الأحد، 16 فبراير 2014

الوقفــ الثالثة ـــة من جـ 27/ من سورتي الرحمن والواقعة


هذه الوقفة الثالثة من الجزء السابع والعشرين وسنأخُذها على ضربين من سورة الرحمن ومن سورة الواقعة.
 في سورة الرحمن قال -جل ذِكره-: (الرَّحْمَٰنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ *خَلَقَ الْإِنْسَانَ) ذكر -جل وعلا- نعمتين:
 نِعمة هداية وإرشاد وهذه هي معنى قوله (عَلَّمَ الْقُرْآنَ)
ونعمة خلق وإيجاد وهذا معنى قوله (خَلَقَ الْإِنْسَانَ).
 من حيث الأسبقية أيُهما أسبق زمناً ؟ الخلق والإيجاد قبل التعليم لأنه كيف يُعلّم الإنسان وهو غير موجود، ذكر الله نعمتين نعمة خلق وإيجاد ونعمة هداية وإرشاد، فمن حيث الزمنية الخلق والإيجاد مُقدم لكن من حيث الفضل الهداية والإرشاد أجلّ فقدم الله جل وعلا قوله (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) لأنها نعمة هداية وإرشاد وهي أجلّ على قوله سبحانه (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) لأنها نعمة خلقٍ وإيجاد.
 لِمَ هذا التقديم؟ زيادة على ما قُلناه نعمة الهداية والإرشاد رحمة مخصوصة أما نعمة الخلق والإيجاد نعمة عامة فحتى الدواب خلقها الله -جل وعلا- وأوجدها حتى ما يؤذي من الكواسر والوحوش خلقها الله وأوجدها فقوله -جل وعلا- (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) نعمة تشمل الإنسان وتشمل غيره لكن قوله -جل وعلا- (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) هذه نعمةٌ خاصة بأوليائه فلذلك قدَّم الله -جل وعلا- هذه على تلك. هذا ظاهر؟
/ نأخُذ آية أُخرى مثلاً من الواقعة: سورة الواقعة قال -جل وعلا- (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) بعض العُلماء يقول تخفض أهل التجبر والطُغيان والكفر وترفع أهل الإيمان وهذا من حيث الصحة صحيح لكن هل الآية تدُل عليه هاهُنا? الجواب لا.
 لم الجواب لا؟ لأن الله يتكلم عن يوم القيامة وتغيُر الكون (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا*وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) إذاً ما الذي يُخفض ويُرفع ؟ الكون، الأرض، النجوم تنكدر-تسقُط-، الشمس تُكور، القمر يُخسف، الجبال تٰصبح هباءً منبثاً، هذا معنى قول الله -جل وعلا- (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) أي لا يستقر الكون على حال واضح هذا.
/ الوقفة الثالثة في نفس الموقف الثالث من الجزء السابع والعشرين عند قول الله -جل وعلا- لمَّا ذكر نعيم المُقربين قال -وهو أصدق القائلين- قال (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ*وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) فذكر الله -جل وعلا- أن أهل الجنة مما يطعَمونه، مما يأكُلونه الفاكهة ولحم الطير فلِمَ قدم الفاكهة على لحم الطير؟
قد يأتي بعض الناس تكلُفاً ويتكلم عن فوائد صحية والقرآن لا يُفسر بمثل هذا، لكن نحن في الدُنيا نأكُل لأننا نجوع فيكون أكلُنا المُراد الأول منه سد الجوع فإذا شبعنا وذهب جُوعنا تفكهنا لأن التفكُه في أصله الزيادة، فلو قُدّر أن ضيفاً جاءك من مكانٍ بعيد وأنت مُقتدر وهو قد اشتد به نصبُ السفر وشدة الجوع هل يُقبل -في أي عُرف- أن تأتيه بفاكهة وأنت قادرٌ على أن تأتيه بلحم؟ مُحال لأن الفاكهة لا تسُد جوعاً، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا دخل على أبي الهيثم بن التيهان وكان جائعاً ذبح لهُم. فالناس في الدُنيا يأكلون ليسدوا الجوع فيأكلون اللحم أولاً ثم يتفكهون ظاهرٌ هذا.
 نأتي للجنة -أدخلنا الله وإياكم الجنة- الجنة ليس فيها جوع (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ) ليس فيها جوع، مادام ليس فيها جوع لا حاجة لأن نبدأ باللحم لأن اللحم طعامٌ ثقيلٌ يؤكل لسد الجوع فلا حاجة لنا به بداية فيبدؤن بماذا؟ يبدؤن بالتفكُه لأنهم لا جوع يعتريهم فيبدؤن بالتفكُه، بعد أن يتفكهون يُمكن أن يأكُلوا اللحم. هذا سرُ التقديم والتأخير في الآية والعلم عند الله.
 / من سورة الواقعة قال أصدق القائلين (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً*فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا*عُرُبًا أَتْرَابًا*لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ) قبلها قال (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ*وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ*وَحُورٌ عِينٌ*كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ*جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا*إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا*وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ*فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ *وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ *وَظِلٍّ مَمْدُودٍ*وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ*وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ *وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) ثم قال (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) أنا أُريد أن أصل لقضية: لمَّا قال (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ) هذه "هُن" تعود على ماذا؟ ما في شيء تعود عليه، ما يوجد شيء تعود عليه واضح.
 "هُن" هُنا كضمير ما في شيء يعود عليه لأن الله الآن يتكلم عن فاكهة وعن طلح وعن ظل وعن ماء لا يتكلم عن النساء، هُنا يأتي العلم بلُغة العرب يُسوِّغ لك أن تفهم:
 جرت عادةُ العرب أنهم أحياناً يذكرون الشيء بالضمير دون أن يكون له سابِقة قال حاتِمُ طي:
 أماوية إن المال غادٍ ورائحٌ ** ويبقى من المال الأحاديثُ والذِكرُ
 أماوية إني لا أقول لسائلٍ ** إذا جاء يوماً حلَّ في مالي النزرُ
 هذه ماوية زوجته تُعاتبه على الكرم فيُخاطِبها إلى أن قال لها:
 لعمرُكِ ما يُغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ
 فاعل حشرجت أين هو؟ تقديره هي يعود على ماذا؟ يعود على النفس والروح لكن لم يذكُر النفس ولا الروح في القصيدة كُلها، فنزلَ القُرآن على سَننِ كلام العرب يؤتى أحياناً بالضمير ولا يكون له شيء يعود عليه اللهم إلا شيئاً ذِهنياً. فقوله -جل وعلا- (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) يدُل على أن هُناك إنشاء شيءٌ من التغير (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) فقال -جل وعلا- (فَجَعَلْنَاهُنَّ) "جعل" هُنا بمعنى صيًّر (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) فدل على أنه لا يتكلم عن الحُور العِين لأن الحور العِين أبكارٌ من أصلِهن (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) يعود على ماذا ؟ على النِساء المؤمنات اللواتي يدخُلن الجنة.
 (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا*عُرُبًا أَتْرَابًا) يعني مُحببة إلى زوجها،يعني المرأة تسعى إلى أن تُحبب إلى زوجها مِنها أخذ جرير قال جرير في حائية له شهيرة لمَّا مدح هِشام بنُ عبد الملك وقال:
 عِراباً لم يدِنَّ مع النصارى ** ولم يأكُلن من سمك القراحِ
 فقوله "عِراب" على أحد التفسيرين للمعنى أنهن نِساء يتوددن ويتحببن لأزواجِهن، ذكرتُ الآن:
 أتصحوا أم فؤادك غير صاحِ ** عشيةَ همَّ صحبُك بالرواحِ
 تقول العاذِلاتُ علاك شيبٌ ** أهذا الشيب يمنعُني مراحي
يُكلفُني فؤادي من هواه ضعائن يجتزِعن على رِماحِ
 عِراباً -هذا موضِع الشاهد- لم يدِنَّ مع النصارى ** ولم يأكُلن من سمك القراحِ والمقصود: (عُرُبًا أَتْرَابًا) معنى أتراب: لِدات، لِدات بمعنى أنهم ولِدوا في وقتٍ واحد يعني أسنانهم مُتقاربة (عُرُبًا أَتْرَابًا*لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ*ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ*وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) جعلني الله وإياكم منهم.
 الآن أخذنا ثلاث وقفات حول الجزء السابع والعشرين والعلمُ عند الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق