وقفات مع آيات الصيام -٧-

د. عويض العطوي

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وبعد .. أيُّها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

حديثنا اليوم بمشيئة الله عن قوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:١٨٨] وقد يقول قائل هل هذه من آيات الصيام؟ 

نريد أن نعرف المناسبة بين ذِكر هذه الآية بعد آية الصيام :

قيل في ذلك : أن الله سبحانه وتعالى ذكر في الآيات السابقة كلاما عن تحليل شيئ كان مُحرّما في نهار رمضان وذلك قُربان النساء والأكل والشرب فذكر هنا سبحانه وتعالى ما يتعلّق بالأموال الذي فيه حِلٌ وحُرمة ليس في نهار رمضان بل في حياة الإنسان كلها. هذا واحد.

الأمر الثاني: أنه ذكر -سبحانه وتعالى- في الآيات السابقة حديثا عن الأكل على وجه الخصوص فناسب هنا من باب المُشاكلة أن يذكر ما يتعّلق بالأكل  (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) .

الأمر الثالث: أن من أعظم ما يُربيه الإنسان في الصيام هو مراقبة الله سبحانه وتعالى لذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ولعل من أظهر الأشياء التي تميّز الصوم عن غيره أن الإنسان يصوم مراقبة لله فلا يدري اأحد أأنت صائم أم مفطر إلا رب العالمين سبحانه وتعالى، والإنسان قد يُفطِر بالنية وليس بالأكل والشرب فهذا أمر بينك وبين الله لكن الصلاة تؤديها بين الناس بركوع وسجود، والزكاة يؤديها الإنسان بدفع مال أو غير ذلك لكن الصوم لا يُعرف فلا يُدرى هذا الإنسان صائم أو لا فالدافع في الصيام هو مراقبة الله لذلك رتب الله عز وجل على هذه القضية أجرا عظيما في الصيام فقال النبي صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه) (من قام رمضان إيمانا واحتسابا ) (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه) فهذا الأمر المتعلق بمراقبة الله عز وجل له وجه آخر في حياتنا وهو المال فإذا ما راقبنا الله عز وجل في قضية المال أكلنا وشربنا وأخذنا أموال الناس سواء بحكم الحكام -أي القضاة- أو من يحكم في قضية الناس أو بما نعرف أن هذا الأمر ليس حقا لنا إذا لم يكن هناك وازع داخلي ومراقبة لله عز وجل فلن ينفع في ذلك حكم الحُكام أو وضع اللوائح والأنظمة أو غير ذلك ، فالقضية مرتبطة بالدين وباليقين وبمراقبة الله سبحانه وتعالى لذلك جاءت بعد آيات الصيام.

يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) كما ذكرنا أكثر من مرة التعبير بالأكل مع المال لأن الأكل هو أظهر أنواع الانتفاع بالمال، أظهر أنواع الانتفاع بالمال هو الأكل لذلك عُبِر معه.

الأمر الثاني : أن في الأكل خصيصة تختلف عن غيره لذلك إذا جئنا -مثلا- إلى أموال اليتامى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [النساء:١٠] لماذا لم يذكر -مثلا- استخدام مال اليتيم أو إهلاك مال اليتيم أو أي شيء من الصيغ الأخرى؟ قال: لأن في الأكل خصيصة لا توجد في غيره وهو أن الإنسان إذا انتفع بالأكل لم ينتفع به أحد غيره، فالإنسان إذا أكل أكلا انتهى لكنه لو لبس لبسا فيمكن أن يُعاد هذا اللباس، أو استخدم سيارة لا تحق له يمكن أن تُعاد، أو استخدم عقارا أو اغتصب عقارا إلى غير ذلك لكنه إذا أكل شيئا لم ينتفع به أحد بعده فهذا فيه تأكيد على أنه انتفاع ينتهي بهذا المُمنتفع ولا يمكن أن ينتفع به غيره ، وهذا من أعظم أنواع الأنانية والاستغلال لأموال الناس (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم ) .

كيف ينهى الله عزوجل أن نأكل أموالنا؟ مالي كيف آكله بالباطل وهو مالي؟ يعني ما قال الله سبحانه وتعالى ولا يأكل بعضكم أموال بعض قال (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم ) أنتم، فلماذا نسب الأموال إليهم ونهاهم عن أكلها وهي أموالهم؟

قال: هذه النسبة لنجعل مال أخي المسلم مثل مالي وأتعامل معه كما أتعامل مع مالي، ولو أنناىأخذنا بهذه اللفتة عندما يقوم الإنسان ببيع أو شراء أو أي صورة من صور كسب المال ويدرك تماما أنه أخذ مالا بغير حق، لو وضع نفسه مكان ذلك المسلم هل يرضى بهذا التصرف؟ إن وجد أنه لا والله ما يرضى إذا هناك شُبهة وهناك مشكلة وهناك قضية ولا نحتاج معها إلى محاكم ولا نحتاج معها إلى إقرارات مثل قوله عزوجل (ولا تقتلوا أنفسكم) وأيضا مثل قوله تعالى (ولا تلمِزوا أنفسكم) مع أن اللمز لآخر لكن إذا أنزلت أخاك المسلم منزلة نفسك ما أكلت ماله يعني -على سبيل المثال- لو أن أحدا عنده أحد السائقين أو الموظفين أو الخدم أو غير ذلك فيجحد المال الذي له أو الحق الذي له أو يؤخره شهورا أو غير ذلك، لو أنه وضع نفسه مكان هذا الإنسان الذي يريد راتبا ووراءه أسرة ويحتاج، هل هو يصبر  ولو يوما واحدا لو تأخر عليه الراتب؟ لا، لكن نحن نتعامل مع الآخرين تعاملا آخر فلو أننا أنزلنا أموال الناس منزلة أموالنا كما قال الله عزوجل أدركنا لماذا نهانا الله عزوجل أن نأكل أموالنا. هذا أمر.

الأمر الثاني: قد يكون المراد (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم ) أي فعلا أموالكم والمقصود أن تصرفوها في المحرّم من القمار والميسر وغير ذلك مما لا نفع فيه فأنتم بهذا أكلتم أموالكم التي هي لكم لكنكم جعلتموها في غير ما أراد الله. ويشبه هذا أو يُفسِّره ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن افتخار ذلك الكافر (يقول أهلكت مالا لبدا) لُبدا: يعني كثير مُلبد بعضه فوق بعض. لكن لاحظوا معي أنه يقول (أهلكتُ) ولم يقل أنفقتُ، وفرق بين الإهلاك والإنفاق فهو يرى أن هذا المال مجرد إهلاك .. إسراف .. صرف في غير محله، التخلّص من المال وليس هو إنفاق لذلك يجب علينا أن نفكر بهذا، لا ننفق أموالنا هكطا في أي شيء محرّم أو غير ذلك.

/ (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) لماذا قال الله عز وجل (بَيْنَكُم)؟

للتدليل أن هذا الأمر الذي يحصل هو بين المسلمين، بين هؤلاء الذين يتعاملون فهو يأكل مالك وأنت تأكل ماله والعملية دائرة بينكم .

وقال: في هذا أيضا تنبيه إلى أنه كان ينبغي أن يكون بينكم هو التناصح وصحة التعامل وليس هو الكذب والغبن والخيانة .

/ (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) بالباطل: يعني مصحوبة بالباطل أو أن الأسلوب الذي أُخذت به باطل، والباطل -كما تعلمون- ضد الحق.

/ (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) هنا قال: أحد معنيين:

- إما أن (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) أي تقدموها إلى الحكام أو القضاة وهم الذين يحكمون بين الناس وتقدموا لهم الدلائل والبراهين على صدق ما فعلتم -على الأقل ظاهرا- وإن كنتم تعلمون في داخل نفوسكم أنه باطل. هذا أمر.

وهذا مثاله: أن يكون إنسان بينك وبينه شيء كمال، أخذت منه مال أو أخذ منك مال إلى غير ذلك لكن ليس هناك أي توثيق ثم جحدت هذا المال -كما نرى كثيرا في حقوق العمال- فتجد واحد من الناس يقول اذهب إلى المحكمة فيذهب المسكين إلى المحكمة ليس عنده بيّنة يقدمها ولا شهود ولا غير ذلك. القاضي لا يحكم إلا بما بَان له فيرى هذا المسكين -هذا الرجل- الذي فعل هذا الفعل أن حكم القاضي يُحِلّ له حراما وهو المال الذي للعامل هذا أو لذلك الإنسان أو لغيرهم. فذكر الله عز وجل أن هذا الأمر من باب أكل أموال الناس بالباطل ولا يُحِلّ حكم القاضي ما كان محرما . إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري ومسلم- ذكر عليه الصلاة والسلام أن الناس يتقاضون عنده (ولعل أحدكم ألحن بحجته من بعض) كلامه .. طريقة إيراده للحجة أقوى من غيره (فأقضي له) فإنما هي قطعة من النار، يعني حكم النبي صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله لا يُحِلّ هذا المال المحرّم. فإذا كان بعضنا يعتمد أو بعض الناس يعتمد على هذه القضية فلا يعتمد عليها.

أذكر لكم حادثة يسيرة حصلت في تبوك:

في يوم من الأيام ذكر لي أحد العُمال مباشرة -مشافهة- أن عنده كفيل في الرياض جحد أمواله على مدى سنوات لم يعطِه منها شيئا، يوم من الأيام سمِع كلمة عن الشهود يوم القيامة -الذين يشهدون (اللسان واليد والرجل وبشرة الإنسان) إلى غير ذلك- وأنهم سيشهدون على الإنسان بما فعل، فسمع هذه الكلمة على بساطة علمه وما يعرف فأخذ ورقة وقلم -على ما يقول- وكتب فيها ما فهِم من هذه الكلمة ثم أرسلها بالفاكس لكفيله في الرياضوقال أنا ليس بيني وبينك أي شيء الآن لا عندي وثائق ولا شيء، لأنه دائما يقول له هات ما عندك ليس لك شيء عندي، لا وثائق ولا .. اشتكي، فأرسل له الرسالة وقال له هذا آخر عهد بيني وبينك سنتقابل أمام الله عز وجل وهؤلاء الشهود سيشهدون عليك يوم القيامة -ببراءته .. ببساطته- ثاني أو ثالث يوم اتصل به ذلك الرجل -لما ذكرنا القضية الأولى- لما تحرّك الإيمان في الداخل ومراقبة الله انتهت المستندات وانتهت الأدلة وانتهى القضاء وانتهت الأمور كلها، أصبح المراقب هو الله سبحانه وتعالى . واتصل به وقال تأتيني في أقرب وقت أعطيك كل ما لك، فقال: ما عندي شيء ، قال: أنا أعرف إن ما عندك شيء. واتضح أن عند هذا الرجل ثلاثمائة عامل آخر فعل معهم مثل ما فعل مع هذا الرجل وأعاد حقوقهم كما أعاد لهذا الرجل .

لاحظوا معي إذا تحرّك الإيمان ومراقبة الله تغيّر كل شيء . 

الصورة الثانية (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) : المقصود بها الرشوة، أن يُرشا القاضي أو من يحكم في حقوق الناس أو غير ذلك يُعطى مال حتى يحكم لهذا الإنسان، ولذلك الله سبحانه وتعالى (وَتُدْلُوا) قال التعبير بـ (تدلوا) شُبِّه بالحبل الربوط بدلو فيُدلى به ويُسحب هذا الأمر كما يُسحب هذا الحق بهذه ألأموال التي يُعطى هذا الإنسان إياها ليحكم له دون الآخر.

 سواء هذا أو هذا كل ذلك لا يُحلِّل هذا المال الحرام على الإنسان.

( وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ) تأكلوا أموال الناس، جزء من أموال الناس (بِالْإِثْمِ) فذكر الله عز وجل في هذه الآية الباطل والإثم، أما الباطل: فهو الطريقة التي كسب بها المال، وأما الإثم: فهو ما يترتب على هذه الطريقة التي كسب بها المال.

قال (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) وإنما ذُكرت الجملة الحالية هنا (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) للتشنيع يعني أنتم تعلمون أن هذا الأمر مُحرم ومع هذا تفعلونه وتأكلون أموال الناس.

أخيرا: من أخطر ما يمكن أن يُختبر به الإنسان في هذه الدنيا هو المال، فقد الله في القرآن عددا من الذين اختبرهم وكلهم رسبُوا فلنحذر من خطورة المال [صاحب الجنتين وأصحاب الجنة وقارون] كلهم اختُبِروا بالمال ولم يثبتوا، فأخطر ما يمكن أن يُختبر به الإنسان المال. وفرصتنا في رمضان أن نتحلل من هذا المال، الآن الذي عنده مظلمة .. عنده شبهة لا ينتظر محاكم يذهب إلى ذلك الإنسان ويُعطيه ويكون أكرم بعد، يعطيه أكثر مما يستحق فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي حتى صاحب الدين الذي عليه أفضل وأحسن مما عنده .نسأل الله التوفيق للجميع، هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.  

--------------------------------------

المادة الصوتية (وقفات مع آيات الصيام -٧- )