د. صالح بن عبدالرحمن الخضيري
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١﴾ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢﴾}
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١﴾ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢﴾}
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فهذا هو المجلس الأول من سورة فاطر وتسمى سورة الملائكة لذكر الملائكة فيها. ومناسبة وضعها بعد سبأ تآخيهما في الافتتاح فسورة سبأ وسورة فاطر من السور الخمس التي أُفتتحت بالحمد وسورة فاطر -سورة الملائكة- هي خاتمة السور الخمس التي أُفتتحت بحمد الله مع تناسبهما في المقدار. وقال بعض أهل العلم: إفتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب لختام ما قبلها من قوله تعالى في سورة سبأ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) [سبأ:54] كما قال تعالى (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:45] فهو نظير اتصال أول الأنعام بفصل القضاء والمختَتم به المائدة لما ختم الله تعالى المائدة بذكر حال أهل النار وذكر أهل الجنة ومن رضي عنهم قالوا (الحمد لله) وهنا قال (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) [سبأ:54] قال بعد ذلك (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذا على قول من يذهبون إلى علم المناسبات.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) سبق الكلام على الحمد، وقوله تعالى (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي مبتدئهما وخالقهما على غير مثال سابق. قال ابن عباس رضى الله عنهما: كنت لا أدري ما (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أنا ابتدأتها، (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني بديع السموات والأرض، قال الضحّاك: "كل شيء في القرآن فاطر السماوات والأرض فهو خالق السموات" وهذا يضاف إلى ما يسمى بالكليّات في القرآن كما قال ابن عباس: "كلُّ سلطان فى القرآن فهو حُجّة: وقيل كل رجز فهو عذاب وهكذا ولها فن مستقل يُعتنى به.
(فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً) أي بينه وبين أنبيائه، والملائكة -كما جاء في الصحيح- خُلقوا من نور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "وخلقت الملائكة من نور"، فالملائكة عليهم الصلاة والسلام خُلقوا من نور والملائكة عليهم الصلاة والسلام لهم أعمال عديدة جليلة منهم:
حملة العرش، ومنهم الكرام الكاتبون (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)) [الإنفطار] ،ومنهم الموكّلون إسرافيل موكّل بنفخ الصور، ومنهم جبريل موكّل بالوحي ومنهم ميكائيل موكّل بالقَطْر ومنهم من يحضرون مجالس الذكر وحِلَق العلم ومنهم كذلك الذين يدخلون البيت المعمور وهكذا.
(جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً) بينه وبين أنبيائه (أُولِي أَجْنِحَةٍ) يطيرون بها ليبلّغوا ما أُمِروا به سريعاً وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ليلة الإسراء.
(جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى) منهم من له جناحان (وَثُلَاثَ) ومنهم من له ثلاثة (وَرُبَاعَ) ومنهم من له أربعة ومنهم من له أكثر من ذلك كما هو الحال بالنسبة لجبريل عليه الصلاة والسلام.
(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) قال الزهيري وابن جريج: يعني حُسْن الصوت.
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
/ ثم قال (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وهذه الآية تدل على أن ما شاء الله كان ومن لم يشأ لم يكن وأنه لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع وأنه لا يمكن لأحد أن ينفع أحداً إلا بأمر الله وإذنه (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ) أيّ رحمة كانت فإذا فتحت هذه الرحمة فلا يستطيع أحد كائناً من كان أن يمسكها عن هذا الذي فتحت له هذه الرحمة وإذا أمسك الله الرحمة عن أحد فلا يستطيع أحد من البشر أن يفتح هذه الرحمة عن هذا الذي أمسكها الله تعالى عنه.
إن الله تعالى هو الذي له العزة وله الحكمة البالغة في هذا فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قال تعالى (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ) [يونس:107] وقال الإمام مالك: "كان أبو هريرة إذا مُطِروا يقول مُطِرنا بنوء الفتح ثم يقرأ هذه الآية (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)" قصده مُطِرنا بفضل الله ورحمته لا بنوء كذا وكذا كما كان يقول أهل الجاهلية.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) هنا في سورة فاطر، السورة عجيبة في بيان دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى بطرق وأساليب متعددة كلها تقرير لتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، بيان لعظيم قدرة الله سبحانه وتعالى وأنه يجب أن يُفرَد وحده بالعبادة دون سواه. وهنا في هذه الآية ينبه عباده ويرشدهم للاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له كما أنه مستقل بالخلق والرزق فهو الذي يحيي ويميت ويرزق ويُصِح ويعطي ويمنع فيجب أن يفرد وحده بالعبادة لا شريك له (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تصرفون بعد هذا البيان الواضح وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان؟!
/ (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ) وهذا أيضاً نوع من التسلية لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام لأن السورة مكية وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعاني في الفترة المكية من تكذيب المشركين واستهزائهم وسخريتهم وردّهم لدعوته (وَإِن يُكَذِّبُوكَ) يا محمد (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ) سلف من قبلك رسل فلك بهم أسوة. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) كل الأمور تُرجع إلى الله سبحانه وتعالى من أولها إلى آخرها وسيجزي عباده على هذا.
/ ثم قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي المعاد والبعث والجزاء كائنٌ لا شك فيه، لا محالة (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) سُميت دنيا لأنها دنيئة بالنسبة إلى ما أعدّه الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العميم فينهاهم الله تعالى أن يتلهوا بهذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) لا تفتننكم هذه الحياة الدنيا فإن بعض الناس اغترّ بالحياة الدنيا، واغترّ بالمال، واغترّ بالولد، واغترّ برئاسته فركن إلى الدنيا ونسي الآخرة وهذه خصلة ذميمة، وقد قال الله تبارك وتعالى (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64] يقول ابن القيم رحمه الله: "ما ذكر الله الدنيا في القرآن إلا بصفة الذمّ لها والتنقص لهذه الدنيا والعيب لها". والمشكلة أن حب الدنيا والركون إلى الدنيا كثيرا ما يصدّ الإنسان عن صراط الله المستقيم. ولقد صدق سفيان الثوري -رحمه الله- حين قال: "بلغني أنه يأتي على الناس زمان تمتلئ قلوبهم من حب الدنيا فلا تدخلها الخشية" وذلك لأن الدنيا بزخرفها وزينتها ورياستها الشخص إذا انفتن بها يصد عن الآخرة كما قال سفيان: لا تدخلها الخشية، هذا مع أن عيوب الدنيا بادية وهى بعبرها ومواعظها منادية
قد نادت الدنيا على نفسها ** لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أفنيته ** وجامعٍ بددتُ ما يجمع
كم تبدل نعيم هذه الدنيا بالبؤس! كم أصبح الواثق ممن يملكها وأمسى وهو منها قنوط يؤوس! تقول بعض بنات العرب الملوك الذين نُكبوا أصبحنا وما في العرب أحد إلا وهو يحسدنا ويخشانا وأمسينا وما في العرب أحد إلا وهو يرحمنا.
ودخلت أم جعفر البرمكي على بيت في يوم عيد أضحى تطلب جلد كبش تريد أن تجعله سِقاء وهي أم الوزير الذي يملك خزائن وأمر ونهي فقالت كنت في العيد الماضي –يعني قبل سنة- عند رأسي أربعمائة جارية يقمن عند رأسي لخدمتي وأنا أزعم أن ابني جعفر عاقٌ لي واليوم جئت أطلب منكم جلد أضحية لأجعله سِقاءً.
وكان أحمد بن طولون ملك مصر كثير السَرَف في إنفاق المال حتى إن زوجته أقامت لبعض لعبها زواج الدمية من الدمية أنفقوا في هذه المناسبة مئة ألف دينار قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح "إن رجالا يتخوّضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة". أنفقوا مائة ألف دينار على زواج لعبة من لعبها فما مضى إلا قليل حتى رآها الناس وهي في سوق بغداد تطلب من يتصدّق عليها.
وقصة المعتمد بن عبّاد مشهورة وخُلِع بعض خلفاء بني العباس وحُبس ثم أُطلق فاحتاج إلى أن وقف في يوم الجمعة في الجامع يقول للناس تصدقوا عليّ فأنا من قد عرفتم.
ومر بعض الصالحين بدار فيها فرح وقائلة تقول في غنائها:
ألا يا دار لا يدخلك حزنٌ ** ولا يُزرى بصاحبك الزمان
ثم مرّ بها بعد أيام وإذا الباب قد أُغلق وفي الدار بكاء فسأل عنهم فقيل مات صاحب الدار فطرق الباب وقال إني سمعت قبل أيام من هذه الدار امرأة تقول كذا وكذا فبكت المرأة وقالت يا عبد الله إن الله يُغيّر ولا يتغيّر والموت غاية كل مخلوق فانصرف عنهم باكياً. والتاريخ يعيد نفسه والعبر كثيرة وقليل من يعتبر والله المستعان.
(فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) وهو الشيطان يقول للمؤمنين كما قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم:22] وقال تعالى عن المؤمنين يقول المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يُضرب بينهم بسور (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ* يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [الحديد:14] .
/ ثم بيّن الله تعالى عداوة ابليس لابن آدم فقال (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) وتأمل قول الله (فَاتَّخِذُوهُ) فهي أبلغ من قوله (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عدو) لأنك إذا اتخذته عدواً تماماً كما تعلم أن الكافر المحارب عدو لك فتأخذ العُدّة والاستعداد لأي لحظة يهجم عليك فيها فكذلك قال (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) بعض الناس يدّعي عداوة الشيطان وهو مطيعٌ له كما قال الفضيل بن عياض -رحمه الله- قال: "يا مفتري يا كذّاب تزعم أنك عدو لإبليس في العلانية وأنت تطيعه في السر!" ولذلك قال (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) اجعلوه عدواً (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير) فهو يقصد أن يُضِلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير. يقول بعض العلماء: وتحت هذا الخطاب نوع لطيف من العتاب كأنما يقول إنما عاديتُ ابليس من أجل أبيكم آدم ومن أجلكم فكيف يحسن بكم أن توالوه؟! بل اللائق بكم أن تعادوه وتخالفوه ولا تطاوعوه. الله سبحانه وتعالى يقول أنا عاديت إبليس ولعنته وطردته من أجل أبيكم آدم فكيف تطيعونه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف:50].
/ (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) لما ذكر الله تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى عذاب السعير ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد لأنهم أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن وأن الذين آمنوا بالله ورسله وعملوا الصالحات لهم مغفرة لذنوبهم ولهم أجر كبير عند الله على ما عملوه من خير.
/ ثم قال تعالى (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) من الكفار والفجار يعملون أعمالا سيئة وهم يحسبون أنهم بذلك يحسنون صنعاً كما قال الله تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)) [الكهف] بعض الناس الآن يقيم على ما هوعليه من فجور وشرك وكفر ومعصية وقد يعمل أعمالاً يظن أنه أحسن وفي الواقع أنه أساء. أُنظر مثلاً إلى مُلّاك بعض القنوات السيئة الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً زُين لهم سوء عملهم -والعياذ بالله- فرأوه حسناً يضلّون الناس من خلال هذه المواقع ومن خلال هذه القنوات السيئة والخبيثة التي تنشر الفواحش والكفر والشرك والمعاصي والفساد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولهذا قال الله (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) لا تأسف على ذلك، فإن الله جل وعلا حكيم في قدرِه وحكيم في كونه يُضل من يشاء ويهدي من يشاء له الحجة التامة والعلم التام (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
(فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) يعني لا تأسف على ذلك فالله تعالى حكيم في قدرِه وفي أمره وفي نهيه ويضلّ من يشاء ويهدي من يشاء (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). وقد جاء في صحيح ابن حِبّان ومستدرك الحاكم وفي سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ومن أخطأه منه ضلّ فلذلك أقول جف القلم على ما علِم الله عزّ وجل).
ثم قال الله تبارك وتعالى (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) الريح والرياح تأتي في القرآن مفردة ومجموعة ولهذا الرياح ثمان: أربعٌ منها عذاب وأربعٌ منها رحمة. الرياح ثمان أربعٌ منها عذاب وهي:
القاصف كما قال تعالى (يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً) [الإسراء:69]
والعاصف قال تعالى (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً) [المرسلات:2]
والصرصر قال تعالى (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ) [فصلت:16]
والعقيم (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)) [الذاريات] هذه الأربع عذاب.
وأربعٌ منها رحمة وهي: (الناشِرات والمبشِّرات والمُرسَلات والذاريات)
قال تعالى (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً) [المرسلات:3]
وقال (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) [الروم:46]
والمرسلات قال تعالى (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً) [المرسلات:1]
وقال (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً) [الذاريات:1]
فالرياح ثمان أربع منها عذاب وأربع منها رحمة فالعذاب في القاصف والعاصف والصرصر والعقيم، والرحمة في الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات.
هنا الله سبحانه وتعالى قال (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ) كثيراً ما يستدل تعالى على البعث والحساب بإحياء الأرض بعد موتها كما في أول سورة الحج ينبه تعالى عباده أن يعتبروا بهذا لن الأرض تكون ميتة هامدة جامدة خاشعة لا نبات فيها سبحان الله إذا أنزل عليها المطر قبل أن تنبت ترى الأرض مشرقة وأيامنا هذه القريبة التى أنزل الله تعالى علينا غيثاً من السماء تتضح لك إذا نظرت في الأرض ذهبت الغُبرة وتطهرت الأرض وتنظفت استعداداً لما يشاؤه الله سبحانه وتعالى من إنبات النبات. ولهذا إذا أرسل الله السحاب إلى الأرض تحمل الماء وأنزله (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج:5] كذلك الأجساد إذا أراد الله أن ينشرها وأن يبعثها أنزل من تحت العرش مطراً يعم الأرض جميعاً فتنبت الأجساد بأمر الله وهي في قبورها كما ينبت الحب في الأرض. ولهذا قال قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح "كل ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذنب منه خلق ومنه يُركَّب" الذي هو في أسفل الظهر، الخرزة التي في أسفل الظهر ولذلك قال الله تعالى (كَذَلِكَ النُّشُورُ). وفيه علاقة بين الرياح وبين السحاب وبين المطر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (نُصِرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) الصبا الرياح الشرقية والدبور الريح الغربية كما قال الله عن عاد (فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) [فصلت:16] وأيضاً الرياح بأمر الله تجمع السحاب وتلقّح السحاب وتسوق السحاب بأمر الله ثم ينزل المطر فهناك علاقة وطيدة بين السحاب وبين الرياح وبين نزول المطر ونزول المطر دليل على عظيم قدرة الله تعالى في بعث الأجساد. (كَذَلِكَ النُّشُورُ) ولهذا جاء في حديث أبي رزين قال: (قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال يا أبا رزين أما مررت بواد قومك مَحْلاً ثم مررت به يهتز خَضِراً؟ قلت بلى، قال فكذلك يحيي الله الموتى).
ثم قال تبارك وتعالى (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تبارك وتعالى فإنه يحصل له مقصوده لأن الله بيده الدنيا والآخرة ولأنه سبحانه وتعالى يُعزّ من يشاء ويذل من يشاء وتأمل في أحوال الكفار والمنافقين في كل زمان ومكان أنهم يلجؤن دائماً وأبداً إلى الكفار يريدون أن يعتزوا بهم، قال الله تعالى (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) [النساء:139] فإذا تأملت في هذا القرآن العظيم تجد أن الله سبحانه وتعالى يصف نفسه بأنه العزيز ويصف نفسه بأنه عزيز ذو عزة فلله العزة جميعاً والعزة صفة تليق بجلال الله وعظمته كما قال تعالى (فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:209]
وقال (لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:6]
وقال جل وعلا (وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء:158]
وقال (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:74]
لأنه سبحانه هو الذي يعز ويُعلي وينصر من يشاء (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]
وكما أن صفة العزة لله جل شأنه فالمؤمن له نصيب من هذه العزة من الذى وهبه هذه العزّة؟ الله العزيز سبحانه. هذه الآية تحدد مسار الأفراد والمجتمعات في هذه الحياة الدنيا وبعد الممات، أين تكون العزة؟ وممن تطلب العزة؟ قال الله تعالى في هذا الخطاب الموجه لكفار قريش الذين كانوا يطلبون العزة بعبادة غير الله عز وجل استبقاء لمكانتهم بين قبائل العرب وهم أصحاب المكانة العالية الرفيعة الدينية في مكة فهم يظنون -يعتقدون- أن بقاءهم على عبادة الأصنام والأوثان يبقي لهم العزة بين العرب، كما أنه أيضاً تذكير للمؤمنين المستضعفين في مكة لأن سورة فاطر سورة مكية وهم يواجهون من الكفار صنوف الأذى أن الله تعالى يقول لهم (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ) هو الذى يهبها لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء، قال تعالى (وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يونس:65] والعزة هي المنعة والغلبة قالت العرب: من عز بزّ، فالعزة هي المنعة والغلبة. قال الله (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8] فمن كان يريد العزّة بعبادة الأوثان أو بالتوجه لغير الله أو بطاعة الطواغيت وعبادتهم من دون الله فإن العزة لله جميعاً. وقيل: من كان يريد عِلم العزة لمن هي فإن العزة لله جميعاً ذكره ابن جرير.
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) من التلاوة والذكر والدعاء يصعد إلى الله سبحانه وتعالى، الصلاة تصعد ولها نور إذا كان صاحبها أدّاها كاملة في وقتها محافظاً على شروطها وأركانها وواجباتها.
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال ابن عباس: "الكَلِم الطيب ذِكر الله يُصعد به إلى الله عز وجل والعمل الصالح أداء فرائض الله ومن ذكر الله ولم يؤدِ فرائضه رُد كلامه على عمله فكان أولى به. وقال مجاهد: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. فعندنا الآن عمل صالح وكلِم طيب، العمل الصالح أداء الفرائض وغيرها والكلم الطيب تلاوة القرآن وذكر الله وتسبيحه وتهليله ودعاؤه واستغفاره والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام هذا كلِم طيّب وهذا عمل صالح. قال إياس بن معاوية ا-لقاضي-: لولا العمل الصالح لم يُرفَع الكلام، وقال الحسن وقتادة: لا يُقبل قول إلا بعمل. ولهذا أنت تصلي والصلاة أفعال وأقوال أنت تتوجه إلى ربك وتدعوه بقلبك وبلسانك.
(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ) قال جماعة من السلف: هم المراءون بأعمالهم يمكرون بالناس يوهمون أنهم في طاعة الله وهم بغضاء إلى الله عز وجل يراؤون بأعمالهم وهذه الصفة أكثر ما تكون في المنافقين كما قال الله (يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:142] فالآية عامة في المشركين والمنافقين وغيرهم وأول من يدخل في هذه الآية هم المشركون ولهذا قال تعالى (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنُهى لأنه ما أسرّ عبدٌ سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله رداءها إن خيراً فخير وإن شراً فشر فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على إنسان أحمق غبي ما يفرِّق، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم بل يُكشف لهم عن قريب. والله جل وعلا لا تخفى عليه من أعمال العباد خافية فهو يعلم سرهم ونجواهم فهؤلاء الذين يراؤون الناس بأعمالهم ولا يخلصون القول والعمل لا شك أن عملهم حابط وفاسد ولهذا جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) وفي رواية (فهو للذي أشرك وأنا منه بريء). وهنا قال الله (وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) ويجوز أيضاً أن يكون كل من مكر ودبّر المكائد لرسل الله وللمؤمنين من عباد الله أن مكره وتدبيره وتخطيطه يكون وبالاً عليه وشرّاً عليه كما قال الله سبحانه وتعالى في قصة صالح عليه الصلاة والسلام (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)) [النمل] فكل من مكر مكره سيكون وبالاً عليه وكل من خطط ودبر لإيذاء عباد الله والنيل منهم فإن الله يبطل كيده ويجعل أمره في سِفال ويجعل عاقبة أمره خسراً وهذا من حفظ الله تعالى لأوليائه ولعباده المؤمنين نسأل الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين. نسأله سبحانه أن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد: فهذا هو المجلس الثاني من سورة فاطر يبدأ بقول الله تبارك وتعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
/ قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ابتداء خلق أبيكم آدم كان من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ولهذا قال تعالى (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا) أي ذكراً وأنثى، لطفاً منه سبحانه وتعالى ورحمة أن جعل لكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعلها من جنسكم كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) وقال (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
(وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) فهو جلّ وعلا هو العالم بذلك، لا يخفى عليه شيء، وقال هنا (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى) من أنثى يشمل أيّ أنثى سواء كانت من بني آدم أو من الجنّ أو من الطير أو من البهائم أو من الوحوش وغيرها (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ)، وقال تعالى (مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وقد تقدّم الكلام في سورة الرعد على قوله تعالى (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)).
وقوله (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) أي ما يُعطى بعض النُطَف من العمر الطويل يعلمه الله سبحانه وتعالى، وهو عنده في الكتاب الأول (وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) الضمير عائد على الجنس -كما يقول ابن كثير- لا على العين; لأن العين الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا يُنقَص من عمره، لكن عاد الضمير على الجنس، قال ابن جرير: وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه أي ونصف آخر يعني هنا الله يقول (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) يعني من عُمُر الشخص أيّ شخص كان (إِلَّا فِي كِتَابٍ) يعني في اللوح المحفوظ، وجاء عن ابن عباس: "ليس أحدٌ قضى الله له طول عمرٍ وحياة إلا وهو بالغٌ ما قدّر الله له من العمر وقد قضى الله جلّ وعلا له ذلك، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدّره الله سبحانه لا يُزاد عليه ولا يُنقص منه".
(وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ولهذا قال قتادة: "الذي يُنقَص من عمره الذي يموت قبل ستين سنة". وقيل: الذي ينقص من عمره هو ما لفظته الأرحام من الأولاد من غير تمام الذي يسمى السِقْط. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيرها: "ألا ترى الناس يعيش الإنسان مائة سنة وآخر يموت حين يولد فهذا هذا".
(إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) طبعاً زيادة العمر ونقصانه هو بأمر الله وهذه محل كلام للعلماء هل هناك أمور تزيد في العمر؟ وما هي الزيادة؟ هل هي زيادة حسية أو معنوية؟ وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: " من أحبّ أن يُبسَط له في رزقه ، ويُنسَأ له في أثره فليَصِل رحمه " وهنا من العلماء من قال: إن الزيادة زيادة حقيقة فيكون الآدمي له أجلان أجل تعلمه الملائكة وأجل مغيّب في علم الله فإذا وصل رحمه -والله عالم بحقائق الأمور هل سيصل أو لم يصل- فإذا وصل رحمه جاءته الزيادة التي كتب الله، مثل إنسان افرض إن الله كتب عمره تسعين سنة إذا وصل رحمه وعمره ستين سنة إذا لم يصل رحمه فالملائكة لا تعلم العمر المعلّق الذي هو التسعين إنما تعلم العمر الستين فإذا قيل لهم إذا وصل الرحم أوصلوه للتسعين وإذا لم يصل الرحم فأوصلوه للستين فهذا يسمونه الأجل المعلق أو العمر المعلق، وقيل: إن طول العمر وقصره إنما هو بحسب البركة فقد يعيش الإنسان عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو خمسين سنة ويكون كأنه عاش مئات السنين نظراً لما نفع الله تعالى به من أمور الخير والعلم والعمل والدعوة إلى آخره، وبعض الناس تسعين سنة ومئة سنة ولا كأنه عاش إلا عشر سنوات أو خمس سنوات نظراً لقصر ما عمل من الصالحات والخيرات وما إلى ذلك. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "خيركم من طال عمره وحَسُنَ عمله وشرّكم من طال عمره وساء عمله" وللسيوطي رسالة في موضوع الزيادة زيادة العمر ونقصانه من رغب أن يراجعها. (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فهو سهل عليه سبحانه وتعالى، يسير لديه لا يخفى عليه منه شيء.
ثم قال الله تبارك وتعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ )، (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ) هذا إخبار عن قدرته جلّ وعلا وحكمته ورحمته أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم وأنه لم يسوي بينهما لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار عذبة فراتاً شرابها سائغاً لينتفع بها العباد في شربهم وزراعتهم وحرثهم وأن يكون البحر ملحاً أجاجاً لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض وبروائح ما يموت في البحر من الدواب ومن الحيوانات ولأن البحر ساكن لا يجري فملوحته تمنعه من التغير سبحان الله! النهر جاري والبحر ساكن فالبحر بما أنه ساكن قد يموت فيه دواب ويموت فيه حيوانات وكذا فملوحته تمنع من التغير ولتكون حيواناته أيضاً أحسن وألذ ولهذا قال تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار تكون مادته مالحة مُرّة (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) أي مُرّ.
(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا) يعني السمك، (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) كما قال تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)) [الرحمن].
(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) وفي سورة النحل (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ)، (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) أي تمخره وتشقُّه بمقدمتها المسنّمة الذي يشبه جؤجؤ الطير وهو صدره، تمخر الريح السفن، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام الكبيرة جداً.
(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في أسفاركم بالتجارة من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تشكرون ربكم على فضله وعلى نعمه وعلى تسخيره هذا الخلق العظيم، وهو البحر، تتصرفون فيه كما تشاءون، وتذهبون كما تريدون.
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة، في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه، يأخذ النهار من طول الليل ويزيد والعكس ويعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا، ويطول هذا ويقصر هذا، يتقارضان في الصيف وفي الشتاء (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) كلٌّ يجري لأجل مسمى يعني إلى يوم القيامة (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) الذي فعل هذا هو الرب العظيم القادر على كل شيء الذي لا إله غيره (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأنداد والأصنام سواء كانت من الأحجار أو غيرها (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) وهي اللفافة التي تكون على نواة التمرة ، يعني لا يملكون من السماوات والأرض شيئاً ولا بمقدار هذا القطمير، وهذه الآية سبق نظيرها قريباً في قوله تعالى في سورة سبأ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) هنا قال (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) وفي سورة النساء (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)، (وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، الفتيل والنقير والقطمير كيف نفرِّق بينها؟
النقير: النقرة -الحفرة- التي تكون على النواة
والفتيل الذي يكون في شق النواة كالحبل الصغير
والقطمير اللفافة التي تكون على نواة التمر.
فهنا (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) ثم بين الله ذلك بقوله (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ) يعني هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله لأنها جماد لا روح فيها لو دعوتموها ما أجابت الدعاء (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ) يعني لا يقدرون على ما تطلبون منهم، لو فرضنا أنهم سمعوا ما استطاعوا أن يجيبوا، ثم قال تعالى (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) يتبرؤون منكم ومن عبادتكم كما قال تعالى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) وقد سبق قريباً كيف تجري المحاورة والمناقشة بين الأتباع وبين متبوعيهم. وقال تعالى (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا).
(وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي لا يُخبِرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها وهو الله جلّ وعلا. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
/ ثم أخبر جلّ وعلا عن غناه التامّ وفقر العباد إليه فقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) لأن العبد فقير إلى الله، والفقر وصفُ ذاتٍ لازمٌ له، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسيكين في مجموع حالاتي، أنا الظَلوم لنفسي وهي ظالمة والخير إن جاءنا من عنده يأتي" يقول : هذا الفقر وصف ذاتٍ للعباد كما أن الغنى كما أن الغنى وصف ذات الله تبارك وتعالى، فالعبد فقير حتى لو كان عنده مال وولد، العبد فقير إلى الله لو كان مؤمناً تقياً نقياً مهتدياً فهو فقير إلى الله، فالفقر لازم للعبد كما أن الغنى لازم لله تبارك وتعالى. (أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) محتاجون إلى الله في الحركات والسكنات (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ) المنفرد بالغنى وحده (الْحَمِيدُ) الذي يُحمَد لذاته سبحانه وتعالى ويحمد على شرعه وقدره وخلقه وأمره ونهيه (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم، وهذا ليس بممتنع على الله سبحانه وتعالى (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ).
/ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) أي يوم القيامة، لا تزر وازرة وزر أخرى وهذه الآية سبقت في مواضع من القرآن أنها لا تزر وازرة وزر نفس أخرى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا) أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تُساعَد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضها (لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) ولو كان هذا الشخص قريباً إليها، حتى ولو كان أباها أو ابنها، كما قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)) كل إنسان مشغول بنفسه وقال عكرمة: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا) هو الجار يتعلّق بجاره يوم القيامة، فيقول: يا رب، سل هذا: لِمَ كان يغلق بابه دوني، وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة فيقول له: يا مؤمن، إن لي عندك يداً، قد عرفتَ كيف كنت لك في الدنيا وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له إلى ربه حتى يردّه إلى منزل دون منزله، وهو في النار. وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول: أيّ بني، أي والد كنت لك؟ إلى آخر هذا الأثر الذي ذكره عكرمة. ويقصد أنه أحياناً الإنسان هو لا ينفع إلا بأمر الله (لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)) إلا الشفاعة والشفاعة لا تكون كما سبق إلا بإذن الله ورضاه.
(إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) أي إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنُهى، الخائفون من ربهم، الفاعلون ما أمرهم جلّ وعلا به. (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) من تزكّى، من اتعظ، من عمل صالحاً فإنما يعود هذا على نفسه، وإلى الله جل وعلا المرجع والمآب، وهو سريع الحساب، وسيجزي كل عاملٍ بعمله، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، من تزكّى فإنما يتزكّى لنفسه. قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمنين وللكافرين فالمؤمنون أحياء والكافرون أموات كما قال تعالى (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فقال تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) فكما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة لا يستوي الأعمى والبصير، كذلك بينهما فروق كثيرة، ولا تستوي الظلمات والنور، ولا الظِلُّ ولا الحَرور، الحَرّ السموم، كذلك الأحياء والأموات لا يستوون فهذا مثلٌ ضربه الله للمؤمنين المهتدين الذين منّ الله تعالى عليهم بالهداية وهم الأحياء وللكافرين وهم الأموات (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا). وقال تعالى (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) فالمؤمن سميع بصير في نور يمشي على صراط مستقيم في الدنيا وفي الآخرة حتى يستقر به الحال في الجنة، والكافر أعمى أصمّ في ظلمات يمشي لا يخرج منها (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) فهو في ضلاله وتيه في الدنيا والآخرة، حتى يُفضي به ذلك إلى السموم والحميم والحَرور (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ).
(إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ) أي يهديهم إلى سماع الحُجّة وإلى قبولها وإلى الانقياد لها (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) كما لا يسمع ولا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفّار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب الله عليهم الشقاء لا حيلة فيهم ولا تستطيع أن تهديهم كما سبق في سورة النمل في قوله تعالى (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).
(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي إنما عليك البلاغ والإنذار والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. / (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين.
(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) أي ما من أمة من الأمم خلت من بني آدم ومضت إلا وقد بعث الله إليهم النُذر كما قال تعالى (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، وكما قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) فهم هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام يقومون بهذه النذارة ليخرجوا الناس بإذن الله من الظلمات إلى النور وكل أمة لها نذير (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) لتقوم الحُجّة على الناس.
(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) وهي المعجزات والأدلة الظاهرة (وَبِالزُّبُرِ) وهي الكتب السابقة (وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) أي الواضح البيّن. (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) مع هذا كله مع هذه البينات ومع فصاحة الرسل وبيانهم ومع ما جاؤوا به من الأدلة والبراهين (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ). ثم قال (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لما كفروا أخذهم الله بالعقوبة والنكال (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) أي فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيماً شديداً بليغاً حيث عذّبهم الله سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى مبيناً أيضاً أدلة على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من شيء واحد كما قال تعالى (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهنا قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا) هذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أخضر، وهذا حلو، وهذا حامض، وهذا مُرّ، وهذا كذا، وهذا كذا، (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا) وهذا مُشاهَد من تنوع الألوان والطعوم والروائح، مع أن النازل واحد والأرض واحدة، سبحان الله! النازل واحد وهو الماء والأرض واحدة ومع ذلك يُسقى بماء واحد وفي أرض واحدة ومتفاوت الطعوم والأشكال والأنواع والألوان والحجم، الأحجام متفاوتة فهذا دليل على عظيم قدرة الله تعالى.
(وَمِنَ الْجِبَالِ) أيضاً (وَمِنَ الْجِبَالِ) وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو مُشاهَد جبال بيض وحمر وفي بعضها طرائق وهي الجُدَد: جمع جُدّة سيبل وطريق.
(وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) قال عكرمة: الغرابيب السود هي الجبال الطوال السود، وكذا قال غيره، وقال ابن جرير والعربي: إذا وصفوا الأسود لكثرة السواد قالوا: أسود غربيب يعني حالك السواد، فالمهم أن الجبال فيها بيض وفيها حمر وفيها مختلفة الألوان. قوله (بِيضٌ) لا يشترط أن يكون أبيض كالجصّ، لا، إنما الأبيض الأصهب الذي لونه يكون فاتحاً قريب من البني هذا يسمى أبيض، يعني ليس بلازم أن ترى جبلاً كالجصّ الأبيض، لا، لكن هذا موجود بقدرة الله، موجودة الأنواع هذه. (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) يعني خلق الله كذلك من الحيوانات، والدواب: كل ما دبّ على قوائم، والأنعام، من باب عطف الخاص على العام، كذلك مختلفة، الناس منهم أصناف منهم العرب والعجم والبربر والحبشة إلى آخره، منهم أناس في غاية السواد، ومنهم ناس في غاية البياض، والعرب بين البياض والسواد، ومنهم كذا، ومنهم كذا، بأمر الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) كذلك الدواب والأنعام مختلفة، طبعاً ولا تفضيل للون على لون ولا جنس على جنس إلا بالتقوى كما قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، ولهذا قال (مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) أي إنما يخشى الله حقَّ خشيته هم العلماء العارفون بالله، العاملون بعلمهم، لأنه من كان بالله أعرف كان منه أخوف وله أخشى وذكر ابن جماعة أن الله تعالى قال هنا (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقال في سورة البينة (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ثم قال في آخرها (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية فتبين بهذا -يقول-: أن العلماء هم خير البرية - لاحظتم الاستنتاج-، وهنا (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) قال ابن عباس: الذي يعلمون أن الله على كل شيء قدير. والمقصود بالعلماء هو العاملون بعلمهم، قال ابن مسعود: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال عمر: كفى بخشية الله علماً. ولما قيل للإمام أحمد بن حنبل ذُكِر له معروف الكرخي الزاهد العابد فقال رجل: ذاك قصير العلم، فقال الإمام أحمد: حَسْبُك وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف، أو قال: حسبك بما عنده من العلم عنده خشية الله، فخشية الله هي العلم، ليس العلم الهذر وكثرة القيل والقال والقدرة على المنطق والكلام أو سرد الأسانيد، العلم هو خشية الله سبحانه وتعالى، وعمل الإنسان بعلمه هذا هو العلم. قال أحمد بن صالح المصري: الخشية لا تُدرَك بكثرة الرواية، وأما العلم الذي فرض الله عز وجل أن يُتّبَع فإنما هو في الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويله قوله: نور يريد به فهم العلم ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن بعضهم: كان يقال العلماء ثلاثة:
- عالِمٌ بالله عالِمُ بأمر الله
- وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله
- وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله
فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض
والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض
والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله
وخيرهم أوّلهم، وشرّهم آخرهم.
/ ثم قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) هنا إخبارٌ من الله عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتاب الله وهو القرآن الكريم، (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ) ويعملون بما فيه ومما فيه إقام الصلاة ولهذا قال (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) ومما فيه الإنفاق ولهذا قال (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) يعني يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله لأن القرآن يشفع كما قال عليه الصلاة والسلام (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ منعته الطعام والشراب في النهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: أي ربّ منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، قال: فيشفعان).
(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) إي والله هذه هي التجارة كان مطرِّف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القُراء. فهنيئاً لحامل كتاب الله، هنيئاً للتالي كتاب الله سبحانه وتعالى، كم من الآيات والفضائل وردت في فضل القرآن وأهل القرآن وقُرّاء كتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا توّج قراءته بتدبر القرآن والعمل به ومعرفة تفسيره فهذا نور على نور وخير على خير.
(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ) يعني هذه التجارة تجارة لا تضمحل ولا تزول ولا تفسد، قال عليه الصلاة والسلام (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقرؤه آناء الليل وأطرف النهار، ورجل آتاه الله الحِكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها).
(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) فهؤلاء المؤمنون الذين يتلون كتاب الله ويعملون بما فيه ويتدبرونه ويعرفون حلاله وحرامه (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) فيعطيهم هذا الثواب العظيم، الذي وعدهم به، بزيادة لم تخطر لهم على بال. (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ) لذنوبهم (شَكُورٌ) للقليل من أعمالهم، فهو سبحانه من أسمائه الغفور ومن أسمائه الشكور، وهو الذي يشكر القليل من العمل ويضاعفه لصاحبه حتى يكون أضعافاً مضاعفة، (ومن قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) كما جاء في الحديث، والله الموفق.
المجلس الثاني
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿٣١﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد. فهذا هو المجلس الثالث وهو الأخير من سورة فاطر التي تسمي بسورة الملائكة.
قال الله تبارك وتعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)) يقول تعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا محمد من هذا القرآن العظيم (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب السابقة التي تشهد بصدقه وتنوِّه بذِكْرِه وذِكر كتابه فهو منزّل من رب العالمين.
(إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) خبيرٌ بهم بصيرٌ بمن يستحق ما يفضله به على من سواه، ولهذا فضّل الأنبياء والرسل على جميع البشر، وفضّل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل محمداً عليه الصلاة والسلام فوق جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
/ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) وهم المؤمنون كما قال تعالى (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فالمؤمنون هم الذين اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم. (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) قال القرطبي: هذه الآية مشكلة، فيها إشكالٌ كبير، ووجه الإشكال: أن الآية قسّمت الناس إلى ثلاثة أصناف، ثلاثة أقسام: الأول: الظالم لنفسه
والثاني: المقتصد
والثالث: السابق بالخيرات.
فمن هو الظالم لنفسه؟ هذا فيه قولان لأهل العلم:
- قيل: إن الظالم لنفسه هو الكافر والمنافق، وهذا قولٌ فيه ما فيه.
وقيل: إن الظالم لنفسه هو من هذه الأمة وهو الذي عليه بعض الذنوب والمعاصي مع أصل الإيمان.
وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطَفَيْن الوارثين الكتاب. وجاء عن ابن عباس أنه الكافر، كما أسلفت، وجاء عن مجاهد قال: هم أصحاب المشأمة، وقال قتادة : هو المنافق، وجاء عن بعض السلف كالحسن وقتادة وغيرهما أن هذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها.
قال ابن كثير: والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا هو اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، أن الظالم لنفسه أنه من هذه الأمة، وهو المفرِّط في بعض الواجبات المرتَكِب لبعض المحرمات.
(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو المؤدّي للواجبات التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات.
(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) وهو الفاعل للواجبات وللمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات، وقد جاء عن ابن عباس في الآية قال: "هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورّثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يُغفر له، ومقتصدهم يُحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب".
هنا الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) فهذا دليل على أن هؤلاء الأصناف الثلاثة، طبعاً أورد الحافظ ابن كثير رحمه الله أربعة أحاديث تدل على أنهم من هذه الأمة وأن الله سبحانه وتعالى قال (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ) يعني أعطينا الكتاب، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا) تدل على أنهم من هذه الأمة وأنهم أقسام ثلاثة.
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ) قال القرطبي: "أي أعطينا الكتاب هنا يُراد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده وكأنّ الله تعالى لمّا أعطى أمة محمد القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة فكأنه ورّث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا". (الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا) أي اخترنا (مِنْ عِبَادِنَا) فيها قولان:
قيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وقيل: المصطفون الأتقياء توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخرهم.
المهم هنا قال الله (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)
الظالم لنفسه هذا يفعل الواجبات وقد يفرِّط في بعضها وقد يرتكب بعض المحرّمات، والمقتصد يؤدي الواجبات ويترك المحرمات، وقد يترك بعض المستحبات وقد يفعل بعض المكروهات، والسابق بالخيرات بإذن الله هو الفاعل للواجبات والمستحبات، والتارك للمكروهات والمحرمات وبعض المباحات.
لكن الله سبحانه وتعالى هنا قال بعد ذلك (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) ولهذا الصحيح أن هؤلاء الثلاثة الأقسام ناجون كما روى ابن جرير عن أبي إسحاق السَّبِيعِيِّ قال: أما ما سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناجٍ. كلهم ناجٍ يقصد الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات، وسئل محمد بن علي الباقر -رحمه الله- عن قوله (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) قال هو الذي خلط عمل صالحاً وآخر سيئاً. قال ابن كثير: وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، - يقول ابن كثير - وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما روى الإمام أحمد حديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع) الحديث، ثم ذكر حديثاً في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وهو هذا الحديث ثم ذكر حديثاً آخر أشار إليه في تفسير سورة طه، وهنا أن الله يقول يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي.
فيقول: أولى الناس بالبشارة بهذه الآية هم العلماء.
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) يقول بعض أهل العلم: حقٌ لهذا الواو أن تُكتب بماء العينين. (واو) يدخلونها. الثلاثة كل الأقسام، ويحضرني في صحيح البخاري حديث سمرة يحضرني الآن في رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام أنه استقبله ناسٌ شطرٌ من وجوههم حسن وشطرٌ من وجوههم قبيح فقال لهم الملك اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فذهبوا فوقعوا فيه فذهب ما بهم، قال في آخر الحديث: (وهؤلاء قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، تجاوز الله عنهم). (جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة، فهذا مأوى المصطفَيْن من عباده الذين ورثوا الكتاب المنزّل، (يَدْخُلُونَهَا) يقيمون فيها إقامة دائمة (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" رواه مسلم. (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) العلماء يقولون: إن من أرجى آيات القرآن هذه الآيات، الواو في يدخلونها فإنها تشمل الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق، فيقولون: هذه الآية هي من أرجى الآيات مع قوله (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ).
(يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) وجاء في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام (أنه من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) وقال (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب).
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قال إبراهيم التيمي: "ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)، وينبغي لمن لم يُشفِق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة، لأنهم (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)".
(وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أذهب عنا الخوف من المحذور، وأزاحه عنا، وأراحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا وأيضاً هموم الآخرة. (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) شَكَرَ القليل من العمل وضاعَفه.
(الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) أعطانا هذه المنزلة وهذا المقام من فضله ومنّتة ورحمته ولم تكن بأعمالنا التي عملناها ولهذا جاء في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل).
(لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) يعني لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء.
النصب واللغوب كلٌ منهما يستعمل في التعب، فنفي الله عنهم هذا وهذا فلا تعب على أبدانهم ولا على أرواحهم، ولهذا أهل الجنة هل عندهم عبادة؟ يُلْهَمون التسبيح ويتلذذون بذلك، فهم في راحة مستمرة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) -جعلني الله وإياكم منهم-.
/ ثم لما ذكر حال السعداء الأبرار ذكر حال ومآل الأشقياء فقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) كما قال تعالى (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم (فأما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون)
(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)
وقال (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)
وقال (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)
وقال (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا)
(كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) هذا جزاء كلُّ من كفر بربه وردّ دعوة المرسلين.
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) ينادون فيها، يجأرون إلى الله بأصواتهم (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) يسألون الرجعة في الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول والرب جلّ جلاله يعلم أنهم لو ردوا لعادوا كما قال تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، وقال تعالى مخبراً عنهم في قولهم (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) قال (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) ولهذا قال هنا (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) فطالت أعماركم، أخذتم ما شاء الله أن تأخذوا من الأعمار، قيل: العمر سبعة عشر سنة، وقال بعض المفسرين: مقدار ما عُمِّروا ثمانية عشرة سنة، وقيل: عشرين، وقيل: أربعين، وعلى كل حال، الله سبحانه وتعالى عمّرهم أعماراً كافية لأن تبلُغَهم الحُجّة وتقوم عليهم الحجة ويصلهم البلاغ، وكان مسروق يقول: "إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حِذره من الله عز وجل".
وكان ابن عباس يقول: "العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم أربعون سنة". وجاء عن ابن عباس: "أن العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) هو ستون سنة" وهذه الرواية كما يقول ابن كثير أصحُّ عن ابن عباس وهي الصحيحة في نفس الأمر لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال (أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغه ستين سنة).
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إنما حسُن طول العمر ونفع ليحصل التذكر والاستدراك واغتنام الفرص والتوبة النصوح كما قال تعالى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاح معايبه واغتنام بقية أنفاسه فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم وإلا فلا خير له في حياته".
لا تغبطن على البقاء مُعمراً ** فالموت أسرع ما يؤول إليه
فإذا دعوت بطول عمر لامرئ ** فاعلم بأنك قد دعوت عليه
إلا للمؤمن، المؤمن الذي يمتع بقوته وصحته ونشاطه فإن بقاء المؤمن خير له عند الله سبحانه وتعالى، لأنه يكثر من الصالحات كم صلى لله؟ وكم حج؟ وكم اعتمر؟ وكم ختم القرآن؟ وكم استغفر؟ وكم ذكر الله؟ وكم وصل الرحم؟ وكم قام بعبادة وصلة؟، أما الفاجر والمنافق والكافر فإنه كما قال الله عز وجل (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) وقال تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) والنبي عليه السلام والسلام كما في سنن الترمذي وابن ماجه قال (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلّهم من يجوز ذلك).
(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال القرطبي: فيه ستة أقوال: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)
قيل القرآن وقيل الرسول وقيل الشيب وقيل الحمّى وقيل موت الأهل والأقارب وقيل كمال العقل، هذه ستة أقوال، لكن القرطبي يقول: بالنسبة للشيب، والحمى، وموت الأهل والأقارب، هذا كله إنذارٌ بالموت، (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ).
وجاء عن سفيان بن عيينة جاء عن ابن عباس وعكرمة وجماعة (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) يعني الشيب
وقال السُدّي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى) يعني قال بعض السلف: احتجّ عليهم بالعمر والرسل.
(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) جاءكم الرسول، وجاءكم القرآن، وبلغتم من العمر ما شاء الله أن تبلغوه وتعرفوا حجج الله ودين الله، (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي يقال لهم ذوقوا عذاب الله جزاء مخالفتكم للأنبياء في مدة أعمالكم، في أعمالكم فيما أعطاكم الله تعالى من الأعمار.
/ (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي يخلف قوم لآخرين قبلهم وجيلٌ لجيل قبلهم كما قال تعالى (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) وقال هنا (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) يعني وبال هذا الكفر يعود عليه نفسه دون غيره كما قال تعالى (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا) أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله عز وجل، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشرّكم من طال عمره وساء عمله).
/ (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) هذا سبق نظيره أن الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله: أن يقول للمشركين أخبروني عن هذه الأنداد والأصنام والشركاء (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) ما هي أعمالهم؟! ما يملكون شيئاً مثقال ذرة وما يملكون من قطمير، ما عندهم شيء! (أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي أم أنزلنا عليهم كتاباً بما يقولون من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا) أي إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور وباطل وزور.
ثم أخبر الله جل وعلا عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره وما جعل فيها من القوة الماسكة لهما فقال (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) يعني أن تضطربا عن أماكنهما كما قال سبحانه :
(وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)
وقال (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ)
وقال هنا (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو سبحانه وتعالى، مع حلمه ومغفرته، يرى عباده يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم عليهم ويؤخر ويؤجل ولا يعجل العقوبة، ويستر آخرين ويغفر ذنوبهم، ولهذا قال (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) جل وعلا.
/ (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) هذا خبر عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، قبل إرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) قيل (أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) : اليهود والنصارى
وقيل المراد بقوله (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يعني من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل كقوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا)، وهذا كقوله تعالى (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
(169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)).
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ) وهو محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل الله عليه من هذا الكتاب العظيم وهو القرآن (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) فلما جاءهم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وأنزل الله عليهم القرآن ما زادهم ذلك إلا كفراً إلى كفرهم (مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا).
ثم بيّن جل وعلا أن هذا بسبب الكِبر فقال (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ) استكبروا عن اتّباع آيات الله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ومكروا بالناس في صدّهم إياهم عن سبيل الله عز وجل، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) لا يحيق، لا ينزل المكر السيئ إلا بأهله.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وقد شاهد الناس عياناً أن من عاش بالمكر مات بالفقر" ثم ذكر أمثلة كثيرة ومهمة كأنها تحكي واقع الناس اليوم في آخر مجلّد من "إغاثة اللهفان"، قال: "شاهد الناس عياناً أن من عاش بالمكر مات بالفقر، ولهذا قال تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)" قال الضحّاك: قال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينجو حتى ينزل به - يعني ينزل به هذا الشر وهذا الضرر- من مَكَر أو بغى أو نكث، وكلها في القرآن.
المكر قال الله هنا (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)
والبغي (إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) والنكث (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ).
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ) يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم لرسله ومخالفتهم أمره، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) يعني لا تتغير ولا تتبدل بل هي جارية كذلك في جميع المكذبين للمرسلين (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) كما قال تعالى (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ) فلا يستطيع أحد أن يؤخر هذه العقوبة أو يحوّلها عنهم.
/ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)
يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام قل لهؤلاء المكذبين بما جئت به من الرسالة: سيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل، كيف أن الله سبحانه وتعالى دمّر عليهم وللكافرين أمثالها ، خليت منازلهم، وذهب ما كان يتمتعون به من مال وقوة وعُددٍ وعَدد، كل هذا ما دفع عنهم عذاب الله عز وجل، (إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) فهو عليم بجميع الكائنات، قدير على مجموعها.
ثم أخبر عن حلمه سبحانه وتعالى فقال: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) أي لو واخذهم الله بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دوابّ وأرزاق. قال ابن مسعود: "كاد الجُعْل أن يعذَّب في جُحره بذنب ابن آدم" ثم قرأ (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)، وقال سعيد بن جبير والسدي في قوله (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) قال: "لما سقاهم المطر، فماتت جميع الدواب". (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) ينظرهم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة وأهل الاستقامة وأهل التقوى، ويجازي بالعقوبة أهل المعصية والكفر والتكذيب، ولهذا قال تعالى (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) فهو سبحانه يعلم المُحْسِن من المسيء ويعلم العاصي من المطيع، لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
وبهذا انتهى تفسير سورة فاطر. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
---------------------------------------
المصدر: ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
(وَمِنَ الْجِبَالِ) أيضاً (وَمِنَ الْجِبَالِ) وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو مُشاهَد جبال بيض وحمر وفي بعضها طرائق وهي الجُدَد: جمع جُدّة سيبل وطريق.
(وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) قال عكرمة: الغرابيب السود هي الجبال الطوال السود، وكذا قال غيره، وقال ابن جرير والعربي: إذا وصفوا الأسود لكثرة السواد قالوا: أسود غربيب يعني حالك السواد، فالمهم أن الجبال فيها بيض وفيها حمر وفيها مختلفة الألوان. قوله (بِيضٌ) لا يشترط أن يكون أبيض كالجصّ، لا، إنما الأبيض الأصهب الذي لونه يكون فاتحاً قريب من البني هذا يسمى أبيض، يعني ليس بلازم أن ترى جبلاً كالجصّ الأبيض، لا، لكن هذا موجود بقدرة الله، موجودة الأنواع هذه. (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) يعني خلق الله كذلك من الحيوانات، والدواب: كل ما دبّ على قوائم، والأنعام، من باب عطف الخاص على العام، كذلك مختلفة، الناس منهم أصناف منهم العرب والعجم والبربر والحبشة إلى آخره، منهم أناس في غاية السواد، ومنهم ناس في غاية البياض، والعرب بين البياض والسواد، ومنهم كذا، ومنهم كذا، بأمر الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) كذلك الدواب والأنعام مختلفة، طبعاً ولا تفضيل للون على لون ولا جنس على جنس إلا بالتقوى كما قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، ولهذا قال (مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) أي إنما يخشى الله حقَّ خشيته هم العلماء العارفون بالله، العاملون بعلمهم، لأنه من كان بالله أعرف كان منه أخوف وله أخشى وذكر ابن جماعة أن الله تعالى قال هنا (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقال في سورة البينة (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ثم قال في آخرها (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية فتبين بهذا -يقول-: أن العلماء هم خير البرية - لاحظتم الاستنتاج-، وهنا (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) قال ابن عباس: الذي يعلمون أن الله على كل شيء قدير. والمقصود بالعلماء هو العاملون بعلمهم، قال ابن مسعود: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال عمر: كفى بخشية الله علماً. ولما قيل للإمام أحمد بن حنبل ذُكِر له معروف الكرخي الزاهد العابد فقال رجل: ذاك قصير العلم، فقال الإمام أحمد: حَسْبُك وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف، أو قال: حسبك بما عنده من العلم عنده خشية الله، فخشية الله هي العلم، ليس العلم الهذر وكثرة القيل والقال والقدرة على المنطق والكلام أو سرد الأسانيد، العلم هو خشية الله سبحانه وتعالى، وعمل الإنسان بعلمه هذا هو العلم. قال أحمد بن صالح المصري: الخشية لا تُدرَك بكثرة الرواية، وأما العلم الذي فرض الله عز وجل أن يُتّبَع فإنما هو في الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويله قوله: نور يريد به فهم العلم ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن بعضهم: كان يقال العلماء ثلاثة:
- عالِمٌ بالله عالِمُ بأمر الله
- وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله
- وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله
فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض
والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض
والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله
وخيرهم أوّلهم، وشرّهم آخرهم.
/ ثم قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) هنا إخبارٌ من الله عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتاب الله وهو القرآن الكريم، (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ) ويعملون بما فيه ومما فيه إقام الصلاة ولهذا قال (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) ومما فيه الإنفاق ولهذا قال (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) يعني يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله لأن القرآن يشفع كما قال عليه الصلاة والسلام (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ منعته الطعام والشراب في النهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: أي ربّ منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، قال: فيشفعان).
(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) إي والله هذه هي التجارة كان مطرِّف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القُراء. فهنيئاً لحامل كتاب الله، هنيئاً للتالي كتاب الله سبحانه وتعالى، كم من الآيات والفضائل وردت في فضل القرآن وأهل القرآن وقُرّاء كتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا توّج قراءته بتدبر القرآن والعمل به ومعرفة تفسيره فهذا نور على نور وخير على خير.
(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ) يعني هذه التجارة تجارة لا تضمحل ولا تزول ولا تفسد، قال عليه الصلاة والسلام (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقرؤه آناء الليل وأطرف النهار، ورجل آتاه الله الحِكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها).
(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) فهؤلاء المؤمنون الذين يتلون كتاب الله ويعملون بما فيه ويتدبرونه ويعرفون حلاله وحرامه (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) فيعطيهم هذا الثواب العظيم، الذي وعدهم به، بزيادة لم تخطر لهم على بال. (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ) لذنوبهم (شَكُورٌ) للقليل من أعمالهم، فهو سبحانه من أسمائه الغفور ومن أسمائه الشكور، وهو الذي يشكر القليل من العمل ويضاعفه لصاحبه حتى يكون أضعافاً مضاعفة، (ومن قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) كما جاء في الحديث، والله الموفق.
المجلس الثاني
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿٣١﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد. فهذا هو المجلس الثالث وهو الأخير من سورة فاطر التي تسمي بسورة الملائكة.
قال الله تبارك وتعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)) يقول تعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا محمد من هذا القرآن العظيم (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب السابقة التي تشهد بصدقه وتنوِّه بذِكْرِه وذِكر كتابه فهو منزّل من رب العالمين.
(إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) خبيرٌ بهم بصيرٌ بمن يستحق ما يفضله به على من سواه، ولهذا فضّل الأنبياء والرسل على جميع البشر، وفضّل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل محمداً عليه الصلاة والسلام فوق جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
/ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) وهم المؤمنون كما قال تعالى (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فالمؤمنون هم الذين اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم. (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) قال القرطبي: هذه الآية مشكلة، فيها إشكالٌ كبير، ووجه الإشكال: أن الآية قسّمت الناس إلى ثلاثة أصناف، ثلاثة أقسام: الأول: الظالم لنفسه
والثاني: المقتصد
والثالث: السابق بالخيرات.
فمن هو الظالم لنفسه؟ هذا فيه قولان لأهل العلم:
- قيل: إن الظالم لنفسه هو الكافر والمنافق، وهذا قولٌ فيه ما فيه.
وقيل: إن الظالم لنفسه هو من هذه الأمة وهو الذي عليه بعض الذنوب والمعاصي مع أصل الإيمان.
وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطَفَيْن الوارثين الكتاب. وجاء عن ابن عباس أنه الكافر، كما أسلفت، وجاء عن مجاهد قال: هم أصحاب المشأمة، وقال قتادة : هو المنافق، وجاء عن بعض السلف كالحسن وقتادة وغيرهما أن هذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها.
قال ابن كثير: والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا هو اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، أن الظالم لنفسه أنه من هذه الأمة، وهو المفرِّط في بعض الواجبات المرتَكِب لبعض المحرمات.
(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو المؤدّي للواجبات التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات.
(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) وهو الفاعل للواجبات وللمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات، وقد جاء عن ابن عباس في الآية قال: "هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورّثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يُغفر له، ومقتصدهم يُحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب".
هنا الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) فهذا دليل على أن هؤلاء الأصناف الثلاثة، طبعاً أورد الحافظ ابن كثير رحمه الله أربعة أحاديث تدل على أنهم من هذه الأمة وأن الله سبحانه وتعالى قال (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ) يعني أعطينا الكتاب، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا) تدل على أنهم من هذه الأمة وأنهم أقسام ثلاثة.
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ) قال القرطبي: "أي أعطينا الكتاب هنا يُراد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده وكأنّ الله تعالى لمّا أعطى أمة محمد القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة فكأنه ورّث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا". (الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا) أي اخترنا (مِنْ عِبَادِنَا) فيها قولان:
قيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وقيل: المصطفون الأتقياء توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخرهم.
المهم هنا قال الله (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)
الظالم لنفسه هذا يفعل الواجبات وقد يفرِّط في بعضها وقد يرتكب بعض المحرّمات، والمقتصد يؤدي الواجبات ويترك المحرمات، وقد يترك بعض المستحبات وقد يفعل بعض المكروهات، والسابق بالخيرات بإذن الله هو الفاعل للواجبات والمستحبات، والتارك للمكروهات والمحرمات وبعض المباحات.
لكن الله سبحانه وتعالى هنا قال بعد ذلك (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) ولهذا الصحيح أن هؤلاء الثلاثة الأقسام ناجون كما روى ابن جرير عن أبي إسحاق السَّبِيعِيِّ قال: أما ما سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناجٍ. كلهم ناجٍ يقصد الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات، وسئل محمد بن علي الباقر -رحمه الله- عن قوله (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) قال هو الذي خلط عمل صالحاً وآخر سيئاً. قال ابن كثير: وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، - يقول ابن كثير - وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما روى الإمام أحمد حديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع) الحديث، ثم ذكر حديثاً في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وهو هذا الحديث ثم ذكر حديثاً آخر أشار إليه في تفسير سورة طه، وهنا أن الله يقول يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي.
فيقول: أولى الناس بالبشارة بهذه الآية هم العلماء.
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) يقول بعض أهل العلم: حقٌ لهذا الواو أن تُكتب بماء العينين. (واو) يدخلونها. الثلاثة كل الأقسام، ويحضرني في صحيح البخاري حديث سمرة يحضرني الآن في رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام أنه استقبله ناسٌ شطرٌ من وجوههم حسن وشطرٌ من وجوههم قبيح فقال لهم الملك اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فذهبوا فوقعوا فيه فذهب ما بهم، قال في آخر الحديث: (وهؤلاء قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، تجاوز الله عنهم). (جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة، فهذا مأوى المصطفَيْن من عباده الذين ورثوا الكتاب المنزّل، (يَدْخُلُونَهَا) يقيمون فيها إقامة دائمة (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" رواه مسلم. (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) العلماء يقولون: إن من أرجى آيات القرآن هذه الآيات، الواو في يدخلونها فإنها تشمل الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق، فيقولون: هذه الآية هي من أرجى الآيات مع قوله (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ).
(يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) وجاء في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام (أنه من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) وقال (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب).
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قال إبراهيم التيمي: "ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)، وينبغي لمن لم يُشفِق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة، لأنهم (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)".
(وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أذهب عنا الخوف من المحذور، وأزاحه عنا، وأراحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا وأيضاً هموم الآخرة. (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) شَكَرَ القليل من العمل وضاعَفه.
(الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) أعطانا هذه المنزلة وهذا المقام من فضله ومنّتة ورحمته ولم تكن بأعمالنا التي عملناها ولهذا جاء في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل).
(لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) يعني لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء.
النصب واللغوب كلٌ منهما يستعمل في التعب، فنفي الله عنهم هذا وهذا فلا تعب على أبدانهم ولا على أرواحهم، ولهذا أهل الجنة هل عندهم عبادة؟ يُلْهَمون التسبيح ويتلذذون بذلك، فهم في راحة مستمرة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) -جعلني الله وإياكم منهم-.
/ ثم لما ذكر حال السعداء الأبرار ذكر حال ومآل الأشقياء فقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) كما قال تعالى (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم (فأما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون)
(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)
وقال (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)
وقال (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)
وقال (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا)
(كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) هذا جزاء كلُّ من كفر بربه وردّ دعوة المرسلين.
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) ينادون فيها، يجأرون إلى الله بأصواتهم (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) يسألون الرجعة في الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول والرب جلّ جلاله يعلم أنهم لو ردوا لعادوا كما قال تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، وقال تعالى مخبراً عنهم في قولهم (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) قال (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) ولهذا قال هنا (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) فطالت أعماركم، أخذتم ما شاء الله أن تأخذوا من الأعمار، قيل: العمر سبعة عشر سنة، وقال بعض المفسرين: مقدار ما عُمِّروا ثمانية عشرة سنة، وقيل: عشرين، وقيل: أربعين، وعلى كل حال، الله سبحانه وتعالى عمّرهم أعماراً كافية لأن تبلُغَهم الحُجّة وتقوم عليهم الحجة ويصلهم البلاغ، وكان مسروق يقول: "إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حِذره من الله عز وجل".
وكان ابن عباس يقول: "العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم أربعون سنة". وجاء عن ابن عباس: "أن العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) هو ستون سنة" وهذه الرواية كما يقول ابن كثير أصحُّ عن ابن عباس وهي الصحيحة في نفس الأمر لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال (أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغه ستين سنة).
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إنما حسُن طول العمر ونفع ليحصل التذكر والاستدراك واغتنام الفرص والتوبة النصوح كما قال تعالى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاح معايبه واغتنام بقية أنفاسه فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم وإلا فلا خير له في حياته".
لا تغبطن على البقاء مُعمراً ** فالموت أسرع ما يؤول إليه
فإذا دعوت بطول عمر لامرئ ** فاعلم بأنك قد دعوت عليه
إلا للمؤمن، المؤمن الذي يمتع بقوته وصحته ونشاطه فإن بقاء المؤمن خير له عند الله سبحانه وتعالى، لأنه يكثر من الصالحات كم صلى لله؟ وكم حج؟ وكم اعتمر؟ وكم ختم القرآن؟ وكم استغفر؟ وكم ذكر الله؟ وكم وصل الرحم؟ وكم قام بعبادة وصلة؟، أما الفاجر والمنافق والكافر فإنه كما قال الله عز وجل (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) وقال تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) والنبي عليه السلام والسلام كما في سنن الترمذي وابن ماجه قال (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلّهم من يجوز ذلك).
(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال القرطبي: فيه ستة أقوال: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)
قيل القرآن وقيل الرسول وقيل الشيب وقيل الحمّى وقيل موت الأهل والأقارب وقيل كمال العقل، هذه ستة أقوال، لكن القرطبي يقول: بالنسبة للشيب، والحمى، وموت الأهل والأقارب، هذا كله إنذارٌ بالموت، (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ).
وجاء عن سفيان بن عيينة جاء عن ابن عباس وعكرمة وجماعة (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) يعني الشيب
وقال السُدّي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى) يعني قال بعض السلف: احتجّ عليهم بالعمر والرسل.
(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) جاءكم الرسول، وجاءكم القرآن، وبلغتم من العمر ما شاء الله أن تبلغوه وتعرفوا حجج الله ودين الله، (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي يقال لهم ذوقوا عذاب الله جزاء مخالفتكم للأنبياء في مدة أعمالكم، في أعمالكم فيما أعطاكم الله تعالى من الأعمار.
/ (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي يخلف قوم لآخرين قبلهم وجيلٌ لجيل قبلهم كما قال تعالى (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) وقال هنا (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) يعني وبال هذا الكفر يعود عليه نفسه دون غيره كما قال تعالى (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا) أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله عز وجل، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشرّكم من طال عمره وساء عمله).
/ (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) هذا سبق نظيره أن الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله: أن يقول للمشركين أخبروني عن هذه الأنداد والأصنام والشركاء (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) ما هي أعمالهم؟! ما يملكون شيئاً مثقال ذرة وما يملكون من قطمير، ما عندهم شيء! (أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي أم أنزلنا عليهم كتاباً بما يقولون من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا) أي إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور وباطل وزور.
ثم أخبر الله جل وعلا عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره وما جعل فيها من القوة الماسكة لهما فقال (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) يعني أن تضطربا عن أماكنهما كما قال سبحانه :
(وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)
وقال (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ)
وقال هنا (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو سبحانه وتعالى، مع حلمه ومغفرته، يرى عباده يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم عليهم ويؤخر ويؤجل ولا يعجل العقوبة، ويستر آخرين ويغفر ذنوبهم، ولهذا قال (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) جل وعلا.
/ (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) هذا خبر عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، قبل إرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) قيل (أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) : اليهود والنصارى
وقيل المراد بقوله (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يعني من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل كقوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا)، وهذا كقوله تعالى (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
(169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)).
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ) وهو محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل الله عليه من هذا الكتاب العظيم وهو القرآن (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) فلما جاءهم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وأنزل الله عليهم القرآن ما زادهم ذلك إلا كفراً إلى كفرهم (مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا).
ثم بيّن جل وعلا أن هذا بسبب الكِبر فقال (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ) استكبروا عن اتّباع آيات الله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ومكروا بالناس في صدّهم إياهم عن سبيل الله عز وجل، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) لا يحيق، لا ينزل المكر السيئ إلا بأهله.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وقد شاهد الناس عياناً أن من عاش بالمكر مات بالفقر" ثم ذكر أمثلة كثيرة ومهمة كأنها تحكي واقع الناس اليوم في آخر مجلّد من "إغاثة اللهفان"، قال: "شاهد الناس عياناً أن من عاش بالمكر مات بالفقر، ولهذا قال تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)" قال الضحّاك: قال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينجو حتى ينزل به - يعني ينزل به هذا الشر وهذا الضرر- من مَكَر أو بغى أو نكث، وكلها في القرآن.
المكر قال الله هنا (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)
والبغي (إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) والنكث (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ).
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ) يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم لرسله ومخالفتهم أمره، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) يعني لا تتغير ولا تتبدل بل هي جارية كذلك في جميع المكذبين للمرسلين (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) كما قال تعالى (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ) فلا يستطيع أحد أن يؤخر هذه العقوبة أو يحوّلها عنهم.
/ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)
يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام قل لهؤلاء المكذبين بما جئت به من الرسالة: سيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل، كيف أن الله سبحانه وتعالى دمّر عليهم وللكافرين أمثالها ، خليت منازلهم، وذهب ما كان يتمتعون به من مال وقوة وعُددٍ وعَدد، كل هذا ما دفع عنهم عذاب الله عز وجل، (إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) فهو عليم بجميع الكائنات، قدير على مجموعها.
ثم أخبر عن حلمه سبحانه وتعالى فقال: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) أي لو واخذهم الله بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دوابّ وأرزاق. قال ابن مسعود: "كاد الجُعْل أن يعذَّب في جُحره بذنب ابن آدم" ثم قرأ (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)، وقال سعيد بن جبير والسدي في قوله (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) قال: "لما سقاهم المطر، فماتت جميع الدواب". (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) ينظرهم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة وأهل الاستقامة وأهل التقوى، ويجازي بالعقوبة أهل المعصية والكفر والتكذيب، ولهذا قال تعالى (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) فهو سبحانه يعلم المُحْسِن من المسيء ويعلم العاصي من المطيع، لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
وبهذا انتهى تفسير سورة فاطر. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
---------------------------------------
المصدر: ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق