د. صالح بن عبد الرحمن الخضيري
المجلس الأول
المجلس الأول
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله اللهم صلِ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فهذا هو المجلس الأول في تفسير سورة سبأ. وهذه السورة من السور المكية وهي إحدى السور الخمس في كتاب الله تبارك وتعالى التي بُدئت بالحمد. ما هذه السور الخمس في القرآن الكريم؟ الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، وفاطر، هذه خمس سور افتُتحت بالحمد. ففي هذه السورة يخبر الرب تبارك وتعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة، والحمد هو: وصف المحمود بالكمال وذكر صفاته مع حبه وتعظيمه وإجلاله، وأحقّ من يُحمَد على الإطلاق وأولى من يُثنى عليه باتفاق هو الله جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه ولذلك حمِد نفسه في أعظم سورة في القرآن فقال (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وكذلك في مواضع أخرى كما في أول سورة سبأ.
فربنا تبارك وتعالى وتقدّس هو المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه فهو المحمود على الطاعات، هو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وعلى إيمانهم وكفرهم وهو المحمود على خلق الأبرار وخلق الفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وخلق أعداء الرسل وهو المحمود على عدله في أعدائه وعلى إنعامه على أولياءه وإفضاله عليهم، فكل ذرة في الكون شاهدة بحمده ولهذا سبّح بحمده السموات السبع والأرض ومن فيهن، قال تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44] وكان من قول النبي صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع "ربنا ولك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد" كما في الصحيح، فله سبحانه الحمد حمداً يملأ المخلوقات والفضاء ما بين الأرض والسموات ويملأ ما يقدّر جل وعلا بعد ذلك مما يشاء.
الحمد كما يقول ابن تيمية: أوسع الصفات وأعمّ المدائح والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة والسبل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته ولهذا ورد اسم الحميد في القرآن سبع عشرة مرة فهو جل وعلا المحمود الذي يستحق الحمد على كل شيء سبحانه.
والحمد نوعان:
-حمد على إحسانه على عباده وهو من الشكر
-حمد على ما يستحقه جل وعلا هو بنفسه من نعوت كماله
وحتى الحمد لا يكون إلا لمن هو في نفسه مستحق للحمد وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال.
إذا فكل ما يحمد به العباد فهو من الوهّاب جل وعلا هو من الحميد، فيرجع إليه سبحانه لأنه هو الواهب لصفات العباد المحمودة يعني لو أنك حمدت شخصاً على صفة موجودة فيه من الذي وهبه هذه الصفة؟ الله، إذا يرجع الحمد الى الله الذي وهب فلان هذه الصفات ولذلك جاء في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان والله والحمدلله تملأ ما بين السموات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها". والأحاديث والآيات التي تضمنت فضل الحمد كثيرة جداً والحديث الذي أمامنا قال "الحمد لله تملأ الميزان"، وقد قيل أن هذا ضرب مثل وأن المعنى لو كان الحمد جسماً لملأ الميزان وقيل بل إن الله عز وجل يمثّل أعمال العباد يوم القيامة وأقوالهم ويجعلها صوراً تُرى يوم القيامة وتوزن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران" كما في صحيح مسلم قال وضرب لهما رسول الله ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال "كأنهما غمامتان أو غيايتان سوداوان بينهما شَرَق -يعني نور- أي ضياء أو كانهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبها" وكما في الصحيحين "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم". وجاء في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما أنعم الله على عبد بنعمة فقال الحمد لله إلا كان ما أعطى أفضل مما أخذ" فهذا يدل على أن حمد الله والثناء عليه والإكثار من ذلك هو أجلّ وأفضل من النعم التي ينعم الله بها على العباد ، سعة الرزق والصحة والعافية والأمن إن الحمد أعظم منه وأفضل. ولهذا قال الحمد لله الذي له ما في السموات والأرض له الحمد يعني يحمده أهل السموات ويحمده أهل الأرض ويُحمد على ما يفعل في السموات ويُحمد على ما يفعل في الأرض فهو المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة. وله الحمد أيضا في الاخرة حتى من دخلوا النار يحمدونه على عدله سبحانه وأنه لم يظلمهم، وأهل الجنة واضح حمدهم لله على ذلك كما قال سبحانه وتعالى عن العباد (وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الزمر:75] ، وقال عن أهل الجنة (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:34] -كما سيأتي- (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) [الزمر:74] ، وقال سبحانه (وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ) [الأعراف:43].
الذي له ما في السموات والأرض ملكاً وخلقاً وله الحمد في الآخرة لأنه أيضاً ربما يكون -والله أعلم- أنه نصّ على الحمد في الآخرة لأنه في الآخرة يظهر حمده ربما في الدنيا يستنكف بعض البشر كالكفار عن حمده لكن في الآخرة يحمده الجميع فيظهر حمده جلّ وعلا جلياً أنه لم يظلم أحدأ كما في الحديث القدسي: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه).
/ (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الحكيم في أقواله وأفعاله وفي شرعه وفي قدره ولهذا له الحكمة التامة، والخبير الذي لا تخفى عليه من أعمال العباد خافية ولا يغيب عنه شيء.
ثم فصّل هذا فقال (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ) ما يدخل في الأرض من الأموات ومن بذور الحب ومن المعادن وغيرها، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) وما يخرج منها من النبات وما يخرج منها من الخيرات بل حتى من العباد إذا خرجوا كما قال سبحانه وتعالى (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه:55] .
(وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء) من مطر وملائكة وأمر ونهي وغيرها.
(وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) أي من الأعمال الصالحة من أعمال العباد ومن الملائكة ومن الأرواح. (وَهُوَ الرَّحِيمُ) أي بعباده فلا يعاجلهم عصيانهم بعقوبة (الْغَفُورُ) عن ذنوبهم (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) يوصف بالرحمة والمغفرة سبحانه وتعالى كما في آيات كثيرة.
/ ثم قال تبارك وتعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أنهم أنكروا البعث كما قال سبحانه وتعالى (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا) [التغابن:7] قال الله (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) وهذه كما يقول الحافظ ابن كثير إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهنّ مما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد وعلى مجيء الساعة، ما هي هذه الآيات الثلاث التي أمر الله بها رسوله وخليله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقسم على وقوع البعث ومجيء الساعة؟
- أولها: في سورة يونس (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [يونس:53] فالقرآن حق وما تضمنه من قيام الساعة والأخبار والحكم والأحكام حق.
- والثانية: هذه في سورة سبأ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)
- والثالثة: في سورة التغابن في قوله (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن:7] . وهذا دليل على أن من أنكر البعث فهو كافر.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي الساعة كائنة لا ريب فيها ولا شك (عالِمِ الْغَيْبِ) فهي عند عالم الغيب كما قال تعالى (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) [الأحزاب:63] فلا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله جل جلاله وقد وردت أمارات وعلامات لقرب الساعة لكن حقيقة لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله سبحانه وتعالى وقد سبق هذا في الأعراف وفي غيرها في قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً (187)) وقال في طه (إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) [طه:15] .
(لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) يعني لا يغيب عنه جلّ وعلا شيء معها حتى العظام إذا تفرقت في الأرض وذرات الجسم إذا تفرّقت في التراب فإن الله سبحانه يعلمها قال تعالى (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) [ق:4] ،(لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) قد يقول قائل هنا قال تعالى (وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ) واضح ولكن لماذا قال (وَلَا أَكْبَرُ)؟ إذا كان الصغير واضحاً فالكبير من باب أولى أن يكون ظاهراً واضحاً، لعله -والله أعلم- لكي يعلم العباد أن الدقيق الصغير ليس بخفيّ على الله سبحانه وتعالى وكذلك الكبير من باب أولى فلا يظن ظانّ أنه إذا ضُبط الصغير وحفظ أنه قد يضيع منه الشيء الكبير لأنه يكتب لا. لأن بعض الناس إذا كان دقيقاً -ولله المثل الأعلى- يحصي الأمور الدقيقة قد يفوت عليه شيء كبير لأنه ما ألقى له بال، المخلوق يعني لكن الله سبحانه وتعالى مع حفظه لهذا الدقيق والصغير فحفظه وعلمه بهذا الدقيق والصغير لا يشغله جل وعلا عن معرفة وعلم الكبير بخلاف المخلوق فإن المخلوق بعض الناس تجده يهتم بصغائر الأمور ودقائقها والأشياء الخفية والضعيفة لا يضبطها فلربما فات عليه وانشغل بهذا الدقيق عن حفظ وضبط الأمور الكبيرة أما الله جل وعلا فكما أنه لا يخفى عليه الصغير من ذرات الكون وما في السموات وما في الأرض فكذلك لا يخفى عليه الكبير ولهذا قال (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ.
ثم بيّن حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). إذن الساعة الله سبحانه وتعالى قال (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) لماذا تأتي الساعة؟ لماذا تقوم؟ ليجزي الذين آمنوا عن الساعة يوم القيامة حق لا ريب فيه لتجزى كل نفس بما تسعى (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى هذه التصديق (أولئك) هؤلاء لهم مغفرة من الله سبحانه وتعالى ولهم رزق كريم في الجنة.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا) هذا مقابل هؤلاء الصنف وإذا ذكر الأخيار ذكر الأشرار كما هي طريقة القران الكريم (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال (أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) وهم الأشقياء الكفار الذين يظنون أنهم يفوتون الله سبحانه وتعالى أو يسبقونه (مُعَاجِزِينَ) يعني ظانين أنهم يفوتون الله أو أنهم يعجزونه كما قال سبحانه (وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) [الإسراء:49] فهم يظنون أنهم يفوتون الله وأنهم يعجزونه وأنه لا يقدر عليهم جلّ جلاله.
قال (أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ) فلهم العذاب جزاء كفرهم وإنكارهم لعلم الله وتكذيبهم بالساعة وتذكيبهم لرسل الله وما جاءوا به كما قال سبحانه وتعالى (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:20] وقال سبحانه (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28] فهم لا يستوون.
/ ثم قال تعالى (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهذه حكمة أخرى هي معطوفة على التي قبلها أن المؤمنين بما أنزل الله على رسله إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا يعملونه حينئذ يرون عين اليقين ليس فقط علم اليقين بل يرون عين اليقين صدق ما وعد الله ويقولون حينئذ (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) ويقولون (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) كما قال الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الروم:56] ، (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) وهذه منقبة وفضيلة لأهل العلم العاملين بعلمهم لأنهم هم ورثة الأنبياء فهم ورثوا الأنبياء ويعلمون أن وعد الله آتٍ لا ريب فيه.
(الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) وهو القرآن (وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) يدل ويرشد الى الصراط الحق صراط العزيز المنيع الجناب سبحانه وتعالى الذي لا يُغالَب ولا يُمانع فله العزة عزة القدر وعزة القهر وعزة الامتناع. الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره وهو المحمود في ذلك كله.
/ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذا القول الثاني (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) والقول الأول (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ)، طبعاً الآية السابقة في قوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) نشير فيه الى أن هذا دليل ظاهر أن الذي يراه الانسان يعارض بعقله للشرع ويُقدّم العقل على الشرع أنه ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير لأن العلم كله ميراث ووحي فقوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فيه فضيلة ظاهرة لأهل العلم وأيضاً دليل على أن الذي نراه معارضاً للعقل أو أحد يقدِّم العقل عليه إنه ليس من الذين أوتوا العلم لأن شأن الذين أوتوا العلم أنهم يستسلمون للوحي وأنهم لا يعارضون الوحي بعقولهم أبداً فإذا ما عارض الانسان عُلِم أنه ليس من الذين أوتوا العلم وإنما هو ممن يحب المجادلة والمخاصمة فيه بغير هدى ولا كتاب منير كما قال الله سبحانه عمن أوتي علماً لم ينفعه علمه قال الله عز وجل عن هؤلاء غير قوله (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) [الجمعة:5] قال (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) [غافر:83] وهذه آية تنطبق على كل من قدّم العقل على علوم الشريعة علماً أنه الحمد لله علوم الشريعة لا تعارض العقول الصحيحة المستقيمة المستنيرة.
قال الله بعد ذلك (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) هنا واضح أن الكفار يستبعدون قيام الساعة ويستبعدون البعث بل ويزيدون على ذلك الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن قيام الساعة والدليل على استهزائهم قولهم (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) إذا تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت واضمحلت (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) يعني بعد هذه الحالة ستعودون أحياء تقومون من قبوركم أحياء؟! وهذا المُخبِر بهذا الخبر-عندهم هم- يقولون لا يخلو من حالين: إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله لأنهم هنا يقولون (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أو أنه قد أُوحي إليه ذلك ولم يتعمّد الكذب. هم يقولون افترى على الله الكذب الأول أنه كذّاب افترى على الله الكذب وأن الله ما أوحى إليه بذلك، هذا الأمر الأول، والثاني أنه ما تعمّد الكذب ولكنه لُبِّس عليه في عقله فصار معتوهاً ومجنوناً. هل هناك قسم ثالث؟ في الواقع هناك قسم ثالث لكنهم هم عمُوا عن هذا ،هم حصروا القضية في أمرين اثنين إما أن يكون تعمّد الكذب على الله وأخبر أن الناس سيُبعثون ولا بعث، أو أنه لم يتعمّد الكذب لكن لُبِّس عليه كما يحصل للمجانين والمعتوهين ولهذا قالوا (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ) قال الله تعالى راداً عليهم وأن الأمر ليس كذلك قال الله (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) يعني ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه بل محمد صلى الله عليه وسلم صادق في ما جاء به من الحق وهم الكذبة الجهلة المفترون (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) في العذاب في الدنيا؟ أم في العذاب في الآخرة؟ أم في كليهما؟ هم في عذاب الكفر والشرك والبعد عن الله وأيضا في الآخرة في العذاب الشديد والضلال البعيد من الحق.
ثم نبّه سبحانه وتعالى على قدرته العظيمة في خلق السموات والأرض يعني كيف ينكرون البعث والله جل وعلا له الآيات في السموات وفي الأرض تدلّ على عظيم خلقه وأنه لا يعجزه شيء فقال (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ) فإلى أي مكان يتوجهون فإنهم يرون الآيات العجيبة (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47 ) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)) [الذاريات] قال قتادة: "أفلم يروا إلى ما بين أيديهم من السماء والأرض" أنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك أو من بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض بل وفي كل شيء له آية تدل على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى وأنه خالق كل شيء وأنه لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.
ثم هددهم فقال (إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء) لو شئنا لفعلنا بهم ذلك. أحد الأمرين:
أولاً أننا نخسف بهم الارض كما فعلنا بقارون وبقرى قوم لوط
ثانيا أو نسقط عليهم كسفاً قطعاً من السماء كما صنعنا بقوم شعيب بمدين
(إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) وعلامة ودلالة (لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) أي تائب. قال قتادة: "المنيب المقبل على الله عز وجل". فالنظر في خلق السماء والأرض يدل على عبد لبيب فطن رجّاع إلى الله توّاب، يدله على قدرة الله سبحانه على بعث الأجساد ووقوع المعاد لأن من قدر على خلق هذه السموات الشداد في ارتفاعها بلا عمد ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه واتساعها وهذه الأرض في انخفاضها وأطوالها وعرضها وما فيها من جبال وأودية وشعاب ونبات لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) [يس:81]
بل قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [غافر:57] .
/ ثم قال تعالى منتقلاً الى قصة عبده ورسوله داوود عليه الصلاة والسلام فقال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وسبقت الإشارة الى قصة داوود في سورة الأنبياء وفي سورة النمل فداوود أعطاه الله الفضل، والفضل هنا قال بعض المفسرين هو النبوة (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا) وقيل الفضل هو الزبور وقيل العلم وقيل القوة وقيل تسخير الجبال والناس وقيل التوبة وقيل الحكم بالعدل وقيل إلانة الحديد وقيل حُسن الصوت، ذكر هذه الأقوال القرطبي في تفسيره وهذا عند العلماء من اختلاف التنوّع ومن القواعد المقررة عند العلماء في علم التفسير: أن الآية الكريمة إذا كانت تحتمل أقوالاً عديدة فإنها تحمل على هذه الأقوال كلها لأن كلام الله أوسع وأشمل. فالله جل وعلا آتى داوود النبوة (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [النساء:163]
وأعطاه الله العلم (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) [النمل:15]
وأعطاه الله القوة وسخر له الجبال والناس وتاب عليه وأعطاه الحكم بالعدل وألان له الحديد وجعل له صوتاً حسناً.
(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) يعني رجّعي معه ترجّع الجبال معه والنبي عليه الصلاة والسلام لما سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ كما في الصحيح وقف واستمع لقراءته وقال لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داوود.
(وَالطَّيْرَ) أيضاً فالجبال تسبح مع داوود وترجّع معه والطير كذلك
(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جعل الله الحديد في يده كالعجين فلا يحتاج أن يسخنه على النار ولا يُدخِل عليه شيء يفتله كما يفتل الإنسان العجين، وقيل: أنه أول من صنع الدروع ولهذا قال الله (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) أي دروعاً سابغات (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) وهذا إرشاد من الله سبحانه وتعالى لداوود في تعليمه صنعة الدروع، قال مجاهد: "(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة ولا تغلّظه فيفصمها واجعله بقدر، وقيل لا تغلّظه فيفصم ولا تُدقّه فيقلق" يعني يكون المسمار بقدر مكانه فلا يكون واسعاً ولا ضيقاً حتى يستطيع اللابس للدرع أن يتحرك وحتى لا يكون على الدرع خلل. والدروع هي التي تلبس وقاية في الحروب.
(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ (وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وكان داوود عليه السلام يأكل من عمل يده ويصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان أعبَدَ الناس وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان لا يفرّ إذا لاقى وقد مرّ بكم قول الله تعالى (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء) [البقرة:251]. (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) بالذي أعطاكم من النعم (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي مراقب لأعمالكم بصير بأعمالكم وأقوالكم لا يخفى على الله من ذلك شيء.
طبعاً يقول ابن العربي المالكي يعلق على قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا) أحد الأقوال أنه حسن الصوت يقول: "والأصوات الحسنة نعمة من الله تعالى وزيادة في الخلق ومنّة وأحق ما لُبِست هذه الحُلّة النفيسة والموهبة الكريمة كتاب الله فنِعم الله إذا صُرفت في الطاعة فقد قضى بها حق النعمة". لأن بعض الناس يكون عنده صوت حسن فيصرفه لغناء ونحو ذلك فهذا لم يشكر هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليه فأحق ما صرفت فيه هذه النعمة -حسن الصوت- على القول أن المراد بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا) حسن الصوت أحق ما صُرِفت فيه هذه النعمة في الترنم و الترتيل لكتاب الله عز وجل. ثم قال تعالى (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) هنا سليمان عليه الصلاة والسلام ابن داوود سبقت الإشارة الى قضيته بتوسع في سورة النمل وما أعطاه الله سبحانه وتعالى من الخيرات وأن من ذلك الريح قال الله (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال بعض أهل العلم: لم يقل غدوها ورواحها شهران ولعل السر في ذلك -والله أعلم- أن في هذا تحديداً لمدة سيرها من أول النهار الى منتصف النهار ومن منتصف النهار الى غروب الشمس بينما لو قال غدوها ورواحها شهران لم يتضح هذا الفرق الدقيق. (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) يعني أنها تسير من الصباح إلى منتصف النهار ما يقطعه الإنسان في شهر، ثم تسير من منتصف النهار إلى الغروب ما يقطعه الإنسان في شهر، والغدو: السير أول النهار، والرواح: آخر النهار.
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) وهذه من نعم الله على نبيه سليمان عليه السلام أن الله جل وعلا جعل النحاس مذاباً، قال قتادة: "كانت باليمن فكل ما يصنع الناس هو مما أخرج الله لسليمان عليه السلام"، وقيل أنها سيلت له ثلاثة أيام. وأيضاً سخر الله الجن (وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) بقدرة الله ومشيئته (وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) من يعمل منهم ويخرج عن الطاعة نذقه عذاب السعير فإنه يُحرَق ويؤدب. وقد جاء أن سليمان عليه السلام ملّكه الله سبحانه وتعالى وأعطاه هذه القدرة وأنه مما يعمل له الجن (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ) وهو البناء الحسن أو المساجد أو القصور (وَتَمَاثِيلَ) والتماثيل الصور قيل أنها من غير صور ذوات الأرواح وقيل أنها من صور ذوات الأرواح وقد كان ذلك جائزاً ثم حُرِّم في الإسلام أن يعمل الإنسان الصور (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) يعني أقدرهم الله على أنهم يعملون لسليمان القصاع الكبيرة للطعام كالجوبة في الأرض كالحياض يعملون له هذه الأشياء للأكل (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ) يعني ثابتات في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك من أماكنها لعظمتها (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) أي قلنا لهم اعملوا شكراً على ما أنعم الله به عليكم من نعم الدين والدنيا (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وقد كان داوود عليه السلام شاكراً وسليمان عليه السلام كان شاكراً.
ثم أخبر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك عن كيفية موت سليمان وكيف عمّ الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة فإنه مكث متوكأ على عصاه أي منسأته مدة طويلة قيل نحواً من سنة كما جاء عن ابن عباس (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ) أي دلّ الجنّ على موت سليمان (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) يعني تأكل عصاه (فَلَمَّا خَرَّ) أي سقط سليمان عليه السلام (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) تبين أمرهم للناس وأنهم يكذبون على الناس وأنهم لا يعلمون الغيب والدليل لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في الأعمال الشاقة الشديدة هذه المدة الطويلة. والله الموفق.
المجلس الثاني:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الله تبارك وتعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) ذكر الله في هذه السورة سورة سبأ قصة سبأ وقصة هؤلاء القوم عجيبة جداً فهي تدل على أن من كفر نعم الله سبحانه وتعالى فإن الله جل وعلا يعاقبه كما قال تعالى (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل:112] كانت سبأ ملوك اليمن وأهل اليمن والتتابعة منهم ويقال أن بلقيس صاحبة سليمان التي سبق ذكرها في سورة النمل يقال أنها كانت منهم وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم ورزق وثمار دانية وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم بأن يأكلوا من رزق الله وأن يشكروا له وأن يعبدوه وحده لا شريك له (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا) وقد جاء في مسند الإمام أحمد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو رجل، أم امرأة أم أرض؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم بل (هو رجل وُلِد له عشرة من الولد فسكن اليمن منهم ستّة وسكن الشام منهم أربعة فأما اليمانيون فمبحِج وكِندة والأزد والأشعريون وأنمار وحِميَر وأما الشامية فلخْمٌ وجُذام وعاملة وغسّان). قال الحافظ بن كثير وهذا إسناد حسن. وجاء أيضاً بسند جيد في المسند من حديث فروة بن مسيب قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال نعم، قاتل بمقبل قومك مدبرهم، فلما ولّيت دعاني وقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فقلت يا رسول الله أرأيت سبأ أوادٍ هو أو رجل أو ما هو؟ قال بل رجل من العرب ولِد له عشرة فتيامن ستة وتشاءم أربعة) -يعني اتجه لليمن ستة واتجه للشام أربعة- تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومبحِج وأنمار الذين يقال لهم بجيلة وخثعم، وتشاءم لخم وجذام وعامل وغسان وهذا سنده جيد كما قال الحافظ بن كثير. قال علماء النسب ومنهم محمد بن اسحق: اسمه سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وإنما سُمّي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنِم في الغزو فأعطى قومه فسمي الرائش والعرب تسمي المال رياشاً وريشاً لأن عادة العرب ما كانوا يسبون فلما سبى سمي سبأ. فالمهم أن قوله صلى الله عليه وسلم (رجل من العرب) يعني من العرب العاربة الذين كانوا قبل إبراهيم الخليل عليه السلام من سلالة سام ابن نوح أو على قولهم أنه من سلالة الخليل عليه السلام، المهم أنه جاء من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن. وذكروا أنه لم يكن ببلدهم شيء من المنغِّضات أو المزعجات والبعوض والذباب والبراغيت كانت بلدة طيبة معتدلة الهواء صحيحة.
فسر الله قوله (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) فسّر الآية بقوله (جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ) يعني من ناحية الجبلين والبلدة بين ذلك (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) غفور لكم إن عبدتموه وحده لا شريك له فأعرضوا عن توحيد الله عز وجل وعبادته وأعرضوا عن شكره على هذه النعم التي أنعم بها عليهم وعدلوا إلى عبادة الشمس كما قال هدهد سليمان (وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)) [النمل] .
قيل إنه بُعِث لهم عدد كبير من الأنبياء فلما أعرضوا وصدّوا وكذبوا المرسلين قال الله (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) يعني السيل الشديد أو سيل العرم المراد بالعرم: الوادي ، وقيل: الجُرذ الذي نقب السدّ فانهدّ عليهم السد وأغرقهم ماؤه بأمر الله عز وجل وقيل العرم: الشديد القوي (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) فأهلكهم الله سبحانه وتعالى ثم مع إهلاكهم وخراب سدّهم خرّب الله عز وجل جميع البلد، لما انهدّ السد خرّب جميع ما لديهم من الأشجار والأبنية وغير ذلك ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة كما قال الله (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ) وهو الأراك، خمط هو: الأراك قيل، (وَأَثْلٍ) وهي الطرفاء، ولما كان أجود هذه الأشجار المبدّلة هو السدر قال (وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) فهذا الذي حوّل الثمار النضيجة النافعة حولها إلى اشجار غير نافعة وغير مثمرة هو شؤم المعصية وتكذيب المرسلين -عليهم السلام- والكفر بالله ولهذا قال (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا) وفي هذا درس لكفار قريش الذين يعشون في مكة وهي بلاد آمنة مطمئنة (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا) [القصص:57] فهذا فيه درس لكفار قريش ولكل من شاء الله إلى يوم القيامة أن الإنسان إذا كان في نعمة إذا كنت في نعمة فارعها **فإن المعاصي تزيل النِعم
ثم بعد ذلك قال الله (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) عاقبناهم بكفرهم قال الحسن البصري: "صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور" ولهذا روى ابن أبي حاتم عن ابن خيرة وكان من أصحاب عليّ رضي الله عنه قال: "جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعسر في اللذة قيل وما ما التعسر في اللذة؟ قال: لا تصادفه لذة حلال إلا جاءه من ينغّصه إياها".
ثم ذكر الله جل وعلا شيئاً من العقوبات المتوالية على هؤلاء القوم (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) كانوا قبل ذلك في نعمة وغبطة وسرور حتى إن الواحد منهم يسافر ولا يشعر بألم السفر أبداً من كثرة الأشجار وكثرة الثمار بحيث أن المسافر ما يحتاج أن يحمل معه زاد ولا ماء لأنه إذا خرج من قرية قبل ما يصيبه العطش أو الجوع وإذا هو يدخل القرية التي تليها فحيث نزل وجد ماءا وثمراً يقيل في قرية ويبيت في أخرى ولهذا قال (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) صار السير مقدّراً بحيث أنه يخرج من أول النهار إلى منتصف النهار فيقيل في قرية ثم يخرج من هذه القرية منتصف النهار وفي الليل يكون في قرية تليها وهكذا ومعلوم أن المسافر إذا كان الذي يحمله على السرعة -في الغالب- في سفره إما خوف انقطاع الطعام والشراب أو قلة الأمن فإذا وجد الأمن ووجد الطعام والشراب صار المسافر آخذا كامل راحته في سفره كما هنا (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) فالأمن حاصل لهم في سيرهم سواء كان بالليل أو كان بالنهار فهنا ملّوا هذه النعمة (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ملّوا حياة الرفاهية والنعيم وتيسير السفر ملّوا هذه النعمة (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) وقرأ آخرون جماعة من القٌراء (بعِّد بين أسفارنا) بطروا هذه النعمة كما قال ابن عباس احتاجوا إلى أنهم يقطعون مفاوز طويلة كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يُخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ماذا قال لهم موسى؟ (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة:61] وهؤلاء مثلهم قال الله (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) [القصص:58].
(وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) يعني جعلناهم أحاديث للناس وسمراً يتحدثون به من بعدهم كما يقول الناس في ضرب المثل تفرق بني فلان أيدي سبأ ويقولون تفرقوا شدر مذر، ويقولون أيادي سبأ، يعني صاروا مثلاً للناس. (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) في هذا الذي حلّ بهؤلاء القوم بسبأ من النقمة والعذاب وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة عليهم فيه موعظة وعبرة لكل عبد صبّار على المصائب شكور على النعم وهذه حالة المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن". وكان مُطرّف يقول: "نِعْمَ العبد الصبّار الشكور الذي إذا أُعطي شكر وإذا ابتُلي صبر".
ثم لما ذكر الله تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى فقال (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإبليس عدو الله هنا ظنّ ظناً وهم اتبعوا هذا الظنّ الذي ظنّه وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبليس حين امتنع عن السجود لآدم (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء:62] وقال (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:17] فهنا قال (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) من أهل الإيمان (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ) ما له حجة، الشيطان، قال الحسن البصري: "والله ما ضربهم بعصى ولا أكرههم على شيء وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه". (إِلَّا لِنَعْلَمَ) إنما سلطانه على العبد ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة وبيوم القيامة والحساب والجزاء فيحُسن في عبادة الله في هذه الدنيا ممن هو من الآخرة والقيامة والبعث في شك (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي ومع حفظه جل وعلا ضل من ضل من أتباع إبليس وبحفظه جل وعلا وكلاءته سلِم من سلِم ممن أراد الله تعالى بهم خيراً من المؤمنين الذين اتبعوا المرسلين.
ثم قال تبارك وتعالى مبيناً أنه الواحد الأحد الذي لا يجوز أن تُصرف العبادة إلا له فقال رادًا على المشركين (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ) من الشركاء والآلهة التي عبدتم (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) كما قال تعالى (والذين تدعون من دونه ما يملحون من قطمير) (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا) الأولى: لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات، والثاني: ما لهم في السموات والأرض من شرك ما يشاركون الله فيها أبداً فهم لا يملكون استقلالاً ولو على سبيل الشراكة، (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) ما لله عز وجل من هذه الأنداد من ظهير ومعين يستظهر في الأمور ويعينه بل الخلق كلهم فقراء لله سبحانه وتعالى. ماذا نفى الله؟ نفى أن يكونوا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض والثانية نفى أن يكون لهم مشاركة، ثالثاً نفى أن يكون الله جل وعلا مستعيناً بهؤلاء إطلاقاً في خلق السموات والأرض أو في تدبير أمر السموات والأرض فما بقي شيء إلا الشفاعة والواسطة فقال الله (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ) عند الله تبارك وتعالى، الشفاعة في لغة العرب: هي مقارنة الشيئين ومن ذلك الشفع خلاف الوتر والمراد بالشفاعة في الاصطلاح: هي التوسط للغير لجلب منفعة أو دفع مضرة. الآن نفى الله جل وعلا عن آلهة المشركين أن تكون تملك مثقال ذرّة في السموات وفي الأرض ثم نفى أن تكون لها شراكة في الكون والخلق ثم نفى أن تكون هذه الآلهة معاوِنة لله سبحانه وتعالى، فما بقي إلا واحد، قد يقول قائل إنها تشفع كما قال الله عن المشركين أنهم قالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3] وقال (هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ) [يونس:18] لم يبق إلا الشفاعة فقال الله (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ) عند الله (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) هذا الشرط الأول، هل هذه الآلهة تشفع؟ لا تشفع، لماذا لا تشفع؟ لأن الله لا يأذن لها ولا يرضاها، والشفاعة لها شرطان: الشفاعة لا تكون إلا إذا أذن الله للشافِع أن يشفع ورضي عن المشفوع له كما قال سبحانه وتعالى (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) [النجم:26] فهل الله سبحانه وتعالى يأذن لآلهة المشركين أن تشفع؟ لا، وهل يرضى عن المشركين في عبادتهم لهذه الآلهة؟ لا، وهل يرضى عن الآلهة أنها عُبِدن من دون الله؟ لا، إذن انتفى كل شيء ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدّتها عليهم أحكم سد وأبلغه وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع فإذا لم يأذن له لا يتقدم للشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها وأما رب العالمين فكل أحدٍ فقيرٌ إليه فإنه سبحانه وتعالى لم يأذن فيها ولا يمكن أن يتقدم أحد يشفع بدون إذنه سبحانه وتعالى أبداً. إذن هذه الآية تدل على أنه يجب إخلاص العبادة لله وقطع النظر عما سواه من الأوثان والأشجار وقبور الصالحين والأولياء والأنداد كما يفعل في بعض البلدان والعياذ بالله ممن يتوجهون إلى أصحاب القبور ويذبحون القرابين والنذور إليهم ويتوسلون إليهم يقول يا سيد فلان أنا في حسبك ارزقني ولداً، أعطني كذا، والعياذ بالله! وهذا هو الشرك الأكبر ولقد أحسن حافظ ابراهيم حين قال:
أحياؤنا لا يُرزقون بدرهمٍ ** وبألف ألف يُرزق الأموات
من لي بحظّ النائمين بحفرة ** قامت على أعتابها الصلوات
ويقال: "هذا الغوث باب المصطفى" يعني أنهم يتقربون إلى أصحاب القبور وهؤلاء الأولياء ويذبحون النذور والقرابين ويتوسلون إليهم وأحدهم معرض عن عبادة الله الواحد القهار الذي بيده الدنيا والآخرة وإليه يرجع الأمر كله فالله سبحانه وتعالى هنا يقول بعض العلماء عن هذه الآية يقول: "هذه الآية قطعت جميع عروق الشرك فيجب إخلاص العبادة لله وقطع النظر عما سواه حال أداء العبادة التي علمناها النبي عليه الصلاة والسلام، يجب الابتعاد عن الشرك ووسائل الشرك والأسباب المؤدية إليه وطلب الزلفى لديه والتوسل إليه سبحانه وتعالى بما شرع من الأعمال الصالحة التوسل بأسمائه الحسنى، التوسل بصفاته العليا، بدعوة أخ صالح في ظهر الغيب، هذه الواسطة المقبولة والوسيلة المشروعة التي يدل عليها صريح المنقول الموافق لصريح المعقول كما يقول ابن تيمية. (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ) يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا ماذا قال ربكم؟ قيل لهم الحق، وأخبروا أنهم في الدنيا لاهين، هذا قول لبعض المفسرين. وقيل: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ) هم الملائكة عليهم الصلاة والسلام وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان". (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ) يعني زال الغشي عن قلوب الملائكة عليهم الصلاة والسلام (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) يعني هم يفزعون ويصيبهم الغشيّ لعظمة الرب تبارك وتعالى وما تكلّم به (قَالُوا) للذي قال (الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض وصف سفيان بيده فحرّفها وبددها كما سبق في دروس ماضية فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها إلى لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها ألف كذبة فيقال أليس قال لنا يوم كذا، كذا وكذا؟ فيصدَّق بتلك الكلمة التي سُمِعت من السماء، هذا الحديث قوله (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) إذا الشفاعة لا تكون إلا لمن يأذن الله له ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم وأكبر شفيع عند الله لأن الله أعطاه المقام المحمود ليشفع في الخلق جميعاً قال صلى الله عليه وسلم (آتي تحت العرض فأسجد فيدعني الله ما شاء أن يدعني ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن ثم يقال يا محمد ارفع رأسك وقُل يُسمع وسلْ تُعطى واشفع تُشفّع)، فهو يشفع عليه الصلاة والسلام والملائكة تشفع والمؤمنون يشفعون لكن لا يشفع أحد إلا بهذين الشرطين:الرضى والإذن. (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فهو سبحانه وتعالى العليّ الذي لا أحد أعلى منه ولا أعظم منه وهو الكبير الذي لا أحد أكبر منه.
ثم قال تبارك وتعالى مخاطباً هؤلاء المشركين مقيماً الحجة عليهم مقرراً لهم أنه المتفرد بالخلق والرزق والإلهية أيضاً (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) العلماء يقولون أن هذا من باب التنزّل مع المخاطَب لأنه معلوم أن عبد الله وحده لا شريك له أنه هو الذي على هدى ومن عبد الأصنام فهو الذي على ضلالة لكن هذا من باب التنزل ومع ذلك جاءت الآية بأسلوب عجيب اشتملت في جانب الحق قال الله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى) مثل قول الله عن المؤمنين (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) [البقرة:5] وصف الله أهل الإيمان بأنهم على الهدى يعني متمكنون مثل الشخص الذي ركب على جواده وتمكن من ركوبه واستقرّ في مكانه وكذلك أهل الإيمان هم مقتنعون بالحق الذي هم عليه وبأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له وهم مطمئنون لهذه العقيدة راسخون عليها، باقون عليها (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) استعمل "في" هنا في جانب الباطل و"على" في جانب الحق لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ يرقب بنظره كيف شاء الأشياء ظاهرة لا فيها خفاء ولا غموض أما صاحب الباطل فكأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجه كما قال الله سبحانه وتعالى (كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام:122] وقال (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) [النور:40] فهذه الظلمات ظلمة الشك والكفر والريب كلها اجتمعت.
هنا يقول (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) إذا كان الله فإذا يجب أن يفرد بالعبادة لا شريك له، هم يقولون لا، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) أي واحد من الفرقين مُبطِل والآخر مُحِقّ ولا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال بل لا بد أن يكون المصيب هو واحد من الفريقين ونحن قد أقمنا البرهان على توحيد الله سبحانه وتعالى فهذا يدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله سبحانه وتعالى ولهذا قال (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) قال قتادة: "قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين والله ما نحن وإياكم على أمر واحد وإن أحد الفرقين لمهتدٍ".
ثم قال تبارك وتعالى (قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا التبري منهم يعني لستم منا ولا نحن منكم بل نحن ندعوا الله وحده لا شريك له بل نحن ندعوا الله وحده نفرده بالعبادة فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم وإن كذّبتم فنحن برآء منكم وأنتم برءاء منا كما قال تعالى (قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا) يعني يوم القيامة يجمع الخلائق في صعيد واحد (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ) يحكم بيننا بالعدل ويجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) هو القاضي بين خلقه سبحانه وتعالى الحاكم العادل العالِم بحقائق الأمور.
ثم قال تعالى (قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء) يعني أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله سبحانه وتعالى أنداداً وصيرتموها له عدلاً، (كَلَّا) ليس له نظير سبحانه وتعالى ولا شبيه ولا شريك ولا عديل بل هو الله الواحد الأحد الصمد الذي لا شريك له العزيز: ذو العزة التي قهر بها كل شيء وغلب بها كل شيء، الحكيم جلّ وعلا في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره تعالى وتقدّس.
ثم قال تعالى مخبراً عن رسالة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم به النبوة والرسالة فقال (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) أي إلى جميع الخلق من المكلّفين وقيل إن (كافة) يعني لتكفّ الناس عن الشرك إلى التوحيد وعن الضلالة إلى الهدى (بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) كما قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103] .
ثم قال تبارك وتعالى (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) مرة أخرى ذكرٌ لبيان استبعاد الكفار قيام الساعة لأن السورة سورة مكية فلا بد من التركيز على البعث والجزاء والحساب فقال الله هنا (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) كما قال تعالى (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) [الشورى:18] قال الله مهدداً لهم (قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ) لكم ميعاد مؤجل معدود لا يمكن أن تتأخروا عنه لحظة من اللحظات ولا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [نوح:4] وقال تعالى (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)) [هود].
ثم قال تعالى مخبراً عن تمادي هؤلاء الكفرة بشركهم وكفرهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) لن نؤمن بهذا القرآن ولا بما أخبر به من أمر المَعاد والجنة والنار وما إلى ذلك. فقال سبحانه بعد هذا (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) هنا يتنازع ويتخاصم الضعفاء والأقوياء، الكبار والصغار، الملأ المترفون مع العابدين الضعفاء هؤلاء الذين اتُّبعوا مع الذين اتَّبعوا كما قال تعالى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) [البقرة:166] وهنا يقول تعالى (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) يكون بينهم مخاصمة ومراجعة للقول (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) منهم وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم سادتهم وكبارهم (لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أنتم الذين صددتمونا عن الإيمان وإلا كنا اتبعنا الرسل لكن أنتم حُلتم بيننا وبين ذلك فيرُد عليهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم) نحن ما فعلنا بكم ذلك ولا لنا عليكم سلطان ولا برهان بل أنتم اخترتم هذا لأنفسكم (بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ).
وقال الله (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهاراً وتغررونا وتمنونا وتخبرونا أننا على هدى ونحن مقيمون على عبادة هذه الآلهة وأنا على شيء فإذا جميع ذلك كذب وباطل وغرور وأماني (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) قال قتادة وابن زيد: "بل مكرهم بالليل والنهار". (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا) أنتم الذين سببتم لنا الوقوع في هذه العظائم وهذا الكفر. قال الله سبحانه وتعالى (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) هل هم السادة أم الأتباع أم الجميع؟ الجميع، السادة والأتباع كلٌ ندِم على ما سلف منه لما رأوا العذاب بين أيديهم. قال الله (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ) وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم كما قال سبحانه وتعالى (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)) [غافر] وقال هنا (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنما جازيناهم بأعمالهم كلٌ بحسبه، القادة عذابهم بحسبهم كما قال تعالى (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [النحل:25] وقال تعالى في سورة العنكبوت (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) وكذلك الأتباع لهم نصيب من العذاب وقد قال تعالى في سورة الأعراف (رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ) فكل واحد من هؤلاء القوم له نصيبه من العذاب وله -والعياذ بالله- نصيبه من الحسرة والندامة وهذا دليل واضح على أن الإنسان يجب عليه أن يحذر غاية الحذر أن يُضِلّ أحداً عن سبيل الله وعن صراط الله المستقيم فإنه سيبوء بإثمه وإثم من أضله كما يفعل بعض شياطين الإنس عبر قنواتهم ومواقعهم الذين ينشرون ظاهر الإثم وبواطنه ويجرؤن الناس على الكفر وعلى الفواحش والمعاصي (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [النحل:25].
نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية وأن يهدي ضالّ المسلمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿٣٤﴾ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿٣٥﴾ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٦﴾ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ﴿٣٧﴾)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. الحمد لله حمْداً كثيراً طيِّباً مُبَاركاً فيه كَمَا يُحِبُّ ربُّنا ويَرْضَى، وأَشْهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحْدَهُ لا شريك له، وأشْهَدُ أنَّ نبيِّنا مُحمَّداً عبدُهُ ورسُولُه، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصْحابِه والتَّابعين لهُم بإحْسانٍ إلى يَوْم الدِّين، أمَّا بعْد.
فهذا هو المجلس الثَّالث في تفسير سورةِ سبأ.
يقول الله تبارك وتعالى مُسليِّاً لِنبيِّهِ وخليله مُحمَّد صلى الله عليه وآله وسلَّم وآمِراً له َأنْ يتأسَّى بِــمَنْ سَبَقَهُ من الــمُرْسلين (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) فَكُلُّ رسُولٍ يَبْعَثُهُ الله تعالى في قرْيَةٍ مِنَ القُرى يُقابِلُهُ الـمَلأْ الــمُتْرَفُون بالكُفْر برسالته والسَّبَبُ في هذا -والله أعْلم- أنَّ الملأ وهُم علية القَوْم وكِبارُهُم يَشْعُرُون أنَّه إذا جَاءَ رسُولٌ سينْقادُ الجميع إليه، يشْعُرون أنَّهم في هذه الحالة نَزَلت مكانتهُم، وأيْضاً يشْعُرون بأنَّه كأنَّه سُحِبَ البِساطُ من تحتهم وَصَارَتْ المنزلة والمكانة لهذا الرَّسُولْ الذِّي سَيُطَاعُ أمْرُهْ ولا يُعْصَى ولهذا صَارُوا هُمْ أشَدُّ مَا يكُونُوا على رُسُلِ الله كما قال قَومُ نُوح ﴿قالُوا أنُؤمِنُ لكَ واتَّبَعَكَ الأرْذلُون﴾ [ الشُّعراء:111]، ﴿وما نـَراكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الذِّين هُمْ أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْي﴾ [ هود:27] وقال الكُبُراء من قومِ صالح ﴿قال الملأ الذِّين اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمه للذِّينَ اُسْتُضعِفُوا لِمَنْ آمَنَ منهم أتَعْلَمُونَ أنَّ صالحاً مُرسَلٌ من ربِّه قالوا إنَّا بما أُرْسِلَ به مُؤْمِنُون.قال الذِّين اسْتَكْبَرُوا إنَّا بالذِّي آمنْتُم بِهِ كافرون﴾[75-76]، وقال تعالى ﴿وكذلك جَعلنا في كُلِّ قرية أكَابِرَ مُجرميها لِيَمْكُروا فيها﴾ [ الأنعام:123]، وقال هُنا (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) أيَّ من نبيٍّ أو رسُول (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) وهُمْ أوُلوا النِّعْمة، والكِبارْ (الملأ) أصْحابْ الرِّياسة، أَصْحابَ الثَّرْوة، (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) يعني لا نُؤمِنْ بهذا الرَّسُول ولا نتَّبِعُهْ، وهذا فيه تسلية لِنبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.
وقالُوا أيْضاً من أقْوال الكُفَّار (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) يَعْني أنَّهُم ظَنُّوا أنَّ هذِهِ الأمْوال وهذه الأولاد سَتَمْنَعُهُم من عذابِ الله عزَّ وجل فافْتَخَرُوا بكثرة أموالهم وافْتَخَرُوا بِكثْرَة أوْلادِهِم، واعْتَقَدُوا أنَّ هذا دليلٌ على أنَّ الله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُم ويَصْطَفيهم ويَجْتَبيهم وأنَّه ما كانَ لِيُعْطيهم هذه الدُّنيا وهو سَوفَ يُعذِّبُهُم وجَهِلُوا أنَّ الله يُعْطي الدُّنيا من يُحِبّ ومَنْ لا يُحِبّ، لَكِنَّهُ لا يُعْطي الإيمان واليَقِين إلاَّ من أحَبّ. فقالُوا هُنا (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) والواقِعْ أنَّ هذه الأمْوال والأوْلاد سَيُعَذَّبُون بها في الدُّنيا وفي الآخرة كما قال الله سبحانه وتعالى ﴿فلا تُعْجُبْكَ أموالُهُم وأْولادُهُم إنَّــمَا يُريدُ الله لِيُعذِّبْهُم بها في الحياة الدُّنيا وتَزْهَقَ أنفُسُهُم وهُمْ كافِرُون﴾ [التّوبة:55] فهُم يتعَذَّبُون في الأَمْوال والأَوْلاد بِجَمْعِ الأَمْوال وكذلك خَوْف زوَالِها وعَتْبُ النَّاسِ عليهم في عَدَمِ إنْفاقِهِم هذه الأمْوال فيما يُرْضِي هؤلاءِ النَّاس، وكذلك الأوْلاد يَشْقَوْنَ بِـجَمْعِ المال لهُم ويَشْقَوْنَ بإطْعَامِهِم وبِالخَوْفِ عليهم من نَـوائِبِ الدَّهْر وغيرِ ذلك بِحُزن من يُفْقَد منهم أو بِحُزْن ما يُفْقَد من المال ثُمَّ بعد ذلك يُحاسِبُهُم الله سبحانُهُ وتعالى على لَهْوِهِم وغَفْلَتِهِم عن عبادتِه كما قال سبحانه وتعالى مُحذِّراً لعبادِه ﴿يا أيُّها الذِّين آمنُوا لا تُلْهِكُم أموالُكُم ولا أوْلادُكُم عنْ ذِكْر الله ومَنْ يَفْعَل ذلك فأُولئك هُمُ الخَاسِرون﴾ [المنافقون:9] . والواقِعْ أنَّ أتْباع الرُّسُل هُمْ الضُّعفَاء، ولهذا لَــمَّا سَأَل هِرقَلْ، سَأَل أبا سُفْيان مَنْ أتْباعُ هذا الرَّسُول؟ فقال: أَشْرافُ النَّاس يتَّبِعُونهُ أم ضُعفاؤهُم؟ قال: بل ضُعفَاؤهم، قال: وكذلك الرُّسُل. وكذلك هُمْ (أتْباعُ الرُّسُلْ) أيّ أنَّهُم هُم الضُّعفاء. قال الله سُبْحانُهُ وتعالى ﴿أَيَـحْسَبُون أنَّما نُمِدُّهُم به من مالٍ وبَنين نُسَارِعُ لهُم في الخَيْرات بَلْ لا يَشْعُرُون﴾ [المؤمنون:55-56]، وقال تعالى ﴿ذَرْني ومَنْ خَلَقْتُ وحيداً* وجَعَلْتُ له مالاً ممْدُوداً* وبَنينَ شُهُوداً* ومَهَّدْتُ له تمهيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أزيد* كلاَّ إنَّه كان لآياتِنا عنيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾ [ الــمُدثِّر: 11-17]، وفي قِصَّةِ صاحِبْ الجَنَّتَين التِّي ذَكَر اللهُ تعالى في كتابه ﴿فقال لصاحبه وهُو يُحاوِرُهُ أنْا أكثَرُ مِنْك مالاً وأَعَزُّ نَفَراً﴾ [ الكهف:34] ثُمَّ في آخر الآيات قال الله ﴿وأُحيطَ بِثَمَرِه فأَصْبَحُ يُقَلِّبُ كَفَّيْه على ما أنْفَقَ فيها وهي خاويةٌ على عُرُوشها ويقول يا لَيْتني لمْ أُشرك بِربِّي أَحَداً ولَمْ تَكُنْ له فئةٌ ينْصُرُونه من دُونِ الله وما كان مُنْتَصِراً﴾ [ الكَهْف:43].
وقال هُنا ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرْ) يعني أنَّ الله سُبْحانه وتعالى يبْسِطُ الرِّزْق -يُوسِّعْهُ- يُعطِي المال لِــمَنْ يُحِبّ ولِــمَنْ لا يُحِبّ، وهُو سبحانه وتعالى لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُها يُفِقِر بعضَ عبادِه، ويُغْني بعضَ عبادِه وله الحكمةُ التَّامَّةُ البالغة في هذا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
ثُمَّ رَدَّ الله عليهم فقال (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) ليْست هذه الأمْوال، وهؤلاء الأوْلاد ليْسُوا دليلاً على مــحَبَّتِنا لَكُم ولا اِصْطِفَائنا لكُمْ، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصَّحيح (إنَّ الله لا يَنْظُرِ إلى صُوَرِكُم ولا إلى أمْوالِكُم ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم وأعْمالُكُم) (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) وهذا اسْتثناءُ مُنْقَطِعْ، أي لكِنْ مَنْ آمَن وعَمِلَ صالحاً فإنَّه هُو الذِّي له المكانَة، فهذا هُو الذِّي يُقَرِّبُهُ إيمانُهُ وعمَلُهُ الصَّالِحْ، يُقرِّبُهُ عند الله سبحانه وتعالى دَرَجاتْ ويَرْفَعُهْ بإيـمانِه وعَمَلِه الصَّالِح كما قال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام كَمَا في الصَّحيح: "إنَّ أهْل الجنَّة لَيَتَراءوْنَ أهْل الغُرُفْ من فوْقهم كما تَراءَوْنَ الكَوكَبْ الشَّرْقيّ أو الغَربيّ الغَابِرْ في الأُفُقْ، قالوا: يا رسُول الله تِلْكَ منازِلُ الأنْبياء لا يَبْلُغُها غيْرُهُم، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام: كلاَّ، والذِّي نفْسي بيدِه رِجَالٌ آمنُوا بالله وصَدَّقُوا الـمُرسلين فإيــمانُهُم بالله وتَصديقهم للمُرسلين رفَعَهُم في هَذه الدَّرجات العالية في الجنَّاتْ". قال تعالى (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) أي الزِّيادة. فلهُم جزاءُ الضِّعْف بِـما عمِلُوا و"الباء" هُنا للسَّبَبِيَّة، لهُمْ جَزاءُ الضِّعْف أي تُضاعَفُ لهُمُ الحسنة بِعَشْرِ أمْثالِها إلى سبْعمائة ضِعْف (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) أي في مَنازِلِ الجنَّة العَالية آمِنُونَ مِنْ كُلِّ بأْسٍ وخَوْفٍ وأَذَى ومِنْ كُلِّ شَرٍّ يُخافُ منه ويــُحْذَرْ. يقُولُ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلام كما في سُنن التِّرمذي: "إنَّ في الجنَّةِ لَغُرَفاً تُرى ظُهورِها من بُطُونِها، وبُطُونُها من ظُهُورِها، فقال أعْرابيٌّ: لِــمَنْ هيَ يا رسُول الله؟ قال: لِــمَنْ طيَّبَ الكلام وأطْعَمَ الطَّعامْ وأَدامَ الصِّيام وصلَّى باللَّيل والنَّاسُ نِيام".
ثُمَّ ذَكَر الله سُبْحانه وتعالى الصِّنْف الآخَرْ عكس المؤمنين فقال (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) أي يَسْعَوْن في آياتِنا بالرَّدِ لها والطَّعْنِ فيها بآيات الله المنزّلة وبالرسل عليهم الصلاة والسلام أو بآيات الله الكَونية والشَّرعية. فهم يسعون في آياتنا مُعاجِزين أي مُسَابِقِين لنا زاعِمين أنَّهُم يَفُوتُنَنا بأنْفُسِهِمْ أومُعانِدين لنا بِكُفْرِهِم. (أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُون) كما قال تعالى ﴿ولا يَحْزُنْكَ الذِّين يُسارعون في الكُفْر إنَّهُم لنْ يَضُرُّوا الله شيئاً﴾ [ آل عمران:176] فكُفْرهُم ومُعاندتهم لآيات الله وتكذيبهُم لِرُسُل الله لا شَكَّ أنَّهُ يَضُرُّهُم هُمْ. (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا) بالردّ لها والطعن فيها (مُعَاجِزِينَ) أي مُسَابِقِين لنا، زاعِمين أنَّهُم يَفُوتُنَنا بأنْفُسِهِمْ ومُعانِدين لنا بِكُفْرِهِم (أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) أي تُحْضِرُهُم الزَّبانية، ويُجْزَوْن بأعْمالهم، وهذه الآية شبيهةٌ من بعض الوُجُوه بقوله تعالى ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الذِّين كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُم لا يُعجِزُون﴾ [الأنفال:59] فهُم لا يَفُوتُونَ الله سبحانه وتعالى.
ثم كرّر على هذه القاعدة المهمة فقال (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) بحسب ما له في ذلك من الحكمة سبحانه وتعالى فهو يعطي هذا المال ابتلاء له وهذا يبتليه بالفقر يقتِّر عليه جداً ابتلاء من الله سبحانه وتعالى لحكمة كما جاء في بعض الآثار "إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الصحة ولو أمرضته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلح له إلا المرض ولو أصححته لأفسدت عليه دينه" فالله تعالى هو خالق العباد وهو العليم بأحوالهم ولا يتهم في قضائه. ومما ذُكِر في بعض الإسرائليات – والنبي صلى الله عليه وسلم يقول حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج- أن عيسى عليه الصلاة والسلام رأى قوماً عند نهر وهم يغمس بعضهم بعضاً ومعهم رجل أعمى فيجتمع هؤلاء على الأعمى ويغمسونه في النهر فإذا غمسوه في النهر قام ولحق بهم فما استطاع أن يمسك أحداً منهم فقال عيسى يا رب أسالك أن تأذن لي أن أمسح على عيني هذا الأعمى فأذن الله له فمسح على عيني الأعمى فأبصر بإذن الله فلما أبصر قام فأمسك أحدهم وغرّقه في النهر ثم لحق بالثاني فجرّه وأغرقه في النهر وفرّ الثالث فقال عيسى عليه السلام يا رب أنت أعلم وأحكم. فكان في هذا الأعمى شر عظيم لكن الله قهره بهذا الأمر الذي جعله فيه. فإذا الله سبحانه وتعالى لا يُتّهم في قضائه له الحكمة في أن يُغني هذا ويفقر هذا وأن يمرض هذا ويصح هذا ولا يعترض عليه معترض ولا يقدح في حكمته أحد جلّ جلاله وتقدست أسماؤه (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) كما قال تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء:21] وأيضاً هم متفاوتون في الدنيا في أحوالهم هذا فقير فقره شديد وهذا غني غناه كبير جداً فهم في الآخرة كذلك مختلفون في المنازل هؤلاء في أعلى الدرجات في الغرفات آمنون وهؤلاء في غمرات النيران والعياذ بالله! وأطيب الناس في الحياة الدنيا هل هو الغني أم الفقير؟ أطيب الناس في الحياة الدنيا هو من عناه الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم فقال صلى الله عليه وسلم "قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً وقنّعه الله بما آتاه" وقد تكلم العلماء كلاماً طويلاً على مسألة يذكرونها وهي أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ فمن العلماء من فضّل الغني الشاكر ومنهم من فضّل الفقير الصابر لأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بسبعمائة عام. ومن العلماء من قال: أفضلهما أتقاهما لله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل من خير الناس؟ قال أتقاهم، ولأن الله قال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا فقال: "أفضلهما أتقاهما فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة". يوجد بعض الأغنياء تجده يعطي الزكاة كاملة ومع ذلك ينفق النفقات الكثيرة ابتغاء وجه الله سِرّاً وعلانية وهو متواضع في أكله وشربه ومدخله ومخرجه قائم بفرائض الله وفي المقابل يوجد رجل فقير متعفف عفيف صابر لا يشتكي لأحد كما قال الله عن هذا الصنف (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة:273] فهو فقير صابر محتسب مقتصد مؤدٍ لفرائض الله فهذا هو الفرق بين هذين الاثنين فمن العلماء من فضّل الأول لأن نفعه متعدي والثاني نفعه قاصر، ومن العلماء من فضّل الثاني على الأول وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أفضلهما تقاهما لله فإذا استويا في التقوى استويا في الدرجة".
ثم قال الله تبارك وتعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله تعالى به أو أباحه أو أوجبه عليكم فهو يُخلفه عليكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى يا ابن آدم أنفِق أُنفِق عليك) كما في صحيح البخاري ومسلم. وأيضاً جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن ملكين يصيحان كل يوم يقول أحدهما اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً ويقول الآخر اللهم أعط مُنفقاً خلَفاً). والنفقة والإنفاق، الخلف من العلماء من يرى أنه قد يكون في الدنيا مع جزاء الآخرة ومن العلماء من يقول قد يكون في الدنيا وقد لا يكون في الدنيا وإنما يكون في الآخرة مثل الدعاء، الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فقد يعطيه الله سبحانه وتعالى ما طلب وقد يدفع عنه من السوء والبلاء والشرّ أعظم مما دعا وسأل وقد يؤخر الله تعالى هذه الدعوة فيجدها العبد أحوج ما يكون إليها يوم القيامة. كذلك قوله (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) فالخلف يختلف فقد يكون الخلف بأن الله إذا أنفقت ألفاً يعطيك ألفين وقد يكون الخلف إذا أنفقت بأن الله يعطيك إيماناً وصدقاً وقناعة بما كتب وليس الغنى كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس". (فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فهو سبحانه وتعالى من أسمائه الرزاق ومن صفاته الرزق فهو يرزق عباده سبحانه وتعالى ويعطيهم.
ثم قال سبحانه (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) خبر عن حالة المشركين حينما تقرع أسماعهم وأبصارهم هذه الأهوال أهوال يوم القيامة (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ) يسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي على صور الملائكة يقربوهم إلى الله زلفى فيقول الله للملائكة (أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ كما قال سبحانه في سورة الفرقان (أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)) وكما قال الله سبحانه وتعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) [المائدة:116]. وهكذا تقول الملائكة (سبحانك) تنزيهاً لك، تعاليت وتقدست على أن يكون معك إله (قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم) نحن عبيدك نبرأ إليك منهم ومن أوثانهم وشركهم وكفرهم بل لا نعبد إلا إياك، بل لا نعبد غيرك (أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) يعبدون الشيطان لأنهم هم الذين يزينون لهم عبادة الأوثان وهم الذين يضلونهم (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)) [مريم] تدفعهم إلى الكفر والمعاصي والشرك دفعاً.
(بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) كما قال تعالى (وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا) [النساء:117]. (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا) لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه لا من الأنداد ولا من الأوثان التي ادّخرتم عبادتها لهذا اليوم العظيم يوم الشّدَّة والكربة لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المشركون (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) فهم يكذِّبون بالبعث والجزاء وبالجنة والنار فيوم القيامة يصلون هذه النار التي كانوا يكذبون بها.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ) هذا نوع آخر من كفرهم فيُخبر الله عز وجل أنهم كانوا إذا تُلِيت عليهم آيات الله يسمعونها غضة طرية من لسان رسوله عليه الصلاة والسلام (قَالُوا مَا هَذَا) ما هذا التالي لها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم (إلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ) يريد أن تُعرضوا عن عبادة الأوثان وهم يرون أن التمسك بعادات الآباء والأجداد في عبادة الأوثان أنه من أعظم ما يكون من البقاء والثبات. وأظني ذكرت لكم قصة المغيرة والد الوليد أو غيره أنه لما حضرته الوفاة بكى وكان عنده جماعة من كفار قريش فقالوا ما يبكيك؟ -أظن هذا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم – قال ما أبكي جزعاً من الموت ولكني أخاف أن لا تُعبَد اللات والعزّى فقالوا اطمئن فلن نبرح عليها أو نترك عبادتها ما دمنا أحياء، والحمد لله أن الله خيّب ظنّ الباكي ومن حوله فبعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل حقيقة على عظيم ما كان يجابه الرسول عليه الصلاة والسلام من الأذى، أنواع السخرية والاستهزاء وفي هذا أسوة لكل داعٍ إلى الحق وكل داعية إلى الحق أن يصبر وأن يحتسب فهو أياً من كان الشخص لن يكون أعظم صدقاً وإخلاصاً ومكانة من الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أُنظر كلام الله سبحانه وتعالى وهذه الآيات التي تُتلى تبين وتوضح عظيم ما عاناه صلى الله عليه وسلم من الاستهزاء والسخرية بأنواع وأساليب متعددة متنوعة. (وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى) يعنون القرآن (وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ). قال الله (وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ) ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن أبداً وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد عليه الصلاة والسلام وكانوا يودّون ذلك لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب كما أنزل على غيرنا كما قال سبحانه وتعالى في الآية التي ستأتي (لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ) [فاطر:43] وهنا قال (وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ) فلما منّ الله عليهم بهذا النبي العربي المكّي القرشي وختم الله النبوة بهذه الرسالة عليه الصلاة والسلام عاندوه وجحدوا لكن فعلهم هذا وتكذيبهم وسخريتهم واستهزاؤهم ليس بدعاً (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) من الأمم (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم عُشر ما آتينا من قبلهم من القرون بكثرة المال والولد وطول العمر فأهلكهم الله كعاد وثمود وغيرهم. فإذا كانوا كذلك فهم أهون على الله ممن قبلهم.
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) ما بلغوا معشار ما آتينا أولئك الأقوام من القوة وطول العمر وسعة المال وكثرة الأولاد ومع ذلك ما رد عذاب الله عنهم فكيف يرد عذاب الله وبأسه عن هؤلاء. (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) يعني من القوة في الدنيا كما قال سبحانه (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (26)) [الأخقاف] (كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً) [التوبة:69] ومع ذلك ما دفع عنهم عذاب الله ولا ردّه بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) كيف كان نكالي وعقابي وانتصاري لرسلي.
ومع ذلك لا يزال الخطاب مع هؤلاء (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) افتُتح الأمر بالقول هنا وفي الجُمَل الأربعة بعدها للاهتمام بما احتوت عليه من التذكير والوعظ. والوعظ كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده، قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الذين يزعمون أنك مجنون وأنك ما تتلو عليهم من كتاب الله إثم مفترى قل لهم (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) آمركم بخصلة واحدة فقط، والمقصود بوصفها تقليلها تقريباً للأفهام واختصاراً في الاستدلال يعني دعونا من كلامكم جميعاً وأقوالكم، أعظكم فقط بواحدة (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) أن تقوموا قياماً خالصاً لله من غير هوى ولا عصبية ولا تقليد للآباء إنما تكونوا متجرّدين، إخلاص، فيسأل بعضكم بعضاً هل بمحمد صلى الله عليه وسلم من جنون؟ ينظر الرجل نفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويسأل نفسه هل هو مجنون فيكون الجواب لا، (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).
وهنا لما كان للإنسان الذي يطلب معرفة الحق والصواب له حالتان:
الأولى: أن يكون مناظراً مع الله
والثانية: أن يكون مناظراً لغيره.
أمرهم بهذه الخصلة الواحدة وهو أن يقوموا لله اثنين اثنين فيتناظران ويتساءلان بينهما، وواحداً واحداً يقوم كل واحد مع نفسه ويتفكّر في أمر هذا الداعي عليه الصلاة والسلام وما يدعو إليه ويستدعي أدلة الصدق والكذب هل تنطبق عليه أو لا تنطبق؟ ويعرض ما جاء به عليه الصلاة والسلام على هذه الأدلة ليتبين له حقيقة الحال، فهذا هو الحِجاج الجليل وهذا هو الإنصاف البيّن وهذا هو النصح التام أما مجرد إلقاء التهم جزافاً هكذا فهذا لا ينفع ولا يُجدي ولا يوصل إلى الحق فالله سبحانه وتعالى يدعوهم إن كانوا صادقين يقوموا هذا القيام. (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) يجتمع اثنين ويتناقشان يتساءلان وأيضاً كل واحد يسأل نفسه هذا رسول من عند الله صلى الله عليه وسلم يأتي بالوحي صباح مساء هل يمكن وهذه أخلاقه وهذه سيرته وهذه عادته وكنتم تلقبونه بالأمين ونشأ من بينكم؟ طبعاً هم من أراد الله تعالى به خيراً ونصح لنفسه فكر في الأمر واتّبع.
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ذات يوم فقال يا صباح فاجتمعت إليه قريش، قالوا ما لك؟ فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم ويمسّيكم أكنتم تصدقونني؟ قالوا بلى فقال إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّاً لك ألهذا جمعتنا؟! فنزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد:1] وقد تقدّم هذا عند قوله (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214].
(قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) هنا أيضاً يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يأمره أن يقول للمشركين (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) لا أريد منكم عطاء ولا جُعلاً على أداء رسالة الله، كما مرّ في قول الرسل عليهم الصلاة والسلام كل رسول يقول لقومه (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله) إن أجري إلا على رب العالمين أطلب ثوابي من الله (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هو عالم بجميع الأمور بما أنا عليه من إخباري عنه بإرسالي برسالتي التي حملني غياها وما أنتم عليه (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو سبحانه وتعالى مطّلع لا يخفى عليه شيء.
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يرمي الباطل بالحق فيدمغه يعني أن الحق يدمغ الباطل. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الغيب هو: الأمر الذي غاب عن الإنسان وخفي عليه جداً فالله تبارك وتعالى لا تخفى عليه خافية كما قال تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) [غافر:15] يرسل الملك إلى من يشاء من عباده من أهل الأرض فهو علام الغيوب لا تخفى عليه خافية (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). وهنا لاحظ أن الآية جاءت بلفظ (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) كما قال تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) والقذف فيه قوة وهكذا الحق قوياً (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) ما قال يُلقي أو يُعطي قال (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ).
(قُلْ جَاء الْحَقُّ) وهو التوحيد أو الإسلام أو الشرع (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) بل الباطل يذهب ويضمحل ويزول ويفنى ويزهق كما قال سبحانه وتعالى (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81] وهذه الآية لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المسجد الحرام يوم الفتح ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الأصنام بعصى كانت معه بمحجن ويقرأ هذه الآية ويقول (قُلْ جَاء الْحَقُّ) (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) كما في صحيح البخاري ومسلم. فهنا يقول الله تعالى (قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) لم يبقَ للباطل مقالة ولا رئاسة ولا كلمة ولا نفوذ.
(قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) فالخير كله من عنده سبحانه وتعالى وفيما أنزل من الوحي والحق.
ثم قال سبحانه مبيناً مشهداً من مشاهد أخذ هؤلاء المشركين وإنزاله العقوبة بهم فقال (وَلَوْ تَرَى) يا محمد (إِذْ فَزِعُوا) إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة (فَلَا فَوْتَ) أي لا مفر ولا وزر ولا ملجأ لهم (وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) أي لم يكونوا يُمنعون ولم يستطيعوا الهرب بل أُخذوا من مكان قريب من أول وهلة قال الحسن البصري: "يعني لما خرجوا من قبورهم" والصحيح: أن المراد بذلك يوم القيامة فيوم القيامة سياق الآيات يدل عليه أنهم أخذوا من مكان قريب. (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) يعني يوم القيامة يقولون آمنا بالله وبرسله وكتبه لكن هذا لا ينفع قال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة:12] ولهذا قال (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) والتناوش قال الزُهريّ: تناولهم الإيمان وهم في الآخرة وقد انقطعت عنهم الدنيا، وقال مجاهد: "(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) يعني التناول لذلك" يعني أنه حيل بينهم –كما تفسرها الآية التي بعدها-وبين الإيمان، (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) التناوش: أخذ الشيء من بُعْد، بَعُد عنهم الإيمان لأنه لما قامت القيامة لم ينتفع هؤلاء الكفار بإيمانهم وقد قامت القيامة فإنه إذا قامت القيامة انتهى وقت الإيمان. (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ) هم طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتوبوا ويؤمنوا لكن حيل بينهم وبين ذلك. (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ) أي كيف يحصل لهم الإيمان بالآخرة وقد كفروا بهذا في الدنيا؟! (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) يقذفون بالظنّ كما قال تعالى (رجماً بالغيب) يقولون شاعر كاهن ساحر مجنون وغير ذلك من الأقوال الباطلة ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد ويقولون (إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية:32] .
ثم قال تعالى (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) وهي التوبة والرجوع من هذه الدنيا، حيل بينهم وبين ما يشتهون إما ما يشتهون من مال وزهرة الدنيا ومتاعها وأهليهم أو حيل بينهم وبين الإيمان قولان لأهل العلم ولا منافاة كما قال الحافظ بن كثير أنه لا منافاة بين القولين فإن قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وحيل بينهم وبين ما طلبوه في الآخرة فمُنِعوا منه كما فُعِل بأشياعهم الكفرة السابقين لهم في الأمم الماضية التي كذبت الرسل لما جاءهم بأس الله إنهم كانوا في الدنيا في شك وريبة ولهذا لم يتقبل منهم الإيمان لما عاينوا عذاب الله سبحانه وتعالى قال قتادة: "إياكم والشك والريبة فإنه من مات على شك بُعث عليه ومن مات على يقين بعث عليه". وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
-----------------------------------------
المصدر: ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
(لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) يعني لا يغيب عنه جلّ وعلا شيء معها حتى العظام إذا تفرقت في الأرض وذرات الجسم إذا تفرّقت في التراب فإن الله سبحانه يعلمها قال تعالى (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) [ق:4] ،(لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) قد يقول قائل هنا قال تعالى (وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ) واضح ولكن لماذا قال (وَلَا أَكْبَرُ)؟ إذا كان الصغير واضحاً فالكبير من باب أولى أن يكون ظاهراً واضحاً، لعله -والله أعلم- لكي يعلم العباد أن الدقيق الصغير ليس بخفيّ على الله سبحانه وتعالى وكذلك الكبير من باب أولى فلا يظن ظانّ أنه إذا ضُبط الصغير وحفظ أنه قد يضيع منه الشيء الكبير لأنه يكتب لا. لأن بعض الناس إذا كان دقيقاً -ولله المثل الأعلى- يحصي الأمور الدقيقة قد يفوت عليه شيء كبير لأنه ما ألقى له بال، المخلوق يعني لكن الله سبحانه وتعالى مع حفظه لهذا الدقيق والصغير فحفظه وعلمه بهذا الدقيق والصغير لا يشغله جل وعلا عن معرفة وعلم الكبير بخلاف المخلوق فإن المخلوق بعض الناس تجده يهتم بصغائر الأمور ودقائقها والأشياء الخفية والضعيفة لا يضبطها فلربما فات عليه وانشغل بهذا الدقيق عن حفظ وضبط الأمور الكبيرة أما الله جل وعلا فكما أنه لا يخفى عليه الصغير من ذرات الكون وما في السموات وما في الأرض فكذلك لا يخفى عليه الكبير ولهذا قال (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ.
ثم بيّن حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). إذن الساعة الله سبحانه وتعالى قال (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) لماذا تأتي الساعة؟ لماذا تقوم؟ ليجزي الذين آمنوا عن الساعة يوم القيامة حق لا ريب فيه لتجزى كل نفس بما تسعى (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى هذه التصديق (أولئك) هؤلاء لهم مغفرة من الله سبحانه وتعالى ولهم رزق كريم في الجنة.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا) هذا مقابل هؤلاء الصنف وإذا ذكر الأخيار ذكر الأشرار كما هي طريقة القران الكريم (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال (أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) وهم الأشقياء الكفار الذين يظنون أنهم يفوتون الله سبحانه وتعالى أو يسبقونه (مُعَاجِزِينَ) يعني ظانين أنهم يفوتون الله أو أنهم يعجزونه كما قال سبحانه (وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) [الإسراء:49] فهم يظنون أنهم يفوتون الله وأنهم يعجزونه وأنه لا يقدر عليهم جلّ جلاله.
قال (أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ) فلهم العذاب جزاء كفرهم وإنكارهم لعلم الله وتكذيبهم بالساعة وتذكيبهم لرسل الله وما جاءوا به كما قال سبحانه وتعالى (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:20] وقال سبحانه (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28] فهم لا يستوون.
/ ثم قال تعالى (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهذه حكمة أخرى هي معطوفة على التي قبلها أن المؤمنين بما أنزل الله على رسله إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا يعملونه حينئذ يرون عين اليقين ليس فقط علم اليقين بل يرون عين اليقين صدق ما وعد الله ويقولون حينئذ (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) ويقولون (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) كما قال الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الروم:56] ، (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) وهذه منقبة وفضيلة لأهل العلم العاملين بعلمهم لأنهم هم ورثة الأنبياء فهم ورثوا الأنبياء ويعلمون أن وعد الله آتٍ لا ريب فيه.
(الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) وهو القرآن (وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) يدل ويرشد الى الصراط الحق صراط العزيز المنيع الجناب سبحانه وتعالى الذي لا يُغالَب ولا يُمانع فله العزة عزة القدر وعزة القهر وعزة الامتناع. الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره وهو المحمود في ذلك كله.
/ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذا القول الثاني (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) والقول الأول (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ)، طبعاً الآية السابقة في قوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) نشير فيه الى أن هذا دليل ظاهر أن الذي يراه الانسان يعارض بعقله للشرع ويُقدّم العقل على الشرع أنه ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير لأن العلم كله ميراث ووحي فقوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فيه فضيلة ظاهرة لأهل العلم وأيضاً دليل على أن الذي نراه معارضاً للعقل أو أحد يقدِّم العقل عليه إنه ليس من الذين أوتوا العلم لأن شأن الذين أوتوا العلم أنهم يستسلمون للوحي وأنهم لا يعارضون الوحي بعقولهم أبداً فإذا ما عارض الانسان عُلِم أنه ليس من الذين أوتوا العلم وإنما هو ممن يحب المجادلة والمخاصمة فيه بغير هدى ولا كتاب منير كما قال الله سبحانه عمن أوتي علماً لم ينفعه علمه قال الله عز وجل عن هؤلاء غير قوله (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) [الجمعة:5] قال (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) [غافر:83] وهذه آية تنطبق على كل من قدّم العقل على علوم الشريعة علماً أنه الحمد لله علوم الشريعة لا تعارض العقول الصحيحة المستقيمة المستنيرة.
قال الله بعد ذلك (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) هنا واضح أن الكفار يستبعدون قيام الساعة ويستبعدون البعث بل ويزيدون على ذلك الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن قيام الساعة والدليل على استهزائهم قولهم (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) إذا تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت واضمحلت (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) يعني بعد هذه الحالة ستعودون أحياء تقومون من قبوركم أحياء؟! وهذا المُخبِر بهذا الخبر-عندهم هم- يقولون لا يخلو من حالين: إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله لأنهم هنا يقولون (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أو أنه قد أُوحي إليه ذلك ولم يتعمّد الكذب. هم يقولون افترى على الله الكذب الأول أنه كذّاب افترى على الله الكذب وأن الله ما أوحى إليه بذلك، هذا الأمر الأول، والثاني أنه ما تعمّد الكذب ولكنه لُبِّس عليه في عقله فصار معتوهاً ومجنوناً. هل هناك قسم ثالث؟ في الواقع هناك قسم ثالث لكنهم هم عمُوا عن هذا ،هم حصروا القضية في أمرين اثنين إما أن يكون تعمّد الكذب على الله وأخبر أن الناس سيُبعثون ولا بعث، أو أنه لم يتعمّد الكذب لكن لُبِّس عليه كما يحصل للمجانين والمعتوهين ولهذا قالوا (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ) قال الله تعالى راداً عليهم وأن الأمر ليس كذلك قال الله (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) يعني ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه بل محمد صلى الله عليه وسلم صادق في ما جاء به من الحق وهم الكذبة الجهلة المفترون (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) في العذاب في الدنيا؟ أم في العذاب في الآخرة؟ أم في كليهما؟ هم في عذاب الكفر والشرك والبعد عن الله وأيضا في الآخرة في العذاب الشديد والضلال البعيد من الحق.
ثم نبّه سبحانه وتعالى على قدرته العظيمة في خلق السموات والأرض يعني كيف ينكرون البعث والله جل وعلا له الآيات في السموات وفي الأرض تدلّ على عظيم خلقه وأنه لا يعجزه شيء فقال (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ) فإلى أي مكان يتوجهون فإنهم يرون الآيات العجيبة (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47 ) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)) [الذاريات] قال قتادة: "أفلم يروا إلى ما بين أيديهم من السماء والأرض" أنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك أو من بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض بل وفي كل شيء له آية تدل على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى وأنه خالق كل شيء وأنه لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.
ثم هددهم فقال (إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء) لو شئنا لفعلنا بهم ذلك. أحد الأمرين:
أولاً أننا نخسف بهم الارض كما فعلنا بقارون وبقرى قوم لوط
ثانيا أو نسقط عليهم كسفاً قطعاً من السماء كما صنعنا بقوم شعيب بمدين
(إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) وعلامة ودلالة (لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) أي تائب. قال قتادة: "المنيب المقبل على الله عز وجل". فالنظر في خلق السماء والأرض يدل على عبد لبيب فطن رجّاع إلى الله توّاب، يدله على قدرة الله سبحانه على بعث الأجساد ووقوع المعاد لأن من قدر على خلق هذه السموات الشداد في ارتفاعها بلا عمد ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه واتساعها وهذه الأرض في انخفاضها وأطوالها وعرضها وما فيها من جبال وأودية وشعاب ونبات لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) [يس:81]
بل قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [غافر:57] .
/ ثم قال تعالى منتقلاً الى قصة عبده ورسوله داوود عليه الصلاة والسلام فقال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وسبقت الإشارة الى قصة داوود في سورة الأنبياء وفي سورة النمل فداوود أعطاه الله الفضل، والفضل هنا قال بعض المفسرين هو النبوة (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا) وقيل الفضل هو الزبور وقيل العلم وقيل القوة وقيل تسخير الجبال والناس وقيل التوبة وقيل الحكم بالعدل وقيل إلانة الحديد وقيل حُسن الصوت، ذكر هذه الأقوال القرطبي في تفسيره وهذا عند العلماء من اختلاف التنوّع ومن القواعد المقررة عند العلماء في علم التفسير: أن الآية الكريمة إذا كانت تحتمل أقوالاً عديدة فإنها تحمل على هذه الأقوال كلها لأن كلام الله أوسع وأشمل. فالله جل وعلا آتى داوود النبوة (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [النساء:163]
وأعطاه الله العلم (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) [النمل:15]
وأعطاه الله القوة وسخر له الجبال والناس وتاب عليه وأعطاه الحكم بالعدل وألان له الحديد وجعل له صوتاً حسناً.
(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) يعني رجّعي معه ترجّع الجبال معه والنبي عليه الصلاة والسلام لما سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ كما في الصحيح وقف واستمع لقراءته وقال لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داوود.
(وَالطَّيْرَ) أيضاً فالجبال تسبح مع داوود وترجّع معه والطير كذلك
(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جعل الله الحديد في يده كالعجين فلا يحتاج أن يسخنه على النار ولا يُدخِل عليه شيء يفتله كما يفتل الإنسان العجين، وقيل: أنه أول من صنع الدروع ولهذا قال الله (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) أي دروعاً سابغات (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) وهذا إرشاد من الله سبحانه وتعالى لداوود في تعليمه صنعة الدروع، قال مجاهد: "(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة ولا تغلّظه فيفصمها واجعله بقدر، وقيل لا تغلّظه فيفصم ولا تُدقّه فيقلق" يعني يكون المسمار بقدر مكانه فلا يكون واسعاً ولا ضيقاً حتى يستطيع اللابس للدرع أن يتحرك وحتى لا يكون على الدرع خلل. والدروع هي التي تلبس وقاية في الحروب.
(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ (وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وكان داوود عليه السلام يأكل من عمل يده ويصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان أعبَدَ الناس وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان لا يفرّ إذا لاقى وقد مرّ بكم قول الله تعالى (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء) [البقرة:251]. (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) بالذي أعطاكم من النعم (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي مراقب لأعمالكم بصير بأعمالكم وأقوالكم لا يخفى على الله من ذلك شيء.
طبعاً يقول ابن العربي المالكي يعلق على قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا) أحد الأقوال أنه حسن الصوت يقول: "والأصوات الحسنة نعمة من الله تعالى وزيادة في الخلق ومنّة وأحق ما لُبِست هذه الحُلّة النفيسة والموهبة الكريمة كتاب الله فنِعم الله إذا صُرفت في الطاعة فقد قضى بها حق النعمة". لأن بعض الناس يكون عنده صوت حسن فيصرفه لغناء ونحو ذلك فهذا لم يشكر هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليه فأحق ما صرفت فيه هذه النعمة -حسن الصوت- على القول أن المراد بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا) حسن الصوت أحق ما صُرِفت فيه هذه النعمة في الترنم و الترتيل لكتاب الله عز وجل. ثم قال تعالى (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) هنا سليمان عليه الصلاة والسلام ابن داوود سبقت الإشارة الى قضيته بتوسع في سورة النمل وما أعطاه الله سبحانه وتعالى من الخيرات وأن من ذلك الريح قال الله (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال بعض أهل العلم: لم يقل غدوها ورواحها شهران ولعل السر في ذلك -والله أعلم- أن في هذا تحديداً لمدة سيرها من أول النهار الى منتصف النهار ومن منتصف النهار الى غروب الشمس بينما لو قال غدوها ورواحها شهران لم يتضح هذا الفرق الدقيق. (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) يعني أنها تسير من الصباح إلى منتصف النهار ما يقطعه الإنسان في شهر، ثم تسير من منتصف النهار إلى الغروب ما يقطعه الإنسان في شهر، والغدو: السير أول النهار، والرواح: آخر النهار.
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) وهذه من نعم الله على نبيه سليمان عليه السلام أن الله جل وعلا جعل النحاس مذاباً، قال قتادة: "كانت باليمن فكل ما يصنع الناس هو مما أخرج الله لسليمان عليه السلام"، وقيل أنها سيلت له ثلاثة أيام. وأيضاً سخر الله الجن (وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) بقدرة الله ومشيئته (وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) من يعمل منهم ويخرج عن الطاعة نذقه عذاب السعير فإنه يُحرَق ويؤدب. وقد جاء أن سليمان عليه السلام ملّكه الله سبحانه وتعالى وأعطاه هذه القدرة وأنه مما يعمل له الجن (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ) وهو البناء الحسن أو المساجد أو القصور (وَتَمَاثِيلَ) والتماثيل الصور قيل أنها من غير صور ذوات الأرواح وقيل أنها من صور ذوات الأرواح وقد كان ذلك جائزاً ثم حُرِّم في الإسلام أن يعمل الإنسان الصور (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) يعني أقدرهم الله على أنهم يعملون لسليمان القصاع الكبيرة للطعام كالجوبة في الأرض كالحياض يعملون له هذه الأشياء للأكل (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ) يعني ثابتات في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك من أماكنها لعظمتها (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) أي قلنا لهم اعملوا شكراً على ما أنعم الله به عليكم من نعم الدين والدنيا (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وقد كان داوود عليه السلام شاكراً وسليمان عليه السلام كان شاكراً.
ثم أخبر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك عن كيفية موت سليمان وكيف عمّ الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة فإنه مكث متوكأ على عصاه أي منسأته مدة طويلة قيل نحواً من سنة كما جاء عن ابن عباس (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ) أي دلّ الجنّ على موت سليمان (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) يعني تأكل عصاه (فَلَمَّا خَرَّ) أي سقط سليمان عليه السلام (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) تبين أمرهم للناس وأنهم يكذبون على الناس وأنهم لا يعلمون الغيب والدليل لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في الأعمال الشاقة الشديدة هذه المدة الطويلة. والله الموفق.
المجلس الثاني:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الله تبارك وتعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) ذكر الله في هذه السورة سورة سبأ قصة سبأ وقصة هؤلاء القوم عجيبة جداً فهي تدل على أن من كفر نعم الله سبحانه وتعالى فإن الله جل وعلا يعاقبه كما قال تعالى (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل:112] كانت سبأ ملوك اليمن وأهل اليمن والتتابعة منهم ويقال أن بلقيس صاحبة سليمان التي سبق ذكرها في سورة النمل يقال أنها كانت منهم وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم ورزق وثمار دانية وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم بأن يأكلوا من رزق الله وأن يشكروا له وأن يعبدوه وحده لا شريك له (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا) وقد جاء في مسند الإمام أحمد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو رجل، أم امرأة أم أرض؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم بل (هو رجل وُلِد له عشرة من الولد فسكن اليمن منهم ستّة وسكن الشام منهم أربعة فأما اليمانيون فمبحِج وكِندة والأزد والأشعريون وأنمار وحِميَر وأما الشامية فلخْمٌ وجُذام وعاملة وغسّان). قال الحافظ بن كثير وهذا إسناد حسن. وجاء أيضاً بسند جيد في المسند من حديث فروة بن مسيب قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال نعم، قاتل بمقبل قومك مدبرهم، فلما ولّيت دعاني وقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فقلت يا رسول الله أرأيت سبأ أوادٍ هو أو رجل أو ما هو؟ قال بل رجل من العرب ولِد له عشرة فتيامن ستة وتشاءم أربعة) -يعني اتجه لليمن ستة واتجه للشام أربعة- تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومبحِج وأنمار الذين يقال لهم بجيلة وخثعم، وتشاءم لخم وجذام وعامل وغسان وهذا سنده جيد كما قال الحافظ بن كثير. قال علماء النسب ومنهم محمد بن اسحق: اسمه سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وإنما سُمّي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنِم في الغزو فأعطى قومه فسمي الرائش والعرب تسمي المال رياشاً وريشاً لأن عادة العرب ما كانوا يسبون فلما سبى سمي سبأ. فالمهم أن قوله صلى الله عليه وسلم (رجل من العرب) يعني من العرب العاربة الذين كانوا قبل إبراهيم الخليل عليه السلام من سلالة سام ابن نوح أو على قولهم أنه من سلالة الخليل عليه السلام، المهم أنه جاء من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن. وذكروا أنه لم يكن ببلدهم شيء من المنغِّضات أو المزعجات والبعوض والذباب والبراغيت كانت بلدة طيبة معتدلة الهواء صحيحة.
فسر الله قوله (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) فسّر الآية بقوله (جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ) يعني من ناحية الجبلين والبلدة بين ذلك (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) غفور لكم إن عبدتموه وحده لا شريك له فأعرضوا عن توحيد الله عز وجل وعبادته وأعرضوا عن شكره على هذه النعم التي أنعم بها عليهم وعدلوا إلى عبادة الشمس كما قال هدهد سليمان (وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)) [النمل] .
قيل إنه بُعِث لهم عدد كبير من الأنبياء فلما أعرضوا وصدّوا وكذبوا المرسلين قال الله (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) يعني السيل الشديد أو سيل العرم المراد بالعرم: الوادي ، وقيل: الجُرذ الذي نقب السدّ فانهدّ عليهم السد وأغرقهم ماؤه بأمر الله عز وجل وقيل العرم: الشديد القوي (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) فأهلكهم الله سبحانه وتعالى ثم مع إهلاكهم وخراب سدّهم خرّب الله عز وجل جميع البلد، لما انهدّ السد خرّب جميع ما لديهم من الأشجار والأبنية وغير ذلك ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة كما قال الله (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ) وهو الأراك، خمط هو: الأراك قيل، (وَأَثْلٍ) وهي الطرفاء، ولما كان أجود هذه الأشجار المبدّلة هو السدر قال (وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) فهذا الذي حوّل الثمار النضيجة النافعة حولها إلى اشجار غير نافعة وغير مثمرة هو شؤم المعصية وتكذيب المرسلين -عليهم السلام- والكفر بالله ولهذا قال (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا) وفي هذا درس لكفار قريش الذين يعشون في مكة وهي بلاد آمنة مطمئنة (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا) [القصص:57] فهذا فيه درس لكفار قريش ولكل من شاء الله إلى يوم القيامة أن الإنسان إذا كان في نعمة إذا كنت في نعمة فارعها **فإن المعاصي تزيل النِعم
ثم بعد ذلك قال الله (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) عاقبناهم بكفرهم قال الحسن البصري: "صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور" ولهذا روى ابن أبي حاتم عن ابن خيرة وكان من أصحاب عليّ رضي الله عنه قال: "جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعسر في اللذة قيل وما ما التعسر في اللذة؟ قال: لا تصادفه لذة حلال إلا جاءه من ينغّصه إياها".
ثم ذكر الله جل وعلا شيئاً من العقوبات المتوالية على هؤلاء القوم (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) كانوا قبل ذلك في نعمة وغبطة وسرور حتى إن الواحد منهم يسافر ولا يشعر بألم السفر أبداً من كثرة الأشجار وكثرة الثمار بحيث أن المسافر ما يحتاج أن يحمل معه زاد ولا ماء لأنه إذا خرج من قرية قبل ما يصيبه العطش أو الجوع وإذا هو يدخل القرية التي تليها فحيث نزل وجد ماءا وثمراً يقيل في قرية ويبيت في أخرى ولهذا قال (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) صار السير مقدّراً بحيث أنه يخرج من أول النهار إلى منتصف النهار فيقيل في قرية ثم يخرج من هذه القرية منتصف النهار وفي الليل يكون في قرية تليها وهكذا ومعلوم أن المسافر إذا كان الذي يحمله على السرعة -في الغالب- في سفره إما خوف انقطاع الطعام والشراب أو قلة الأمن فإذا وجد الأمن ووجد الطعام والشراب صار المسافر آخذا كامل راحته في سفره كما هنا (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) فالأمن حاصل لهم في سيرهم سواء كان بالليل أو كان بالنهار فهنا ملّوا هذه النعمة (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ملّوا حياة الرفاهية والنعيم وتيسير السفر ملّوا هذه النعمة (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) وقرأ آخرون جماعة من القٌراء (بعِّد بين أسفارنا) بطروا هذه النعمة كما قال ابن عباس احتاجوا إلى أنهم يقطعون مفاوز طويلة كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يُخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ماذا قال لهم موسى؟ (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة:61] وهؤلاء مثلهم قال الله (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) [القصص:58].
(وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) يعني جعلناهم أحاديث للناس وسمراً يتحدثون به من بعدهم كما يقول الناس في ضرب المثل تفرق بني فلان أيدي سبأ ويقولون تفرقوا شدر مذر، ويقولون أيادي سبأ، يعني صاروا مثلاً للناس. (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) في هذا الذي حلّ بهؤلاء القوم بسبأ من النقمة والعذاب وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة عليهم فيه موعظة وعبرة لكل عبد صبّار على المصائب شكور على النعم وهذه حالة المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن". وكان مُطرّف يقول: "نِعْمَ العبد الصبّار الشكور الذي إذا أُعطي شكر وإذا ابتُلي صبر".
ثم لما ذكر الله تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى فقال (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإبليس عدو الله هنا ظنّ ظناً وهم اتبعوا هذا الظنّ الذي ظنّه وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبليس حين امتنع عن السجود لآدم (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء:62] وقال (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:17] فهنا قال (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) من أهل الإيمان (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ) ما له حجة، الشيطان، قال الحسن البصري: "والله ما ضربهم بعصى ولا أكرههم على شيء وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه". (إِلَّا لِنَعْلَمَ) إنما سلطانه على العبد ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة وبيوم القيامة والحساب والجزاء فيحُسن في عبادة الله في هذه الدنيا ممن هو من الآخرة والقيامة والبعث في شك (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي ومع حفظه جل وعلا ضل من ضل من أتباع إبليس وبحفظه جل وعلا وكلاءته سلِم من سلِم ممن أراد الله تعالى بهم خيراً من المؤمنين الذين اتبعوا المرسلين.
ثم قال تبارك وتعالى مبيناً أنه الواحد الأحد الذي لا يجوز أن تُصرف العبادة إلا له فقال رادًا على المشركين (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ) من الشركاء والآلهة التي عبدتم (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) كما قال تعالى (والذين تدعون من دونه ما يملحون من قطمير) (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا) الأولى: لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات، والثاني: ما لهم في السموات والأرض من شرك ما يشاركون الله فيها أبداً فهم لا يملكون استقلالاً ولو على سبيل الشراكة، (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) ما لله عز وجل من هذه الأنداد من ظهير ومعين يستظهر في الأمور ويعينه بل الخلق كلهم فقراء لله سبحانه وتعالى. ماذا نفى الله؟ نفى أن يكونوا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض والثانية نفى أن يكون لهم مشاركة، ثالثاً نفى أن يكون الله جل وعلا مستعيناً بهؤلاء إطلاقاً في خلق السموات والأرض أو في تدبير أمر السموات والأرض فما بقي شيء إلا الشفاعة والواسطة فقال الله (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ) عند الله تبارك وتعالى، الشفاعة في لغة العرب: هي مقارنة الشيئين ومن ذلك الشفع خلاف الوتر والمراد بالشفاعة في الاصطلاح: هي التوسط للغير لجلب منفعة أو دفع مضرة. الآن نفى الله جل وعلا عن آلهة المشركين أن تكون تملك مثقال ذرّة في السموات وفي الأرض ثم نفى أن تكون لها شراكة في الكون والخلق ثم نفى أن تكون هذه الآلهة معاوِنة لله سبحانه وتعالى، فما بقي إلا واحد، قد يقول قائل إنها تشفع كما قال الله عن المشركين أنهم قالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3] وقال (هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ) [يونس:18] لم يبق إلا الشفاعة فقال الله (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ) عند الله (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) هذا الشرط الأول، هل هذه الآلهة تشفع؟ لا تشفع، لماذا لا تشفع؟ لأن الله لا يأذن لها ولا يرضاها، والشفاعة لها شرطان: الشفاعة لا تكون إلا إذا أذن الله للشافِع أن يشفع ورضي عن المشفوع له كما قال سبحانه وتعالى (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) [النجم:26] فهل الله سبحانه وتعالى يأذن لآلهة المشركين أن تشفع؟ لا، وهل يرضى عن المشركين في عبادتهم لهذه الآلهة؟ لا، وهل يرضى عن الآلهة أنها عُبِدن من دون الله؟ لا، إذن انتفى كل شيء ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدّتها عليهم أحكم سد وأبلغه وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع فإذا لم يأذن له لا يتقدم للشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها وأما رب العالمين فكل أحدٍ فقيرٌ إليه فإنه سبحانه وتعالى لم يأذن فيها ولا يمكن أن يتقدم أحد يشفع بدون إذنه سبحانه وتعالى أبداً. إذن هذه الآية تدل على أنه يجب إخلاص العبادة لله وقطع النظر عما سواه من الأوثان والأشجار وقبور الصالحين والأولياء والأنداد كما يفعل في بعض البلدان والعياذ بالله ممن يتوجهون إلى أصحاب القبور ويذبحون القرابين والنذور إليهم ويتوسلون إليهم يقول يا سيد فلان أنا في حسبك ارزقني ولداً، أعطني كذا، والعياذ بالله! وهذا هو الشرك الأكبر ولقد أحسن حافظ ابراهيم حين قال:
أحياؤنا لا يُرزقون بدرهمٍ ** وبألف ألف يُرزق الأموات
من لي بحظّ النائمين بحفرة ** قامت على أعتابها الصلوات
ويقال: "هذا الغوث باب المصطفى" يعني أنهم يتقربون إلى أصحاب القبور وهؤلاء الأولياء ويذبحون النذور والقرابين ويتوسلون إليهم وأحدهم معرض عن عبادة الله الواحد القهار الذي بيده الدنيا والآخرة وإليه يرجع الأمر كله فالله سبحانه وتعالى هنا يقول بعض العلماء عن هذه الآية يقول: "هذه الآية قطعت جميع عروق الشرك فيجب إخلاص العبادة لله وقطع النظر عما سواه حال أداء العبادة التي علمناها النبي عليه الصلاة والسلام، يجب الابتعاد عن الشرك ووسائل الشرك والأسباب المؤدية إليه وطلب الزلفى لديه والتوسل إليه سبحانه وتعالى بما شرع من الأعمال الصالحة التوسل بأسمائه الحسنى، التوسل بصفاته العليا، بدعوة أخ صالح في ظهر الغيب، هذه الواسطة المقبولة والوسيلة المشروعة التي يدل عليها صريح المنقول الموافق لصريح المعقول كما يقول ابن تيمية. (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ) يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا ماذا قال ربكم؟ قيل لهم الحق، وأخبروا أنهم في الدنيا لاهين، هذا قول لبعض المفسرين. وقيل: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ) هم الملائكة عليهم الصلاة والسلام وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان". (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ) يعني زال الغشي عن قلوب الملائكة عليهم الصلاة والسلام (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) يعني هم يفزعون ويصيبهم الغشيّ لعظمة الرب تبارك وتعالى وما تكلّم به (قَالُوا) للذي قال (الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض وصف سفيان بيده فحرّفها وبددها كما سبق في دروس ماضية فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها إلى لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها ألف كذبة فيقال أليس قال لنا يوم كذا، كذا وكذا؟ فيصدَّق بتلك الكلمة التي سُمِعت من السماء، هذا الحديث قوله (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) إذا الشفاعة لا تكون إلا لمن يأذن الله له ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم وأكبر شفيع عند الله لأن الله أعطاه المقام المحمود ليشفع في الخلق جميعاً قال صلى الله عليه وسلم (آتي تحت العرض فأسجد فيدعني الله ما شاء أن يدعني ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن ثم يقال يا محمد ارفع رأسك وقُل يُسمع وسلْ تُعطى واشفع تُشفّع)، فهو يشفع عليه الصلاة والسلام والملائكة تشفع والمؤمنون يشفعون لكن لا يشفع أحد إلا بهذين الشرطين:الرضى والإذن. (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فهو سبحانه وتعالى العليّ الذي لا أحد أعلى منه ولا أعظم منه وهو الكبير الذي لا أحد أكبر منه.
ثم قال تبارك وتعالى مخاطباً هؤلاء المشركين مقيماً الحجة عليهم مقرراً لهم أنه المتفرد بالخلق والرزق والإلهية أيضاً (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) العلماء يقولون أن هذا من باب التنزّل مع المخاطَب لأنه معلوم أن عبد الله وحده لا شريك له أنه هو الذي على هدى ومن عبد الأصنام فهو الذي على ضلالة لكن هذا من باب التنزل ومع ذلك جاءت الآية بأسلوب عجيب اشتملت في جانب الحق قال الله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى) مثل قول الله عن المؤمنين (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) [البقرة:5] وصف الله أهل الإيمان بأنهم على الهدى يعني متمكنون مثل الشخص الذي ركب على جواده وتمكن من ركوبه واستقرّ في مكانه وكذلك أهل الإيمان هم مقتنعون بالحق الذي هم عليه وبأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له وهم مطمئنون لهذه العقيدة راسخون عليها، باقون عليها (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) استعمل "في" هنا في جانب الباطل و"على" في جانب الحق لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ يرقب بنظره كيف شاء الأشياء ظاهرة لا فيها خفاء ولا غموض أما صاحب الباطل فكأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجه كما قال الله سبحانه وتعالى (كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام:122] وقال (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) [النور:40] فهذه الظلمات ظلمة الشك والكفر والريب كلها اجتمعت.
هنا يقول (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) إذا كان الله فإذا يجب أن يفرد بالعبادة لا شريك له، هم يقولون لا، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) أي واحد من الفرقين مُبطِل والآخر مُحِقّ ولا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال بل لا بد أن يكون المصيب هو واحد من الفريقين ونحن قد أقمنا البرهان على توحيد الله سبحانه وتعالى فهذا يدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله سبحانه وتعالى ولهذا قال (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) قال قتادة: "قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين والله ما نحن وإياكم على أمر واحد وإن أحد الفرقين لمهتدٍ".
ثم قال تبارك وتعالى (قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا التبري منهم يعني لستم منا ولا نحن منكم بل نحن ندعوا الله وحده لا شريك له بل نحن ندعوا الله وحده نفرده بالعبادة فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم وإن كذّبتم فنحن برآء منكم وأنتم برءاء منا كما قال تعالى (قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا) يعني يوم القيامة يجمع الخلائق في صعيد واحد (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ) يحكم بيننا بالعدل ويجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) هو القاضي بين خلقه سبحانه وتعالى الحاكم العادل العالِم بحقائق الأمور.
ثم قال تعالى (قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء) يعني أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله سبحانه وتعالى أنداداً وصيرتموها له عدلاً، (كَلَّا) ليس له نظير سبحانه وتعالى ولا شبيه ولا شريك ولا عديل بل هو الله الواحد الأحد الصمد الذي لا شريك له العزيز: ذو العزة التي قهر بها كل شيء وغلب بها كل شيء، الحكيم جلّ وعلا في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره تعالى وتقدّس.
ثم قال تعالى مخبراً عن رسالة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم به النبوة والرسالة فقال (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) أي إلى جميع الخلق من المكلّفين وقيل إن (كافة) يعني لتكفّ الناس عن الشرك إلى التوحيد وعن الضلالة إلى الهدى (بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) كما قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103] .
ثم قال تبارك وتعالى (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) مرة أخرى ذكرٌ لبيان استبعاد الكفار قيام الساعة لأن السورة سورة مكية فلا بد من التركيز على البعث والجزاء والحساب فقال الله هنا (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) كما قال تعالى (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) [الشورى:18] قال الله مهدداً لهم (قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ) لكم ميعاد مؤجل معدود لا يمكن أن تتأخروا عنه لحظة من اللحظات ولا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [نوح:4] وقال تعالى (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)) [هود].
ثم قال تعالى مخبراً عن تمادي هؤلاء الكفرة بشركهم وكفرهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) لن نؤمن بهذا القرآن ولا بما أخبر به من أمر المَعاد والجنة والنار وما إلى ذلك. فقال سبحانه بعد هذا (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) هنا يتنازع ويتخاصم الضعفاء والأقوياء، الكبار والصغار، الملأ المترفون مع العابدين الضعفاء هؤلاء الذين اتُّبعوا مع الذين اتَّبعوا كما قال تعالى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) [البقرة:166] وهنا يقول تعالى (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) يكون بينهم مخاصمة ومراجعة للقول (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) منهم وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم سادتهم وكبارهم (لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أنتم الذين صددتمونا عن الإيمان وإلا كنا اتبعنا الرسل لكن أنتم حُلتم بيننا وبين ذلك فيرُد عليهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم) نحن ما فعلنا بكم ذلك ولا لنا عليكم سلطان ولا برهان بل أنتم اخترتم هذا لأنفسكم (بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ).
وقال الله (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهاراً وتغررونا وتمنونا وتخبرونا أننا على هدى ونحن مقيمون على عبادة هذه الآلهة وأنا على شيء فإذا جميع ذلك كذب وباطل وغرور وأماني (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) قال قتادة وابن زيد: "بل مكرهم بالليل والنهار". (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا) أنتم الذين سببتم لنا الوقوع في هذه العظائم وهذا الكفر. قال الله سبحانه وتعالى (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) هل هم السادة أم الأتباع أم الجميع؟ الجميع، السادة والأتباع كلٌ ندِم على ما سلف منه لما رأوا العذاب بين أيديهم. قال الله (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ) وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم كما قال سبحانه وتعالى (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)) [غافر] وقال هنا (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنما جازيناهم بأعمالهم كلٌ بحسبه، القادة عذابهم بحسبهم كما قال تعالى (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [النحل:25] وقال تعالى في سورة العنكبوت (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) وكذلك الأتباع لهم نصيب من العذاب وقد قال تعالى في سورة الأعراف (رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ) فكل واحد من هؤلاء القوم له نصيبه من العذاب وله -والعياذ بالله- نصيبه من الحسرة والندامة وهذا دليل واضح على أن الإنسان يجب عليه أن يحذر غاية الحذر أن يُضِلّ أحداً عن سبيل الله وعن صراط الله المستقيم فإنه سيبوء بإثمه وإثم من أضله كما يفعل بعض شياطين الإنس عبر قنواتهم ومواقعهم الذين ينشرون ظاهر الإثم وبواطنه ويجرؤن الناس على الكفر وعلى الفواحش والمعاصي (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [النحل:25].
نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية وأن يهدي ضالّ المسلمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿٣٤﴾ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿٣٥﴾ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٦﴾ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ﴿٣٧﴾)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. الحمد لله حمْداً كثيراً طيِّباً مُبَاركاً فيه كَمَا يُحِبُّ ربُّنا ويَرْضَى، وأَشْهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحْدَهُ لا شريك له، وأشْهَدُ أنَّ نبيِّنا مُحمَّداً عبدُهُ ورسُولُه، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصْحابِه والتَّابعين لهُم بإحْسانٍ إلى يَوْم الدِّين، أمَّا بعْد.
فهذا هو المجلس الثَّالث في تفسير سورةِ سبأ.
يقول الله تبارك وتعالى مُسليِّاً لِنبيِّهِ وخليله مُحمَّد صلى الله عليه وآله وسلَّم وآمِراً له َأنْ يتأسَّى بِــمَنْ سَبَقَهُ من الــمُرْسلين (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) فَكُلُّ رسُولٍ يَبْعَثُهُ الله تعالى في قرْيَةٍ مِنَ القُرى يُقابِلُهُ الـمَلأْ الــمُتْرَفُون بالكُفْر برسالته والسَّبَبُ في هذا -والله أعْلم- أنَّ الملأ وهُم علية القَوْم وكِبارُهُم يَشْعُرُون أنَّه إذا جَاءَ رسُولٌ سينْقادُ الجميع إليه، يشْعُرون أنَّهم في هذه الحالة نَزَلت مكانتهُم، وأيْضاً يشْعُرون بأنَّه كأنَّه سُحِبَ البِساطُ من تحتهم وَصَارَتْ المنزلة والمكانة لهذا الرَّسُولْ الذِّي سَيُطَاعُ أمْرُهْ ولا يُعْصَى ولهذا صَارُوا هُمْ أشَدُّ مَا يكُونُوا على رُسُلِ الله كما قال قَومُ نُوح ﴿قالُوا أنُؤمِنُ لكَ واتَّبَعَكَ الأرْذلُون﴾ [ الشُّعراء:111]، ﴿وما نـَراكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الذِّين هُمْ أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْي﴾ [ هود:27] وقال الكُبُراء من قومِ صالح ﴿قال الملأ الذِّين اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمه للذِّينَ اُسْتُضعِفُوا لِمَنْ آمَنَ منهم أتَعْلَمُونَ أنَّ صالحاً مُرسَلٌ من ربِّه قالوا إنَّا بما أُرْسِلَ به مُؤْمِنُون.قال الذِّين اسْتَكْبَرُوا إنَّا بالذِّي آمنْتُم بِهِ كافرون﴾[75-76]، وقال تعالى ﴿وكذلك جَعلنا في كُلِّ قرية أكَابِرَ مُجرميها لِيَمْكُروا فيها﴾ [ الأنعام:123]، وقال هُنا (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) أيَّ من نبيٍّ أو رسُول (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) وهُمْ أوُلوا النِّعْمة، والكِبارْ (الملأ) أصْحابْ الرِّياسة، أَصْحابَ الثَّرْوة، (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) يعني لا نُؤمِنْ بهذا الرَّسُول ولا نتَّبِعُهْ، وهذا فيه تسلية لِنبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.
وقالُوا أيْضاً من أقْوال الكُفَّار (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) يَعْني أنَّهُم ظَنُّوا أنَّ هذِهِ الأمْوال وهذه الأولاد سَتَمْنَعُهُم من عذابِ الله عزَّ وجل فافْتَخَرُوا بكثرة أموالهم وافْتَخَرُوا بِكثْرَة أوْلادِهِم، واعْتَقَدُوا أنَّ هذا دليلٌ على أنَّ الله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُم ويَصْطَفيهم ويَجْتَبيهم وأنَّه ما كانَ لِيُعْطيهم هذه الدُّنيا وهو سَوفَ يُعذِّبُهُم وجَهِلُوا أنَّ الله يُعْطي الدُّنيا من يُحِبّ ومَنْ لا يُحِبّ، لَكِنَّهُ لا يُعْطي الإيمان واليَقِين إلاَّ من أحَبّ. فقالُوا هُنا (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) والواقِعْ أنَّ هذه الأمْوال والأوْلاد سَيُعَذَّبُون بها في الدُّنيا وفي الآخرة كما قال الله سبحانه وتعالى ﴿فلا تُعْجُبْكَ أموالُهُم وأْولادُهُم إنَّــمَا يُريدُ الله لِيُعذِّبْهُم بها في الحياة الدُّنيا وتَزْهَقَ أنفُسُهُم وهُمْ كافِرُون﴾ [التّوبة:55] فهُم يتعَذَّبُون في الأَمْوال والأَوْلاد بِجَمْعِ الأَمْوال وكذلك خَوْف زوَالِها وعَتْبُ النَّاسِ عليهم في عَدَمِ إنْفاقِهِم هذه الأمْوال فيما يُرْضِي هؤلاءِ النَّاس، وكذلك الأوْلاد يَشْقَوْنَ بِـجَمْعِ المال لهُم ويَشْقَوْنَ بإطْعَامِهِم وبِالخَوْفِ عليهم من نَـوائِبِ الدَّهْر وغيرِ ذلك بِحُزن من يُفْقَد منهم أو بِحُزْن ما يُفْقَد من المال ثُمَّ بعد ذلك يُحاسِبُهُم الله سبحانُهُ وتعالى على لَهْوِهِم وغَفْلَتِهِم عن عبادتِه كما قال سبحانه وتعالى مُحذِّراً لعبادِه ﴿يا أيُّها الذِّين آمنُوا لا تُلْهِكُم أموالُكُم ولا أوْلادُكُم عنْ ذِكْر الله ومَنْ يَفْعَل ذلك فأُولئك هُمُ الخَاسِرون﴾ [المنافقون:9] . والواقِعْ أنَّ أتْباع الرُّسُل هُمْ الضُّعفَاء، ولهذا لَــمَّا سَأَل هِرقَلْ، سَأَل أبا سُفْيان مَنْ أتْباعُ هذا الرَّسُول؟ فقال: أَشْرافُ النَّاس يتَّبِعُونهُ أم ضُعفاؤهُم؟ قال: بل ضُعفَاؤهم، قال: وكذلك الرُّسُل. وكذلك هُمْ (أتْباعُ الرُّسُلْ) أيّ أنَّهُم هُم الضُّعفاء. قال الله سُبْحانُهُ وتعالى ﴿أَيَـحْسَبُون أنَّما نُمِدُّهُم به من مالٍ وبَنين نُسَارِعُ لهُم في الخَيْرات بَلْ لا يَشْعُرُون﴾ [المؤمنون:55-56]، وقال تعالى ﴿ذَرْني ومَنْ خَلَقْتُ وحيداً* وجَعَلْتُ له مالاً ممْدُوداً* وبَنينَ شُهُوداً* ومَهَّدْتُ له تمهيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أزيد* كلاَّ إنَّه كان لآياتِنا عنيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾ [ الــمُدثِّر: 11-17]، وفي قِصَّةِ صاحِبْ الجَنَّتَين التِّي ذَكَر اللهُ تعالى في كتابه ﴿فقال لصاحبه وهُو يُحاوِرُهُ أنْا أكثَرُ مِنْك مالاً وأَعَزُّ نَفَراً﴾ [ الكهف:34] ثُمَّ في آخر الآيات قال الله ﴿وأُحيطَ بِثَمَرِه فأَصْبَحُ يُقَلِّبُ كَفَّيْه على ما أنْفَقَ فيها وهي خاويةٌ على عُرُوشها ويقول يا لَيْتني لمْ أُشرك بِربِّي أَحَداً ولَمْ تَكُنْ له فئةٌ ينْصُرُونه من دُونِ الله وما كان مُنْتَصِراً﴾ [ الكَهْف:43].
وقال هُنا ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرْ) يعني أنَّ الله سُبْحانه وتعالى يبْسِطُ الرِّزْق -يُوسِّعْهُ- يُعطِي المال لِــمَنْ يُحِبّ ولِــمَنْ لا يُحِبّ، وهُو سبحانه وتعالى لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُها يُفِقِر بعضَ عبادِه، ويُغْني بعضَ عبادِه وله الحكمةُ التَّامَّةُ البالغة في هذا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
ثُمَّ رَدَّ الله عليهم فقال (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) ليْست هذه الأمْوال، وهؤلاء الأوْلاد ليْسُوا دليلاً على مــحَبَّتِنا لَكُم ولا اِصْطِفَائنا لكُمْ، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصَّحيح (إنَّ الله لا يَنْظُرِ إلى صُوَرِكُم ولا إلى أمْوالِكُم ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم وأعْمالُكُم) (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) وهذا اسْتثناءُ مُنْقَطِعْ، أي لكِنْ مَنْ آمَن وعَمِلَ صالحاً فإنَّه هُو الذِّي له المكانَة، فهذا هُو الذِّي يُقَرِّبُهُ إيمانُهُ وعمَلُهُ الصَّالِحْ، يُقرِّبُهُ عند الله سبحانه وتعالى دَرَجاتْ ويَرْفَعُهْ بإيـمانِه وعَمَلِه الصَّالِح كما قال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام كَمَا في الصَّحيح: "إنَّ أهْل الجنَّة لَيَتَراءوْنَ أهْل الغُرُفْ من فوْقهم كما تَراءَوْنَ الكَوكَبْ الشَّرْقيّ أو الغَربيّ الغَابِرْ في الأُفُقْ، قالوا: يا رسُول الله تِلْكَ منازِلُ الأنْبياء لا يَبْلُغُها غيْرُهُم، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام: كلاَّ، والذِّي نفْسي بيدِه رِجَالٌ آمنُوا بالله وصَدَّقُوا الـمُرسلين فإيــمانُهُم بالله وتَصديقهم للمُرسلين رفَعَهُم في هَذه الدَّرجات العالية في الجنَّاتْ". قال تعالى (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) أي الزِّيادة. فلهُم جزاءُ الضِّعْف بِـما عمِلُوا و"الباء" هُنا للسَّبَبِيَّة، لهُمْ جَزاءُ الضِّعْف أي تُضاعَفُ لهُمُ الحسنة بِعَشْرِ أمْثالِها إلى سبْعمائة ضِعْف (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) أي في مَنازِلِ الجنَّة العَالية آمِنُونَ مِنْ كُلِّ بأْسٍ وخَوْفٍ وأَذَى ومِنْ كُلِّ شَرٍّ يُخافُ منه ويــُحْذَرْ. يقُولُ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلام كما في سُنن التِّرمذي: "إنَّ في الجنَّةِ لَغُرَفاً تُرى ظُهورِها من بُطُونِها، وبُطُونُها من ظُهُورِها، فقال أعْرابيٌّ: لِــمَنْ هيَ يا رسُول الله؟ قال: لِــمَنْ طيَّبَ الكلام وأطْعَمَ الطَّعامْ وأَدامَ الصِّيام وصلَّى باللَّيل والنَّاسُ نِيام".
ثُمَّ ذَكَر الله سُبْحانه وتعالى الصِّنْف الآخَرْ عكس المؤمنين فقال (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) أي يَسْعَوْن في آياتِنا بالرَّدِ لها والطَّعْنِ فيها بآيات الله المنزّلة وبالرسل عليهم الصلاة والسلام أو بآيات الله الكَونية والشَّرعية. فهم يسعون في آياتنا مُعاجِزين أي مُسَابِقِين لنا زاعِمين أنَّهُم يَفُوتُنَنا بأنْفُسِهِمْ أومُعانِدين لنا بِكُفْرِهِم. (أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُون) كما قال تعالى ﴿ولا يَحْزُنْكَ الذِّين يُسارعون في الكُفْر إنَّهُم لنْ يَضُرُّوا الله شيئاً﴾ [ آل عمران:176] فكُفْرهُم ومُعاندتهم لآيات الله وتكذيبهُم لِرُسُل الله لا شَكَّ أنَّهُ يَضُرُّهُم هُمْ. (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا) بالردّ لها والطعن فيها (مُعَاجِزِينَ) أي مُسَابِقِين لنا، زاعِمين أنَّهُم يَفُوتُنَنا بأنْفُسِهِمْ ومُعانِدين لنا بِكُفْرِهِم (أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) أي تُحْضِرُهُم الزَّبانية، ويُجْزَوْن بأعْمالهم، وهذه الآية شبيهةٌ من بعض الوُجُوه بقوله تعالى ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الذِّين كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُم لا يُعجِزُون﴾ [الأنفال:59] فهُم لا يَفُوتُونَ الله سبحانه وتعالى.
ثم كرّر على هذه القاعدة المهمة فقال (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) بحسب ما له في ذلك من الحكمة سبحانه وتعالى فهو يعطي هذا المال ابتلاء له وهذا يبتليه بالفقر يقتِّر عليه جداً ابتلاء من الله سبحانه وتعالى لحكمة كما جاء في بعض الآثار "إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الصحة ولو أمرضته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلح له إلا المرض ولو أصححته لأفسدت عليه دينه" فالله تعالى هو خالق العباد وهو العليم بأحوالهم ولا يتهم في قضائه. ومما ذُكِر في بعض الإسرائليات – والنبي صلى الله عليه وسلم يقول حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج- أن عيسى عليه الصلاة والسلام رأى قوماً عند نهر وهم يغمس بعضهم بعضاً ومعهم رجل أعمى فيجتمع هؤلاء على الأعمى ويغمسونه في النهر فإذا غمسوه في النهر قام ولحق بهم فما استطاع أن يمسك أحداً منهم فقال عيسى يا رب أسالك أن تأذن لي أن أمسح على عيني هذا الأعمى فأذن الله له فمسح على عيني الأعمى فأبصر بإذن الله فلما أبصر قام فأمسك أحدهم وغرّقه في النهر ثم لحق بالثاني فجرّه وأغرقه في النهر وفرّ الثالث فقال عيسى عليه السلام يا رب أنت أعلم وأحكم. فكان في هذا الأعمى شر عظيم لكن الله قهره بهذا الأمر الذي جعله فيه. فإذا الله سبحانه وتعالى لا يُتّهم في قضائه له الحكمة في أن يُغني هذا ويفقر هذا وأن يمرض هذا ويصح هذا ولا يعترض عليه معترض ولا يقدح في حكمته أحد جلّ جلاله وتقدست أسماؤه (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) كما قال تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء:21] وأيضاً هم متفاوتون في الدنيا في أحوالهم هذا فقير فقره شديد وهذا غني غناه كبير جداً فهم في الآخرة كذلك مختلفون في المنازل هؤلاء في أعلى الدرجات في الغرفات آمنون وهؤلاء في غمرات النيران والعياذ بالله! وأطيب الناس في الحياة الدنيا هل هو الغني أم الفقير؟ أطيب الناس في الحياة الدنيا هو من عناه الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم فقال صلى الله عليه وسلم "قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً وقنّعه الله بما آتاه" وقد تكلم العلماء كلاماً طويلاً على مسألة يذكرونها وهي أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ فمن العلماء من فضّل الغني الشاكر ومنهم من فضّل الفقير الصابر لأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بسبعمائة عام. ومن العلماء من قال: أفضلهما أتقاهما لله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل من خير الناس؟ قال أتقاهم، ولأن الله قال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا فقال: "أفضلهما أتقاهما فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة". يوجد بعض الأغنياء تجده يعطي الزكاة كاملة ومع ذلك ينفق النفقات الكثيرة ابتغاء وجه الله سِرّاً وعلانية وهو متواضع في أكله وشربه ومدخله ومخرجه قائم بفرائض الله وفي المقابل يوجد رجل فقير متعفف عفيف صابر لا يشتكي لأحد كما قال الله عن هذا الصنف (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة:273] فهو فقير صابر محتسب مقتصد مؤدٍ لفرائض الله فهذا هو الفرق بين هذين الاثنين فمن العلماء من فضّل الأول لأن نفعه متعدي والثاني نفعه قاصر، ومن العلماء من فضّل الثاني على الأول وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أفضلهما تقاهما لله فإذا استويا في التقوى استويا في الدرجة".
ثم قال الله تبارك وتعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله تعالى به أو أباحه أو أوجبه عليكم فهو يُخلفه عليكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى يا ابن آدم أنفِق أُنفِق عليك) كما في صحيح البخاري ومسلم. وأيضاً جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن ملكين يصيحان كل يوم يقول أحدهما اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً ويقول الآخر اللهم أعط مُنفقاً خلَفاً). والنفقة والإنفاق، الخلف من العلماء من يرى أنه قد يكون في الدنيا مع جزاء الآخرة ومن العلماء من يقول قد يكون في الدنيا وقد لا يكون في الدنيا وإنما يكون في الآخرة مثل الدعاء، الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فقد يعطيه الله سبحانه وتعالى ما طلب وقد يدفع عنه من السوء والبلاء والشرّ أعظم مما دعا وسأل وقد يؤخر الله تعالى هذه الدعوة فيجدها العبد أحوج ما يكون إليها يوم القيامة. كذلك قوله (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) فالخلف يختلف فقد يكون الخلف بأن الله إذا أنفقت ألفاً يعطيك ألفين وقد يكون الخلف إذا أنفقت بأن الله يعطيك إيماناً وصدقاً وقناعة بما كتب وليس الغنى كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس". (فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فهو سبحانه وتعالى من أسمائه الرزاق ومن صفاته الرزق فهو يرزق عباده سبحانه وتعالى ويعطيهم.
ثم قال سبحانه (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) خبر عن حالة المشركين حينما تقرع أسماعهم وأبصارهم هذه الأهوال أهوال يوم القيامة (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ) يسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي على صور الملائكة يقربوهم إلى الله زلفى فيقول الله للملائكة (أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ كما قال سبحانه في سورة الفرقان (أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)) وكما قال الله سبحانه وتعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) [المائدة:116]. وهكذا تقول الملائكة (سبحانك) تنزيهاً لك، تعاليت وتقدست على أن يكون معك إله (قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم) نحن عبيدك نبرأ إليك منهم ومن أوثانهم وشركهم وكفرهم بل لا نعبد إلا إياك، بل لا نعبد غيرك (أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) يعبدون الشيطان لأنهم هم الذين يزينون لهم عبادة الأوثان وهم الذين يضلونهم (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)) [مريم] تدفعهم إلى الكفر والمعاصي والشرك دفعاً.
(بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) كما قال تعالى (وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا) [النساء:117]. (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا) لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه لا من الأنداد ولا من الأوثان التي ادّخرتم عبادتها لهذا اليوم العظيم يوم الشّدَّة والكربة لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المشركون (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) فهم يكذِّبون بالبعث والجزاء وبالجنة والنار فيوم القيامة يصلون هذه النار التي كانوا يكذبون بها.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ) هذا نوع آخر من كفرهم فيُخبر الله عز وجل أنهم كانوا إذا تُلِيت عليهم آيات الله يسمعونها غضة طرية من لسان رسوله عليه الصلاة والسلام (قَالُوا مَا هَذَا) ما هذا التالي لها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم (إلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ) يريد أن تُعرضوا عن عبادة الأوثان وهم يرون أن التمسك بعادات الآباء والأجداد في عبادة الأوثان أنه من أعظم ما يكون من البقاء والثبات. وأظني ذكرت لكم قصة المغيرة والد الوليد أو غيره أنه لما حضرته الوفاة بكى وكان عنده جماعة من كفار قريش فقالوا ما يبكيك؟ -أظن هذا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم – قال ما أبكي جزعاً من الموت ولكني أخاف أن لا تُعبَد اللات والعزّى فقالوا اطمئن فلن نبرح عليها أو نترك عبادتها ما دمنا أحياء، والحمد لله أن الله خيّب ظنّ الباكي ومن حوله فبعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل حقيقة على عظيم ما كان يجابه الرسول عليه الصلاة والسلام من الأذى، أنواع السخرية والاستهزاء وفي هذا أسوة لكل داعٍ إلى الحق وكل داعية إلى الحق أن يصبر وأن يحتسب فهو أياً من كان الشخص لن يكون أعظم صدقاً وإخلاصاً ومكانة من الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أُنظر كلام الله سبحانه وتعالى وهذه الآيات التي تُتلى تبين وتوضح عظيم ما عاناه صلى الله عليه وسلم من الاستهزاء والسخرية بأنواع وأساليب متعددة متنوعة. (وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى) يعنون القرآن (وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ). قال الله (وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ) ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن أبداً وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد عليه الصلاة والسلام وكانوا يودّون ذلك لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب كما أنزل على غيرنا كما قال سبحانه وتعالى في الآية التي ستأتي (لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ) [فاطر:43] وهنا قال (وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ) فلما منّ الله عليهم بهذا النبي العربي المكّي القرشي وختم الله النبوة بهذه الرسالة عليه الصلاة والسلام عاندوه وجحدوا لكن فعلهم هذا وتكذيبهم وسخريتهم واستهزاؤهم ليس بدعاً (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) من الأمم (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم عُشر ما آتينا من قبلهم من القرون بكثرة المال والولد وطول العمر فأهلكهم الله كعاد وثمود وغيرهم. فإذا كانوا كذلك فهم أهون على الله ممن قبلهم.
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) ما بلغوا معشار ما آتينا أولئك الأقوام من القوة وطول العمر وسعة المال وكثرة الأولاد ومع ذلك ما رد عذاب الله عنهم فكيف يرد عذاب الله وبأسه عن هؤلاء. (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) يعني من القوة في الدنيا كما قال سبحانه (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (26)) [الأخقاف] (كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً) [التوبة:69] ومع ذلك ما دفع عنهم عذاب الله ولا ردّه بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) كيف كان نكالي وعقابي وانتصاري لرسلي.
ومع ذلك لا يزال الخطاب مع هؤلاء (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) افتُتح الأمر بالقول هنا وفي الجُمَل الأربعة بعدها للاهتمام بما احتوت عليه من التذكير والوعظ. والوعظ كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده، قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الذين يزعمون أنك مجنون وأنك ما تتلو عليهم من كتاب الله إثم مفترى قل لهم (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) آمركم بخصلة واحدة فقط، والمقصود بوصفها تقليلها تقريباً للأفهام واختصاراً في الاستدلال يعني دعونا من كلامكم جميعاً وأقوالكم، أعظكم فقط بواحدة (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) أن تقوموا قياماً خالصاً لله من غير هوى ولا عصبية ولا تقليد للآباء إنما تكونوا متجرّدين، إخلاص، فيسأل بعضكم بعضاً هل بمحمد صلى الله عليه وسلم من جنون؟ ينظر الرجل نفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويسأل نفسه هل هو مجنون فيكون الجواب لا، (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).
وهنا لما كان للإنسان الذي يطلب معرفة الحق والصواب له حالتان:
الأولى: أن يكون مناظراً مع الله
والثانية: أن يكون مناظراً لغيره.
أمرهم بهذه الخصلة الواحدة وهو أن يقوموا لله اثنين اثنين فيتناظران ويتساءلان بينهما، وواحداً واحداً يقوم كل واحد مع نفسه ويتفكّر في أمر هذا الداعي عليه الصلاة والسلام وما يدعو إليه ويستدعي أدلة الصدق والكذب هل تنطبق عليه أو لا تنطبق؟ ويعرض ما جاء به عليه الصلاة والسلام على هذه الأدلة ليتبين له حقيقة الحال، فهذا هو الحِجاج الجليل وهذا هو الإنصاف البيّن وهذا هو النصح التام أما مجرد إلقاء التهم جزافاً هكذا فهذا لا ينفع ولا يُجدي ولا يوصل إلى الحق فالله سبحانه وتعالى يدعوهم إن كانوا صادقين يقوموا هذا القيام. (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) يجتمع اثنين ويتناقشان يتساءلان وأيضاً كل واحد يسأل نفسه هذا رسول من عند الله صلى الله عليه وسلم يأتي بالوحي صباح مساء هل يمكن وهذه أخلاقه وهذه سيرته وهذه عادته وكنتم تلقبونه بالأمين ونشأ من بينكم؟ طبعاً هم من أراد الله تعالى به خيراً ونصح لنفسه فكر في الأمر واتّبع.
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ذات يوم فقال يا صباح فاجتمعت إليه قريش، قالوا ما لك؟ فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم ويمسّيكم أكنتم تصدقونني؟ قالوا بلى فقال إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّاً لك ألهذا جمعتنا؟! فنزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد:1] وقد تقدّم هذا عند قوله (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214].
(قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) هنا أيضاً يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يأمره أن يقول للمشركين (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) لا أريد منكم عطاء ولا جُعلاً على أداء رسالة الله، كما مرّ في قول الرسل عليهم الصلاة والسلام كل رسول يقول لقومه (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله) إن أجري إلا على رب العالمين أطلب ثوابي من الله (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هو عالم بجميع الأمور بما أنا عليه من إخباري عنه بإرسالي برسالتي التي حملني غياها وما أنتم عليه (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو سبحانه وتعالى مطّلع لا يخفى عليه شيء.
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يرمي الباطل بالحق فيدمغه يعني أن الحق يدمغ الباطل. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الغيب هو: الأمر الذي غاب عن الإنسان وخفي عليه جداً فالله تبارك وتعالى لا تخفى عليه خافية كما قال تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) [غافر:15] يرسل الملك إلى من يشاء من عباده من أهل الأرض فهو علام الغيوب لا تخفى عليه خافية (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). وهنا لاحظ أن الآية جاءت بلفظ (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) كما قال تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) والقذف فيه قوة وهكذا الحق قوياً (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) ما قال يُلقي أو يُعطي قال (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ).
(قُلْ جَاء الْحَقُّ) وهو التوحيد أو الإسلام أو الشرع (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) بل الباطل يذهب ويضمحل ويزول ويفنى ويزهق كما قال سبحانه وتعالى (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81] وهذه الآية لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المسجد الحرام يوم الفتح ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الأصنام بعصى كانت معه بمحجن ويقرأ هذه الآية ويقول (قُلْ جَاء الْحَقُّ) (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) كما في صحيح البخاري ومسلم. فهنا يقول الله تعالى (قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) لم يبقَ للباطل مقالة ولا رئاسة ولا كلمة ولا نفوذ.
(قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) فالخير كله من عنده سبحانه وتعالى وفيما أنزل من الوحي والحق.
ثم قال سبحانه مبيناً مشهداً من مشاهد أخذ هؤلاء المشركين وإنزاله العقوبة بهم فقال (وَلَوْ تَرَى) يا محمد (إِذْ فَزِعُوا) إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة (فَلَا فَوْتَ) أي لا مفر ولا وزر ولا ملجأ لهم (وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) أي لم يكونوا يُمنعون ولم يستطيعوا الهرب بل أُخذوا من مكان قريب من أول وهلة قال الحسن البصري: "يعني لما خرجوا من قبورهم" والصحيح: أن المراد بذلك يوم القيامة فيوم القيامة سياق الآيات يدل عليه أنهم أخذوا من مكان قريب. (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) يعني يوم القيامة يقولون آمنا بالله وبرسله وكتبه لكن هذا لا ينفع قال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة:12] ولهذا قال (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) والتناوش قال الزُهريّ: تناولهم الإيمان وهم في الآخرة وقد انقطعت عنهم الدنيا، وقال مجاهد: "(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) يعني التناول لذلك" يعني أنه حيل بينهم –كما تفسرها الآية التي بعدها-وبين الإيمان، (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) التناوش: أخذ الشيء من بُعْد، بَعُد عنهم الإيمان لأنه لما قامت القيامة لم ينتفع هؤلاء الكفار بإيمانهم وقد قامت القيامة فإنه إذا قامت القيامة انتهى وقت الإيمان. (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ) هم طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتوبوا ويؤمنوا لكن حيل بينهم وبين ذلك. (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ) أي كيف يحصل لهم الإيمان بالآخرة وقد كفروا بهذا في الدنيا؟! (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) يقذفون بالظنّ كما قال تعالى (رجماً بالغيب) يقولون شاعر كاهن ساحر مجنون وغير ذلك من الأقوال الباطلة ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد ويقولون (إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية:32] .
ثم قال تعالى (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) وهي التوبة والرجوع من هذه الدنيا، حيل بينهم وبين ما يشتهون إما ما يشتهون من مال وزهرة الدنيا ومتاعها وأهليهم أو حيل بينهم وبين الإيمان قولان لأهل العلم ولا منافاة كما قال الحافظ بن كثير أنه لا منافاة بين القولين فإن قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وحيل بينهم وبين ما طلبوه في الآخرة فمُنِعوا منه كما فُعِل بأشياعهم الكفرة السابقين لهم في الأمم الماضية التي كذبت الرسل لما جاءهم بأس الله إنهم كانوا في الدنيا في شك وريبة ولهذا لم يتقبل منهم الإيمان لما عاينوا عذاب الله سبحانه وتعالى قال قتادة: "إياكم والشك والريبة فإنه من مات على شك بُعث عليه ومن مات على يقين بعث عليه". وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
-----------------------------------------
المصدر: ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق