؤوسكم لأنه يحصل بذلك التحلل الذي يكون للحاجّ في يوم النحر وهو بأحد ثلاثة أشياء أو باثنين من ثلاثة أشياء: الحلق ورمي الجمار والطواف والسعي إن كان عليه سعي.
فالله عزوجل يقول (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ) أي إذا كنتم حُجّاجا أو كنتم معتمرين (حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وخصوصا من كان معه هدي قد ساقه إلى الحرم. وكلمة (مَحِلَّهُ) تُطلق على الزمان وتُطلق على المكان (حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الزماني ومحلّه المكاني والمقصود بالمحل المكاني هو الحرم لأنه لا يجوز أن ينحر الحاجّ أو المُعتمِر أن ينحر الهدي الذي معه حتى يبلغ الحرم ولا يجوز أن يخرج به خارج الحرم.
فالله عزوجل يقول (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ) أي إذا كنتم حُجّاجا أو كنتم معتمرين (حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وخصوصا من كان معه هدي قد ساقه إلى الحرم. وكلمة (مَحِلَّهُ) تُطلق على الزمان وتُطلق على المكان (حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الزماني ومحلّه المكاني والمقصود بالمحل المكاني هو الحرم لأنه لا يجوز أن ينحر الحاجّ أو المُعتمِر أن ينحر الهدي الذي معه حتى يبلغ الحرم ولا يجوز أن يخرج به خارج الحرم.
وقال بعض المفسرين: إن قوله (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) معطوفة على قوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) والمعنى: إن أُحصِرتم أي مُنعتم عن البيت وجب عليكم أن تذبحوا ما تيسر من الهدي (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) يعني لا تحلقوا رؤوسكم حتى تذبحوا الهدي الذي معكم وهو هدي المُحصر، فإذا كان معك هدي أو بحثت عن هدي واشتريته تذبحه أولا ثم تحلِق رأسك.
وابن كثير -رحمه الله- في تفسيره يرى أن قوله (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ) معطوف على قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فتكون حُكما لا صلة له بالإحصار.
ولا مانع -والله أعلم- من أن تُحمل على الإثنين وهو: أن من حجّ أو اعتمر لا يجوز له أن يحلِق رأسه حتى يبلغ الهدي محله، وأن من أُحصِر فأراد أن يهدي فإنه لا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله فتكون شاملة لهؤلاء وهؤلاء.
ويأتي هنا إشكال وهو: هل يلزم في يوم النحر أن الإنسان لا يحلِق رأسه حتى ينحر هديه؟
نقول هذا في الأصل نعم ولكن جاءت السُّنة بالتخفيف وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل يوم النحر عن شيء قُدِّم ولا أُخِر إلا قال افعل ولا حرج فمن قال حلقت قبل أن أنحر قال له النبي صلى الله عليه وسلم افعل ولا حرج، من قال رميت أو طُفتُ قبل أن أنحر أو قبل أن أحلِق أو نحو ذلك قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم افعل ولا حرج.
ثم قال الله جل وعلا (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)
هذه يسميها العلماء فدية الأذى وهي: أن من أصابه فاحتاج إلى شيء من محظورات الإحرام أو أصابه أذى في رأسه فاحتاج إلى أن يحلِق رأسه قال الله عزوجل (فَفِدْيَةٌ) أي فليفعل وعليه فدية من صيام أو صدقة أو نُسُك، وهذا مما يتميّز به الحجّ عن سائر الأعمال وهو أن من فعل محظورا في العبادة فإن العبادة تفسُد إلا الحجّ فإنه لا يفسُد إلا بشيء واحد وهو الجماع قبل التحلل الأول، وأما محظورات الحجّ التي هي الطيب وحلق الشعر ولبس المَخيط وتغطية الرأس وتغطية الوجه للمرأة، كل هذه الأشياء فهذه محظورات الإحرام يجوز للإنسان أن ينتهكها إذا احتاج إليها ويفدي -يعوض- هذا بفدية، وهذا -كما ذكرت لكم- مما تميّز به الحجّ عن غيره من العبادات وعليه لو أنك احتجت إلى شيء من المحظورات أو اضطررت إليه لك أن تفعله مثال ذلك: إنسان احتاج إلى أن يحلق شعره لمرض أصابه فله أن يحلِق ويفدي وهو مُحرم، إنسان آخر احتاج إلى أن يلبس المخيط مثل أحيانا موظف الدولة كالعسكر وغيرهم يريد أن يبقى بلباسه أو زيه العسكري من أجل أن يُنظِم أحوال الناس والمرور ويُصلح ما وُكِل إليه من الأعمال والمهام ولا يريد أن يلبس ملابس الإحرام لأنها تفوِّت عليه شيء من المصالح والمقاصد فنقول له البِس ملابسك العسكرية وافدي، ولو إنسانا احتاج أن يُعقِّم بعض الجروح التي أصابته بشيء من الطيب فله أن يُعقِّمه بشيء من الطيب ويفدي، ولو أن إنسانا بدينا يقول إذا لبست الإحرام حصل عندي احتكاك في الفخذين أريد أن ألبس السراويل لأمنع الاحتكاك نقول لك أن تلبِس السراويل وتفدي. فهذا كله داخل في قوله (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).
ثم ذكر الله الفدية (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) يعني أنت مُخيّر في الفدية بين أن تصوم ثلاثة أيام أو تُطعِم ستة مساكين أو تذبح شاة، فأما الإطعام وذبح الشاة فلا يكون إلا في الحرم، هذا قول جماهير العلماء سلفا وخلفا وأما الصيام فحيث شئت.
وهل هذه الثلاثة على التخيير أو على الترتيب؟
هي على التخيير -بلا شك- لك أن تفعل هذا أو هذا أو هذا، وهذه الآية نزلت في قصة كعب بن عجرة قال: جئت إلى رسول الله ﷺ والقمل يتناثر على وجهي فقال رسول الله ﷺ ما كنت أُرى أن الجهد بلغ بك ما بلغ هل تجد شاة؟ قلت لا يا رسول الله، قال: أطعِم ستة مساكين أو صُم ثلاثة أيام واحلِق رأسك. فقال كعب: هي لي خاصة ولكم عامّة. يعني نزلت فيّ وهي لكم عامة. وهذا من رحمة الله عزوجل ومن تيسيره على عباده.
وماهو الأفضل الصيام أو الصدقة أو النسيكة؟
أما الآية فبدأت بالأخف على الناس (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وأما الحديث فقد بدأ بالأفضل فإذا جمعنا الحديث إلى الآية وجدنا أنهما يتكاملان، الآية تقول صُم -وكثير من الناس يقدر على الصيام- فإن لم تقدر على الصيام أطعِم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع فإن لم تقدر فانسُك نسيكة أنت مُخير بين الثلاثة افعل هذا أو هذا أو هذا لكن بدأ بالصيام أو الصدقة أو النُسُك. وأما السُّنة فقد جاءت بالعكس لتُبيّن لك ماهو الأفضل. وهذا يُبين لك أن الإسلام حريص في الكفارات على ما يكون فيه النفع المتعدي فبدأ رسول الله ﷺ بذبح الشاة لأن فيها نفعا كثيرا، فإن لم يكن تُطعِم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع فإن لم يكن تصوم ثلاثة أيام، والواحد منا مُخيّر بين هذه الثلاثة يفعل منها ما يشاء من غير أن يُضطر إلى واحد منها. وهذه تُسمّى عند العلماء فدية الأذى وهي عامّة في محظورات الإحرام إلا في شيئين:
الجِماع الذي فيه البدنة إذا كان قبل التحلل الأول، وإذا كان بعد التحلل الأول فإن فيه شاة
والثاني الصيد وفيه الجزاء المذكور في سورة المائدة (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) [المائدة:٩٥] .
ومن محظورات الإحرام محظور واحد لا فدية فيه وهو: الخِطبة والعقد على النساء، فإن هذا من محذورات الإحرام لكن لا فدية فيه.
/ قال الله عزوجل (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) بعد أن ذكر فدية الجبران وهدي الجبران ذكر هدي الشُكران وهو أن تشكر الله عزوجل على النّعمة التي أنعم بها عليك حينما أذِن لك ورحمك بأن تجمع بين نُسُكي الحج والعمرة في سفرة واحدة، قد كان الجمع بينهما عند أهل الجاهلية من أفجر الفجور وكانوا يرون أن العمرة لا تكون أبدا في أشهر الحجّ ويرون أن العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور يقولون <إذا انسلخ صفر وبرئ الدَّبَر وعفى الأثر حلّت العمرة لمن اعتمر> يعني ما تحِلّ العمرة إلا بعد انقضاء أشهر الحجّ التي سنذكرها بعد قليل فجاء الإسلام وخفف وأذِن بأن يُجمع بين الحج والعمرة فلك أن تجمع بينهما بطريقتين:
- إما أن تعتمِر ثم تُحِلّ من عمرتك ثم في اليوم الثامن تُحرِم بالحج وهذا يُسمّى التمتع لأن الإنسان يتمتع بين النُّسكين.
- وإما بأن تجمعهما بأن تصبح أفعالهما واحدة فتطوف طوافا للحجّ والعمرة وسعيا للحجّ والعمرة ، طواف واحد وسعي واحد للحجّ والعمرة وتنوي النُّسُكين وهذا يُسمّى القِران وهو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلاهما يُسميان في الكتاب والسُّنة تمتعا لأن الإنسان يتمتع بالإتيان بنُسُكين في سفر واحد ولذلك قال الله هنا (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) أي ذهب عنكم الخوف والإحصار (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فواجب عليه ما استيسر من الهدي إما بدنة أو بقرة أو شاة أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة بهذا الترتيب -هذا الترتيب هو الأفضل- ويُجزئ في الهدي ما لا يُجزئ في الأضحية يعني ما اشتُرِط في الأضحية من السلامة من العيوب ومن السِّن المُجزئ شرعا أيضا يُشترط في الهدي.
/ قال الله عزوجل (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي لم يجد هديا إما لم يجد هديا لأنه ذهب إلى السوق فلم يجده أو لم يكن عنده مال يشتري به الهدي، وهذا من لطائف الحذف في القرآن، ما قال فمن لم يجد هديا أو من لم يجد مالا، قال (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) وسكت ليعُمّ هذا وهذا، وأحيانا قد يكون معك المال والهديّ موجود لكن لا تستطيع أن تصِل إليه -حيل بينك وبينه- وأحيانا يكون المال الذي معك لا يكفي لشراء الهدي، المهم (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) أي يُجزئ عن الهدي صيام عشرة أيام مقسومة على قسمين:
القسم الأول هو أن تصوم ثلاثة أيام في الحجّ، ومتى يصومها الإنسان؟
قال العلماء: يصومها قبل يوم عرفة، وقال آخرون -وهو قول صحيح- يصومها من حين ما يُحرِم، متى أحرم شُرِع له صيامها. نفترض أنه أحرم بالعمرة في بداية شهر ذي القعدة فإنه في هذه الحال يُشرع له أن يصوم ثلاثة أيام سواء في ذي القعدة أو في ذي الحجة قبل يوم عرفة، سواء متتابعة أو متفرقة. (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) أي رجعتم إلى أهلكم.
/ قال (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) وهذه الأيام الثلاثة إذا لم يتمكن الإنسان من صيامها قبل يوم عرفة فإنه يجوز له أن يصومها أيام التشريق لأن أيام التشريق أيام عيد وأيام العيد لا يجوز صيامها إلا لمن لم يجد الهدي كما قالت أمنا عائشة وأيضا في حديث ابن عمر (لم يُرخّص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي).
وهاهنا مسألة: أن الإنسان قد يكون معه مال لكنه يفقده يوم عرفة أو يوم النحر أو وهو ذاهب يوم العيد لشراء الهدي يذهب منه المال نقول يصوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ويكون بذلك قد خرج من العهدة وبرئت ذمته وبقي عليه سبعة أيام إذا رجع إلى أهله.
/ قال الله عز وجل (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) قال (إِذَا رَجَعْتُمْ) ولم يُقيّد، فلم يقل إذا رجعتم إلى أهلكم ولذلك اختلف العلماء هل المقصود إذا رجعتم إلى رحالكم في منى أو رجعتم إلى مكة مثلا إذا كنتم تسكنون أو رجعتم إلى أهلكم؟
والذي يظهر -والله أعلم- أن المعنى إذا رجعتم إلى أهلكم واستقررتم في بلادكم فصوموا اﻷيام السبعة وأن هذا رخصة من الله لكم وتخفيف عليكم لئلا يحملكم صيام العشرة أيام وأنتم حجاج أو مسافرون لكن من أراد أن يصومها وهو بمكة قبل أن يرجع إلى أهله بعد أن ينتهي من حجّه فله ذلك، وهذا يحصل كثيرا عند الحجاج الذين يبقون في مكة بعد انتهاء الحج أسبوعا أو أسبوعين أو كذا يقول نريد أن نصوم، علينا هدي ونريد أن نعجل به ونخشى ألا نتمكن من ذلك إذا رجعنا إلى بلادنا.
فنقول: لفظ اﻵية يحتمل هذا المعنى (إِذَا رَجَعْتُمْ) حتى إلى رحالكم في مكة.
قال (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) هذه ذكرها للتأكيد، وهذا النوع من التأكيد موجود في القرآن الكريم في مواطن كما في قول الله عز وجل:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ..)
[سورة البقرة 282] والتداين لا يمكن أن يكون إلا بدين
(..ِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ..َ)
[سورة اﻷنعام 38] ليس هناك طائر يطير بدون جناحين فذكر الجناحين من باب التأكيد.
وهو لون من ألوان البلاغة العربية التي تذكر لتأكيد العدد حتى لا يتوقع الناس أنها أقل من ذلك أو أن بعضها داخل في بعض.
/ قال الله عز وجل (ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
"ذلك" اختلف فيها هل تعود على قوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) "ذلك" أي التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام يعني أن التمتع مشروع لكل أحد إلا لحاضري المسجد الحرام فإنه لا يُشرع لهم أن يتمتعوا، لماذا لا يُشرع لهم أن يتمتعوا؟ لأنهم أهل المسجد الحرام فما الداعي لأن تجمعوا بين الحجّ والعمرة؟ أنتم تستطيعوا أن تحُجّوا وتستطيعوا أن تعتمروا في أي وقت فما الذي يدعوكم إلى أن تعتمروا مع الحجّ، إنما أُذن لغيركم ممن يأتون من مسافات بعيدة ولا يتيسر لهم أن يأتوا مرتين إلى بيت الله الحرام. وعلى هذا أكثر العلماء وأن أهل مكة وحاضري المسجد الحرام ليس لهم حق في المتعة.
والقول الثاني: "ذلك" عائدة على قوله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) أو ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) يقولون إن المتمتع من المكيين أو من حاضري المسجد الحرام ليس عليه هدي فهو يتمتع ولا هدي عليه ويقرِن بين الحج والعمرة ولا هدي عليه. هذا هو القول الثاني في المسألة.
ومن هم حاضروا المسجد الحرام؟
هم أهل الحرم بلا شك ويدخل فيهم أيضا أهل مكة لأن بعض مكة داخلة في الحرم وبعض مكة خارج الحرم كمنطقة التنعيم -مثلا- هذه جزء منها خارج الحرم وهي من مكة، فأهل مكة وأهل الحرم داخلون في قوله (ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وأما ما عداهم فقد وقع فيهم الخلاف:
هم أهل الحرم بلا شك ويدخل فيهم أيضا أهل مكة لأن بعض مكة داخلة في الحرم وبعض مكة خارج الحرم كمنطقة التنعيم -مثلا- هذه جزء منها خارج الحرم وهي من مكة، فأهل مكة وأهل الحرم داخلون في قوله (ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وأما ما عداهم فقد وقع فيهم الخلاف:
- فمن العلماء من يقول يدخل في (حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) كل من دون المواقيت، من دون الطائف، من دون المدينة، من دون يلملم كل هؤلاء داخلون في (حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
- وقال آخرون من أهل العلم : بل حاضروا المسجد الحرام يدخل فيهم من كان بينه وبين أهله دون مسافة القصر، وما زاد إلى مسافة القصر كأهل المدينة مثلا أو من كان قريبا من المدينة أو في أكثر من نصف الطريق فإنهم لا يكونون من حاضري المسجد الحرام.
/ قال الله عزوجل (وَاتَّقُوا اللَّهَ) نلاحظ التركيز على الأمر بالتقوى في آيات الحج تركيزا شديدا لماذا؟
لأن المقصود من الحجّ ليس هو أن تذهب لأداء هذه المناسك فقط بل لأجل أن تتحقق بالتقوى وأن تتلبس بها وأن تستشعر أن حجّتك وعُمرتك لله وأنك تزداد بها إيمانا وقربا من الله وأنك تتخلى بها عن أخلاقك السيئة وعن الإثم والعُدوان والفسوق والمُنكر ولذلك قال النبي ﷺ (الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ماهو المبرور؟ الذي اتقى فيه الإنسان ربه سبحانه وتعالى. وستلاحظون بعد قليل كيف سيتكرر علينا الأمر بالتقوى والتذكير به في آيات الحجّ بما لا يكاد يوجد في شعيرة أخرى من شعائر الإسلام. وهذا يؤكد لنا أن الثمرة المرجوة من فعل العبادات هو حصول التقوى كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصيام (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) يعني إذا لم تترك قول الزور والعمل به والإثم والجهل فليس لله حاجة في تركك للطعام والشراب، الله ما يريدك أن تترك الطعام والشراب لأجل الطعام والشراب وإنما يريد منك ترك ذلك لتزداد تقوى لله ولتجني ثمرة التقوى من عملك وصيامك وحجك وجميع عباداتك.
قال (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) بعد أن انتهى من هذه اﻷحكام في اﻵية اﻷولى انتقل إلى بيان زمان الحجّ فقال (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) وقد اختلف المفسرون أيضا هل المعنى الحجّ حجّ أشهر معلومات؟ يعني أن الحجّ الفاضل والكامل ما كان في هذه اﻷشهر وبناء على ذلك يقولون يجوز للإنسان أن يُحرم بالحجّ ولو في غير أشهر الحج ﻷن المراد في اﻵية هو أن أكمل الحجّ ما وقع في هذه اﻷشهر، فمن أحرم بالحجّ في رمضان أو في شعبان أو في رجب انعقد حجه وصح ﻷن المقصود بقوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) أي الحجّ الكامل التام هو ما كان في اﻷشهر المعلومات لكن ما كان في غيرها فإنه جائز وماضٍ.
والقول الثاني لجمهور العلماء -وهو الصحيح- أن الحجّ لا يكون إلا في اﻷشهر المعلومات بمعنى لا ينعقد إلا فيها فلو عقد إنسان الحجّ في يوم تسعة وعشرون من رمضان لم ينعقد ووجب عليه أن يُكمل بعمرة ولا ينعقد الحجّ إلا بعد دخول شهر شوال.
فما هي أشهر الحج؟
قال العلماء: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة أو ذي الحجة - قولان- فمن قال عشر من ذي الحجة قصد أن اﻹحرام لا يمكن أن يكون إلا في هذه المدة التي هي ثلاثون يوما شوال وثلاثون يوما ذي القعدة وعشرة أيام من شهر ذي الحجة، في هذه ينعقد اﻹحرام -إحرامك بالحجّ- فلو عقدت الحج في يوم عيد النحر ما انعقد ﻷنه خلاص انتهت أشهر الحجّ التي ينعقد فيها الحجّ.
واﻵخرون قالوا: أشهر الحجّ ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة، نعم عشر ذي الحجة ينعقد فيها اﻹحرام لكن تتمة المناسك تكون بعد عشر ذي الحجة وخصوصا اﻷعمال التي ليست موقتة كالطواف والسعي وغير ذلك. والخطب في ذلك يسير ما دام العلماء قد اتفقوا -رحمهم الله- على أن انعقاد اﻹحرام لا يكون إلا في هذه اﻷشهر الثلاثة أو شهرين وعشرة أيام، وعليه لو أن إنسانا أراد أن يحجّ فأحرم بالحجّ قبل طلوع الفجر من يوم عرفة بساعة ثم وقف بعرفة ثم طلع عليه فجر يوم النحر هل حجّ أو لم يحجّ؟ حجّ ﻷن اﻹحرام وقع في ميقاته الشرعي وقد وقف بعرفة، أدرك الوقوف الذي هو ركن الحج اﻷعظم، لكن لو أنه ما طرأ عليه الحجّ إلا بعد أن قال المؤذن الله أكبر من فجر يوم النحر فقال لبيت بالحجّ -لبيك اللهم لبيك- ذهب قلنا انعقد اﻹحرام في غير وقت الحجّ فلا يمكن أن ينعقد أو قلت التلبية في غير وقتها.
/ قال الله عز وجل (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي أوجب فيهن الحج ولاحظوا سماه فرضا لماذا؟ ﻷن الحجّ يتميز على سائر المشاعر أو سائر العبادات بأن من دخله لزِمه أن يُتمّه فلو دخلت ولو في نافلة الحجّ أو العمرة وجب عليك أن تُتم فصارت فريضة بالنسبة لك ولم يجز لك أن تقطعها أو ترفضها.
/ (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
(لا رفث) أي لم يجُز له الرفث وهو الجماع ومقدماته القولية والفعلية ومنه الكلام في الجماع والحديث عن قضايا الغزل وما يتصل بها لا يحِل ذلك للمُحرم حتى ينتهي من إحرامه.
(ولا فسوق) جميع المعاصي -على الصحيح- وليست خاصة بمعصية دون غيرها.
(ولا جدال في الحج ) المقصود به الجدال الذي يورث الخصومة ويحصل به تغيُر اﻹنسان أما الجدال ﻹقامة الحق والدلالة على الهدى وبيان أدلة الحق فإنه لا بأس بذلك بل هذا مشروع على الدوام لكن من غير أن يحصل بسبب ذلك خصام ومشاكل بل ينبغي على اﻹنسان أن يحترم حجّه فلا يُلوثه بالخصومات.
/ قال الله عز وجل (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) بعد أن نهى عن هذه اﻷمور الثلاثة حثّ على فعل الخير ولم يحدد خيرا دون خير قال (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي خير هديتم إليه أو يُسر لكم فافعلوه [إطعام الحجاج - أمرهم بالمعروف - الدلالة على الخير - إقامة حِلَق القرآن - تلاوة القرآن - الصدقة - السعي في الصلح بين العباد ] ... الخ ما هنالك ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) ولذلك -يا إخواني- اعتبر هذه اﻵية منهاجا ونبراسا لكل حاجّ ﻷن يسعى لفعل الخير في كل أيام الحجّ حتى يكون مجتمع الحج مجتمع خير وبر وإحسان وفضل وقرب من الله سبحانه وتعالى.
/ ثم قال الله عز وجل (وَتَزَوَّدُوا) أي لحجكم. وقد قيل إن هذا نزل في أهل اليمن كانوا إذا خرجوا إلى الحجّ قالوا نحن المتوكلون فلا يأخذون شيئا من الزاد فيمرون بالناس ويسألونهم فقال الله عزوجل آمرا كل حاجّ (وَتَزَوَّدُوا) يعني خذوا من الزاد ما يكفيكم لحجكم ولعمرتكم وإياكم أن تكونوا كلاًّ على الناس أو تحملوا أنفسكم على أزواد الآخرين بل زد من الزاد وأطعم من معك من الحُجاج والمعتمرين قال النبي ﷺ (بِر الحج طيب الكلام وإطعام الطعام) ولذلك وصيتي لنفسي ولكم جميعا أن اﻹنسان إذا خرج إلى الحج أو العمرة أن يكون سخيا بكل ما أوتي من قوة وأن يبذل المال ﻹخوانه الحجاج والمعتمرين وقُطان البيت الحرام والزوار والذين جاؤا من اﻷقطار -وما أكثرهم في هذا الزمان- من الفقراء والمساكين الذين لا يملكون نفقة الحج وبعضهم إنما استطاع أن يوفر التذكرة والسكن فقط دونما سواهما علينا أن نتفقدهم ونبحث عنهم ونغنيهم ونتفقد حاجاتهم ومما يحدث يا إخواني -وهذا أقوله لكم عن اطلاع ومعرفة- أن كثيرا من الحجاج الذين جاؤا من أصقاع بعيدة وبلاد سحيقة ومعهم أزوادهم إذا جاؤا كان هذا السفر أول عهدهم بالسفر ولا يعرفون السفر قبله فيصيبهم شيء من الضياع وذهاب النفقة وفقدان الممتلكات -تسقط منهم أو تسرق- أو غير ذلك، وهؤلاء إذا سرقت منهم لا يجدون أحدا يعطيهم شيئا -خصوصا إذا كانوا من الدول الفقيرة فعلينا أن نتعاهدهم وأن نحرص عليهم وأن نتفقدهم بل علينا أن نقيم الجمعيات الخاصة بهؤلاء وأمثالهم ممن يحتاجون إلى العون والرفق فهؤلاء ضيوف الله فأكرم بحال من أكرم ضيوف الله، ما تظنون أن الله يفعل بإنسان سخّر نفسه لضيوف الله.
ما رأيك أنت لو أن ضيوفا قدموا عليك وأنت غائب لست موجودا ثم جاء أحد جيرانك فأدخلهم في بيته وأكرمهم وضيفهم وأعطاهم كل ما يحتاجون ثم جئت وعلمت بما فعل جارك بأضيافك الذين جاؤا من مكان بعيد، ماذا تفعل مع جارك؟ -لله المثل الأعلى- الله قادر على أن يفعل بضيوفه ما يشاء لكنه يبتلينا بهم وينظر ماذا نصنع بهم، هل نكرمهم، هل نرحمهم، هل نعطف عليهم، هل نُذلهم، هل نستغلّهم، هل نجعلهم سببا لاستجلاب الرزق الحلال والحرام، أو أننا نكون من أكثر الناس احتراما لهم وضيافة لهم. كان المشركون -وهم على شركهم- يقومون بالسقاية والرفادة وإطعام الحجيج مجانا خدمة لضيوف بيت الله عز وجل وهذا ينبغي لنا ونحن أهل اﻹسلام.
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)
/ قال الله عز وجل لمّا ذكّر بالزاد الدنيوي الذي للبطون وللأجساد قال هناك زاد أعظم منه وأجمل هو زاد التقوى وهذا كما في آية سورة اﻷعراف لما ذكر اللباس (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ..)
[سورة اﻷعراف 26] فلما ذكر اللباس من ألبسة الدنيا وما يسد الحاجة وما يذهب به الجوع ذكّر بما هو أهمّ وأعظم وهو التقوى التي تُنجي من نار الله سبحانه وتعالى.
/ (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) أي خافوا عذابي واتقوا حسابي يا أهل العقول فإنكم ستلاقوني وستُسألون عن الصغير والكبير والقليل والكثير (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ)
[سورة اﻷنبياء 47].
/ قال الله عز وجل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة 198]
ما معنى هذه الآية؟
لما شرع الله الحج وبدأه بقوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قد يتوهم في النفوس أنه لا يدخل في حجنا أو عمرتنا مرادا غير هذا المراد فمن ذهب ليحجّ فإنه يحج لله ولا يدخل شيئا من أمور الدنيا في حجّه، لا يطلب رزقا ولا يتجر ولا يبيع ولا يشتري فنفى الله هذا الوهم بقوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) أي إذا خرجتك للحج فاخرجوا مخلصين لله وليس عليكم حرج أن تبتغوا شيئا من الرزق في حجكم بالبيع والشراء والاتجار سواء تذهبون بالسلع معكم إلى مكة لتبيعوا أو تذهبوا بالمال معكم وتشتروا أو تتجِروا أو تعقدوا الصفقات وأنتم مقيمون في منى أو في عرفات أو في مكة، كل ذلك لا حرج عليكم فيه ما دمتم قد خرجتم من أجل الله. ولذلك لما جاء اﻷمر بالحج والتذكير فيه باﻹخلاص لله عز وجل تحرّج قوم قالوا إذا لا نتجر فأنزل الله قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا) أي تجارة (مِنْ رَبِّكُمْ) أي في الحج.
لما شرع الله الحج وبدأه بقوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قد يتوهم في النفوس أنه لا يدخل في حجنا أو عمرتنا مرادا غير هذا المراد فمن ذهب ليحجّ فإنه يحج لله ولا يدخل شيئا من أمور الدنيا في حجّه، لا يطلب رزقا ولا يتجر ولا يبيع ولا يشتري فنفى الله هذا الوهم بقوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) أي إذا خرجتك للحج فاخرجوا مخلصين لله وليس عليكم حرج أن تبتغوا شيئا من الرزق في حجكم بالبيع والشراء والاتجار سواء تذهبون بالسلع معكم إلى مكة لتبيعوا أو تذهبوا بالمال معكم وتشتروا أو تتجِروا أو تعقدوا الصفقات وأنتم مقيمون في منى أو في عرفات أو في مكة، كل ذلك لا حرج عليكم فيه ما دمتم قد خرجتم من أجل الله. ولذلك لما جاء اﻷمر بالحج والتذكير فيه باﻹخلاص لله عز وجل تحرّج قوم قالوا إذا لا نتجر فأنزل الله قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا) أي تجارة (مِنْ رَبِّكُمْ) أي في الحج.
(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [سورة البقرة 198] يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نجمع في حجِّنا بين نسكين عظيمين:
النسك اﻷول: الوقوف بعرفة وهذا ركن الحج اﻷعظم وقد قال النبي ﷺ مُعبرا عنه بقوله (الحج عرفة) يعني فمن فانه الوقوف بعرفة فقد فاته الحج.
واﻷمر الثاني: هو الوقوف عند المشعر الحرام، ويُسمى المشعر الحرام بضد المشعر الحلال ﻷن عرفة مشعر حلال أي في الحل ومزدلفة مشعر حرام أي في الحرم، مشعر وهو في الحرام في الحرم.
قال (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) وصفة ذلك أن الناس يقفون بعرفة في اليوم التاسع فإذا غربت الشمس انصرفوا إلى مزدلفة فإذا وصلوها صلُّوا المغرب والعشاء جمعا وقصرا من حين وصولهم ثم باتوا ليلتهم تلك من غير قيام ولا ذِكر ولا صلاة ولا غيرها، فإذا صلوا الفجر قاموا ودعَوا وذكروا الله عند المشعر الحرام. والمقصود بالمشعر الحرام هي مزدلفة كلها ﻷن النبي ﷺ قال (وقفت هاهنا وجَمعٌ كلها موقف ) سماها "جمعا" ﻷن العرب كانوا يسمونها جمعا لماذا؟
كان من التحريفات التي حصلت في العرب أن أهل مكة وقريش خاصّة يرون أنفسهم أنهم أهل الحرم فلا يليق بهم أن يخرجوا خارج الحرم فكانوا في اليوم التاسع يخرجون إلى المزدلفة ويقفون فيها وسائر العرب يخرجون إلى عرفة ويقفون بها فإذا جاء المساء رجع من كان بعرفة إلى المزدلفة فاجتمعوا بها فسُمِّيت جمعا ﻷنهم يجتمعون فيها، وتسمى المزدلفة ﻷنهم يزدلِفون بها أي يقتربون بها من حرم الله عزوجل وبيته. قال (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) .
/ ثم قال الله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
[سورة البقرة 199]
هذا ليس من باب الترتيب بمعنى يعني إذا جئتم إلى المشعر الحرام أفيضوا من المشعر الحرام إلى بيت الله لا بل هذا من ترتيب الخبر على الخبر يعني: يا أهل مكة ويا قريش ويامن تسمون أنفسكم الحُمس لتحمُّسكم في دينكم قفوا كما يقف الناس وأفيضوا من حيث أفاض الناس، أفيضوا من عرفة كما يفيض سائر الناس ولذلك في حجة الوداع لما خرج النبي ﷺ من منى متجها إلى عرفة ظنت قريش أنه سيقف معها في مزدلفة ولا يخرج إلى عرفة فسار النبي ﷺ وتعدى المزدلفة متجها إلى عرفة فقالوا إنا نراه من الحمس فما الذي يدعوه أن يخرج إلى عرفة التي لا يخرج إليها إلا العرب من غير أهل مكة فأنزل الله هذه اﻵية ليقول لهم جميعا (ثُمَّ أَفِيضُوا) يا أهل مكة (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) يعني من حيث يفيض سائر الناس ﻷنهم على الحق وأنتم غيّرتم وبدّلتم.
وبعض المفسرين يرى أن قوله (النَّاسُ) المقصود به إبراهيم عليه السلام يعني ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، وأطلق على إبراهيم الناس ﻷنه شيء كبير في الناس.
قال الله عزوجل (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) ﻷنه إذا تم هذا لكم وهو أنكم وقفتم بعرفة ثم في المشعر الحرام وأفضتم من حيث أفاض الناس فقد تم الحج. وفي حديث عروة بن المُضرِّس الطائي قال (أدركت النبي ﷺ وهو بالمزدلفة فقلت يارسول الله إني أجهدت بدني وأكللت بعيري وما تركت جبلا أو حبلا من الحبال إلا وقفت عليه فما لي يا رسول الله؟ فقال ﷺ : من شهد صلاتنا هذه -يعني صلاة الفجر بمزدلفة- وقد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تمّ حجه وقضى تفثه) هذه بشرى ﻷنه من مرّ بعرفة حتى ولو كان نائما ولو كان مُغما عليه، لذلك -ولله الحمد والمنة- تقوم الدولة بالنسبة للحجاج الذين أصيبوا ببعض اﻷمراض ودخلوا في إغماءات تقوم بنقلهم في سيارات إسعاف وتمرُ بهم في عرفة لكي يتم حجهم بالمرور بها ولو لدقيقة واحدة. وهذا من رحمة الله وفضله ما ألزمنا الله أن نقف يوما كاملا بل لو وقفت أدنى وقوف لكن من وقف قبل غروب الشمس لزِمه أن يبقى بها حتى تغرب الشمس ومن وقف بعد غروب الشمس أجزأه أدنى وقوف بها.
قال الله عزوجل (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أي بعد هذا استغفروا لماذا؟ ﻷنه لا أحد منا يدّعي أنه أتى بالعبادة على أكمل وجوهها وعليه أن يُكثر من الاستغفار ليُرقِّع ما وقع من النقص في عبادته، وهذا مثل ما يحدث منا في الصلاة إذا سلّمنا ما أول شيء نقوله؟ نقول "استغفر الله .. استغفر الله .. استغفر الله .. اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال واﻹكرام" لماذا؟ ﻷنك بعد انتهاء الصلاة تستغفر الله من النقص الذي وقع منك في صلاتك وكذلك في قيام الليل تقوم الليل ساعتين أو ثلاث أو أقل أو أكثر فإذا انتهيت وصليت الوتر يشرع لك أن تستغفر كما قال الله عزوجل (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)
[سورة آل عمران 17]
لماذا الاستغفار بالأسحار؟ لترقيع النقص الذي وقع في الصلاة أولا قالوا ولنفي العُجب عن النفس ثانيا ﻷن اﻹنسان إذا عمل العبادة قد يقع في نفسه شيء من العُجب فينفيه بالاستغفار.
ثم بشر الله بقوله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني إذا استغفرتم الله فأبشروا بأن الله سيغفر لكم، وقدم (غفورا ) على (رحيم) ﻷن الرحمة لا يستحقها إلا من حصلت له المغفرة وهذا يكاد يكون في سائر المواطن في القرآن إلا في موطن أو موطنين أن تقدم المغفرة على الرحمة.
/ يقول الله عزوجل (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) أي انتهيتم من مشاعر الحج (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) أي فالهجوا بذكر الله عزوجل فإن أعظم شيء يفعله اﻹنسان في حياته وأجلّ العبادات هو ذِكر الله كما قال النبيﷺ (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله) فبين النبي ﷺ أن الذكر أفضل وأجلّ العبادات.
كان المشركون إذا انتهوا من الحج اجتمعوا في اﻷسواق عكاظ ومِجنة وذِي المجاز وصاروا يتناشدون اﻷشعار ويتفاخرون بالمآثر واﻷفعال واﻵباء واﻷجداد فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بأن يكون فخرهم وذكرهم هو بالله عزوجل.
قال (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)
[سورة البقرة 200] أي هناك صنف من الناس ليس له همٌّ إلا الدنيا وقد كان هذا موجودا في العرب يأتون للحج وما يقولون إلا "اللهم اجعل هذا العام عام خصب، اللهم اجعله عام مرعى أمطاره غزيرة وأمواله كثيرة اللهم كثّر أولادنا وكثّر مراعينا وكثّر أرزاقنا" ما يسألون إلا شيئا من الدنيا وينسون اﻵخرة، فالله عزوجل قال (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) أي من نصيب، اﻵخرة ليست حاضرة في ذهنه وليست قائمة في قلبه.
قال الله عزوجل (وَمِنْهُمْ) أي من الناس (مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
[سورة البقرة 201] سبحان الله كان يتوقع الواحد منا أن يقول في اﻵية "ومنهم من يقول ربنا آتنا في اﻵخرة حسنة وقنا عذاب النار " صِنفٌ على الضد من الصنف اﻷول هؤلاء يسألون الدنيا وهؤلاء يسألون اﻵخرة ولكن اﻹسلام جاء بالعدل والنصَف وجاء بالرحمة والحكمة وهي أن اﻹسلام دين يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة، لا.. الدعاء الذي ينبغي لك والذي يُشرع لك اﻹكثار منه أن تقول (مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فأنت في الدنيا تطلب الزوجة والولد والرزق الطيّب والسلامة من اﻵفات والعافية والصحة في البدن وغير ذلك واﻷمن في الوطن (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) وحسنة اﻵخرة هي الجنة (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا وإياكم جميعا عذابها.
قال ( أُولَٰئِكَ) أي الذين يقولون هذا (لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) .
ثم خُتمت آيات الحج في سورة البقرة بقوله (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) تأملوا جاء اﻷمر بالذكر في آيات الحج مرتين قال (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) هذا الذِكر الذي يكون بعد الحج، طيب في الحج قال (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) ماهي الأيام المعدودات؟ اﻷيام المعدودات هي: [يوم النحر وأيام التشريق] بعدها فيوم النحر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر يعني أربعة أيام، أو يمكن أن يُقال اﻷيام المعدودات هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر أي اﻷيام الثلاثة، وسُميت معدودات ﻷنها قليلة بخلاف اﻷيام المعلومات المذكورة في سورة الحج فتلك المقصود بها عشر ذي الحجة وهي من يوم واحد ذي الحجة إلى يوم النحر تُسمى أياما معلومات وعليه فيوم النحر من اﻷيام المعلومات ومن اﻷيام المعدودات، ويمكن أن يُقال إن يوم النحر من اﻷيام المعلومات وهو خاتمتها ويوم الحادي عشر من اﻷيام المعدودات.
قال (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) أي أيام منى أكثروا من الذكر فيها ﻷن الناس يقرُّون بمنى فهم ما عندهم عمل في اﻷيام بعد أن حلقوا رؤوسهم ونحروا هديهم وطافوا وسعوا بالبيت إلا أن يقيموا بمنى يذكرون الله عزوجل في الليل والنهار وينشغلون بذكر الله جل وعلا فلا ينشغلون بشيء آخر.
قال (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) أي من اﻷيام المعدودات (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني أباح الله لنا أن نتعجل في يومين من اﻷيام المعدودات بأن نأخذ اليوم الحادي عشر وشيئا من اليوم الثاني عشر وهو النفر اﻷول هذا للمُتعجل.
قال (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) أي في اليوم الثاني عشر قبل غروب الشمس قال (في ) ليبين أن التعجل ينبغي أو يُشرع أن يكون قبل غروب شمس يوم الثاني عشر فمن أراد أن يتعجل فليخرج من مِنى قبل غروب شمس يوم الثاني عشر ومن بقي بمنى حتى غربت عليه الشمس ثم أراد أن يخرج قلنا له لا يجوز لك بل يجب عليك أن تُكمل اليوم الثالث عشر فتبيت تلك الليلة وترمي الجمار في اليوم الثالث عشر بعد الزوال ثم تنصرف.
قال (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ) حتى أدرك اﻷيام الثلاثة (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني كلاهما لا حرج عليه هذا وهذا كلاهما مشروع (لِمَنِ اتَّقَىٰ) فالمُتقي هذا وهذا كله جائز في حقه.
قال (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ) حتى أدرك اﻷيام الثلاثة (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني كلاهما لا حرج عليه هذا وهذا كلاهما مشروع (لِمَنِ اتَّقَىٰ) فالمُتقي هذا وهذا كله جائز في حقه.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) لاحظوا كيف أول آية ختمت بالتقوى وآخر آية من آيات الحج خُتمت أيضا بالتقوى.
(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لاحظوا كيف ذكّر بالحشر في نهاية آيات الحج لماذا؟ ﻷن هيئة الحُجاج تذكر بالحشر لو رأيتم الحُجاج وهم يذهبون إلى عرفة هذا مشهد مُصغّر مما سيجري وسنراه جميعا يوم القيامة وكذلك إذا رجع الناس من عرفة ذلك اليوم هذا المشهد يصوِّر لك ما سيجري يوم القيامة إذا بُعثت بعد موتك، وهذا من المناسبات اللطيفة أن يُذكّر الناس من خلال الحج بيوم القيامة. كما أن آيات الحج هذه جاءت بعد ذكر آيات الجهاد لماذا؟
ﻷنه قال قبلها (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..) [سورة البقرة 190 - 191]
ثم قال (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ..)
[سورة البقرة 193] ثم قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال العلماء: ﻷن أشبه شيء من فرائض اﻹسلام بالجهاد هو الحج فلما ذكر الجهاد اﻷكبر ذكر بعده الجهاد اﻷصغر الذي هو الحج والعمرة قال النبي ﷺ لما سألته أُمّنا عائشة -رضي الله تعالى عنها- هل على النساء من جهاد قال (عليهن جهاد لا قتال فيه الحجّ والعمرة ) وهذا يدلنا على أن ترتيب اﻷحكام في القرآن أو في سوره ترتيب رُوعيت فيه المناسبة والحكمة.
نسأل الله أن يفقهنا في كتابه وأن يعلمنا تأويل كلامه وأن يجعلنا جميعا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصّته وإلى لقاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق