د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري
لتحميل الملف الصوتي لتفسير سورة الصافات (١-٣٨)
لتحميل الملف الصوتي لتفسير سورة الصافات (١-٣٨)

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ﴿١﴾ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ﴿٢﴾ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ﴿٣﴾ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴿٤﴾ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴿٥﴾ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴿٦﴾ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ﴿٧﴾ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ﴿٨﴾ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ﴿٩﴾ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴿١٠﴾}
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. سورة الصافات هي سورة مكية وذلك بإجماع المفسرين أنها سورة مكية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وسُميت سورة الصافات بهذا الاسم لأنه ورد فيها (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) وورد في آخرها (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) والمقصود بالصافّات: الملائكة الكرام عليهم الصلاة والسلام.
موضوع سورة الصافات ليس بعيداً عن موضوع سورة يس وهي بيان أصول التوحيد والعقيدة، تتحدث عن العقيدة، تتحدث عن إثبات الرسالة، تتحدث عن إثبات الوحي، تتحدث عن إثبات البعث والجزاء ولذلك نقول أصول العقيدة، إثبات النبوة والبعث والقرآن الكريم وما يتعلق به وهو الوحي، هذا هو موضوع سورة الصافات.
ورد في فضائل سورة الصفات أحاديث بعضها مقبول وبعضها ضعيف وهذا شأن كثير من الأحاديث التي وردت في فضائل السور هناك بعض الزنادقة الذين وضعوا أحاديثاً أرادوا منها كما يزعمون أنهم يحببون الناس في القرآن كما قال ابن أبي مريم يقول: "رأيت الناس قد انجرفوا إلى سِيَر ابن إسحاق واهتموا بالسِيَر وتركوا القرآن الكريم فوضعت أحاديث في فضائل السور من قرأ سورة كذا فله كذا" كلام -سواليف- ولذلك هذا الحديث موضوع، حديث ابن أبي مريم وفي كل سورة من قرأ سورة كذا من قرأ سورة كذا فهو باطل وموضوع ولا يُلتفت إليه. لكن هناك أحاديث وردت في فضائل بعض السور أحاديث صحيحة فليس كل ما ورد في الفضائل مردود.
يقول الله سبحانه وتعالى (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) المقطع الأول يتحدث عن إعلان وحدانية الله تعالى ولاحظوا هذا الموضوع كيف يتكرر في القرآن الكريم يكاد يكون نصف القرآن الكريم إن لم يكن أكثر يتحدث عن التوحيد وعن إثبات البعث وعن إثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا هو ركيزة إيمان الإنسان، لا يدخل في إيمان الإنسان ولا في عقيدته شِرك ولا شُبهة لذلك الله سبحانه وتعالى يؤكد على وحدانيته واستحقاقه وحده للعبادة فيقول هنا (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) وهذا قَسَم وأسلوب القَسَم يكثر في السور المكية لأن القسم في اللغة المقصود به التأكيد، هذا أسلوب عند العرب عندما تتحدث مع شخص عن موضوع عادي تريد أن تخبره بخبر فتقول مثلاً اليوم سوف ندرس سورة الصافات فتخبره بهذه الطريقة سوف ندرس سورة الصافات هو خالي الذهن من الموضوع لا يحتاج أن تؤكده بأيّ طريقة. لكن تأتي عند شخص متشكك في الموضوع ينفي أن اليوم عندنا سورة الصافات فتقول له: والله اليوم عندنا تفسير سورة الصافات، لماذا تُقسم؟ لأنه هو متشكك، فإذا كان شديد الإنكار لهذا الموضوع فإنك تؤكد هذا القسم تؤكده بالتشديد كما قال (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كفروا) فيأتي بنون الوكيد الثقيلة، فهذا أسلوب العرب فعندما يأتي القرآن في العهد المكي ويؤكد بالقسم لأنهم يجحدون وينكِرون يكذّبون فيقول (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) فيقسم بالملائكة التي تصف صفوفاً والنبي صلى الله عليه وسلم عندما التفت إلى الصحابة رضي الله عنهم يوماً في الصلاة فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة بين يدي ربها فقالوا وكيف تصف يا رسول الله؟ قال يصفون صفوفاً مستقيمة أو نحو ذلك. فنحن في صفوفنا في الصلاة نفعل كما تفعل الملائكة عليهم السلام بين يدي الله سبحانه وتعالى.
ثم يقول (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) وهم الملائكة أيضاً (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) أيضاً هم الملائكة، فئات من الملائكة فأقسم تعالى بطوائف من مخلوقاته والمفسرون عندهم خلاف فيها:
فجمهور السلف على أنها أصناف من الملائكة يتّصفون بصفات ثلاث فهم الملائكة الذين يتمون صفوفهم للعبادة ويصفون أجنحتهم انتظاراً لأوامر الله سبحانه وتعالى، وأيضاً الملائكة التي تسوق السحاب وتحرّكه فقال (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) هناك صنف من الملائكة تزجر السحاب فيتحرك بأمر الله سبحانه وتعالى، قال (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) الملائكة تتلو القرآن وتذكر ربها.
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالصافات نفوس الغُزاة تصف في سبيل الله.
لكن الصحيح هو: أنها هذا المعنى أن الملائكة التي تصف بين يديّ الله سبحانه وتعالى هي المقصودة في هذه الآية بدليل أنه يقول في آخر السورة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) فهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى في جواب القسم ودائماً القسم له أداة قسم (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) "الواو"، ومقسمٌ به (الصَّافَّاتِ صَفًّا) والمُقسم عليه وهو جواب القسم (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ) فالله يقسم بهؤلاء الملائكة على أنه واحد، على وحدانيته وهذا من التأكيد الشديد على إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وأنه لا شريك له في ملكه.
ثم يصف نفسه سبحانه وتعالى فيقول (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) أي أن الله سبحانه وتعالى الذي يستحق الألوهية وحده هو أيضاً ربُّ السماوات والأرض وما بينهما وهذا يتكرر كثيراً في القرآن وهو الاستشهاد بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، يعني يقول أنا الذي خلقتكم ورزقتكم ألست أولى بالعبادة؟ بلى، الذي خلق ورزق وأحيا وأمات هو الذي يستحق أن يُفرَد بالعبادة، هذا بالعقل. أما أخلقكم وتعبدون غيري وأرزقكم وتشكرون سواي؟! هذا شرك. فالله سبحانه وتعالى دائماً في القرآن الكريم يستشهد ويقول أنا خلقتكم ورزقتكم أنزلت عليكم المطر وأنبت لكم النبات فأنا أستحق العبادة وتوحيد العبادة. فالله يقول هنا (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ) توحيد الألوهية (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) هذا توحيد الربوبية. ما دام هو الذي خلق فهو الذي يستحق العبادة.
قد يقول قائل لماذا قال رب المشارق ولم يقل رب المغارب؟ كما قال في سورة أخرى (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) [المعارج:40] فيقول العلماء ذكر أحدهما فاستغنى عن ذكر الآخر، عندما يقول رب المشارق طالما هناك مشارق فهناك مغارب فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر واللغة العربية البلاغة فيها هي في الإيجاز، الإيجاز هو البلاغة في اللغة العربية.
وقال في آية أخرى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن:17]
وقال أيضاً (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [الشعراء:28]
وقال أيضاً (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) [المعارج:40]
وردت في القرآن ثلاثة:
المشرق والمغرب
المشرقين والمغربين
المشارق والمغارب
فالعلماء يقولون المشرق والمغرب جنس المشرق وجنس المغرب، جهة المشرق وجهة المغرب (المشرقين والمغربين) الشمس لها مشرق في الشتاء ومشرق في الصيف ولها مغرب في الشتاء ومغرب في الشتاء ومغرب في الصيف فسميت مغربين ومشرقين وإن قلنا المشارق والمغارب كذلك تتعدد بل كل يوم يختلف عن اليوم الذي قبله في مشرق الشمس ومغربها، في درجته طيلة السنة فأيضاً هي كلها صحيحة وليس بينها تعارض.
ثم بيّن الله سبحانه وتعالى شيئاً من مظاهر ربوبيته فقال الله سبحانه وتعالى
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10))
هذه السموات فيها من دلائل ربوبية الله سبحانه وتعالى ما لا يحصيه إلا الله. العرب الذين خوطبوا بهذه الآيات يعرفون من دلائل قدرة الله في هذه السماء، يرون النجوم ويرون الشمس والقمر يرون المطر إذا نزل عليهم والسحاب وقد ذكره الله لهم، لكن هناك أشياء عرفناها نحن ما كانوا يعرفونها هم، الآن هل شاهد أحد منكم بعض الأفلام الوثائقية التي تشرح هذه النجوم في السماء؟ ألا تلاحظون اليوم كل سنة أو أقل من ذلك اكتشاف مجرة جديدة ، اكتشاف مجموعة شمسية جديدة، اكتشاف نجم جديد أليس كذلك؟ فالشاهد أن من أعظم ما يمتنّ الله به على خلقه هذه السماء والله سبحانه وتعالى يذكر أنه خلق هذه النجوم زينة، مما خلقها له أنها زينة فقال (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) وفي قراءة (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) والمعنى واحد.
ثم قال (وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ) أي هذه النجوم التي جعلها الله في السماء هي زينة ولها وظيفة أخرى وهي أن الله سبحانه وتعالى يسلّطها على هذه الشياطين التي تحاول أن تسترق السمع من السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كانت الشياطين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لها مقاعد في السماء فيسمعون الملأ الأعلى، الملائكة، يسمعون أي خبر من الملائكة من أمر الله سبحانه وتعالى الذي أمر به الملائكة لكي يفعلوه في الأرض فيسرقه الشياطين وواحد يبلغ الثاني حتى تصل للكاهن، فالكاهن يزيد عليها تسع وتسعين كذبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيصدُق في بعض الأشياء وتكون فتنة لكن لما أُرسل النبي صلى الله عليه وسلم أغلق هذا الباب ولا يوجد أي شيطان يستطيع أن يسترق السمع. ولذلك جاء الشياطين إلى شيخهم إبليس وقالوا ما عاد يمكننا أن نتصل مع السماء كلما حاول أحد جاءه شهاب ثاقب من هذه النجوم يقتله، فقال ابليس أكيد هناك شيء جديد وأرسل مجموعة من الشياطين لكي ينظروا ما الذي تغير في العالم وما هذه الشُهُب التي تصيب هؤلاء الشياطين؟ فلما ذهب أحد هؤلاء الشياطين وجد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مكة فرجع وأخبر إبليس وقال بُعِث محمد عليه الصلاة والسلام. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة الجن (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) وقال (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ (9)) [الجن] كان عندهم أماكن خاصة للرصد، رصد فلكي (فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) انتهى الموضوع، ولذلك أُغلِقت السموات على هؤلاء الشياطين لا ينفذون إلى شيء ولا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. فالله سبحانه وتعالى يقول (وَحِفْظًا) أي هذه النجوم حفظاً للسماء (مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ) والمارد المتمرد شديد التمرد.
(لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) ما عادوا يستطيعوا أن يسترقوا السمع (وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ) وإن نجا من شهاب أصابه الآخر. (دُحُورًا) أي مدحورين هؤلاء الشياطين (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) واصب: يعني دائم متصل (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) بعض الشياطين بالرغم من كل هذه الحراسة أحياناً يخطف خبراً (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) فأيضاً لا يستطيع أن يفرّ من هذا الحفظ الذي جعله الله على هذه السماء. هذا هو المقطع الأول من سورة الصافات.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى في الآيات التي بعدها (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا) اسأل يا محمد عليه الصلاة والسلام هؤلاء المشركين أهم أقوى من هؤلاء الشياطين التي منعناها من السماء؟ ما هم قريش وما عندهم من إمكانيات حتى يحاربون الله ويناوؤنه؟! فيقول (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي اسألهم (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ) أنت أيها الإنسان المكذِّب المارد أنت لا شيء لا تقارن نفسك لا بالشياطين ولا بالملائكة ولا حتى بالحيوانات الضخمة أنت لا شيء أنت أضعفها كلها، لولا أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان العقل وسخّر له هذه المخلوقات لما استطاع أن يذلّلها لنفسه. فيقول الله سبحانه وتعالى (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا) أي هؤلاء المكذبون من الكفار (أَم مَّنْ خَلَقْنَا) من أمثال هذه الشياطين والملائكة (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ) يعني أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر أو خلق أصلهم وهو آدم عليه السلام وهو أبونا من طين لازب ولازب يعني طين جيد، لازب يعني يلتصق بشكل جيد هذا هو معنى لازب وهذا الطين الجيد هو متماسك. (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)) هؤلاء المشركون يسخرون ويستهزؤن وأنت يا محمد عجبت من صنيعهم ومن سخريتهم بالرغم من كل هذه الآيات، فهذه القراءة (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) بفتح التاء بل عجبتَ يا محمد من صنيعهم وهم يسخرون ويستهزؤن وإذا ذُكِّروا بأي نوع من أنواع التذكير لا يذكرون وإذا رأوا آيةً من الآيات التي ذكرناها لهم يستسخرون، لا يسخرون فقط يسخرون ويحرّضون الآخرين على السخرية. وفي قراءة أخرى وهي قراءة صحيحة (بل عجبتُ ويسخرون) وهذا فيه إثبات لصفة العَجَب من الله سبحانه وتعالى.
(وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (15)) نرجع مرة أخرى إلى تهمة من تهمهم التي يتهمون بها النبي صلى الله عليه وسلم، يتهمونه بأنه ساحر أنه ساحر وأن هذا القرآن الذي جاء به سحر (وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ) ويُنكرون البعث (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) كما قال العاص ابن وائل في آخر سورة يس (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) وهذه معضلةٌ عند المشركين والمكذّبين وحتى المُلحدين اليوم لا تدخل دماغهم كيف يبعث الله هذه الجثة المتحللة؟! رمينا أحدهم في البحر أكلته السباع كيف يبعث الله الجثة المتحللة في البحر؟! ولذلك ينكرون، ويذكر النبي عن رجل من المتقدمين قال لأبنائه إذا مت فأحرقوني ثم خذوا عظامي وبقايا جسمي فاسحقوها ثم ذروا نصف منها في البحر ونصف منها في البر في يوم ريّح -كثير الريح- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء به الله يوم القيامة فأعاده فقال ما حملك على ما صنعت؟ فقال حملني عليه يا ربي خوفي منك وحيائي منك فغفر الله له. فالشاهد أن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يجمع الناس ويبعثهم. تقول لا تدخل العقل، هذه أمور غيبية لكن قدرة الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير وهو الذي خلقك من عدم وخلق آدم من تراب فهو قادر على أن يحي الموتى ويبعثهم بعد موتهم.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) أي وكذلك آباؤنا سوف يبعثون؟! (قُلْ نَعَمْ) أي قل يا محمد نعم وهذا أسلوب يسمى أسلوب التلقين في القرآن الكريم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) وهنا أيضاً يعلّمه كيف يجيب عليهم فيقول: قل نعم سوف تبعثون ويبعث آباؤكم (قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ) داخرون أي ذليلون.
(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ) إنما هي زجرة واحدة التي هي نفخة البعث فإذا هم قيام ينظرون ويستجيبون لأمر الله سبحانه وتعالى كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة النازعات (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) بأرض المحشر.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) الآن ظهرت لهم الحقيقة وهي البعث بعد الموت وعرفوا الآن أن هناك يوم اسمه يوم الدين والمقصود بيوم الدين هو يوم الجزاء والحساب.
(وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا) يدعون على أنفسهم بالويل والثبور(هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وليس هناك أقسى من أن ترى مثل هذا المشهد الذي كُنت تُكذب به طيلة حياتك ثم تُفاجأ فإذا بك تعيش هذا المشهد! تُكذب طول عمرك بالنار وتسخر من الأنبياء ثم تأتي فإذا بها أمام عينيك هذه النار! لم يعد هناك مجال للاعتذار ولم يعد هناك مجال أن ترجع إلى الدنيا أبداً (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون:99] آخر مرة! النذر كثيرة والرسل كثيرة والقرآن وصلتك بما فيه الكفاية فإذا وصلت لهذه المرحلة (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ (100)) [المؤمنون] لذلك لا بد من المسارعة دائماً لأعمال الخير، المسارعة للصلاة، والمسارعة إلى الصيام، والمسارعة إلى الحجّ، وإلى الصدقة، لا تؤخر أعمال البر فإنك لا تدري متى تموت لو كان عند الإنسان منا عهد إنه لن يموت إلا إذا تجاوز عشرين سنة فإن الأمر يهون لكن ليس هناك ضمانة لأحد وبالتالي فلا بد من المسارعة والمبادرة (سارعوا) والرسول يقول (بادروا بالأعمال) وهكذا.
(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ولاحظوا أن الله يُسميه يوم الدين ويُسميه يوم الفصل، والدين هو الجزاء والحساب لأن هناك حقوق تؤخَذ وحقوق تُعطى يوم القيامة حتى يُقتصّ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فما بالك بما هو فوق ذلك؟! وسمّاه الله تعالى يوم الفصل أيضاً لأن الله يفصل بين الخلائق فيفصل بين أهل النار وأهل الجنة، ويُدخِل هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى بعد هذه الآيات العظيمة (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ) في قوله سبحانه وتعالى (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) أي وأشباههم ونظراءهم يعني أُحشروا الكافرين مع بعضهم ليس المقصود (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) يعني زوجاتهم لأنه قد يكون الإنسان ظالماً كافراً وزوجته مؤمنة أو قد تكون الزوجة كافرة وزوجها مؤمن فالزوجية هنا ليس المقصود بها الزوجية بين الرجل والمرأة وإنما المقصود بالزوجية هنا الشَبَه (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ) ينتقل السياق هنا من الخبر إلى خطاب الله سبحانه وتعالى الموجّه للملائكة الموكلين بالتنفيذ في موقف الحشر فالله يقول للملائكة (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني اجمعوهم لأن الحشر في اللغة هو: الجمع وسُمّي يوم القيامة يوم الحشر لأنهم يجتمعون فيه، وذكر الله سبحانه وتعالى سورة الحشر قال (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) أُهدوهم يعني دلّوهم والهداية في اللغة: الدلالة والإرشاد، والهداية غلب في القرآن والسنة وفي كلام العرب استخدامها في الدلالة إلى الخير ولكنها قد تستخدم في الشرّ كما في الآية من باب السخرية والاستهزاء بهم يقول الله سبحانه وتعالى (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)) لأن الجزاء من جنس العمل، تعالوا أنتم الآن تستسخرون كلما جاءكم نبي ورسول (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان:49] استهزاء به، اشرب! هذا الذي كان يتكبر على أوامر الله يشرب الغسلين في جهنم. وكذلك هؤلاء يقول الله لملائكته (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) دلّوهم إلى الطريق (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) تذكرون الآية في سورة يس (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أصبحوا الآن واضح أنهم متميزون في موقف الحشر ثم يقول الله لملائكته الموكلة بسوقهم إلى جهنم لأنه قال في أول السورة للملائكة (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) فيدخل فيهم الملائكة التي تزجر الكافرين في موقف الحشر أيضاً. فيقول الله (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) دلوهم على طريق الجحيم لكن قبل ذلك يجب المحاسبة والحساب فيقول (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) هناك أسئلة ستوجه إليهم قبل أن يذهب بهم إلى الجحيم، ما هي هذه الأسئلة؟ قال لله سبحانه وتعالى (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ) أين نصرة بعضكم لبعض؟ أين دفاع بعضكم عن بعض؟! أين دفاع الأصنام عن من عبدها؟! أين دفاع الذين عبدوها عن آلهتهم؟َ ولذلك لا يوجد جواب، الله ما ذكر جواب، ما ذكر الله جواباً تماماً كما يقول الله سبحانه وتعالى في سؤاله (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر:16] لا جواب، فالله يجيب نفسه بنفسه فيقول (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) فكذلك هنا (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ) ثم يصوّر الله الحال فيقول (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) رفعوا الراية البيضاء ولكن بعد ماذا؟ في موقف الحشر! ولذلك هذا تنبيه لنا جميعاً نحن لا نتحدث عن كفار ومشركي قريش ولكن نتحدث عن واقعنا وعن أنفسنا اليوم، القرآن لنا جميعاً المسارعة إلى الخير، الاستجابة لأوامر الله، هذا من علامات إيمان الإنسان (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24] نحن عندما نجلس في هذه المجالس -مجالس التفسير- لم نأتِ لكي نتعلم مفردات لغوية فقط نحن نأتي لكي نعمل ونتعلم أسلوب الحياة الصحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يترقّب الصحابة هذا القرآن الذي نقرأه الآن يترقبونه حتى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر الصحابة ينتظرون إذا التفت الرسول بعد صلاة الفجر أكيد هناك وحي جديد، هناك قرآن جديد، ولذلك لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبو بكر وعمر إلى إحدى النساء من الصحابيات رضي الله عنهن وهي كبيرة في السنّ وجدوها تبكي بكاء الجزعة على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا اتقي الله الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذهب إلى ما هو خير فقالت والله أنا لا أبكي لأني ما أظن أن ما عندنا خير للرسول مما عند ربه، أنا متأكدة أن ما عند الله خير له ولكنني أبكي لانقطاع الوحي. تخيلوا كل يوم يترقبون السورة يترقبون الآيات وهذا من أعظم النعم ثم انقطع. قالت ولكنني أبكي لانقطاع الوحي. هنا عندما يقول تعالى (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ).
ثم يذكر الله أيضاً موقف هؤلاء المكذبين مع بعض في موقف الحشر يتحادثون ويتساءلون (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) يصبح الخلاف الآن بين الكفار بين بعضهم، بعضهم يقول أنتم السبب في كفرنا والمستضعفين يقولون للذين استكبروا أنتم السبب (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)) [الأحزاب] لا ينفع، انتهى الموضوع! الشيطان يوم القيامة يخطب خطبة -مرت معكم في سورة إبراهيم- (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم:22] ماذا أفعل لكم؟! أنا مجرد أوسوس لكم بشيء بسيط تستجيبون لي، أنا أجبرتكم؟! (فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) [إبراهيم:22] يعني بمنقذكم (وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) صحا ضميره بعدما انتهت هذه المشاهد كلها. فالله سبحانه وتعالى يقول أنهم يتجادلون فيما بينهم
(قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33))
نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من هذا الموقف وأن يكفينا شرّ جهنم وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة. أُنظروا إلى هذا النزاع الشديد الآن في موقف حسرة وندامة وفوات وخذلان وأن هذه الأصنام لم تنفع الذين عبدوها وهؤلاء الطغاة لم ينفعوا الذين ساروا في ركابهم، ماذا سيصنع فرعون بأتباعه الذين أضلّهم؟! هذا الحوار يدور بينهم في هذا الموقف العصيب فالله يقول (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) كلهم، الشيطان والذين اتبعوه، الطغاة والذين اتبعوهم، الأصنام والذين عبدوها، كلهم حصب جهنم كما ذكر الله.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) هذه قاعدة كل من يفعل هذا الفعل ويكفر بالله ويضل عن سبيل الله فإنه سوف يلقى هذا الجزاء (إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ). وهنا فائدة مهمة وهي: أن الله سبحانه وتعالى يُعلّق الأحكام في القرآن الكريم بالأوصاف فيقول هنا (إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) لماذا يا رب؟ بسبب إجرامهم نعذّبهم وندخلهم العذاب بسبب إجرامهم فيكون قدر عذابهم على قدر إجرامهم كما يقول مثلاً في سورة الإنفطار (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) لماذا؟ بسبب برّهم (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) بسبب فجورهم فبقدر برّ البار يكون له من النعيم وبقدر فجور الفاجر يكون له من الجحيم والعياذ بالله.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) كُفر الاستكبار، يستكبرون على التوحيد وعلى الألوهية. (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ) جمعوا له الصفتين شاعر ومجنون (بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) وهذا من دفاع الله سبحانه وتعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يقول (بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) يعني إنه عليه الصلاة والسلام ما جاءكم إلا بمثل ما جاءكم به الأنبياء السابقون يدعونكم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى فهو جاء بالحق وصدّق المرسلين (إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ).
هذه الآيات وهذا المقطع الذي تحدثنا عنه فيه فوائد:
/ من هذه الفوائد أنه عندما يقولون (إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) ما معناها؟ قال المفسرون بعضهم يقولون: أنكم كنتم تأتوننا دائماً في طرق الخير فتصدونا عنها أما طرق الشرّ فهي أصلاً توافق ما تريدون منا فتتركوننا، فدائماً تأتوننا عن اليمين للإشارة إلى أن عمل البر والخير والحسنات والجنة كلها يُكنّى عنها باليمين وهذا من لغة العرب أنهم دائماً يعبّرون باليمين عن أعمال البرّ والخير كما قال الشاعر:
إذا ما رايةٌ رُفِعَت لمجدٍ** تلقّاها عَرابةُ باليمين
يعني أخذها بيمينه. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقدّم اليمين في شأنه كله من أفعال الخير، فهذه كناية (إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) يعني كنتم تأتون وتقفون على طرق الخير التي نسلكها فتصدوننا عنها. ومن المفسرين من يقول (إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) مما يجعلنا نظن أنكم لنا من الناصحين فنطيعكم فوقعنا في ما وقعنا فيه، ولذلك من الفوائد:
أن اليمين أشرف العضوين في الإنسان وقد ثبت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم يمينه في كل أعمال البر إذا دخل المسجد إلى آخره.
/ أيضاً أنه من فوائد هذه الآيات أن مهمة الداعية هي تبليغ الدعوة البلاغ المبين وعرض كلمة التوحيد على الناس، ويدلل لذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض كلمة التوحيد حتى على عمّه أبو طالب في موقف الموت ماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال له يا عمي كلمة أحاجّ بها دونك قل (أشهد أن لا إله إلا الله). مما يدلك على أن أهمّ شيء يمكن أن يقوله الإنسان وهذا الحديث في البخاري.
/ ومن فوائد هذه الآية أيضاً أن كل إنسان مسؤول عن عمله (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) والمسؤولية الفردية ولذلك الله سبحانه وتعالى أقام الحجة هنا على كل فرد ويأتي يوم القيامة كل واحد يسأل بمفرده (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ).
/ وأيضاً من فوائد هذه الآيات أن كلمة التوحيد هي الكلمة التي نادت بها كل الرسالات ولذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يدعون إلى التوحيد وهذه من مقاصد السورة.
/ وأيضاً من فوائد الآيات أن الشرك هو أشد أنواع الظلم.
هذه من أبرز الفوائد التي يمكن أن نستنبطها من هذه الآيات على وجه الإيجاز والاختصار نظراً لضيق الوقت معنا في هذه المجالس وإلا فلو أردنا أن نفصّل هذه الآيات ونتوقف مع كل التفاصيل فيها لكان الوقت الذي يتسع لها وقتا طويلاً.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من العاملين بكتابه المتدبرين له وأن لا يجعل حظّنا منه ظاهره وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٣٩﴾ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿٤٠﴾ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ﴿٤١﴾ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ﴿٤٢﴾ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿٤٣﴾ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴿٤٤﴾ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ﴿٤٥﴾ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴿٤٦﴾ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ
﴿٤٧﴾ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴿٤٨﴾ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴿٤٩﴾}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وارزقنا الفقه في كتابك والعمل به على الوجه الذي يرضيك عنا يا أرحم الراحمين.
لا زال الحديث متصلاً في الحديث عن تفسير سورة الصافات، هذه السورة العظيمة التي تظهر فيها بجلاء خصائص السور المكية من قِصَر الآيات ومن موضوعاتها التى تتحدث عن البعث واليوم الآخر وإثبات النبوة وإثبات التوحيد وهذه الموضوعات هي الموضوعات الأساسية التي تتحدث عنها السور المكية.
يأتي الحديث هنا عن المكذّبين بالبعث والمكذّبين بالرسل وكيف يكون جزاؤهم في الآخرة والله سبحانه وتعالى قال في آخر المقطع الماضي (إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذا تمام عدله سبحانه وتعالى وهو أنه لا يجازي أحداً إلا بعمله كما قال هنا (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فالله سبحانه وتعالى قد نزّه نفسه عن الظلم فلا تظلم نفس شيئاً (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47] وهذا الأمر لا بد أن يكون مستقراً عندنا جميعاً أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً وأنه منزّه عن الظلم كثيره وقليله وإنما يُجازى الإنسان بعمله ويعفو عن كثير سبحانه وتعالى.
(وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) هنا استثناء منقطع لأن تغير الكلام الآن الله تعالى يتكلم عن المكذبين ويقول (إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم يقول (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) يعني معنى الكلام لكن عباد الله المخلصين جزاؤهم كذا وكذا فهو نقل، ينتقل بالحديث نقلاً كاملاً إلى جزاء المؤمنين الصادقين المخلصين ولاحظوا أنه وصف الله تعالى عباده المؤمنين بصفتين فقال عباد الله وقال المخلَصين، الصفة الأولى صفة العبودية لا شك أن من كمال إيمان الإنسان ومن كمال انقياد اتصافه بوصف العبودية، ونحن نتشرّف بأننا نتصف بأننا عبيد لله تعالى وهذا غاية الشرف للمؤمن أن يقال له أنت عبدٌ لله ولذلك قال الشاعر:
ومما زادني شرفاً وعزّا ** وكدت بأخمُصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ** وأن صيّرت أحمد لي نبياً
عليه الصلاة والسلام. فهذا شرف للمؤمن أنه يتصف بصفة العبودية في حين أن اتصافك أنك عبد لفلان هذه صفة نقص، أما العبودية لله سبحانه وتعالى صفة كمال. تأملوا تأكيداً لهذا المعنى كيف وصف الله نبيه عليه الصلاة والسلام بوصف العبودية في القرآن الكريم فقد وصفه بوصف العبودية في مقامات الكمال:
/ فوصفه بصفة العبودية عندما أنزل عليه القرآن (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) [الكهف:1]
/ ووصفه بوصف العبودية عندما أسرى به من البيت الحرام إلى القدس فقال (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء:1]
/ ووصفه بوصف العبودية عندما قام يدعو إلى الله (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن:19]
النبي صل الله عليه وسلم شرف له أنه عبدٌ لله ولكن وصفه بوصف العبودية في مقامات التشريف. ونحن نقول هنا إن الله قد وصف الله عباده هؤلاء بصفة العبودية اكراماً لهم إشارة إلى غاية التذلل والانقياد لأوامر الله لأن الناس اليوم عندما يقال لهم الله تعالى أمرك بكذا أمرك بأن ترفع ثوبك عن الكعبين أمرك بالصلوات الخمس لماذا؟ لأنك عبد لله، فمن كمال عبوديتك الانقياد والاستجابة. أما الذي يتمرد على الأوامر فهذا فيه نقص في صفة العبودية حتى في البشر العبد الذي يتكبر على سيده ما صار عبداً! وأنصحكم بقراءة قصيدة جميلة لابن الوردي صاحب لامية ابن الوردي له قصيدة جميلة في عبدٍ له اسمه بهادِر لا يأمره بأمر إلا ويخالفه فيقول:
بهادرُ عبدي لا بهاءٌ ولا دُرٌ ** وما أنا حرٌ يوم قولي له حُرُّ
لقيت نقيض الحظ يوم اشتريته ** وأردت به نفعاً فمسني الضرُّ
والقصيدة موجودة في ديوانه.
فالله هنا وصف المؤمنين بأنهم عباد له، هذا الوصف الأول
والثاني: أنهم مخلَصين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى على سائر البشر وقد قلت لكم في بداية السورة والسورة التي قبلها أن المؤمنين والمنقادين والمتبعين قليل إذا ما قارنتهم بالمكذبين المعرضين الجاحدين ولذلك قال الله (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103] وقال (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13] وقال (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [الأنعام:116] ولذلك لا تغتر بكثرة الهالكين ولا تستوحش بقلة السالكين فالعبرة باتباع الحق ولو كنت وحدك. وهذا معنى المخلصين أي الذين اصطفاهم الله تعالى وأخلصهم، ما هو جزاؤهم يا رب؟ قال (أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ) فضَمِن لهم الرزق في الآخرة وفي الجنة فقال (أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ) ما هو هذا الرزق يا رب؟ قال (فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ * بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) نسأل الله من فضله. ودائماً النفس تتشوف إلى ما أعدّ الله لها، حتى طلابك في الاختبار وأبناءك في البيت عندما تقول سأعطي الواحد منكم كذا وكذا إذا حفظ الفاتحة تتشوف النفوس إلى المكافأة والله تعالى يعلم ان المؤمنين يتشوفون إلى ما أعد الله لهم ولذلك ذكر لهم ووعدهم بالقرآن الكريم بأشياء تتوق إليها نفوس المؤمنين، وعدهم بالجنّة ووعدهم بالنعيم، ووعدهم بالحور العين ووعدهم بالخمر ووعدهم أنهار من لبن (فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ) [محمد:١٥] هذا كله لما فطر الله عليه نفوسنا من التشوف إلى النعيم وإلى ما أعده الله. فيقول هنا مما أعدّه الله للمؤمنين في الجنة (فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ) قال العلماء أنها تأتيهم هذه الفواكه دون عناء تأتيهم في أماكنهم دون عناء ولا مشقة وهم في غاية الإكرام.
ثم قال تعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فأضاف الجنّة إلى النعيم كأن هذه الجنة للنعيم فقط مخصصة بالنعيم فأضيفت إليه. وفي وصف آخر قال (في جَنَّاتِ عَدْنٍ) [التوبة:72] أي جنات الإقامة التي لا انقطاع لها.
ثم يقول تعالى (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) من كمال نعيم أهل الجنة لا أحد يستدبر الثاني أو يرى قفا الثاني وإنما يقابل بعضهم بعضاً من كمال احترامهم لبعضهم وتقديرهم ومحبتهم لبعضهم فدائماً يقول (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) يقابل بعضهم بعضاً. ولا شك أن حتى بين الناس اليوم عندما تقابل صاحبك ليس كأنك تعطيه ظهرك فكذلك في الجنة.
قال تعالى (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ) يعني الخمر، يطاف عليهم بكأس الخمر لكن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا وليس فيها إلا اسمها فقط وإنما خمر الدنيا وصفها الله فقال (يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ) أي أنها من عين لا تنقطع والمعين هو: الذي لا ينقطع ،الجاري دائماً (بَيْضَاء ) لونها (لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ) شديدة اللذة لمن يشربها. ثم نزّهها الله سبحانه وتعالى عن الصفات التي توجد في خمر الدنيا فقال (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) الغَوْل: ما تسببه الخمر من وجع في الدماغ وفي البطن، فالله يقول هذه الخمر التي في الجنة لا تسبب أي نوع من أنواع الأمراض ولذلك اغتيال العقل من مؤثرات الخمر فهى عندما تُشرب الخمر كما يقال في وصفها أنها تغتال العقل تذهب به كما قال الشاعر الجاهلي:
وما زالت الخمر تغتالنا ** وتذهب بالأول الأولى
فالله يقول هذه الخمر التي في الجنة لا فيها غول لا تغتال العقل ولا تُذهب به ولا تسبب أي نوع من أنواع الأمراض (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) ما تسببه من النزف تٌُذهب العقل بحيث يصبح الإنسان يهذي إذا شرب الخمر.
ثم ذكر نعيماً ثالثاً ذكر الآن الفواكه وذكر الخمر، الفواكه للأكل والخمر للشرب.
ثم قال (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) يعنى الحور العين ووصف الله نساء المؤمنين في الجنة أنهن قاصرات الطرف أي لا يزوغ بصرها ذات اليمين وذات اليسار إلا لزوجها فقط قاصرة الطرف على الزوج وهذا دليل على أن من كمال صفة المرأة أنها تكون قاصرة الطرف فلا تكون زائغة العينين هنا وهناك.
ثم يصفها الله سبحانه وتعالى فيقول (عِينٌ)، (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) واضح معناها لا يذهب بصرها إلى غير زوجها.
(عِينٌ) يعني واسعة العينين يقال امرأة عيناء يعني عيناها وسيعة وهذه من علامات جمال المراة وهي مأخوذة من عيون المها لأنها واسعة فشُبهت بها المرأة ذات العيون الواسعة لذلك تجدون في الشعر والأدب كثيراً
عيون المها بين الرصافة والجسر ** جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُون) صفة نساء الجنة هؤلاء الحور العين كأنهن بيض مكنون وأنتم تعرفون البيض -بيض الطيور- بيض الدجاج أوبيض النعام كله يكون في غاية الحفظ والصيانة والعناية فالله سبحانه وتعالى وصف نساء الجنة بأنهن مثل البيض المكنون المُحافَظ عليه الذي يكون في غاية الصيانة والحفظ، وبعض المفسرين مثل ابن جرير يرى أن المقصود (بَيْضٌ مَّكْنُونٌ) ليس مجرد قشرة البيض الخارجية وإنما قشرته الداخلية لأنهم يقولون أن الخارجية يمسها الطير بجناحه وريشه أما البيضاء الداخلية لا يمسها شيء وهذا لا شك من علامات الصيانة أن تُشبّه المرأة في صيانتها ببيض النعام أو بيض الحمام لأنه يحظى بالعناية وأنه سريع الخدش فالمرأة شُبهت به لأنها: أولاً تكون في غاية الحفظ والصيانة
ولأنها سريعة الخدش فالمرأة إذا أصيبت في عرضها لا يجبر هذا الكسر شيء. فالله تعالى يقول (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ). أيضاً من كمال نعيم أهل الجنة يتمتعون بزوجاتهم وبالفواكه وبالشراب -الخمر-.
ثم قال الله تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ) قبل قليل كان هناك تساؤل ونقاشات بين أهل النار وبعضهم يشتم الثاني ويقول أنت السبب، هنا حديث من نوع آخر يأتي أيضا بعض أهل الجنة فيتناقشون ويتجادلون فيقول أحد أهل الجنة كان لي في الدنيا قرين يحاول شتى المحاولات أن يصرفني عما أنا فيه فالحمد لله الذي هداني وثبتني ولذلك قال تعالى في سورة الأعراف (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ) [الأعراف:43] فيقول هنا في هذه الآية (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) واحد من أهل الجنة يتحدث مع زملائه (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) في الدنيا، كان عندي صديق في الدنيا قرين لي (يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ) كان يشكّك في البعث يقول أنت مجنون، أنت تصدق أنه يمكن بعد أن نموت نبعث؟! فهو يقول لزملائه في الجنة ليتني أعلم أين صاحبي هذا الآن،وهذا من كمال نعيم أهل الجنة أن أي شيء يشتهونه يلبيه الله لهم قال الله سبحانه وتعالى (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ) يقول للذين معه تعالوا نرى، وهذا فيه إشارة أن أهل الجنة يرون أهل النار ولذلك في سورة الأعراف (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً) [الأعراف:44] (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء) [الأعراف:50] هناك حوار، كيف؟ الله أعلم! هذه من أمور الغيب لا نعلمها لكن الله تعالى نقل لنا طرفاً من هذه المشاهد وهذا الحوار.
قال (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ*فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) فاطّلع من نافذة أو كوة في الجنة ينظرون إلى النار وأهل النار تحتهم (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) اطّلع ليرى قرينه الذي كان يكذب بالبعث ويُنكر (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) سواء الجحيم يعني وسط النار.
(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ) يعني لو أطعتك لأرديتني فيما أنت فيه وهذا تحذيرٌ من رفيق السوء ومن صاحب السوء.
(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي لكنت من المُحضرين في العذاب معكم.
(أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) كان يقولها صاحبه في الدنيا (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) يقول كنت تردد هذا الكلام! وهكذا وهم يرددونه إلى اليوم الملاحدة والمشركون والمكذبون وما أكثرهم! يشككون في الغيب، يُشككون في الآخرة، يُشككون في البعث بعد الموت، يُشككون في الجنة، يُشككون في النار، وأنا أقول نحن في صراع إلى اليوم الشبهات كثيرة يشككوننا في عقائدنا، يشككوننا في ديننا، يشككوننا في القرآن الذى بين أيدينا المستشرقون وغير المستشرقين لأنهم كما قال الله سبحانه وتعالى (ودَّّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً) لماذا يا رب؟ (حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) [البقرة:109] لا كما يقول بعض المُحللين السياسيين أن هذه من أجل قضايا سياسية وقضايا إقتصادية، لا، الله سبحانه وتعالى يقول (حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة:109] لذلك هذا القرآن كلام الله ولا يمكن أحد أن يتكلم بهذا الكلام إلا الله الذي يعلم السِّر وأخفى والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف هذه التفاصيل، ما يُدريه بما في نفوس المشركين والمنافقين وأهل الكتاب أنهم يكيدون له حسداً؟ (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى:52] (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت:48].
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يعني إن هذا النعيم الذي فيه هؤلاء المؤمنين (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) صدق الله تعالى (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) وهذا من كمال نعمة الله سبحانه وتعالى علينا نحن المؤمنين أنه نقل لنا هذه الصور من الآخرة، لا يمكن أبداً لأحد أن ينقل هذه الصور إلا الله الذي يعلم الغيب ويعلم المستقبل، نقل لنا صوراً من الجنة، صوراً من جهنم، صوراً من الحشر -من القيامة- أعطانا خطبة الشيطان قبل أن يُلقيها، وأعطانا حوارات الكفار في جهنم، ماذا نريد أكثر من ذلك؟ لا يوجد حقيقة أكثر من ذلك لمن أراد أن يهتدي ومن يرد الله أن يضله فلن تملك له من الله شيئاً حتى لو جئته بكل آية، وأما من أراد الله هدايته فلا شك هذا القرآن يقصّ علينا كل التفاصيل العقائد والأدلة والبراهين. والبعض يظن أن القرآن الكريم لا يورد أدلة عقلية بل القرآن الكريم في أدلته ربما ثلثين من الأدلة التي يذكرها القرآن أدلة عقلية كما مرّ معنا في السورة وكما سيأتي معنا، ذكر لنا إحياء الموتى، ذكر لنا إحياء الأرض بعد موتها، إنزال المطر، الشمس، القمر كلها أدلة عقلية، فنسأل الله الهداية.
من الفوائد التي يمكن أن نستنبطها من هذا المقطع:
/ أن في وصف خمر الآخرة تنزيه لها عن صفات خمر الدنيا فعندما يقول الله سبحانه وتعالى أن من نعيم أهل الجنة أنهم يشربون خمراً كذا... كذا... كذا... لكنه نزّه الله سبحانه وتعالى هذه الخمر عن صفات خمر الدنيا وهي الذهاب بالعقل وما تسببه من أمراض. وقد يقول قائل لماذا يجعل الله سبحانه وتعالى من نعيم أهل الجنة الخمر والخمر مذموم في الدنيا مكروه؟! فقال العلماء أن النفوس تتشوف إلى هذه الخمر حتى نفوس المؤمنين لكنهم يتركون هذه الخمر طاعة لله. فالله سبحانه وتعالى قال لكم في الآخرة خمر فيها هذه المزايا بخلاف هذه الخمر التي في الدنيا ولذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يُحرم شيئاً إلا ويفتح باب إلى شيء أفضل منه.
/ ومن الفوائد في هذا المقطع الحذر الشديد من رفاق السوء (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ)
/ ومن فوائدها أنه لا حرج على المؤمن من التحدّث بنعمة الله وشكر الله عليها كما قال الله تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى:11] مع الضوابط التي يذكرها العلماء أنك لا تتحدث بنعمة الله إلا عند أناس تثق في محبتهم لك فإذا شعرت أن هناك من ربما يحسدك على ما أنت فيه من النعمة فاصمت.
/ ومن فوائد هذه الآية الإيمان بما أعدّه الله للكفار من العذاب وما أعدّه الله للمؤمنين من النعيم.
ثم يقول الله سبحانه تعالى (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ﴿٦٢﴾ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ﴿٦٣﴾ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ
﴿٦٤﴾ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴿٦٥﴾ فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴿٦٦﴾ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ﴿٦٧﴾ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ﴿٦٨﴾ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ﴿٦٩﴾ فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴿٧٠﴾ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ﴿٧١﴾ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ﴿٧٢﴾ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴿٧٣﴾ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿٧٤﴾)
بعد هذا التعقيب القرآني على قصة هذا الرجل الذي يحكي قصته مع صاحبه في الدنيا (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ*يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ) طبعاً لو ترجعون إلى تفسير ابن كثير أو الطبري تجدون روايات عن بعض بني إسرائيل أنهما رجلين من بني إسرائيل كانا شريكين في المال أحدهما مؤمن والآخر كافر في قصة طويلة لكن هذه القصة تقع العبرة بها بما ذكرناه لكم أن الله سبحانه وتعالى يذكر أن قرين السوء وما يجرّه على صاحبه وأن هذا يحمد الله سبحانه وتعالى أنه لم يُطِع قرين السوء وإلا كان مصيره مثل مصير هذا الرفيق في جهنم.
ثم بعد هذا التعقيب يذكر الله سبحانه وتعالى هذا الحدث وبالإشارة إلى مغزاه للعبرة ودائماً القصص في القرآن الكريم الهدف منه العبرة يقصُّ عليك قصة نوح حتى تنتبه، قصة صالح، إبراهيم، موسى، عيسى، لأخذ العبرة وليس لمجرد التسلية.
فيقول سبحانه وتعالى (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) هل هذا النعيم الذى ذكرت لكم خير نزلاً أي ضيافة أم شجرة الزقوم؟ ينتقل الآن يذكر لنا ما هي ضيافة المكذبين الكافرين، فهو يقول في نعيم أهل الجنة (أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) إلى آخر ما ذكر من النعيم ثم يقول (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الجواب لا شك أن ذلك خير والنُزُل: ما يعد للضيف أول ما ينزل.
(أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) ما هي شجرة الزقوم؟ يوجد لدينا من شجر الدنيا شجرة اسمها شجرة الزقوم وربما البعض يعرفها من شجر الدنيا لكنها ليست هي المقصودة قطعاً لأن شجرة الزقوم المقصود بها في القرآن هي الشجرة التى تنبت في جهنم ولذلك عرّفها الله سبحانه وتعالى فقال (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) فهذه هي شجرة الزقوم. أما شجرة الزقوم التي في الدنيا فليست مثل شجرة الزقوم التي في جهنم لذلك يقول سبحانه وتعالى هنا عن شجرة الزقوم (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) وقال الله تعالى في سورة الإسراء (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً) [الإسراء:٦٠] كيف؟ أصلاً ما يُتصور أن شجرة تنبت في النار لأن النار تأكل الشجر فكيف تقول أن شجرة تنبت في النار! هذا مخالف للعقل ولذلك فتن الله بها وكذبوا بها ولذلك قال تعالى (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) نختبرهم ونبتليهم بها هل يصدّقون بها؟ نحن نقول صدق الله نؤمن بها ولذلك أبو بكر رضي الله عنه من أعظم مزاياه التي من أجلها سمي الصديق أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول قولاً إلا ويقول صدق حتى قيل له لما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس فجاءه أحدهم وقال له هل سمعت ما يقول صاحبك -قبل أن يبلغه الخبر من الرسول مباشرة- قال ماذا قال؟ قال إنه يقول أنه أُسري به من مكة إلى بيت المقدس في ليلة قال إن كان قال ذلك فقد صدق، هذا الإيمان ولذلك سُمّي الصديق رضى الله عنه.
قال الله (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) في وسط جهنم معناها أنها شجرة مقاومة للحرارة بشكل كبير، تخرج يعني تنبت (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) كيف شكل رؤوس الشياطين؟ غريب يشبه لنا شيئاً مجهولاً بشيء مجهول؟! لا أحد رأى الشيطان لكنه لا يأتي بهيأته الشيطانية لكن يتلبس بهيئة شخص أحياناً وقد استقر عند العرب والقرآن نزل باللغة العربية (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:٢] استقر في نفوس العرب أن الشيطان بشع ولذلك إذا رأيت وجه بشع قلت أعوذ بالله وجهه مثل وجه الشيطان أو رأسه كرأس الشيطان. ويذكرون قصة مضحكة للجاحظ -الجاحظ عمر بن بحرالأديب العربي المعروف- كان قبيح الوجه كان جاحظ العينين ولا يهتم بنفسه وشعره، في يوم من الأيام أمسكت به جارية في السوق قالت أريدك دقيقة وسحبته حتى ذهبت به إلى الصائغ ثم قالت للصائغ مثل هذا وانصرفت، فقال لها الصائغ خلاص فهمت، فقال الجاحظ للصائغ أنا لم أفهم، ماذا تريد مني أنت وهذه الجارية؟ فقال جاءت الجارية بخاتمها هذا وقالت أريد أن تنقش لي وجه شيطان على هذا الخاتم فقلت ما أعرف وجه الشيطان حتى أنقش لك صورته فلما رأتك جاءت بك وقالت مثل وجه هذا. فالشاهد أن وجه الشيطان استقر عند العرب أنه وجه بشع، شعره بشع، فشبّه الله به هنا شجرة الزقوم قال (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ).
ولذلك يذكرون قصة عن واحد من علماء التفسير إسمه أبو عبيدة مَعمر بن المثنّى يقولون أنه كان في مجلس فسأله رجل قال: يا أبا عبيدة نحن نعرف أن العرب تشبّه الشيء بالشيء لتقرّب صورته فيشبّهون الشيء المجهول بالشيء المعلوم فيقولون وجه فلان مثل القمر لأنهم يعرفون القمر فيشبّهون وجهه بالجمال به لكن الله سبحانه وتعالى شبه لنا شيئا مجهولاً وهو شجرة الزقوم بشيء مجهول وهو رؤوس الشياطين فما فهمنا؟! فقال: إن العرب قد استقر في أذهانها أن الشيطان كريه الوجه كريه المنظر فالله سبحانه وتعالى شبّه به هذه الشجرة، هذا أسلوب عربي صحيح وفصيح.
ومثله أيضاً الغول لا أحد يعرفه لكنهم يقولون كعيون الغول وكرأس الغول ويحتجون بقول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وإلا ما أحد يعرف الغول ولكنه يتصورونها بشكل بشع.
يقول الله سبحانه وتعالى عن هذه الشجرة الملعونة (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ) يعني أهل جهنم (لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مغصوبين ما عندهم إلا هذا الأكل (فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ) يشربون عليها الحميم الحارّ الذي يحرق أمعاءهم، يأكلون هذه الشجرة فتلتهب أجوافهم فيريدون أن يشربوا حتى يخفف فيشربون ماء حميماً كما قال الله سبحانه وتعالى (وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) [محمد:١٥].
ثم قال (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ) والشوب: يعني مزيج، يعني يشربون على هذا الطعام شيئاً من الماء لكنه شديد الحرارة.
(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي مآل هؤلاء المكذّبين ومرجعهم في الآخرة إلى هذا المكان وهو الجحيم.
ثم (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ) يقول هؤلاء الكفار المكذبين في الدنيا جاءوا إلى آبائهم وهم على ضلال وعلى كفر (فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) مقلدون يقلِّدون آباءهم في الكفر وفي الضلال وإذا قيل لهم اتقوا الله واعبدوا الله (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:٢٢] وهذا فيه تحذير من التقليد الأعمى الذي لا يأتي بخير. يقول سبحانه وتعالى (آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) يُهرعون أي يسيرون مسرعين مهرولين.
(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) وهذا يؤكد المعنى الذي قلناه مراراً أن أكثر الناس على ضلال وأن أكثر الناس في جهنم.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ) لأنه قد يقول قائل ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين فهل يا رب أرسلت لهم الرسل حتى تقيم عليهم الحجة؟! قال نعم، لا يعذّب الله سبحانه وتعالى حتى يقيم عليه الحجة ولا يقيم عليه الحجة إلا إذا بعث له الرسول، فيقول هنا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ*فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ) المكذبين الذين كذّبوا رسلي ما هي عاقبتهم؟ هي هذه العاقبة أنهم يُحشرون إلى جهنم. قال (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ).
وهذه الآيات ممكن نستنبط منها الفوائد التالية:
أولاً: أن قياس الآخرة على الدنيا قياس مع الفارق شجرة الزقوم ليست هي شجرة الزقوم التي نعرفها في الدنيا، الخمر التي في الآخرة ليست هي التي نعرفها في الدنيا، الطعام ..الفواكه..الحور العين وليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط .
أيضاً: خطورة التقليد الأعمى ولاسيما في الدين على المقلِّدين ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ*فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الإنسان لا يُنجيك عند الله تعالى أنك تقول أنا وجدت أبي على شيء وقلدته حتى في الدين الإسلامى لابد أن يكون إيمانك عن قناعة وعن يقين ليس مجرد تقليد للآباء.
أيضاً من فوائد الآيات: أنه لا ينبغي على المسلم أن يغترّ بالكثرة، لا تغتر بالكثرة مهما كان لا تغتر بكثرة المشركين وكثرة الهالكين لأنه قد يقول قائل معقول أنكم على حق أيها المسلمون وهؤلاء النصارى وهم أكثر منكم عدداً على باطل أو الهندوس أو كذا؟! نقول أنه ليست العبرة بالكثرة وإنما بالمنهج الصحيح والقرآن الكريم يبين لنا هذا.
من فوائد الآيات: أن قصص الأنبياء وقصص السابقين فيه سلوان وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده لذلك ينبغي علينا أن نهتم بالقصص في القرآن الكريم ونهتم به أيضاً من جانب تعليم الأبناء يعني مثلاً قصة أصحاب القرية التي ذكرناها في قصة يس يمكن أن تحكيها لأبنائك وتقول أنه كان هناك قرية من القرى أرسل الله لهم رسولين فكذبوهما فأرسل الله الثالث فلم يستجيبوا لكن واحد منهم استجاب وتذكرون القصة هذه قصة موجودة في القرآن أراد الله بها العبرة والعظة.
من فوائد الآيات: تشبيه المحسوس بالمتَخيّل وأنه أسلوب قرآني مثل تشبيه شجرة الزقوم بأنها مثل رؤوس الشياطين ونحن لا نعرفها ولكن نتخيل أنها قبيحة فشبهها لنا ولذلك ليس التشبيه يكون دائماً بشيء محسوس وإنما قد يكون بشيء معروفاً مثل رؤوس الشياطين أو الغول.
هذه من أبرز الفوائد لعلنا نتوقف هنا ونواصل مع قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونبدأ بقصة نوح عليه السلام وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المجلس الثاني
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴿٧٥﴾ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿٧٦﴾ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴿٧٧﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ
﴿٧٨﴾ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ﴿٧٩﴾ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿٨٠﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿٨١﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ﴿٨٢﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قلنا إن سورة الصافات تتحدث عن أصول العقيدة: البعث بعد الموت وإثبات النبوة والتوحيد.
هنا بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى مصير المؤمنين ومصير الكافرين وضرب لنا الأمثلة أراد الله سبحانه وتعالى أن يحكي للنبي صلى الله عليه وسلم طرفا من قصص الأنبياء السابقين وفي العادة أنه إذا ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام قصص الأنبياء يبدأ بأولهم فيبدأ بنوح عليه الصلاة والسلام فيقول هنا (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُون) يعني استغاث بنا نوح عندما كذّبه قومه فكنّا نعم المجيبين لاستغاثته، وطبعاً هنا القصة مختصرة -قصة نوح- وإلا فصّلها الله سبحانه وتعالى في الأعراف وفي سورة هود ومرت معنا وفصّلها في سورة نوح -وسوف تأتي- وفي العنكبوت ذكر الله تعالى آية واحدة فقط فقال (َلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [العنكبوت:١٤] لاحظوا معي كيف تكون قصة نوح عليه السلام مُثبتة للنبي صلى الله عليه وسلم جداً. الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة 13 سنة وسورة الصافات نزلت عليه قبل الهجرة ببضع سنوات أنت مقارنة بنوح عليه السلام الذي بقي 950 سنة وأنت تبقى تسع أو ثمان سنوات فهذا يثبّت النبي بشكل كبير جداً يعني النبى صلى الله عليه وسلم لما يرى نوح عليه السلام يبقى 950 سنة وأنا فقط تسع سنوات فيصبر عليه الصلاة والسلام ويثبت، فانظر كيف يثبت الإنسان بمثل هذه القصص. فيقول:
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) بدأ القصة هنا في سورة الصافات بإنقاذ نوح لم يبدأ بقصة إرساله، فيقول يا محمد اطمئن نوح بقى هذه المدة الطويلة فذكر الله في أول القصة قصة نجاة نوح وانتصاره على قومه المكذبين (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴿٧٥﴾ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿٧٦﴾ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴿٧٧﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿٧٨﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ﴿٧٩﴾ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿٨٠﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿٨١﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴿٨٢﴾) ذكر فقط هذا المقطع، مقطع إنقاذ نوح وانتصار الله له من هؤلاء المكذبين، لم يذكر بناء السفينة سبق أنها وردت في سور سابقة، والقرآن الكريم يذكر القصة الواحدة خاصة قصص بعض الأنبياء مثل موسى وعيسى وإبراهيم ونوح يكررها في مواضع كثيرة فيذكر هنا طرف وهنا طرف عندما تجمع هذه الآيات مع بعض تكتمل لك القصة، ثم تلاحظ أنه يُورد من القصة في كل موضع ما يناسبه فهنا يذكر نصرة الله سبحانه وتعالى لأنبيائه وسرعة استجابته ونجدته فناسب أن يذكر لنا هذا الجزء من القصة وهى قصة إنقاذ نوح وإغراق البقية.
ثم يقول سبحانه ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَه﴾ ألم يغرق الله سبحانه وتعالى زوجة نوح وولده؟! معناها أن الأهل إذا أُطلِق المقصود به الأهل الأقربين فيمكن أن نقول ونجيناه وأهله من المؤمنين ويستثنى من لم ينجو من أهله، وقد يقال أن المقصود بالأهل هم أتباعه المؤمنون وإن كان هذا ليس هو المعنى الظاهر المتبادر للأهل لأن الأهل ورد في القرآن الكريم المقصود به الزوجة والأبناء ولذلك نوح نفسه قال (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود:٤٥]. ووصف الله ما وقع لقوم نوح من العذاب أنه كرب عظيم عندما نجى الله تعالى نوحاً من الغرق ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿٧٦﴾ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴿٧٧﴾) الله سبحانه وتعالى إكراماً لنوح عليه السلام جعل نسل البشرية من نوح فقط ولذلك نوح عندما ركب في السفينة ومن معه لم يتناسل إلا نوح فقط وأما الذين معه على السفينة لم يُرزقوا بذرية تستمر ولذلك يُقال لنوح عليه السلام أبو البشرية الثاني، آدم هو أبو البشرية الأول ونوح أبو البشرية الثاني لأن نسل البشرية بعد نوح كلهم من أبنائه.
قال الله سبحانه وتعالى (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿٧٨﴾) أي جعلنا له ذكراً حسناً في الآخرين وفي الأمم التى بعده فلا توجد أمة من الأمم إلا وتُثني على نوح، اليهود والنصارى والمسلمين، لا توجد أمة من الأمم تعادي نوح عليه السلام ولا ابراهيم عليه السلام أيضاً. (سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) هذه آية مبشرة لأنها تفتح الباب لكل من كان على نفس منهج نوح عليه السلام بأنه سوف يكون جزاؤه كجزاء نوح ومن معه إذا سارعلى نفس المنهج (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
﴿٨١﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴿٨٢﴾) هذه الآيات في قصة نوح ظاهرة الفوائد فلا نتوقف عندها.
ننتقل إلى القصة التي بعدها وهي قصة ابراهيم عليه الصلاة والسلام والله سبحانه وتعالى يختار من قصص هؤلاء الأنبياء ما يناسب جو هذه السورة في إثبات النبوة وفي إثبات التوحيد وتقرير البعث والجزاء بعد الموت.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) يعني وإن من أمثاله وأتباعه على دينه ابراهيم عليه الصلاة والسلام يعني من شيعة نوح عليه الصلاة والسلام والشيعة هم الأنصار والأتباع والذين يشايعونك على رأيك (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء إبراهيم ابن آزر كما ذكر الله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) [الأنعام:٧٤] ولا تلتفتوا إلى بعض من يقول أنه إبراهيم ابن تارخ وأن آزر عمه والصحيح أن آزر هو أبو إبراهيم بنص القرآن الكريم وبنص السنة أيضاً في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول أن إبراهيم يقول لأبيه آزر كذا وكذا.
(إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يصف الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه صاحب قلب سليم والعلماء يقولون سليم من الشرك وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ظهرت في قصته وفي سيرته قضية التوحيد بشكل كبير جدا، إمام الموحدين عليه الصلاة والسلام في كل تصرفاته وكل المواقف التي ستأتي معنا فيه إشارة إلى توحيده وكمال توحيده عليه الصلاة والسلام فمعنى القلب السليم هنا القلب السليم من الشرك.
قال (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴿٨٥﴾ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّـهِ تُرِيدُونَ ﴿٨٦﴾ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
يعني يلومهم ويعاتبهم على عبادة هؤلاء الأصنام وأنها إفك، والإفك هو: الكذب المفترى المختلق فيقول أنكم تعبدون هذه الأصنام افتراء على الله.
(فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي ماذا تتوقعون أن يفعل الله بكم إذا جئتم إليه يوم القيامة وأنتم تشركون به هذه الأصنام؟! وهذا سؤال استنكاري عليهم أنهم يعبدون أصناماً لا تنفع ولا تضر. وقد تقدم في سورة الأنبياء تفصيل الحديث عن صفة هذه الأصنام وكيف فعل بها إبراهيم.
ثم قال الله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴿٨٨﴾ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿٨٩﴾) إبراهيم عليه الصلاة والسلام حاور قومه في هذه الأصنام وحاور والده وبعد أن فشلت كل المحاورات قرر إبراهيم أن يُحطم هذه الأصنام، فمتى يحطمها؟ انتظر حتى جاء يوم العيد كلهم يخرجون يحتفلون خارج القرية فلما جاء هذا الموعد قال أنا مريض (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴿٨٨﴾ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿٨٩﴾ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴿٩٠﴾) تركوه قالوا ما دام مريضاً أُتركوه. وقولهم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ) بعض المفسرين يقولون كأنه نظر في النجوم على هيأتهم وهم أهل نجوم وأهل تنجيم وكواكب فقال أنا نظرت في النجوم فتبين لي أن لو خرجت سأصاب بمصيبة فقالوا جيد، ما دام هو يؤمن بهذه النجوم هذه فرصة اتركوه. الفكرة أن هذه خطة من ابراهيم عليه الصلاة والسلام ولذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات والبخاري رحمه الله في صحيحه يقول "باب في المعاريض مندوحة عن الكذب" وذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات المقصود بها أنه عرّض ثلاث تعريضات (فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي قلبي مريض من هذه الأصنام، وقال يوماً عندما قيل له من كسّر هذه الأصنام؟ قال كبيرهم هذا، وعندما سُئل عن سارة عليها السلام زوجته قال هي أختي -في القصة المعروفة- فهذه ثلاث مواقف. فإبراهيم عليه السلام لما تولوا مدبرين (فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) يقولون جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى المعبد الذي فيه الأصنام فوجد قومه قد أتوا بشيء من الطعام إلى الأصنام قالوا نحن سنخرج ونترك شيء من الطعام حتى يتبارك الطعام فإذا جئنا نأخذ الطعام ونأكل تكون حلت فيه البركة وإلا هم يعرفون أن الأصنام لا تأكل، فلما جاء ابراهيم وجد الطعام عند الأصنام فيسخر ويقول ألا تأكلون! كلوا! يخاطب الأصنام (مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ ﴿٩٢﴾ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴿٩٣﴾) وتلاحظون أن معنى هذه الآية عندما يقول للأصنام ألا تأكلون! ما لكم لا تنطقون! إشارة أن من كمال الإله سبحانه وتعالى أنه ينطق ويتكلم ولذلك الذين ينكرون صفة الكلام لله سبحانه وتعالى يشبهونه بالجمادات ونحن نثبت أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء كيف شاء متى شاء وأن هذا القرآن كلام الله.
(فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) لاحظوا أنه هنا يقول ضرباً باليمين وتذكرون في السورة (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) فالعرب تعبر بهذا وتقصد به هذا المعنى فقد يكون ضربهم باليدين معاً وليس باليمين فقط لكنهم إذا أرادوا أن يشيروا إلى القوة والشجاعة أشاروا إليها باليمين كما قال الشاعر الشماخ ابن غرار الغطفاني:
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ** تلقّاها عَرابةُ باليمين
قال (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) حطّم الأصنام كلها إلا كبيراً لهم ترك فيه الفأس، فلما جاؤوا إليه يزفّون، يزفون: أي يهرولون ويجرون ما هذا الذي حدث؟! انتشر الخبر الأصنام كلها محطمة ما بقي إلا واحداً نحن ننظر لها الآن نظرة سخرية هؤلاء مجانين يعبدون الأصنام لكن بالنسبة لهم هذه مصيبة كبيرة لا تغتفر! هذه آلهتهم متعوب عليها هذه! فلما جاءوا إليها فوجدوها محطمة ومدمرة وسألوا طبعاً (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:٥٩] إلخ القصة فلذلك قال الله سبحانه وتعالى هنا (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴿٩٤﴾ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴿٩٥﴾ وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴿٩٦﴾) يعني الله خلقكم وخلقها أيضاً (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) ولاحظوا هنا ما ذكر الله التفاصيل التي في سورة الأنبياء الحوار الطويل اختصره الله وذكر مباشرة العقاب الذي قرروا أنهم يعاقبوه به بعد أن فشلت المحاورات والمناظرات (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) أوقدوا ناراً عظيمة لكن هذه النار العظيمة صعب جداً أن يلقوا فيها ابراهيم من مكان قريب فلذلك قرروا أن يبنون مبنى ضخماً جداً ويملؤنه بالحطب وكانوا يتقربون إلى الله فالمسألة أخذت وقت هذا مشروع كبير بنوا هذا المبنى ثم أخذوا يجلبون الحطب حتى يقال أن المرأة إذا مرضت تنذر لله إذا شفاها الله أنها تحتطب وتضعه في هذا النار، مما يدل على أنها أخذت وقتاً حتى جمعوا الحطب واستوى المشروع وانتهى. ويقال في بعض الروايات أنهم رموه بالمنجنيق لكن حتى .. هم بنوا المبنى ممكن يلقوه من فوق المبنى وفعلاً جيء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذا المشهد العظيم وقد اجتمع أهل القرية كلهم وأهل المنطقة وأوقدوا ناراً عظيمة لو تقرأون بعض كتب التفسير يذكرون أن هذه النار كانت تحرق الطير في الجو يمر فيسقط في النار من شدتها،فرموا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه النار العظيمة وتأكدوا أن موضوع إبراهيم انتهى لن تقوم له قائمة وفعلاً أُلقي ابراهيم في النار لكن الله سبحانه وتعالى كما قال (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) كانوا متأكدين مئة بالمئة أن الموضوع انتهى لصالحهم وأنهم سيحرقونه حتى يصبح عبرة لكل من تسول له نفسه أن يدعو إلى مثل ما دعى إليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام. في ذلك الوقت لم يكن أحد آمن بإبراهيم عليه السلام بالرغم مما بذل وناضل! فلما أُلقي في النار أمر الله جبريل وأمر الله النار حتى قيل في الرواية أن جبريل قال لإبراهيم قبل أن يُلقى في النار هل لك إليّ حاجة؟ قال أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم، لا شك أن إبراهيم كان موحداً خالص التوحيد في كل مواقفه التى ذكرها الله عنه كان موحداً بكل معنى الكلمة.
قال الله تعالى (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:٦٩] انتهى الموضوع وقد تقدم معنا (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [النحل:٤٠] لا شك أنه شيء مذهل جداً جداً أن يخرج إبراهيم من هذه النار العظيمة لا شيء فيه، أصابهم بالذهول ولم يستطيعوا أن يفعلوا له أي شيء وكفاه الله شرهم ولذلك بعد أن خرج من النار أُسقِط في أيديهم ورأى هو -أوحى الله إليه- أنه لا خير في هؤلاء آمن له لوط -ابن أخيه- وزوجته سارة فخرج مهاجراً.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعيش في العراق قبل أن يهاجر فهاجر من نينوى وهي الآن محافظة صلاح الدين أو الأنبار في جنوب العراق واتجه إلى بيت المقدس إلى بلاد الشام.
(وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ) هذه الهجرة وهذا فيه إشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أنك سوف تهاجر كما هاجر إبراهيم.
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٠٠﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) لما خرج إبراهيم عليه السلام من العراق واتجه إلى بيت المقدس دعا الله سبحانه وتعالى أن يهبه الولد وكان عمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما رُزق بابنه إسماعيل 86 سنة وهذا هو أول غلام يُبشَّر به لأنه لم ينجب من سارة فلما سافر إلى مصر أُهديت إليه هاجر أم إسماعيل فأنجبت له إسماعيل فغارت سارة من هاجر فأمره الله فأخذ هاجر وابنه إسماعيل وذهب بهم إلى مكة في القصة المعروفة. هذه البشارة هي بإسماعيل لأن هذا أول واحد يبشر به قال (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) وصفه بأنه حليم والذي وصف بأنه حليم في القرآن الكريم من أبناء إبراهيم هو إسماعيل فقال الله سبحانه وتعالى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) وذكر الله سبحانه وتعالى قصة ابراهيم عليه السلام مع ابنائه هنا بشيء من التفصيل في موضوع الذبيح وهو ما يسمونه بقصة الذبيح ولم يذكر الله تعالى هذه القصة إلا في هذا الموضع من سورة الصافات قال (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ).
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فلما كبر هذا الابن وأصبح يمشى معه ويجرى ويشتغل ويستطيع أن يكدح مع والده رأى ابراهيم عليه الصلاة والسلام في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل وتكررت عليه الرؤيا عدة مرات فقال لابنه إسماعيل (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) لاحظوا أن الابن مؤمن ويعرف أن ما يراه والده في النوم وحي ورؤيا الأنبياء حقّ بدلالة هذه الآيات. (فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ) طبعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما يستشير ابنه إسماعيل في هذا هم كلاهما منقاد لأمر الله سبحانه وتعالى ولكن يعرض عليه (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) لم يقل له افعل ما رأيت وإنما افعل ما تؤمر لأنه علم أن ما رآه في المنام وحي (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فوصف إسماعيل في هذا المقطع بصفتين الحلم والصبر، والموقف الذى وقع فيه إبراهيم مع إسماعيل يستلزم الصبر والحلم، واحد يقول أنا رأيت في المنام أني أذبحك! فلأنه مؤمن يعرف أنه وحي لا بد أن يتحلى بالصبر وأن يتحلى بالحلم. هناك من المفسرين من يقول أن المقصود بالذبيح هنا أنه إسحق إبن إبراهيم ومنهم ابن جرير الطبري وعدد من المفسرين وكثير من المفسرين يرون أنه إسماعيل وهذا الصحيح لأسباب:
أولاً: لأنه ابنه الأكبر والابتلاء بذبح ابنك الوحيد ليس كالابتلاء بذبح الابن الثاني
الأمر الثاني: أنه في بعض الروايات التي وردت في الإسرئيليات أنه يأمره بذبح بكره والبكر هو إسماعيل بالاجماع، وفي رواية بذبح ابنك وحيدك، أيضاً هو إسماعيل، وإسماعيل قد ولد قبل إسحق بما يقارب ثلاثة عشر سنة لأنه ولد إسماعيل لإبراهيم وعمره 86 سنة وولد إسحق وعمره 99 سنة فبينهم 13 أو 14 سنة.
ثم أنه في الآيات التى معنا هنا في هذه السورة أنه قال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٠٠﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿١٠٣﴾) يعني فلما أسلم إبراهيم وابنه إسماعيل وانقادا لأمر الله قام إبراهيم بأخذ ابنه وألقاه على وجهه، تلّه للجبين يعني ألقاه على وجهه حتى لا يرى وجهه وهو يذبحه (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿١٠٤﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ابتلاء من الله سبحانه وتعالى لإبراهيم. فرأى يا إبراهيم جلست ست وثمانين سنة ما عندك أولاد ثم رزقتك بابنك إسماعيل -طبعاً لا شك أنه عندما يُرزق الرجل بابن في هذه المرحلة من الحياة يتعلق قلبه بهذا الابن بشكل كبير- فأراد الله أن يختبر قلب إبراهيم ومحبته ويرى هل محبة الله في قلبك أعظم أو محبة هذا الولد الذي جاءك على كِبر؟ فلما انقاد وقرر أن يذبح ابنه علم الله أنه موحِّد، وهذه من المواقف العظيمة في قصة إبراهيم التي تثبت أنه موحد قال (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) يقولون التفت إبراهيم فإذا بكبش ينزل عليه من الجبل فأخذه وذبحه.
ما زلنا نتحدث عن الذبيح ابتلاه الله أمره بالذبح. قلنا أن البشارة هنا في سورة الصافات ذكر الله سبحانه وتعالى بشارتين فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٠٠﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ﴿١٠2﴾) إلخ القصة وقال (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿١٠٤﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١٠٥﴾ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
﴿١٠٦﴾ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿١٠٧﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿١٠٨﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴿١٠٩﴾ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١١٠﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١١﴾ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿١١٢﴾) الذين يقولون إنه إسماعيل يقولون بشّره الله بإسماعيل لأنه هو أول واحد من أبنائه وهو الوحيد ثم ابتلاه بذبحه فنجح في الاختبار لأن الابتلاء به أعظم لأنه ابنه الكبير والوحيد والابتلاء به أعظم فلما نجح بهذا الاختبار كافأه فبشره بابنه الثاني من سارة قال (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) وهذا هو القول الصحيح لأن إسماعيل عليه السلام عاش في مكة ولذلك الآن الأضحية شرعت أول ما شرعت في مكة على يد إبراهيم عليه السلام عندما ذبح هذا الكبش ويذكر ابن عباس يقول: "جاء الإسلام ورأس الكبش معلق في الكعبة يتوارثه قريش كابر عن كابر" رأس الكبش الذي ذبحه إبراهيم يتوارثونه من عهد جدهم فلما جاء الإسلام وفتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال لابن أبي شيبة وهم سدنة الكعبة قال غطي رأسه خمِّر رأسه حتى لا يُشغل الناس في الصلاة، ثم يبس واختفى بعد ذلك وضاع مع ما ضاع.
الذين يقولون أنه إسحاق هو قول مرجوح واليهود يحسدون بني إسماعيل على هذا الشرف أولاً يرون أن إسحق ابن سارة وهي الحُرة وإسماعيل ابن الأمة وهي هاجر فيعيروننا بهذا يقولون أنتم أبناء الأمة ونحن أبناء الحرّة! ثم لما رأوا هذا الشرف العظيم الذي ذهب به إسماعيل لأنه استجاب لأمر الله وكاد أن تزهق روحه ففداه الله بهذا الذبح وأصبح شعيرة، فحرّفوا التوراة وحرّفوا كل الأدلة التي تدل على أنه إسماعيل وحولّوها على إسحاق، كلما حصّلوا أي مَعلم من المعالم غيروه ولذلك يقول الشيخ عبد الحميد الفراعي لفته جميلة -وأنا لا أريد أن أطيل في هذه النقطة ومن أراد أن يقرأ في هذه المسألة قراءة مفصلة فليقرأ كتاب قيم جداً اسمه الرأي الصحيح في من هو الذبيح للشيخ عبد الحميد الفراعي هذا أجود كتاب قرأته في هذا الموضوع- قال هذا من الموضوعات الخطيرة وهو من أكثر الموضوعات التى حرّفها اليهود في التوراة لأنهم يعلمون أن الشرف في هذه القصة سيذهب لإسماعيل وأبنائه فهم يريدون أن يذهب لإسحاق جدّهم وإسحاق عاش في أرض كنعان في فلسطين وإسماعيل عاش في الحجاز.
فذكر الله سبحانه وتعالى في التوراة أن هذه القصة وقعت على جبل المروة وهي من المناطق التي في مكة فذكر الله في سورة البقرة هذه من المعاني اللطيفة التى ذكرها الفراعي قال الله سبحانه وتعالى قال (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة:١٥٨] يقول المروة موجودة في التوراة لكنهم يحرفون كلمة المروة حتى لا يذهب ذهن من يقرأها إلى إسماعيل قال المروة ما هي موجودة إلا في مكة يحاولون أن يغيرون معالمها يقول لعل هذا من مناسبات بعد الآية التي ذكر فيها الصفا والمروة ذكر الآية التي تدل على كتمان اليهود للحق فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة:١٥٩] لأن قصة الذبيح من أشد القصص التي وقع فيها التحريف من قِبَل بني إسرائيل لأنهم يحسدون بني إسماعيل على هذا الشرف.
نعود فنلخص نقول أن الصحيح أن الذي أُمر إبراهيم بذبحه في هذا الموضع هو إسماعيل لأنه هو ابنه الأكبر وهو الوحيد وهو البكر وأن الإبتلاء به أعظم وأن نجاح إبراهيم في هذا الإبتلاء جعل الله يكافئه بابنه الآخر من سارة التي هي زوجته الأولى ولكن جاءها الإبن على كِبر، وقد بُشِّر إبراهيم بإسحاق في موضع آخر في سورة الذاريات وفي سورة هود (وبشرناه بغلام عليم) ولم يصف إسحاق بأنه حليم ولا صبور وإنما وصفه بأنه عليم ولكنه وصف إسماعيل بأنه صابر وصادق الوعد وحليم.
دليل آخر: يقال أنه لا يمكن أن يكون إسحاق هو الذبيح لأن الله بشر بابنه وابن ابنه فقال (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:٧١] ويعقوب لم يُولد لإسحاق إلا بعد وفاة جدّه إبراهيم.
هذا حديث ضعيف قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنا ابن الذبيحين" غير صحيح ولو كان صحيحاً لكان حاسماً في القضية ولانتهى الأمر، ولا يوجد دليل واضح وحاسم في مسألة الذبيح هل هو إسحق أو إسماعيل إلا ما ذكرت لكم من استنباطات يستنبطها العلماء ولو كان هذا الحديث صحيحاً لكان واضحاً وقاطعاً في المسألة.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى عن قصة إبراهيم هنا (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي تركنا له ذكراً حسناً في الآخرين فإبراهيم عليه الصلاة والسلام يتولاه اليهود والنصارى والمسلمون كلهم يعتبرونه نبياً وجداً لهم لأنه جدٌ وأبٌ لكل الأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل وإلى العرب.
ولاحظوا في قوله تعالى هنا (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولاحظوا ما قلناه قبل قليل في قوله سبحانه وتعالى (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) كيف يصف الله سبحانه وتعالى خُلّص المؤمنين بالعباد، حتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١١﴾ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿١١٢﴾) طبعا الذين يقولون أنه إسحاق يقولون البشارة الأولى بولادته والبشارة الثانية بنبوته حتى يخرجوا من هذا التكرار. وظاهر القرآن يدل على أنه إسماعيل ولا تكرار في الأمر.
(وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) يعني من ذرية إسحاق ومن ذرية إسماعيل كلاهما من ذريته محسن وظالم لنفسه مبين كسائر أبناء الأنبياء المتقدمين فإن منهم المُحسِن ومنهم المسيء لذلك من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو لهب وأبو طالب وقريش كلهم يرجعون إليه، ينتسبون إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن كان منهم المؤمن المصدِّق مثل أبو بكر الصديق، مثل علي بن أبى طالب، مثل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومنهم المكذب مثل أبو جهل وأبو لهب وأُبيّ بن خلف كلهم من ذرية إبراهيم ولكنهم ظَلَمة، ظلموا أنفسهم وكفروا.
يمكن أن نستنبط من هذه الآيات التي مرت معنا في قصة إبراهيم عليه السلام فوائد منها:
/ أن الخبيث والطيب لا يجري على العِرْق، فقد يلِد الرجلُ البرّ الرجلَ الفاجر، وقد يلِد الرجلُ الفاجر الإبنَ البرّ فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ولِد لأبٍ كافر وولِد لإبراهيم نفسه عليه الصلاة والسلام أبناء كفار من ذريته بعد ذلك.
/ من الفوائد أيضاً أنه لا يقال أن أمر إبراهيم بذبح ولده معصية والمعصية لا تجوز وإنما هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى يبتلي به من يشاء.
/ ومن فوائد هذه الآيات أن الأضحية سُنّة ومعروفٌ عند جمهور الفقهاء على المُقيم إقتداءً بإبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما ذبح هذا الكبش فداء لإسماعيل عليه الصلاة والسلام .
هذه الأضحية تذكرنا بهذه القصة دائماً، كل واحد منا يذبح أضحيته يوم عيد الأضحى ترى أول من سنّ هذه السنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ولذلك اليهود الآن ليس لديهم مثل هذه السُنّة الأضحية لو كان الذبيح هو إسحاق كانوا توارثوها لكن الدليل على أنه إسماعيل أننا نحن الذين توارثنا هذه السُنّة وهي الأضحية.
/ ومن فوائد الآيات أن رؤيا الأنبياء وحي فإبراهيم لما رأى في المنام أنه يذبح إسماعيل نفّذ وقال له ابنه (يا أبتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) فاعتبر الرؤيا أمراً من الله سبحانه وتعالى.
/ ومن فوائد هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى قد اتّخذ ابراهيم خليلاً بعد هذه القصة لأنه تبيّن له بعد هذا الابتلاء أن إبراهيم ليس في قلبه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، حتى ابنه إسماعيل الذي جاءه على كِبر استجاب إبراهيم لأمر الله له مباشرة بذبحه مع أنه ما جاءه إلا بعد عمر طويل.
/ ومن فوائد هذه القصة سبب تسمية الأيام بالتروية وعرفة والنحر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما رأى في المنام أن يذبح ابنه روّى في نفسه أي فكّر كما يقول بعض المفسرين فقالوا التروية مأخوذة من التروّي لأن إبراهيم تروّى في هذا الحلم حتى تكرر عليه مرة ومرتين وثلاث فسُمي يوم التروية.
وبعضهم يرى أنه يوم التروية لأن الحُجاج يروون فيه من الماء استعداداً ليوم عرفة.
وهناك مسألة فقهية تتعلق بأصول الفقة دائماً يذكرونها في كتب أصول الفقة وهي مسألة النسخ قبل التمكن من الفعل.
النسخ حكم من الأحكام الشرعية وهو: أن الله سبحانه تعالى يأمر بأمر ثم يأتي أمر بعده يرفعه يغيّره أو يعدله فالأصوليون يسألون هل يجوز أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا بأمر ثم يرفع هذا الأمر ويأتي بأمر آخر قبل أن نتمكن من الفعل؟! قالوا نعم، مثل قصة إبراهيم هنا ألم يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل؟ قلنا بلى، هل استطاع أن يذبح إسماعيل؟ قلنا لا، لأنه قبل أن يتمكن من الفعل فداه بذبح عظيم فنسخ هذا الأمر قبل أن يتمكن إبراهيم من فعله. وهذه مسألة نسخ الفعل قبل التمكن من فعله.
نكتفي بهذا في قصة نوح إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ونكمل إن شاء الله بقية القصص في المجالس القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---------------------------------------------
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
﴿٤٧﴾ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴿٤٨﴾ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴿٤٩﴾}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وارزقنا الفقه في كتابك والعمل به على الوجه الذي يرضيك عنا يا أرحم الراحمين.
لا زال الحديث متصلاً في الحديث عن تفسير سورة الصافات، هذه السورة العظيمة التي تظهر فيها بجلاء خصائص السور المكية من قِصَر الآيات ومن موضوعاتها التى تتحدث عن البعث واليوم الآخر وإثبات النبوة وإثبات التوحيد وهذه الموضوعات هي الموضوعات الأساسية التي تتحدث عنها السور المكية.
يأتي الحديث هنا عن المكذّبين بالبعث والمكذّبين بالرسل وكيف يكون جزاؤهم في الآخرة والله سبحانه وتعالى قال في آخر المقطع الماضي (إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذا تمام عدله سبحانه وتعالى وهو أنه لا يجازي أحداً إلا بعمله كما قال هنا (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فالله سبحانه وتعالى قد نزّه نفسه عن الظلم فلا تظلم نفس شيئاً (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47] وهذا الأمر لا بد أن يكون مستقراً عندنا جميعاً أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً وأنه منزّه عن الظلم كثيره وقليله وإنما يُجازى الإنسان بعمله ويعفو عن كثير سبحانه وتعالى.
(وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) هنا استثناء منقطع لأن تغير الكلام الآن الله تعالى يتكلم عن المكذبين ويقول (إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم يقول (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) يعني معنى الكلام لكن عباد الله المخلصين جزاؤهم كذا وكذا فهو نقل، ينتقل بالحديث نقلاً كاملاً إلى جزاء المؤمنين الصادقين المخلصين ولاحظوا أنه وصف الله تعالى عباده المؤمنين بصفتين فقال عباد الله وقال المخلَصين، الصفة الأولى صفة العبودية لا شك أن من كمال إيمان الإنسان ومن كمال انقياد اتصافه بوصف العبودية، ونحن نتشرّف بأننا نتصف بأننا عبيد لله تعالى وهذا غاية الشرف للمؤمن أن يقال له أنت عبدٌ لله ولذلك قال الشاعر:
ومما زادني شرفاً وعزّا ** وكدت بأخمُصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ** وأن صيّرت أحمد لي نبياً
عليه الصلاة والسلام. فهذا شرف للمؤمن أنه يتصف بصفة العبودية في حين أن اتصافك أنك عبد لفلان هذه صفة نقص، أما العبودية لله سبحانه وتعالى صفة كمال. تأملوا تأكيداً لهذا المعنى كيف وصف الله نبيه عليه الصلاة والسلام بوصف العبودية في القرآن الكريم فقد وصفه بوصف العبودية في مقامات الكمال:
/ فوصفه بصفة العبودية عندما أنزل عليه القرآن (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) [الكهف:1]
/ ووصفه بوصف العبودية عندما أسرى به من البيت الحرام إلى القدس فقال (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء:1]
/ ووصفه بوصف العبودية عندما قام يدعو إلى الله (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن:19]
النبي صل الله عليه وسلم شرف له أنه عبدٌ لله ولكن وصفه بوصف العبودية في مقامات التشريف. ونحن نقول هنا إن الله قد وصف الله عباده هؤلاء بصفة العبودية اكراماً لهم إشارة إلى غاية التذلل والانقياد لأوامر الله لأن الناس اليوم عندما يقال لهم الله تعالى أمرك بكذا أمرك بأن ترفع ثوبك عن الكعبين أمرك بالصلوات الخمس لماذا؟ لأنك عبد لله، فمن كمال عبوديتك الانقياد والاستجابة. أما الذي يتمرد على الأوامر فهذا فيه نقص في صفة العبودية حتى في البشر العبد الذي يتكبر على سيده ما صار عبداً! وأنصحكم بقراءة قصيدة جميلة لابن الوردي صاحب لامية ابن الوردي له قصيدة جميلة في عبدٍ له اسمه بهادِر لا يأمره بأمر إلا ويخالفه فيقول:
بهادرُ عبدي لا بهاءٌ ولا دُرٌ ** وما أنا حرٌ يوم قولي له حُرُّ
لقيت نقيض الحظ يوم اشتريته ** وأردت به نفعاً فمسني الضرُّ
والقصيدة موجودة في ديوانه.
فالله هنا وصف المؤمنين بأنهم عباد له، هذا الوصف الأول
والثاني: أنهم مخلَصين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى على سائر البشر وقد قلت لكم في بداية السورة والسورة التي قبلها أن المؤمنين والمنقادين والمتبعين قليل إذا ما قارنتهم بالمكذبين المعرضين الجاحدين ولذلك قال الله (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103] وقال (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13] وقال (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [الأنعام:116] ولذلك لا تغتر بكثرة الهالكين ولا تستوحش بقلة السالكين فالعبرة باتباع الحق ولو كنت وحدك. وهذا معنى المخلصين أي الذين اصطفاهم الله تعالى وأخلصهم، ما هو جزاؤهم يا رب؟ قال (أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ) فضَمِن لهم الرزق في الآخرة وفي الجنة فقال (أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ) ما هو هذا الرزق يا رب؟ قال (فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ * بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) نسأل الله من فضله. ودائماً النفس تتشوف إلى ما أعدّ الله لها، حتى طلابك في الاختبار وأبناءك في البيت عندما تقول سأعطي الواحد منكم كذا وكذا إذا حفظ الفاتحة تتشوف النفوس إلى المكافأة والله تعالى يعلم ان المؤمنين يتشوفون إلى ما أعد الله لهم ولذلك ذكر لهم ووعدهم بالقرآن الكريم بأشياء تتوق إليها نفوس المؤمنين، وعدهم بالجنّة ووعدهم بالنعيم، ووعدهم بالحور العين ووعدهم بالخمر ووعدهم أنهار من لبن (فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ) [محمد:١٥] هذا كله لما فطر الله عليه نفوسنا من التشوف إلى النعيم وإلى ما أعده الله. فيقول هنا مما أعدّه الله للمؤمنين في الجنة (فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ) قال العلماء أنها تأتيهم هذه الفواكه دون عناء تأتيهم في أماكنهم دون عناء ولا مشقة وهم في غاية الإكرام.
ثم قال تعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فأضاف الجنّة إلى النعيم كأن هذه الجنة للنعيم فقط مخصصة بالنعيم فأضيفت إليه. وفي وصف آخر قال (في جَنَّاتِ عَدْنٍ) [التوبة:72] أي جنات الإقامة التي لا انقطاع لها.
ثم يقول تعالى (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) من كمال نعيم أهل الجنة لا أحد يستدبر الثاني أو يرى قفا الثاني وإنما يقابل بعضهم بعضاً من كمال احترامهم لبعضهم وتقديرهم ومحبتهم لبعضهم فدائماً يقول (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) يقابل بعضهم بعضاً. ولا شك أن حتى بين الناس اليوم عندما تقابل صاحبك ليس كأنك تعطيه ظهرك فكذلك في الجنة.
قال تعالى (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ) يعني الخمر، يطاف عليهم بكأس الخمر لكن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا وليس فيها إلا اسمها فقط وإنما خمر الدنيا وصفها الله فقال (يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ) أي أنها من عين لا تنقطع والمعين هو: الذي لا ينقطع ،الجاري دائماً (بَيْضَاء ) لونها (لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ) شديدة اللذة لمن يشربها. ثم نزّهها الله سبحانه وتعالى عن الصفات التي توجد في خمر الدنيا فقال (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) الغَوْل: ما تسببه الخمر من وجع في الدماغ وفي البطن، فالله يقول هذه الخمر التي في الجنة لا تسبب أي نوع من أنواع الأمراض ولذلك اغتيال العقل من مؤثرات الخمر فهى عندما تُشرب الخمر كما يقال في وصفها أنها تغتال العقل تذهب به كما قال الشاعر الجاهلي:
وما زالت الخمر تغتالنا ** وتذهب بالأول الأولى
فالله يقول هذه الخمر التي في الجنة لا فيها غول لا تغتال العقل ولا تُذهب به ولا تسبب أي نوع من أنواع الأمراض (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) ما تسببه من النزف تٌُذهب العقل بحيث يصبح الإنسان يهذي إذا شرب الخمر.
ثم ذكر نعيماً ثالثاً ذكر الآن الفواكه وذكر الخمر، الفواكه للأكل والخمر للشرب.
ثم قال (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) يعنى الحور العين ووصف الله نساء المؤمنين في الجنة أنهن قاصرات الطرف أي لا يزوغ بصرها ذات اليمين وذات اليسار إلا لزوجها فقط قاصرة الطرف على الزوج وهذا دليل على أن من كمال صفة المرأة أنها تكون قاصرة الطرف فلا تكون زائغة العينين هنا وهناك.
ثم يصفها الله سبحانه وتعالى فيقول (عِينٌ)، (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) واضح معناها لا يذهب بصرها إلى غير زوجها.
(عِينٌ) يعني واسعة العينين يقال امرأة عيناء يعني عيناها وسيعة وهذه من علامات جمال المراة وهي مأخوذة من عيون المها لأنها واسعة فشُبهت بها المرأة ذات العيون الواسعة لذلك تجدون في الشعر والأدب كثيراً
عيون المها بين الرصافة والجسر ** جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُون) صفة نساء الجنة هؤلاء الحور العين كأنهن بيض مكنون وأنتم تعرفون البيض -بيض الطيور- بيض الدجاج أوبيض النعام كله يكون في غاية الحفظ والصيانة والعناية فالله سبحانه وتعالى وصف نساء الجنة بأنهن مثل البيض المكنون المُحافَظ عليه الذي يكون في غاية الصيانة والحفظ، وبعض المفسرين مثل ابن جرير يرى أن المقصود (بَيْضٌ مَّكْنُونٌ) ليس مجرد قشرة البيض الخارجية وإنما قشرته الداخلية لأنهم يقولون أن الخارجية يمسها الطير بجناحه وريشه أما البيضاء الداخلية لا يمسها شيء وهذا لا شك من علامات الصيانة أن تُشبّه المرأة في صيانتها ببيض النعام أو بيض الحمام لأنه يحظى بالعناية وأنه سريع الخدش فالمرأة شُبهت به لأنها: أولاً تكون في غاية الحفظ والصيانة
ولأنها سريعة الخدش فالمرأة إذا أصيبت في عرضها لا يجبر هذا الكسر شيء. فالله تعالى يقول (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ). أيضاً من كمال نعيم أهل الجنة يتمتعون بزوجاتهم وبالفواكه وبالشراب -الخمر-.
ثم قال الله تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ) قبل قليل كان هناك تساؤل ونقاشات بين أهل النار وبعضهم يشتم الثاني ويقول أنت السبب، هنا حديث من نوع آخر يأتي أيضا بعض أهل الجنة فيتناقشون ويتجادلون فيقول أحد أهل الجنة كان لي في الدنيا قرين يحاول شتى المحاولات أن يصرفني عما أنا فيه فالحمد لله الذي هداني وثبتني ولذلك قال تعالى في سورة الأعراف (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ) [الأعراف:43] فيقول هنا في هذه الآية (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) واحد من أهل الجنة يتحدث مع زملائه (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) في الدنيا، كان عندي صديق في الدنيا قرين لي (يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ) كان يشكّك في البعث يقول أنت مجنون، أنت تصدق أنه يمكن بعد أن نموت نبعث؟! فهو يقول لزملائه في الجنة ليتني أعلم أين صاحبي هذا الآن،وهذا من كمال نعيم أهل الجنة أن أي شيء يشتهونه يلبيه الله لهم قال الله سبحانه وتعالى (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ) يقول للذين معه تعالوا نرى، وهذا فيه إشارة أن أهل الجنة يرون أهل النار ولذلك في سورة الأعراف (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً) [الأعراف:44] (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء) [الأعراف:50] هناك حوار، كيف؟ الله أعلم! هذه من أمور الغيب لا نعلمها لكن الله تعالى نقل لنا طرفاً من هذه المشاهد وهذا الحوار.
قال (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ*فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) فاطّلع من نافذة أو كوة في الجنة ينظرون إلى النار وأهل النار تحتهم (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) اطّلع ليرى قرينه الذي كان يكذب بالبعث ويُنكر (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) سواء الجحيم يعني وسط النار.
(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ) يعني لو أطعتك لأرديتني فيما أنت فيه وهذا تحذيرٌ من رفيق السوء ومن صاحب السوء.
(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي لكنت من المُحضرين في العذاب معكم.
(أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) كان يقولها صاحبه في الدنيا (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) يقول كنت تردد هذا الكلام! وهكذا وهم يرددونه إلى اليوم الملاحدة والمشركون والمكذبون وما أكثرهم! يشككون في الغيب، يُشككون في الآخرة، يُشككون في البعث بعد الموت، يُشككون في الجنة، يُشككون في النار، وأنا أقول نحن في صراع إلى اليوم الشبهات كثيرة يشككوننا في عقائدنا، يشككوننا في ديننا، يشككوننا في القرآن الذى بين أيدينا المستشرقون وغير المستشرقين لأنهم كما قال الله سبحانه وتعالى (ودَّّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً) لماذا يا رب؟ (حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) [البقرة:109] لا كما يقول بعض المُحللين السياسيين أن هذه من أجل قضايا سياسية وقضايا إقتصادية، لا، الله سبحانه وتعالى يقول (حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة:109] لذلك هذا القرآن كلام الله ولا يمكن أحد أن يتكلم بهذا الكلام إلا الله الذي يعلم السِّر وأخفى والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف هذه التفاصيل، ما يُدريه بما في نفوس المشركين والمنافقين وأهل الكتاب أنهم يكيدون له حسداً؟ (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى:52] (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت:48].
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يعني إن هذا النعيم الذي فيه هؤلاء المؤمنين (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) صدق الله تعالى (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) وهذا من كمال نعمة الله سبحانه وتعالى علينا نحن المؤمنين أنه نقل لنا هذه الصور من الآخرة، لا يمكن أبداً لأحد أن ينقل هذه الصور إلا الله الذي يعلم الغيب ويعلم المستقبل، نقل لنا صوراً من الجنة، صوراً من جهنم، صوراً من الحشر -من القيامة- أعطانا خطبة الشيطان قبل أن يُلقيها، وأعطانا حوارات الكفار في جهنم، ماذا نريد أكثر من ذلك؟ لا يوجد حقيقة أكثر من ذلك لمن أراد أن يهتدي ومن يرد الله أن يضله فلن تملك له من الله شيئاً حتى لو جئته بكل آية، وأما من أراد الله هدايته فلا شك هذا القرآن يقصّ علينا كل التفاصيل العقائد والأدلة والبراهين. والبعض يظن أن القرآن الكريم لا يورد أدلة عقلية بل القرآن الكريم في أدلته ربما ثلثين من الأدلة التي يذكرها القرآن أدلة عقلية كما مرّ معنا في السورة وكما سيأتي معنا، ذكر لنا إحياء الموتى، ذكر لنا إحياء الأرض بعد موتها، إنزال المطر، الشمس، القمر كلها أدلة عقلية، فنسأل الله الهداية.
من الفوائد التي يمكن أن نستنبطها من هذا المقطع:
/ أن في وصف خمر الآخرة تنزيه لها عن صفات خمر الدنيا فعندما يقول الله سبحانه وتعالى أن من نعيم أهل الجنة أنهم يشربون خمراً كذا... كذا... كذا... لكنه نزّه الله سبحانه وتعالى هذه الخمر عن صفات خمر الدنيا وهي الذهاب بالعقل وما تسببه من أمراض. وقد يقول قائل لماذا يجعل الله سبحانه وتعالى من نعيم أهل الجنة الخمر والخمر مذموم في الدنيا مكروه؟! فقال العلماء أن النفوس تتشوف إلى هذه الخمر حتى نفوس المؤمنين لكنهم يتركون هذه الخمر طاعة لله. فالله سبحانه وتعالى قال لكم في الآخرة خمر فيها هذه المزايا بخلاف هذه الخمر التي في الدنيا ولذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يُحرم شيئاً إلا ويفتح باب إلى شيء أفضل منه.
/ ومن الفوائد في هذا المقطع الحذر الشديد من رفاق السوء (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ)
/ ومن فوائدها أنه لا حرج على المؤمن من التحدّث بنعمة الله وشكر الله عليها كما قال الله تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى:11] مع الضوابط التي يذكرها العلماء أنك لا تتحدث بنعمة الله إلا عند أناس تثق في محبتهم لك فإذا شعرت أن هناك من ربما يحسدك على ما أنت فيه من النعمة فاصمت.
/ ومن فوائد هذه الآية الإيمان بما أعدّه الله للكفار من العذاب وما أعدّه الله للمؤمنين من النعيم.
ثم يقول الله سبحانه تعالى (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ﴿٦٢﴾ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ﴿٦٣﴾ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ
﴿٦٤﴾ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴿٦٥﴾ فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴿٦٦﴾ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ﴿٦٧﴾ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ﴿٦٨﴾ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ﴿٦٩﴾ فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴿٧٠﴾ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ﴿٧١﴾ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ﴿٧٢﴾ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴿٧٣﴾ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿٧٤﴾)
بعد هذا التعقيب القرآني على قصة هذا الرجل الذي يحكي قصته مع صاحبه في الدنيا (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ*يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ) طبعاً لو ترجعون إلى تفسير ابن كثير أو الطبري تجدون روايات عن بعض بني إسرائيل أنهما رجلين من بني إسرائيل كانا شريكين في المال أحدهما مؤمن والآخر كافر في قصة طويلة لكن هذه القصة تقع العبرة بها بما ذكرناه لكم أن الله سبحانه وتعالى يذكر أن قرين السوء وما يجرّه على صاحبه وأن هذا يحمد الله سبحانه وتعالى أنه لم يُطِع قرين السوء وإلا كان مصيره مثل مصير هذا الرفيق في جهنم.
ثم بعد هذا التعقيب يذكر الله سبحانه وتعالى هذا الحدث وبالإشارة إلى مغزاه للعبرة ودائماً القصص في القرآن الكريم الهدف منه العبرة يقصُّ عليك قصة نوح حتى تنتبه، قصة صالح، إبراهيم، موسى، عيسى، لأخذ العبرة وليس لمجرد التسلية.
فيقول سبحانه وتعالى (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) هل هذا النعيم الذى ذكرت لكم خير نزلاً أي ضيافة أم شجرة الزقوم؟ ينتقل الآن يذكر لنا ما هي ضيافة المكذبين الكافرين، فهو يقول في نعيم أهل الجنة (أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) إلى آخر ما ذكر من النعيم ثم يقول (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الجواب لا شك أن ذلك خير والنُزُل: ما يعد للضيف أول ما ينزل.
(أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) ما هي شجرة الزقوم؟ يوجد لدينا من شجر الدنيا شجرة اسمها شجرة الزقوم وربما البعض يعرفها من شجر الدنيا لكنها ليست هي المقصودة قطعاً لأن شجرة الزقوم المقصود بها في القرآن هي الشجرة التى تنبت في جهنم ولذلك عرّفها الله سبحانه وتعالى فقال (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) فهذه هي شجرة الزقوم. أما شجرة الزقوم التي في الدنيا فليست مثل شجرة الزقوم التي في جهنم لذلك يقول سبحانه وتعالى هنا عن شجرة الزقوم (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) وقال الله تعالى في سورة الإسراء (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً) [الإسراء:٦٠] كيف؟ أصلاً ما يُتصور أن شجرة تنبت في النار لأن النار تأكل الشجر فكيف تقول أن شجرة تنبت في النار! هذا مخالف للعقل ولذلك فتن الله بها وكذبوا بها ولذلك قال تعالى (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) نختبرهم ونبتليهم بها هل يصدّقون بها؟ نحن نقول صدق الله نؤمن بها ولذلك أبو بكر رضي الله عنه من أعظم مزاياه التي من أجلها سمي الصديق أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول قولاً إلا ويقول صدق حتى قيل له لما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس فجاءه أحدهم وقال له هل سمعت ما يقول صاحبك -قبل أن يبلغه الخبر من الرسول مباشرة- قال ماذا قال؟ قال إنه يقول أنه أُسري به من مكة إلى بيت المقدس في ليلة قال إن كان قال ذلك فقد صدق، هذا الإيمان ولذلك سُمّي الصديق رضى الله عنه.
قال الله (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) في وسط جهنم معناها أنها شجرة مقاومة للحرارة بشكل كبير، تخرج يعني تنبت (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) كيف شكل رؤوس الشياطين؟ غريب يشبه لنا شيئاً مجهولاً بشيء مجهول؟! لا أحد رأى الشيطان لكنه لا يأتي بهيأته الشيطانية لكن يتلبس بهيئة شخص أحياناً وقد استقر عند العرب والقرآن نزل باللغة العربية (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:٢] استقر في نفوس العرب أن الشيطان بشع ولذلك إذا رأيت وجه بشع قلت أعوذ بالله وجهه مثل وجه الشيطان أو رأسه كرأس الشيطان. ويذكرون قصة مضحكة للجاحظ -الجاحظ عمر بن بحرالأديب العربي المعروف- كان قبيح الوجه كان جاحظ العينين ولا يهتم بنفسه وشعره، في يوم من الأيام أمسكت به جارية في السوق قالت أريدك دقيقة وسحبته حتى ذهبت به إلى الصائغ ثم قالت للصائغ مثل هذا وانصرفت، فقال لها الصائغ خلاص فهمت، فقال الجاحظ للصائغ أنا لم أفهم، ماذا تريد مني أنت وهذه الجارية؟ فقال جاءت الجارية بخاتمها هذا وقالت أريد أن تنقش لي وجه شيطان على هذا الخاتم فقلت ما أعرف وجه الشيطان حتى أنقش لك صورته فلما رأتك جاءت بك وقالت مثل وجه هذا. فالشاهد أن وجه الشيطان استقر عند العرب أنه وجه بشع، شعره بشع، فشبّه الله به هنا شجرة الزقوم قال (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ).
ولذلك يذكرون قصة عن واحد من علماء التفسير إسمه أبو عبيدة مَعمر بن المثنّى يقولون أنه كان في مجلس فسأله رجل قال: يا أبا عبيدة نحن نعرف أن العرب تشبّه الشيء بالشيء لتقرّب صورته فيشبّهون الشيء المجهول بالشيء المعلوم فيقولون وجه فلان مثل القمر لأنهم يعرفون القمر فيشبّهون وجهه بالجمال به لكن الله سبحانه وتعالى شبه لنا شيئا مجهولاً وهو شجرة الزقوم بشيء مجهول وهو رؤوس الشياطين فما فهمنا؟! فقال: إن العرب قد استقر في أذهانها أن الشيطان كريه الوجه كريه المنظر فالله سبحانه وتعالى شبّه به هذه الشجرة، هذا أسلوب عربي صحيح وفصيح.
ومثله أيضاً الغول لا أحد يعرفه لكنهم يقولون كعيون الغول وكرأس الغول ويحتجون بقول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وإلا ما أحد يعرف الغول ولكنه يتصورونها بشكل بشع.
يقول الله سبحانه وتعالى عن هذه الشجرة الملعونة (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ) يعني أهل جهنم (لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مغصوبين ما عندهم إلا هذا الأكل (فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ) يشربون عليها الحميم الحارّ الذي يحرق أمعاءهم، يأكلون هذه الشجرة فتلتهب أجوافهم فيريدون أن يشربوا حتى يخفف فيشربون ماء حميماً كما قال الله سبحانه وتعالى (وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) [محمد:١٥].
ثم قال (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ) والشوب: يعني مزيج، يعني يشربون على هذا الطعام شيئاً من الماء لكنه شديد الحرارة.
(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي مآل هؤلاء المكذّبين ومرجعهم في الآخرة إلى هذا المكان وهو الجحيم.
ثم (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ) يقول هؤلاء الكفار المكذبين في الدنيا جاءوا إلى آبائهم وهم على ضلال وعلى كفر (فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) مقلدون يقلِّدون آباءهم في الكفر وفي الضلال وإذا قيل لهم اتقوا الله واعبدوا الله (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:٢٢] وهذا فيه تحذير من التقليد الأعمى الذي لا يأتي بخير. يقول سبحانه وتعالى (آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) يُهرعون أي يسيرون مسرعين مهرولين.
(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) وهذا يؤكد المعنى الذي قلناه مراراً أن أكثر الناس على ضلال وأن أكثر الناس في جهنم.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ) لأنه قد يقول قائل ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين فهل يا رب أرسلت لهم الرسل حتى تقيم عليهم الحجة؟! قال نعم، لا يعذّب الله سبحانه وتعالى حتى يقيم عليه الحجة ولا يقيم عليه الحجة إلا إذا بعث له الرسول، فيقول هنا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ*فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ) المكذبين الذين كذّبوا رسلي ما هي عاقبتهم؟ هي هذه العاقبة أنهم يُحشرون إلى جهنم. قال (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ).
وهذه الآيات ممكن نستنبط منها الفوائد التالية:
أولاً: أن قياس الآخرة على الدنيا قياس مع الفارق شجرة الزقوم ليست هي شجرة الزقوم التي نعرفها في الدنيا، الخمر التي في الآخرة ليست هي التي نعرفها في الدنيا، الطعام ..الفواكه..الحور العين وليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط .
أيضاً: خطورة التقليد الأعمى ولاسيما في الدين على المقلِّدين ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ*فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الإنسان لا يُنجيك عند الله تعالى أنك تقول أنا وجدت أبي على شيء وقلدته حتى في الدين الإسلامى لابد أن يكون إيمانك عن قناعة وعن يقين ليس مجرد تقليد للآباء.
أيضاً من فوائد الآيات: أنه لا ينبغي على المسلم أن يغترّ بالكثرة، لا تغتر بالكثرة مهما كان لا تغتر بكثرة المشركين وكثرة الهالكين لأنه قد يقول قائل معقول أنكم على حق أيها المسلمون وهؤلاء النصارى وهم أكثر منكم عدداً على باطل أو الهندوس أو كذا؟! نقول أنه ليست العبرة بالكثرة وإنما بالمنهج الصحيح والقرآن الكريم يبين لنا هذا.
من فوائد الآيات: أن قصص الأنبياء وقصص السابقين فيه سلوان وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده لذلك ينبغي علينا أن نهتم بالقصص في القرآن الكريم ونهتم به أيضاً من جانب تعليم الأبناء يعني مثلاً قصة أصحاب القرية التي ذكرناها في قصة يس يمكن أن تحكيها لأبنائك وتقول أنه كان هناك قرية من القرى أرسل الله لهم رسولين فكذبوهما فأرسل الله الثالث فلم يستجيبوا لكن واحد منهم استجاب وتذكرون القصة هذه قصة موجودة في القرآن أراد الله بها العبرة والعظة.
من فوائد الآيات: تشبيه المحسوس بالمتَخيّل وأنه أسلوب قرآني مثل تشبيه شجرة الزقوم بأنها مثل رؤوس الشياطين ونحن لا نعرفها ولكن نتخيل أنها قبيحة فشبهها لنا ولذلك ليس التشبيه يكون دائماً بشيء محسوس وإنما قد يكون بشيء معروفاً مثل رؤوس الشياطين أو الغول.
هذه من أبرز الفوائد لعلنا نتوقف هنا ونواصل مع قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونبدأ بقصة نوح عليه السلام وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المجلس الثاني
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴿٧٥﴾ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿٧٦﴾ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴿٧٧﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ
﴿٧٨﴾ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ﴿٧٩﴾ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿٨٠﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿٨١﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ﴿٨٢﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قلنا إن سورة الصافات تتحدث عن أصول العقيدة: البعث بعد الموت وإثبات النبوة والتوحيد.
هنا بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى مصير المؤمنين ومصير الكافرين وضرب لنا الأمثلة أراد الله سبحانه وتعالى أن يحكي للنبي صلى الله عليه وسلم طرفا من قصص الأنبياء السابقين وفي العادة أنه إذا ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام قصص الأنبياء يبدأ بأولهم فيبدأ بنوح عليه الصلاة والسلام فيقول هنا (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُون) يعني استغاث بنا نوح عندما كذّبه قومه فكنّا نعم المجيبين لاستغاثته، وطبعاً هنا القصة مختصرة -قصة نوح- وإلا فصّلها الله سبحانه وتعالى في الأعراف وفي سورة هود ومرت معنا وفصّلها في سورة نوح -وسوف تأتي- وفي العنكبوت ذكر الله تعالى آية واحدة فقط فقال (َلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [العنكبوت:١٤] لاحظوا معي كيف تكون قصة نوح عليه السلام مُثبتة للنبي صلى الله عليه وسلم جداً. الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة 13 سنة وسورة الصافات نزلت عليه قبل الهجرة ببضع سنوات أنت مقارنة بنوح عليه السلام الذي بقي 950 سنة وأنت تبقى تسع أو ثمان سنوات فهذا يثبّت النبي بشكل كبير جداً يعني النبى صلى الله عليه وسلم لما يرى نوح عليه السلام يبقى 950 سنة وأنا فقط تسع سنوات فيصبر عليه الصلاة والسلام ويثبت، فانظر كيف يثبت الإنسان بمثل هذه القصص. فيقول:
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) بدأ القصة هنا في سورة الصافات بإنقاذ نوح لم يبدأ بقصة إرساله، فيقول يا محمد اطمئن نوح بقى هذه المدة الطويلة فذكر الله في أول القصة قصة نجاة نوح وانتصاره على قومه المكذبين (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴿٧٥﴾ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿٧٦﴾ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴿٧٧﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿٧٨﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ﴿٧٩﴾ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿٨٠﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿٨١﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴿٨٢﴾) ذكر فقط هذا المقطع، مقطع إنقاذ نوح وانتصار الله له من هؤلاء المكذبين، لم يذكر بناء السفينة سبق أنها وردت في سور سابقة، والقرآن الكريم يذكر القصة الواحدة خاصة قصص بعض الأنبياء مثل موسى وعيسى وإبراهيم ونوح يكررها في مواضع كثيرة فيذكر هنا طرف وهنا طرف عندما تجمع هذه الآيات مع بعض تكتمل لك القصة، ثم تلاحظ أنه يُورد من القصة في كل موضع ما يناسبه فهنا يذكر نصرة الله سبحانه وتعالى لأنبيائه وسرعة استجابته ونجدته فناسب أن يذكر لنا هذا الجزء من القصة وهى قصة إنقاذ نوح وإغراق البقية.
ثم يقول سبحانه ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَه﴾ ألم يغرق الله سبحانه وتعالى زوجة نوح وولده؟! معناها أن الأهل إذا أُطلِق المقصود به الأهل الأقربين فيمكن أن نقول ونجيناه وأهله من المؤمنين ويستثنى من لم ينجو من أهله، وقد يقال أن المقصود بالأهل هم أتباعه المؤمنون وإن كان هذا ليس هو المعنى الظاهر المتبادر للأهل لأن الأهل ورد في القرآن الكريم المقصود به الزوجة والأبناء ولذلك نوح نفسه قال (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود:٤٥]. ووصف الله ما وقع لقوم نوح من العذاب أنه كرب عظيم عندما نجى الله تعالى نوحاً من الغرق ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿٧٦﴾ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴿٧٧﴾) الله سبحانه وتعالى إكراماً لنوح عليه السلام جعل نسل البشرية من نوح فقط ولذلك نوح عندما ركب في السفينة ومن معه لم يتناسل إلا نوح فقط وأما الذين معه على السفينة لم يُرزقوا بذرية تستمر ولذلك يُقال لنوح عليه السلام أبو البشرية الثاني، آدم هو أبو البشرية الأول ونوح أبو البشرية الثاني لأن نسل البشرية بعد نوح كلهم من أبنائه.
قال الله سبحانه وتعالى (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿٧٨﴾) أي جعلنا له ذكراً حسناً في الآخرين وفي الأمم التى بعده فلا توجد أمة من الأمم إلا وتُثني على نوح، اليهود والنصارى والمسلمين، لا توجد أمة من الأمم تعادي نوح عليه السلام ولا ابراهيم عليه السلام أيضاً. (سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) هذه آية مبشرة لأنها تفتح الباب لكل من كان على نفس منهج نوح عليه السلام بأنه سوف يكون جزاؤه كجزاء نوح ومن معه إذا سارعلى نفس المنهج (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
﴿٨١﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴿٨٢﴾) هذه الآيات في قصة نوح ظاهرة الفوائد فلا نتوقف عندها.
ننتقل إلى القصة التي بعدها وهي قصة ابراهيم عليه الصلاة والسلام والله سبحانه وتعالى يختار من قصص هؤلاء الأنبياء ما يناسب جو هذه السورة في إثبات النبوة وفي إثبات التوحيد وتقرير البعث والجزاء بعد الموت.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) يعني وإن من أمثاله وأتباعه على دينه ابراهيم عليه الصلاة والسلام يعني من شيعة نوح عليه الصلاة والسلام والشيعة هم الأنصار والأتباع والذين يشايعونك على رأيك (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء إبراهيم ابن آزر كما ذكر الله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) [الأنعام:٧٤] ولا تلتفتوا إلى بعض من يقول أنه إبراهيم ابن تارخ وأن آزر عمه والصحيح أن آزر هو أبو إبراهيم بنص القرآن الكريم وبنص السنة أيضاً في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول أن إبراهيم يقول لأبيه آزر كذا وكذا.
(إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يصف الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه صاحب قلب سليم والعلماء يقولون سليم من الشرك وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ظهرت في قصته وفي سيرته قضية التوحيد بشكل كبير جدا، إمام الموحدين عليه الصلاة والسلام في كل تصرفاته وكل المواقف التي ستأتي معنا فيه إشارة إلى توحيده وكمال توحيده عليه الصلاة والسلام فمعنى القلب السليم هنا القلب السليم من الشرك.
قال (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴿٨٥﴾ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّـهِ تُرِيدُونَ ﴿٨٦﴾ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
يعني يلومهم ويعاتبهم على عبادة هؤلاء الأصنام وأنها إفك، والإفك هو: الكذب المفترى المختلق فيقول أنكم تعبدون هذه الأصنام افتراء على الله.
(فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي ماذا تتوقعون أن يفعل الله بكم إذا جئتم إليه يوم القيامة وأنتم تشركون به هذه الأصنام؟! وهذا سؤال استنكاري عليهم أنهم يعبدون أصناماً لا تنفع ولا تضر. وقد تقدم في سورة الأنبياء تفصيل الحديث عن صفة هذه الأصنام وكيف فعل بها إبراهيم.
ثم قال الله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴿٨٨﴾ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿٨٩﴾) إبراهيم عليه الصلاة والسلام حاور قومه في هذه الأصنام وحاور والده وبعد أن فشلت كل المحاورات قرر إبراهيم أن يُحطم هذه الأصنام، فمتى يحطمها؟ انتظر حتى جاء يوم العيد كلهم يخرجون يحتفلون خارج القرية فلما جاء هذا الموعد قال أنا مريض (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴿٨٨﴾ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿٨٩﴾ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴿٩٠﴾) تركوه قالوا ما دام مريضاً أُتركوه. وقولهم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ) بعض المفسرين يقولون كأنه نظر في النجوم على هيأتهم وهم أهل نجوم وأهل تنجيم وكواكب فقال أنا نظرت في النجوم فتبين لي أن لو خرجت سأصاب بمصيبة فقالوا جيد، ما دام هو يؤمن بهذه النجوم هذه فرصة اتركوه. الفكرة أن هذه خطة من ابراهيم عليه الصلاة والسلام ولذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات والبخاري رحمه الله في صحيحه يقول "باب في المعاريض مندوحة عن الكذب" وذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات المقصود بها أنه عرّض ثلاث تعريضات (فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي قلبي مريض من هذه الأصنام، وقال يوماً عندما قيل له من كسّر هذه الأصنام؟ قال كبيرهم هذا، وعندما سُئل عن سارة عليها السلام زوجته قال هي أختي -في القصة المعروفة- فهذه ثلاث مواقف. فإبراهيم عليه السلام لما تولوا مدبرين (فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) يقولون جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى المعبد الذي فيه الأصنام فوجد قومه قد أتوا بشيء من الطعام إلى الأصنام قالوا نحن سنخرج ونترك شيء من الطعام حتى يتبارك الطعام فإذا جئنا نأخذ الطعام ونأكل تكون حلت فيه البركة وإلا هم يعرفون أن الأصنام لا تأكل، فلما جاء ابراهيم وجد الطعام عند الأصنام فيسخر ويقول ألا تأكلون! كلوا! يخاطب الأصنام (مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ ﴿٩٢﴾ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴿٩٣﴾) وتلاحظون أن معنى هذه الآية عندما يقول للأصنام ألا تأكلون! ما لكم لا تنطقون! إشارة أن من كمال الإله سبحانه وتعالى أنه ينطق ويتكلم ولذلك الذين ينكرون صفة الكلام لله سبحانه وتعالى يشبهونه بالجمادات ونحن نثبت أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء كيف شاء متى شاء وأن هذا القرآن كلام الله.
(فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) لاحظوا أنه هنا يقول ضرباً باليمين وتذكرون في السورة (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) فالعرب تعبر بهذا وتقصد به هذا المعنى فقد يكون ضربهم باليدين معاً وليس باليمين فقط لكنهم إذا أرادوا أن يشيروا إلى القوة والشجاعة أشاروا إليها باليمين كما قال الشاعر الشماخ ابن غرار الغطفاني:
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ** تلقّاها عَرابةُ باليمين
قال (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) حطّم الأصنام كلها إلا كبيراً لهم ترك فيه الفأس، فلما جاؤوا إليه يزفّون، يزفون: أي يهرولون ويجرون ما هذا الذي حدث؟! انتشر الخبر الأصنام كلها محطمة ما بقي إلا واحداً نحن ننظر لها الآن نظرة سخرية هؤلاء مجانين يعبدون الأصنام لكن بالنسبة لهم هذه مصيبة كبيرة لا تغتفر! هذه آلهتهم متعوب عليها هذه! فلما جاءوا إليها فوجدوها محطمة ومدمرة وسألوا طبعاً (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:٥٩] إلخ القصة فلذلك قال الله سبحانه وتعالى هنا (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴿٩٤﴾ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴿٩٥﴾ وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴿٩٦﴾) يعني الله خلقكم وخلقها أيضاً (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) ولاحظوا هنا ما ذكر الله التفاصيل التي في سورة الأنبياء الحوار الطويل اختصره الله وذكر مباشرة العقاب الذي قرروا أنهم يعاقبوه به بعد أن فشلت المحاورات والمناظرات (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) أوقدوا ناراً عظيمة لكن هذه النار العظيمة صعب جداً أن يلقوا فيها ابراهيم من مكان قريب فلذلك قرروا أن يبنون مبنى ضخماً جداً ويملؤنه بالحطب وكانوا يتقربون إلى الله فالمسألة أخذت وقت هذا مشروع كبير بنوا هذا المبنى ثم أخذوا يجلبون الحطب حتى يقال أن المرأة إذا مرضت تنذر لله إذا شفاها الله أنها تحتطب وتضعه في هذا النار، مما يدل على أنها أخذت وقتاً حتى جمعوا الحطب واستوى المشروع وانتهى. ويقال في بعض الروايات أنهم رموه بالمنجنيق لكن حتى .. هم بنوا المبنى ممكن يلقوه من فوق المبنى وفعلاً جيء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذا المشهد العظيم وقد اجتمع أهل القرية كلهم وأهل المنطقة وأوقدوا ناراً عظيمة لو تقرأون بعض كتب التفسير يذكرون أن هذه النار كانت تحرق الطير في الجو يمر فيسقط في النار من شدتها،فرموا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه النار العظيمة وتأكدوا أن موضوع إبراهيم انتهى لن تقوم له قائمة وفعلاً أُلقي ابراهيم في النار لكن الله سبحانه وتعالى كما قال (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) كانوا متأكدين مئة بالمئة أن الموضوع انتهى لصالحهم وأنهم سيحرقونه حتى يصبح عبرة لكل من تسول له نفسه أن يدعو إلى مثل ما دعى إليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام. في ذلك الوقت لم يكن أحد آمن بإبراهيم عليه السلام بالرغم مما بذل وناضل! فلما أُلقي في النار أمر الله جبريل وأمر الله النار حتى قيل في الرواية أن جبريل قال لإبراهيم قبل أن يُلقى في النار هل لك إليّ حاجة؟ قال أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم، لا شك أن إبراهيم كان موحداً خالص التوحيد في كل مواقفه التى ذكرها الله عنه كان موحداً بكل معنى الكلمة.
قال الله تعالى (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:٦٩] انتهى الموضوع وقد تقدم معنا (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [النحل:٤٠] لا شك أنه شيء مذهل جداً جداً أن يخرج إبراهيم من هذه النار العظيمة لا شيء فيه، أصابهم بالذهول ولم يستطيعوا أن يفعلوا له أي شيء وكفاه الله شرهم ولذلك بعد أن خرج من النار أُسقِط في أيديهم ورأى هو -أوحى الله إليه- أنه لا خير في هؤلاء آمن له لوط -ابن أخيه- وزوجته سارة فخرج مهاجراً.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعيش في العراق قبل أن يهاجر فهاجر من نينوى وهي الآن محافظة صلاح الدين أو الأنبار في جنوب العراق واتجه إلى بيت المقدس إلى بلاد الشام.
(وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ) هذه الهجرة وهذا فيه إشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أنك سوف تهاجر كما هاجر إبراهيم.
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٠٠﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) لما خرج إبراهيم عليه السلام من العراق واتجه إلى بيت المقدس دعا الله سبحانه وتعالى أن يهبه الولد وكان عمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما رُزق بابنه إسماعيل 86 سنة وهذا هو أول غلام يُبشَّر به لأنه لم ينجب من سارة فلما سافر إلى مصر أُهديت إليه هاجر أم إسماعيل فأنجبت له إسماعيل فغارت سارة من هاجر فأمره الله فأخذ هاجر وابنه إسماعيل وذهب بهم إلى مكة في القصة المعروفة. هذه البشارة هي بإسماعيل لأن هذا أول واحد يبشر به قال (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) وصفه بأنه حليم والذي وصف بأنه حليم في القرآن الكريم من أبناء إبراهيم هو إسماعيل فقال الله سبحانه وتعالى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) وذكر الله سبحانه وتعالى قصة ابراهيم عليه السلام مع ابنائه هنا بشيء من التفصيل في موضوع الذبيح وهو ما يسمونه بقصة الذبيح ولم يذكر الله تعالى هذه القصة إلا في هذا الموضع من سورة الصافات قال (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ).
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فلما كبر هذا الابن وأصبح يمشى معه ويجرى ويشتغل ويستطيع أن يكدح مع والده رأى ابراهيم عليه الصلاة والسلام في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل وتكررت عليه الرؤيا عدة مرات فقال لابنه إسماعيل (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) لاحظوا أن الابن مؤمن ويعرف أن ما يراه والده في النوم وحي ورؤيا الأنبياء حقّ بدلالة هذه الآيات. (فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ) طبعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما يستشير ابنه إسماعيل في هذا هم كلاهما منقاد لأمر الله سبحانه وتعالى ولكن يعرض عليه (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) لم يقل له افعل ما رأيت وإنما افعل ما تؤمر لأنه علم أن ما رآه في المنام وحي (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فوصف إسماعيل في هذا المقطع بصفتين الحلم والصبر، والموقف الذى وقع فيه إبراهيم مع إسماعيل يستلزم الصبر والحلم، واحد يقول أنا رأيت في المنام أني أذبحك! فلأنه مؤمن يعرف أنه وحي لا بد أن يتحلى بالصبر وأن يتحلى بالحلم. هناك من المفسرين من يقول أن المقصود بالذبيح هنا أنه إسحق إبن إبراهيم ومنهم ابن جرير الطبري وعدد من المفسرين وكثير من المفسرين يرون أنه إسماعيل وهذا الصحيح لأسباب:
أولاً: لأنه ابنه الأكبر والابتلاء بذبح ابنك الوحيد ليس كالابتلاء بذبح الابن الثاني
الأمر الثاني: أنه في بعض الروايات التي وردت في الإسرئيليات أنه يأمره بذبح بكره والبكر هو إسماعيل بالاجماع، وفي رواية بذبح ابنك وحيدك، أيضاً هو إسماعيل، وإسماعيل قد ولد قبل إسحق بما يقارب ثلاثة عشر سنة لأنه ولد إسماعيل لإبراهيم وعمره 86 سنة وولد إسحق وعمره 99 سنة فبينهم 13 أو 14 سنة.
ثم أنه في الآيات التى معنا هنا في هذه السورة أنه قال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٠٠﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿١٠٣﴾) يعني فلما أسلم إبراهيم وابنه إسماعيل وانقادا لأمر الله قام إبراهيم بأخذ ابنه وألقاه على وجهه، تلّه للجبين يعني ألقاه على وجهه حتى لا يرى وجهه وهو يذبحه (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿١٠٤﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ابتلاء من الله سبحانه وتعالى لإبراهيم. فرأى يا إبراهيم جلست ست وثمانين سنة ما عندك أولاد ثم رزقتك بابنك إسماعيل -طبعاً لا شك أنه عندما يُرزق الرجل بابن في هذه المرحلة من الحياة يتعلق قلبه بهذا الابن بشكل كبير- فأراد الله أن يختبر قلب إبراهيم ومحبته ويرى هل محبة الله في قلبك أعظم أو محبة هذا الولد الذي جاءك على كِبر؟ فلما انقاد وقرر أن يذبح ابنه علم الله أنه موحِّد، وهذه من المواقف العظيمة في قصة إبراهيم التي تثبت أنه موحد قال (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) يقولون التفت إبراهيم فإذا بكبش ينزل عليه من الجبل فأخذه وذبحه.
ما زلنا نتحدث عن الذبيح ابتلاه الله أمره بالذبح. قلنا أن البشارة هنا في سورة الصافات ذكر الله سبحانه وتعالى بشارتين فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٠٠﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿101﴾ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ﴿١٠2﴾) إلخ القصة وقال (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿١٠٤﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١٠٥﴾ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
﴿١٠٦﴾ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿١٠٧﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿١٠٨﴾ سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴿١٠٩﴾ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١١٠﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١١﴾ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿١١٢﴾) الذين يقولون إنه إسماعيل يقولون بشّره الله بإسماعيل لأنه هو أول واحد من أبنائه وهو الوحيد ثم ابتلاه بذبحه فنجح في الاختبار لأن الابتلاء به أعظم لأنه ابنه الكبير والوحيد والابتلاء به أعظم فلما نجح بهذا الاختبار كافأه فبشره بابنه الثاني من سارة قال (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) وهذا هو القول الصحيح لأن إسماعيل عليه السلام عاش في مكة ولذلك الآن الأضحية شرعت أول ما شرعت في مكة على يد إبراهيم عليه السلام عندما ذبح هذا الكبش ويذكر ابن عباس يقول: "جاء الإسلام ورأس الكبش معلق في الكعبة يتوارثه قريش كابر عن كابر" رأس الكبش الذي ذبحه إبراهيم يتوارثونه من عهد جدهم فلما جاء الإسلام وفتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال لابن أبي شيبة وهم سدنة الكعبة قال غطي رأسه خمِّر رأسه حتى لا يُشغل الناس في الصلاة، ثم يبس واختفى بعد ذلك وضاع مع ما ضاع.
الذين يقولون أنه إسحاق هو قول مرجوح واليهود يحسدون بني إسماعيل على هذا الشرف أولاً يرون أن إسحق ابن سارة وهي الحُرة وإسماعيل ابن الأمة وهي هاجر فيعيروننا بهذا يقولون أنتم أبناء الأمة ونحن أبناء الحرّة! ثم لما رأوا هذا الشرف العظيم الذي ذهب به إسماعيل لأنه استجاب لأمر الله وكاد أن تزهق روحه ففداه الله بهذا الذبح وأصبح شعيرة، فحرّفوا التوراة وحرّفوا كل الأدلة التي تدل على أنه إسماعيل وحولّوها على إسحاق، كلما حصّلوا أي مَعلم من المعالم غيروه ولذلك يقول الشيخ عبد الحميد الفراعي لفته جميلة -وأنا لا أريد أن أطيل في هذه النقطة ومن أراد أن يقرأ في هذه المسألة قراءة مفصلة فليقرأ كتاب قيم جداً اسمه الرأي الصحيح في من هو الذبيح للشيخ عبد الحميد الفراعي هذا أجود كتاب قرأته في هذا الموضوع- قال هذا من الموضوعات الخطيرة وهو من أكثر الموضوعات التى حرّفها اليهود في التوراة لأنهم يعلمون أن الشرف في هذه القصة سيذهب لإسماعيل وأبنائه فهم يريدون أن يذهب لإسحاق جدّهم وإسحاق عاش في أرض كنعان في فلسطين وإسماعيل عاش في الحجاز.
فذكر الله سبحانه وتعالى في التوراة أن هذه القصة وقعت على جبل المروة وهي من المناطق التي في مكة فذكر الله في سورة البقرة هذه من المعاني اللطيفة التى ذكرها الفراعي قال الله سبحانه وتعالى قال (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة:١٥٨] يقول المروة موجودة في التوراة لكنهم يحرفون كلمة المروة حتى لا يذهب ذهن من يقرأها إلى إسماعيل قال المروة ما هي موجودة إلا في مكة يحاولون أن يغيرون معالمها يقول لعل هذا من مناسبات بعد الآية التي ذكر فيها الصفا والمروة ذكر الآية التي تدل على كتمان اليهود للحق فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة:١٥٩] لأن قصة الذبيح من أشد القصص التي وقع فيها التحريف من قِبَل بني إسرائيل لأنهم يحسدون بني إسماعيل على هذا الشرف.
نعود فنلخص نقول أن الصحيح أن الذي أُمر إبراهيم بذبحه في هذا الموضع هو إسماعيل لأنه هو ابنه الأكبر وهو الوحيد وهو البكر وأن الإبتلاء به أعظم وأن نجاح إبراهيم في هذا الإبتلاء جعل الله يكافئه بابنه الآخر من سارة التي هي زوجته الأولى ولكن جاءها الإبن على كِبر، وقد بُشِّر إبراهيم بإسحاق في موضع آخر في سورة الذاريات وفي سورة هود (وبشرناه بغلام عليم) ولم يصف إسحاق بأنه حليم ولا صبور وإنما وصفه بأنه عليم ولكنه وصف إسماعيل بأنه صابر وصادق الوعد وحليم.
دليل آخر: يقال أنه لا يمكن أن يكون إسحاق هو الذبيح لأن الله بشر بابنه وابن ابنه فقال (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:٧١] ويعقوب لم يُولد لإسحاق إلا بعد وفاة جدّه إبراهيم.
هذا حديث ضعيف قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنا ابن الذبيحين" غير صحيح ولو كان صحيحاً لكان حاسماً في القضية ولانتهى الأمر، ولا يوجد دليل واضح وحاسم في مسألة الذبيح هل هو إسحق أو إسماعيل إلا ما ذكرت لكم من استنباطات يستنبطها العلماء ولو كان هذا الحديث صحيحاً لكان واضحاً وقاطعاً في المسألة.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى عن قصة إبراهيم هنا (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي تركنا له ذكراً حسناً في الآخرين فإبراهيم عليه الصلاة والسلام يتولاه اليهود والنصارى والمسلمون كلهم يعتبرونه نبياً وجداً لهم لأنه جدٌ وأبٌ لكل الأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل وإلى العرب.
ولاحظوا في قوله تعالى هنا (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولاحظوا ما قلناه قبل قليل في قوله سبحانه وتعالى (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) كيف يصف الله سبحانه وتعالى خُلّص المؤمنين بالعباد، حتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١١﴾ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿١١٢﴾) طبعا الذين يقولون أنه إسحاق يقولون البشارة الأولى بولادته والبشارة الثانية بنبوته حتى يخرجوا من هذا التكرار. وظاهر القرآن يدل على أنه إسماعيل ولا تكرار في الأمر.
(وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) يعني من ذرية إسحاق ومن ذرية إسماعيل كلاهما من ذريته محسن وظالم لنفسه مبين كسائر أبناء الأنبياء المتقدمين فإن منهم المُحسِن ومنهم المسيء لذلك من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو لهب وأبو طالب وقريش كلهم يرجعون إليه، ينتسبون إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن كان منهم المؤمن المصدِّق مثل أبو بكر الصديق، مثل علي بن أبى طالب، مثل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومنهم المكذب مثل أبو جهل وأبو لهب وأُبيّ بن خلف كلهم من ذرية إبراهيم ولكنهم ظَلَمة، ظلموا أنفسهم وكفروا.
يمكن أن نستنبط من هذه الآيات التي مرت معنا في قصة إبراهيم عليه السلام فوائد منها:
/ أن الخبيث والطيب لا يجري على العِرْق، فقد يلِد الرجلُ البرّ الرجلَ الفاجر، وقد يلِد الرجلُ الفاجر الإبنَ البرّ فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ولِد لأبٍ كافر وولِد لإبراهيم نفسه عليه الصلاة والسلام أبناء كفار من ذريته بعد ذلك.
/ من الفوائد أيضاً أنه لا يقال أن أمر إبراهيم بذبح ولده معصية والمعصية لا تجوز وإنما هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى يبتلي به من يشاء.
/ ومن فوائد هذه الآيات أن الأضحية سُنّة ومعروفٌ عند جمهور الفقهاء على المُقيم إقتداءً بإبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما ذبح هذا الكبش فداء لإسماعيل عليه الصلاة والسلام .
هذه الأضحية تذكرنا بهذه القصة دائماً، كل واحد منا يذبح أضحيته يوم عيد الأضحى ترى أول من سنّ هذه السنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ولذلك اليهود الآن ليس لديهم مثل هذه السُنّة الأضحية لو كان الذبيح هو إسحاق كانوا توارثوها لكن الدليل على أنه إسماعيل أننا نحن الذين توارثنا هذه السُنّة وهي الأضحية.
/ ومن فوائد الآيات أن رؤيا الأنبياء وحي فإبراهيم لما رأى في المنام أنه يذبح إسماعيل نفّذ وقال له ابنه (يا أبتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) فاعتبر الرؤيا أمراً من الله سبحانه وتعالى.
/ ومن فوائد هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى قد اتّخذ ابراهيم خليلاً بعد هذه القصة لأنه تبيّن له بعد هذا الابتلاء أن إبراهيم ليس في قلبه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، حتى ابنه إسماعيل الذي جاءه على كِبر استجاب إبراهيم لأمر الله له مباشرة بذبحه مع أنه ما جاءه إلا بعد عمر طويل.
/ ومن فوائد هذه القصة سبب تسمية الأيام بالتروية وعرفة والنحر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما رأى في المنام أن يذبح ابنه روّى في نفسه أي فكّر كما يقول بعض المفسرين فقالوا التروية مأخوذة من التروّي لأن إبراهيم تروّى في هذا الحلم حتى تكرر عليه مرة ومرتين وثلاث فسُمي يوم التروية.
وبعضهم يرى أنه يوم التروية لأن الحُجاج يروون فيه من الماء استعداداً ليوم عرفة.
وهناك مسألة فقهية تتعلق بأصول الفقة دائماً يذكرونها في كتب أصول الفقة وهي مسألة النسخ قبل التمكن من الفعل.
النسخ حكم من الأحكام الشرعية وهو: أن الله سبحانه تعالى يأمر بأمر ثم يأتي أمر بعده يرفعه يغيّره أو يعدله فالأصوليون يسألون هل يجوز أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا بأمر ثم يرفع هذا الأمر ويأتي بأمر آخر قبل أن نتمكن من الفعل؟! قالوا نعم، مثل قصة إبراهيم هنا ألم يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل؟ قلنا بلى، هل استطاع أن يذبح إسماعيل؟ قلنا لا، لأنه قبل أن يتمكن من الفعل فداه بذبح عظيم فنسخ هذا الأمر قبل أن يتمكن إبراهيم من فعله. وهذه مسألة نسخ الفعل قبل التمكن من فعله.
نكتفي بهذا في قصة نوح إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ونكمل إن شاء الله بقية القصص في المجالس القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---------------------------------------------
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق