الأحد، 6 أبريل 2014

{وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ}/ التفرق والاختلاف مما شابهت به الأمة من قبلها

د. خالد السبت

قال: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ} أي: حججاً وبراهين وأدلة قاطعات، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة، وإنما كان ذلك بغياً منهم على بعضهم بعضاً. وهذا في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- أن الاختلاف الواقع في بني إسرائيل إنما كان بعد معرفة الحق، بعد بيانه بياناً لا يلتبس، وبعد أن قامت عليهم الحجة، وأن سبب هذا الاختلاف إنما هو البغي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن هذه الأمة ستتبع سَنن من كان قبلها، ومضى في التعليق على كتاب الاقتضاء ما ذكره شيخ الإسلام في أوله، ثم بعد ذلك في مواضع أخرى، ذكر في موضع واحد نحواً من ثمانية عشر نوعاً مما تابعت هذه الأمة فيه بني إسرائيل، ومن هذه الأمور التي شابهت فيها الأمة مَن قبلها التفرق والاختلاف، وسبب ذلك التفرق والاختلاف لم يكن بسبب عدم بيان الحق، والنقص في تعريفه، وإنما كان ذلك بسبب التفريط وإن كان ذلك من جهة الجهل، التفريط في معرفته لكون هذا المفرط قد أعرض عنه، مع أن الشاطبي -رحمه الله- يرى أن هذا لا يكون للعالم الذي يستحق أن يقال عنه: إنه عالم، العالم الرباني، العالم الراسخ، لا يكون من قبل الجهل، يقول: لأن الجاهل أصلاً لا يعتد خلافه في الخلاف، ولا يكون فراقه معتبراً فيقال: هذا فراق، وفرقة.. إلخ، فهؤلاء الذين يخالفون بسبب الجهل إنما ذلك لتفريطهم في معرفة الحق، وإلا فالحق بيّنه الله -عز وجل- بياناً واضحاً لا يلتبس، فيبقى اتباع الهوى تحت أي اسم كان، والبغي التعدي في أمور لا توجب ذلك، كما هو مشاهد اليوم بين طوائف الأمة، أكثر الخلاف الواقع إنما هو راجع إلى هذا السبب، وما يخرج عنه فهو راجع إلى اتباع الهوى، وكثيراً ما يجتمع هذا وهذا، اتباع الهوى والبغي الذي يكون بين الناس، لكنك أكثر ما تجد البغي حيث يكون الناس متفقين على أصل الحق، ومع ذلك تجد التفرق والاختلاف على قدم وساق، فيعجب الناظر من هذا، ما موجبه؟ وما سببه؟ إلى أي شيء يرجع؟ فهم متفقون على الحق في أصله.
 فهذا في الواقع يرجع إلى البغي، العدوان، الظلم، فيقع التناحر والتفرق والعداوات والشر بين طوائف المسلمين، -والله المستعان-، كنا دائماً نقول: من علامات أهل السنة أن كلامهم يخرج من مشكاة واحدة -كما يقول الصابوني ومن قبله السمعاني- تجد الذي في المشرق والذي في المغرب، وتجد المتقدم والمتأخر كلامهم من مشكاة واحدة ليس فيه اختلاف، وليس بأهل تفرق كما هو حال أهل البدع، واليوم تجد المنتسبين إلى السنة والسلف الصالح، تجد الخلاف فيهم أكثر ما يكون، والتفرق الذي يصل -أسأل الله العافية- عند البعض إلى الرمي بالبدعة والضلالة وما أشبه ذلك، وهذا لا يُعرف عند أهل السنة، وإنما منشأ ذلك هو كما يقول الشاطبي: "إذا تكلم في العلم من لم يكن متحققاً فيه" أو كان ذلك يرجع إلى اتباع الهوى والبغي والعدوان في أمور لا توجب ذلك من الخلاف في أمور اجتهادية، فتتحول إلى عداوات، فهذا إما أن يكون بسبب الجهل لكونه لا يعرف ما الذي يوجب الافتراق، وما الذي لا يوجبه، فيجعل من القضايا الاجتهادية قضايا كلية توجب الافتراق، وقد ذكر الشوكاني -رحمه الله- عن بعض شيوخ اليمن كما في الكتاب الذي ألّفه في العلم "نهاية الأرب" ذكر فيه أشياء جيدة، منها قضية تتعلق بهذه الجزئية، وهي أن الناس ثلاثة:
 فالعلماء من أهل الرسوخ إذا اختلفوا فإن اختلافهم لا يوجب هذا التفرق، يتفاهمون، ويعرفون كيف يختلفون، وكيف ينزلون المسائل.
 والقسم الآخر وهم من يقابلهم وهم العوام، فهم تبع لعلمائهم، فهؤلاء لا يحصل منهم التفرق والاختلاف.
 بقيت الفئة الوسط وهم الذين لم يكونوا في عداد العوام ولم يكونوا من أهل الرسوخ في العلم، فهم لم يحصل لهم النضج، يقول: "هؤلاء هم سبب التفرق والاختلاف والشر والعداوات والقيل والقال واللغط الكثير"، وهذا هو الآن الذي نشاهده، ومع وسائل الاتصال الجديدة اليوم أصبح هؤلاء عندهم مجال كبير للكتابة، ولربما بأسماء غير صريحة، والشيطان يرقص بين هؤلاء، وتجد الوقيعة الشنيعة، كأن هؤلاء لا يعرفون الله، ولا يعرفون ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حق المسلم على المسلم، ولا في أدنى مراتب الأدب التي درسوها في أوائل الطلب، كل هذا يُنسى، وما للمسلم من حرمة، فيرمى بأقبح الأوصاف على اختلافات في أمور اجتهادية، وأحياناً حتى لا ترى أمراً اجتهادياً، لا ترى شيئاً لماذا هذه العداوة وهذا الرمي بهذه العظائم لهذا الإنسان الذي لم يعرف عنه إلا الدعوة إلى الخير والسنة، لا يعرف عنه إلا هذا، وهذه الشناعة عليه ما موجبها؟ لا تعرف أحياناً، حسد، مرض عند هؤلاء، فهذه للأسف اليوم صارت أشد وأعظم من أي وقت مضى، والسبب هو أن هؤلاء صاروا يتوصلون إلى أمور لم يكونوا يقدرون عليها من قبل، وسائل الاتصال، ووسائل الكتابة أيضاً والطباعة وما أشبه ذلك، أصبح الآن بالإمكان أنه يكتب ويؤلف، ويجمع من هنا وهناك، وأحياناً تنظر في بعض الكتابات تقول: لو أنه يعقل ما أخرج هذا الكلام، ولا كتب هذا الكتاب؛ لأنه ينادي عليه النقص والجهل، وهو لا يحسن، لكن الإنسان لا يرى عيوبه، والله يصلح الحال.
––––––––––––––––––––

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق