د. محمد الخضيري
المَثَل الثالث: من الأمثال التي معنا في سورةِ الأنعام يقول الله عزَّ وجل (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:١٢٢] هذه الآية ذكر العُلماء فيها أنَّها نزلت في عدد من الناس إمَّا أن تكون نزلت في حمزة وأبي جهل فإنَّ أبا جهل اعتدى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأساء إليه أبلغ إساءة عندما وضع سلا الجزور على عُنقه وهو ساجد فسمِع بذلك حمزة وكان على الشِّرك فأصابته الحَمِيَّة فذهب إلى أبي جهل وضربهُ بقوسٍ كان بيده وقال إنَّ ابن أخيك قد سفَّه أحلامنا وفعل وفعل فقال : والله ما أحدٌ في الأرض أسفَهَ منكم تصنعون حجراً ثُم تعبدونه وأنتم تعلمون أنَّه لا يضركم ولا ينفعكم أُشهِدُكم أنَّي على دينه ثُمَّ شهِد شهادة الحقِّ وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قالوا فأنزل الله هذه الآية في حمزة (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا) يعني على الضلالة والشرك والجهل والغِواية والعمى (فَأَحْيَيْنَاهُ) بأيِّ شيء ؟ أحييناه بالإيمان والتوحيد فالحياةُ هُنا مُستعارة للحياة الحقيقة التي يكون بها فلاح الإنسان في دُنياه وأُخراه ألم يقُل الله عزَّ وجل في سورة الفجر (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) فليست الحياة هي هذا الجسد الذي يسعى ويتحرَّك ويأكُل ويتنعَّم إنَّما الحياة الحقيقية هي حصول الإيمان في القلب ومعرفة الإنسان لربِّه سبحانه وتعالى وإيمانه به وتوحيده له قال (فَأَحْيَيْنَاهُ) أحييناه بهذا الوحي وبهذا النور وبهذا الدين (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) جعل الله لهذا الذي أحياه الله بالهداية نوراً والنور هُنا يُراد به القرآن فإنَّ الله عزَّ وجل قد جعل هذا القرآن نوراً يكشِف للناس جميع الظُلمات ويُبيِّن لهم كُل الحقائق ويسيرون به في راحةٍ وطمأنينة وكما يُنير دربهم في الدُّنيا يُنير قبورهم عندما يأتون في قبورهم ويوم القيامة تكون أنوارهم بأيْمَانِهِم تسعى بين أيديهم فيتميزون بين أهل المحشر كُلِّهم في شدَّة الظُلمة بأنَّ معهم أنواراً ليست مع غيرهم.
قال (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا) ونكَّر هذا النور تعظيماً له لأنه أعظم الأنوار، هذا الكِتاب من نوره أنَّه يُبين لك صفة الرب وأسماءه ويُعرِّفك بالله والعِلم بالله أعظم العلوم، هذا النور يُبيِّن لك ما يُحبه الله وما يُبغضه، هذا النُّور يُبين لك الجزاء الذي ستكون عليه إن عمِلت بما يأمر الله وبما ينهى عنه، هذا النُّور يُبين لك ما كان في الأزل كيف خلق الله الخلق كيف خُلِق أبونا آدم ومن هُم الذين سبقونا من الأنبياء والرُسل والصالحين وماذا ستكون عليه أحوال الخلق بعد موتِهم ثُمَّ في يوم البعث وفي يوم الحشر والجزاء، قد ذُكر لنا ذلك بتفصيل دقيق ولذلك المؤمن كما أنَّه يعلم ما سبقه من التاريخ يعلم ما سَيحصُل بكُلِّ يقين لا يشُك في ذلك مِثقال ذرة، أليس هذا نوراً من الله عزَّ وجل؟ أنتم قد لا تشعرون بهذا لأنَّكم ما عِشتُم ظُلمة الشَّك والجهل والكُفر التي يعيش فيها الكُّفار لا يدرون كيف خُلقوا ولا إلى أي شيءٍ سيؤلون فهم لا يدرون ما غاية هذه الحياة ولا لماذا خُلِقوا ولا لِماذا جاءوا ولا إلى أي شيءٍ سيرِدون، الرَّجُل منهم يصنع الطَّيارة ويفعل الأعاجيب من الصناعات ولكِنَّه لا يدري ماذا سيُصنع به بعد موته أيُّ نورٍ أعظم من هذا النور الذي كشفَ لك ذلِك كُلَّه وبيَّن لك الحق من الباطل والظُلم من العدل والكُفر من الإيمان، وبيَّن لك مصير المؤمنين ومصير الكافرين، وبيَّن لك من هُم المُحِقُّون ومن هُم المُبطلون في الدُّنيا وفي الآخرة.
قال الله عزَّ وجل ( يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وهُنا وقفة مُهمة جِدَّاً وهي أنَّ هذا الذي آتاه الله نوراً آتاه الله نوراً يمشي به في الناس يتحرَّك فيه بين الخلق أولاً هو يمشي بين الناس ومعهُ نوره فهو يتعرَّف به على الناس يعرف المُحق من المُبطل، الظالم من العادل، المؤمن من الكافر، لا يلتبس عليه من يعبُد المسيح ويجعله ابناً لله مِمن يوحِّد الله ولا يقول أبداً هُما سواء ومنزِلتُهما عند الله واحدة لأنَّ عنده نور يمشي به في الناس فيُفرِّق به بين أهل الحق وأهل الباطل، وأيضاً آتاه الله نوراً يمشي به في الناس بأن يدعو الناس إليه كما قال الله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وماذا ؟ (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فهو لا يقتصِر بهذا النور على نفسه بل يمشي به في الناس يُحرِّكه يتحرَّك بهذا الخير وبهذا النور وبهذا الفضل العظيم والنعمة الكريمة من الله بين الخلق يدعوهم إليه يدُّلهم عليه ويهديهم إليه كما قال الله في الآية التي مرَّت بنا قبل قليل ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:١١٠] وقال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وقال (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:١٠٨] وقال ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:١٢٥] فلا يجوز يا إخواني للمؤمن أن يجعل صلاحهُ مُقتصراً على نفسه وهذا الخير الذي نزلَ عليه من السماء يجعَلَهُ خاصَّا به لا يخرُج به في عالم الناس ولا في عَالم الأحياء، ويؤسِفُنا يا إخواني أنَّ بعض الناس يعبُد الله في بيته في خاصَّة نفسه لكِنَّه عندما يخرُج إلى الناس يُجاري الناس في كُلِّ ما يفعلونه إن وجدَهُم في كُفر كفر معهم، وإن وجدَهُم في ظُلم ظلمَ معهم، وإن وجَدهُم في غِيِّ غوى معهُم، لا يظهَر أَثرُ هذا النور عليه وهذا يا إخواني شيءٌ يُنافي ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن ويُنافي شُكر نِعمة الله عليك يومَ أن نَوَّر الله لك نَوَّر بصيرتك ونَوَّر قلبك وأنزل عليك هذا النور لا من أجل أن ترى به ولا تُرِي، بل أرِ بِه الناس الحقَّ الذي جاء الله به وأنزلهُ على عِباده.
قال (يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) يعني هل هذا مِثل هذا ؟ هل هذا بِصِفته التي ذكرنا مِثلُ هذا الذي في الظلمات لاحِظوا عندما عبَّر فقال (كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ) قد احتوته الظلمات من جميع الجِهات فهو غارِقٌ فيها لا يخرُج من ظُلمة إلا إلى مِثلها، انظروا يا إخواني يخرُج من ظُلمة الجهل إلى ظُلمة الشَّك والريب إلى ظُلمة الصَّد عن سبيل الله إلى ظُلمة إيذاء المؤمنين إلى ظُلمة الدعوة إلى الكفر وإلى الشِرك وإلى البدعة وإلى غيرها فهو في ظُلمات بعضُها فوق بعض إذا أخرج يدهُ لم يَكَد يراها (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) وهذا المَثَل سيأتي إيضاحُه إن شاء الله في سورة النور (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) ثُم قال (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) الظُلمة الأولى ظُلمة الليل الظلمة الثانية ظُلمة الموج الظلمة الثالثة ظُلمة السحاب ظُلمات أطبقت على إنسان في بحرٍ متلاطِم الأمواج في شِدَّة خوف يُصوره لنا ربُّنا سبحانه وتعالى بقوله (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) فعلاً هذه الحال تحصُل أحياناً في المحيطات والبحار عندما تشتدّْ ظلمة الليل يكون هُناك سحاب تكون هُناك أمواج عاتية ترتفع فوق السُّفن ليست أمتاراً قليلة بل أمتاراً كثيرة هذا هو مَثَل هذا الكافر الذي وصفه الله بقوله ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) وليس بِخارجٍ منها لماذا ؟ بسبب من نفسه ( فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم ) عُرِض عليهم الحق جاءتهُم البيِّنات والهُدى من الله فأبوا أن يقبلوها فعاقبهم الله بذلك ولذلك قال (كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هُم في هذه الظلمات ويرون أنهم على حق ويدعون الخلق إلى الكُفر ويُشككون العِباد في دين الله ويصُدونهم عن توحيد الله عزَّ وجل (زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فهُم قد رضوا بما هُم فيه لا يرون ما يكون فيه أهل الإيمان من النور والهداية والحق والرحمة والراحة والرَّوح والهدى ونحمد الله على ما نحنُ فيه من الخير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق