الأحد، 26 أكتوبر 2014

الحلقـ الرابعة والعشرون ــة / سورة الفجر (٢)



الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على أشرف رسله وخير خلقه وبعد ..
 فقد انتهينا في اللقاء الذي سبق إلى قول الله جل وعلا من سورة الفجر : ( كَلَّا ۖ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) وبيّنا أن ( كَلَّا ) عَودٌ على بدء بمعنى ليس الأمر كما تقولون ولا تزعمون في قولكم أن الإنسان إذا أُكرِم في الدنيا دلالة على الإكرام في الآخرة ، وأن التضييق في الدنيا دلالة على التضييق في الآخرة .
ثم قال الله جل و علا : ( كَلَّا ۖ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) أي ليس فيكم من يحضُّ بعضكم بعضاً على إطعام المساكين ، والنبي عليه الصلاة و السلام أول ما دخل المدينة قال في خطبةٍ له : (أطعموا الطعام) . فإطعام المساكين قُربَةٌ عظيمة لله جل وعلا ، وقد يقول قائل أنه في زماننا هذا ربما استغنى الناس عن هذا كثيراً وهذا في ظاهره حق لكن الإنسان إذا توخّى بيوتاً يعرفها وطَرَقَ بابها يريد أن يتقرب إلى الله بالإحسان إليها فإن الله جل وعلا يقول وقوله الحق : (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ) .
قال جل و علا : ( وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ ) أي الميراث (أَكْلًا لَمًّا ) أي شاملاً ( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) أما الأصل أن الله جل وعلا فطر قلوب بني آدم على حب المال و لهذا قال الله جل وعلا عن الأخيار عن خلقه : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) فبيَّن جل وعلا أنهم يحبونه مع أنه جل وعلا يتحدث عن كرام خلقه .
( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ) أي حباً زائداً يدعوكم إلى معصية الله ، وهذه الأمة أكثر فتنتها في المال ثم في النساء .. في المال ثم في النساء ، فأما المال ففتنته يجمعه المرء من غير حِلِّه ، وأما النساء فالباب في هذا الحديث واسع وقد مرَّ معنا .
( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا ) تكراراً للزجر ، قال جل وعلا : ( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا )
" إِذَا" لما يُستقبَل من الزمان ، و"إذ" أيها المبارك لما قد مضى ، وكلاً من "إذا" و"إذ" أوعية زمنية ظروف زمنية.
 ( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) هذا يوم ؟ يوم القيامة ، لِمَ تُدَك ؟ لتُتستَبدَل بغيرها قال الله جل وعلا : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) ومن عظَمَة يوم القيامة أن الله جل وعلا يحشرُ الخلقَ على أرضٍ لم يُعصى عليها جل وعلا قط حتى تكون أهلاً أن تُضاء بنور الله جل وعلا قال الله جل و علا : ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ) فما دامت الأرض التي نحن عليها دُنست بمعاصي بني آدم فليست أهلاً لهذا المقام فلهذا قال الله جل وعلا : ( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) ذهبت بالكلّية بدليل قوله جل وعلا في سورة إبراهيم: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) .
( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ ) وتقف - مجيئ يليق بجلاله وعظمته وكل ما خطر ببالك فالله جل وعلا غير ذلك ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يجيئ جل وعلا مجيئاً يليق بجلالته وعظمته ليحكم بين خلقه و يفصل بين عباده ..الله جل و علا يقول : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) .
( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ ) هذه "الواو" واو حال و معنى الآية ( وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) : أي حال الملائكة يوم مجيئ الله جل وعلا كيف يكونون ؟ ( صَفًّا صَفًّا ) . و مرّ معنا أن أهل المحشر صفٌ واحد ، لا يوجد في أرض المحشر واحد وراء أحد يحجبه، كل أهل المحشر صفٌ واحد أما الملائكة فقال عنهم ربهم جل وعلا : ( صَفًّا صَفًّا ) وقال ربنا جل وعلا يخبر عن مجيئه في آيات عدة : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ ۚ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ) يَسَّرَهُ الله عليَّ و عليكم .. آمين .
قال الله جل و علا هنا : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ ) أي يوم تُدك الأرض دكاً دكاً و تُبَدَّل ، هذه التنوين تنوين عِوض ( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ ) هذا إسمٌ من أسماء النار ، وجهنم أخبر الله أن لها سبعة أبواب وتفرح -عياذاً بالله- بمجيئ أهلها إليها ويسمعونها قبل أن يدخلونها زيادة في النكال ( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) ..
( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ ) أي ما قد مضى ( وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) أي لاينفعه التذكر للاستبعاد
( يَقُولُ ) أي الإنسان المفرط ( يَا لَيْتَنِي ) تُستخدم في اللغة للتمني للشيء الذي محال أن يقع وأما الذي يْرجى أن يقع يستخدمون له لعل قال قائلهم :
ألا ليت الشباب يعود يوماً ** فأخبره بما فعل المشيب
 والشباب لا يعود ، لكن لعل تستخدم للرجاء ، قال الله هنا : ( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) "اللام" تحتمل معنيين : إما أن تكون لام توقيت ولام التوقيت جاءت في الإسراء ، الله جل و علا يقول : ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْل ) أي من وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل .
وإما أن تكون للعلة أي للمستقبل ليصبح المعنى ياليتني قدمت في الدنيا لحياتي الأخروية .. هذا على المعنى الثاني ، على المعنى الأول لام التوقيت يعني : ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) أي حين حياتي عندما كنت حيّاً ياليتني قدمت عملاً صالحاً ينفعني في حياتي.
 ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ ) يقول رب العزة : ( لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد ) وهذا معنى قول الله جل وعلا : (ولَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) .
يوم القيامة و هذا مستفيض إنما الحساب والتقاصّ بالحسنات والسيئات ، موازين تُنصَب وكفّةً تَرجَح وكفّةٌ تُرجَح ، ويقول ابن مسعود أو غيره من السلف : "سحقاً أو بُعداً لمن غلبت آحاده عشراته" لأن الله جل وعلا جعل الحسنة بعشرة أمثالها ولم يجعل السيئة تُضاعف ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) .
الآن يَنشُد المؤمن ما الذي يثقل به الميزان ؟ ما الذي يثقل به الميزان ؟ جاء في الحديث الصحيح أن ما يثقل به الميزان حسن الخلق وهذا عام فمن حسن الخلق حسن التعامل مع الله وعدم ظلم العباد لكن في آخر اللقاء سننبه إن شاء الله إلى ما يثقل به الميزان - نكمل التفسير.
 قال الله جل وعلا : ( فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) ثم قال الله جل وعلا : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) هذا نداء تنادى به النفس المطمئنة على الأظهر حال الموت ( ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) من خَلقَكِ ؟ الله ، من أطعمكِ ؟ الله ، أنتِ من عبدتي أيتها النفس ؟ عبدتي الله ، فارجعي إلى الذي أكرمكِ بأن تعبديه راضيةً مرضية هو راضٍ عنكِ فأكسبكِ الرضا في قلبك. وهذا تُناداه كل نفسٍ مؤمنةٍ ختم الله لها بخير ووفقها في الدنيا لجليل الأعمال ، وهو مطلب عظيم ومُرتقىً صعب ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي )
معنى ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) : الخلق الذين يموتون كُثُر فهذا يموت في سلك الملحدين وهذا يموت في زمرة اليهود وهذا في زمرة النصارى و هذا في زمرة الفساق ، هناك فئة منذ آدم إلى قيام الساعة فئةٌ اصطفاها الله جل وعلا رَزَقَها في الدنيا رزقها في قلوبها حبه وأرشدها إلى طاعته وأعانها على طاعته ، هؤلاء يُحشرون مع بعضهم البعض ولهم زمرة تكتنفهم وإن تباعدت أزمنتهم ولهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم كما تعلمون كانت أم المؤمنين عائشة قد أسندته إلى بين صدرها ونحرها وهو قبل أن تُسنده كان يقول : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً عرفوا أو عرفن نساؤه أنه يريد بيت عائشة فمُرِّضَ في بيت عائشة وهو قبل أن يموت كان يقول لها دوماً أن الأنبياء مخيرون عند الموت ما بين الخُلد في الدنيا وما بين لقاء الله جل وعلا ثم الجنة ، فجاء المَلَك إليه صلوات الله وسلامه عليه يُخيره فعائشة لا تسمع سؤال الملَك ولا قوله تسمع ماذا ؟ جواب النبي صلى الله عليه و سلم ، فالمَلَك يقول له دون أن تسمعه يُخيره ما بين الخُلد في الدنيا ثم الجنة وما بين لقاء الله ثم الجنة قالت : فسمعته يقول -والآن هي أقرب الناس إليه جسداً مسندته إلى صدرها و نحرها- قالت سمعته يقول : مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء و الصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً . هؤلاء هم المقصودون بقول الله جل وعلا : ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) .
أي أحد الآن حتى نحن الآن نخرج من هذا المسجد المبارك كل مجموعة تذهب سوياً بصرف النظر عما يجمعها زماله، جاءوا في مركب واحد، جيران يسكنون في بناية واحدة، يذهب الناس زُمَر وكذلك الأرواح إذا صعدت تذهب إلى الزمرة التي هي منها والإنسان أدرى بنفسه كيف يقضي نهاره كيف يقضي ليله والأهم هو أصلاً قلبياً يحب يُحشر مع من ، حتى إن لم يدركه بعمله أدركه بنيته ، الله جل وعلا يقول : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) فعلى الأقل لو أن شاباً عَزَمَ على التوبة لكنه يجد في نفسه عدم قدرة على ترك بعض المعاصي والموت لا يُدرَى متى يقع فعلى الأقل يُبيِّت في قلبه بصدق أن يتوب إلى الله جل وعلا فإن لم يلقى الله وقد تخلصت جوارحه من الذنوب فعلى الأقل تخلص قلبه من الران وأصبح مقبلاً على الله ولابد أن يتبع الإيمان العمل.
 قال الله جل و علا : ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) هؤلاء العباد الذين اثنى الله عليهم و قال لهذه النفس المطمئنة : أدخلي في زمرتهم و كوني معهم ، يأتي الجواب الآخر لسؤالٍ متوقع مطروح -بحسب لغة أهل العصر- أين مقرهم ؟ أين مكانهم ؟ أين مآلهم ؟
 قال الله عز و جل : ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) فتمرين على عبادي أولاً ومعهم تدخلين جنتي ، والجنة - أدخلنا الله وإياكم .. آمين- كتب الله لأهلها الخلود الأبدي فيها ، وقد مرَّ معنا مراراً وهذا من حَسَن القول الذي يُكرر : أن من أهل الجنة لمن ينظر إلى وجه الله تبارك و تعالى بكرةً وعشياً ولا يمكن أن تكون هناك عطية أرفع من أن يصل العبد بإيمانه وأعماله التي هي من رحمة الله إلى مقامٍ يُخَلَّد في في الجنة و يُمتَّع برؤية وجه الله بكرةً وعشياً .
 والله أن البِشْر ليقع على وجهك وأنت ترى والديك فكيف إذا رأيت ربك ورب والديك ، كلما دعاك الشيطان إلى أن تعصي الله فتذكر ما نعمة أن يجعلك الله ممن يُمَتَّع برؤيته فإنك إذا تذكرت جلال الله وعَظَمته وجماله وكماله اشتاق قلبك إلى هذه النعمة ، وهذا والله إذا وقر في القلب أعظم ما يحجم بالعبد عن المعاصي قال الله جل وعلا عن أهل معصيته يبين نكاله لهم قال : ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) يُمنَعون يُحجَبون من رؤية وجه الله ، فدلّ على أن أعظم النعيم رؤية وجه الله الكريم جل جلاله . ونحن على يقين على أن أعمالنا.. أقوالنا.. أفعالنا.. سرائرنا لا تؤهلنا لهذا الأمر البتة لكن كما نقول في هذه الدروس وغيرها المعوَّل على رحمة الله وحسن الظن به جل وعلا .
ختم الله لي ولكم بكل خير وجعلنا الله وإياكم ممن يُمُتّع برؤية وجهه الكريم في جنات النعيم وصلى الله على محمد و آله والحمد لله رب العالمين هذا والله أعلم ، متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمدلله رب العالمين .
-----------------------------------------------------------------
جزى الله خيرا من قامت بتفريغ الحلقة وجعله ثقيلا في موازين حسناتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق