الأربعاء، 12 فبراير 2014

تفسير سورة الروم من الآية (٢٢) إلى نهاية السورة / من دورة الأترجة

د. محمد بن عبد الله الربيعة





المجلس الأول
{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴿٢٢﴾ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿٢٣﴾}
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نواصل الحديث في هذا المجلس الثاني في سورة الروم.
 وقفنا عند قول الله -عز وجل- (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) هذه الآية لو توقفنا معها لما كفاها جلسة أو جلستين ذلك أن فيها من الآيات والعِبَر التي تحتاج إلى التفكر ولذلك قال الله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
 تأملوا أن الله خلق الأزواج من نفس الإنس ولم يجعل له زوجة من غير خلقه، كيف سيكون الحال لو كانت الزوجة من غير خلق الإنسان؟ لكان ظاهراً في التنافر وعدم التوادّ وظاهراً في اختلاف الطبائع وغير هذا.
 الأمر الثاني أنه قال (لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) وكأن هذه سُنة بشرية بأن الرجل يحتاج إلى من يسكن إليه في هذه الحياة ولهذا خلق الله حوّاء ليسكن إليها آدم عليه السلام فهذا يبين لنا أن من طبيعة البشر أن الرجل يحتاج إلى المرأة ليسكن إليها وأن الإنسان لا يمكن أن يقوم بنفسه في حياته مستقراً إلا بهذه السُنّة الإلهية الكونية التي أرادها الله عز وجل. ويبين أن من أعظم ما يحقق للإنسان الهدوء والاستقرار والسكينة هو الزواج وإن كنا بعض الشباب -هداهم الله- يتأخرون فيه ويظنون أن الزواج عُلقة ومسؤولية وانشغال وهذه أوهام كعُشّ العنكبوت لا حقيقة لها إلا أن قد يكون ذلك لطبيعة الحياة البشرية لكن حقيقة الزواج استقرار للإنسان بلا شك وعونٌ له على تحقيق كمال حياته البشرية.
 ثم أن الله جعل من هذا السكن أيضاً ما يحقق البناء الكامل والتعامل الصحيح فجعل بين الزوجين مودةً ورحمة هذه آيات تحتاج إلى تفكر فحريٌ بنا أن نحققها، نحقق المودة في بيوتنا بأن يكون تعاملنا مع أزواجنا على وفق ما أمر الله عز وجل ورسوله في قول الله تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:19] وقال النبي صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله) كل ذلك هو من أسباب المودة، ومن أسباب الرحمة أيضاً أن يكون في حاجة أهله كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه من الرحمة أن يقوم بشؤونهم ونحو ذلك. هذه الآية تشمل حياة كاملة لو أننا تدبرناها وتفكّرنا فيها.
/ ثم قال الله عز وجل (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) المتأمل والمتدبر يرى سرّ تأخير خلق السموات والأرض وارتباطها بخلق الألسن والألوان، فما السر في تأخير خلق السموات والأرض واقتران خلقها باختلاف الألسن والألوان؟ السر -والله أعلم- أن الأصل في سياق الحديث في الامتنان عليهم بخلقهم فأتى وورد ذكر خلق السموات والأرض تبعاً يعني من إتمام بيان خلقهم خلق السموات والأرض، كيف ذلك؟ الله خلقهم من رجل واحد في صورة واحدة ، اختلف البشر بعده -وهم أبناؤه- فيما بعد في طبائعهم وأشكالهم وألوانهم وكثير من الأمور فما الذي جعلهم يختلفون مع أن أصلهم واحد؟ هو خلق السموات والأرض، هو الطبيعة التي يعيشون فيها فالإنسان الذي يعيش في المناطق الحارة ليس كالإنسان الذي يعيش في المناطق الباردة، والإنسان الذي يعيش في -مثلا- في مناطق ريفية ليس كالإنسان الذي يعيش في مناطق صحراوية -في الطبائع- فهذا الاختلاف في الألوان والألسن بسبب اختلاف البيئة التي عاشوا فيها فحينما انتشروا تغيرت لغتهم بحسب الظروف التي حولهم وبحسب ما يحتاجونه من اللغة والمصطلحات التي يعيشون بها. والألوان اختلفوا بسبب ظروف الجو، الحر والبرد وحرارة الشمس ونحو ذلك وإلا فإنك تجد بني آدم كلهم يتفقون في باطن جلودهم لو أنك جمعت بين إنسان أسود تمام السواد وبين إنسان أبيض تمام البياض فأزلت الجلد الأول -ظاهر- الجلد فإنك سترى ألوانهما واحدة مما يدل على أنهما من أصل واحد وأن هذا الاختلاف إنما جاء بسبب الظروف وتغيرات الأجواء ولهذا قدّم الله تعالى هذا الاختلاف بقوله (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي بسبب اختلاف الكون وأحواله اختلفت ألسنتكم وألوانكم.
 ثم قال الله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) هذا الاختلاف يتأمله العالمون بأن هذا يدعوهم إلى التفكر في آيات الله -عز وجل- والتأمل في سر أسباب هذا الاختلاف الذي يصلون إليه بالعلم بأسبابه وظروفه.
/ (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ) الله -عز وجل- أيضاً ذكر سراً من أسرار تنوع تصريف الكون بأن الله جعل لكم في الحياة ما تستقرون به وهو النوم والاستيقاظ والابتغاء من فضله. ما الذي يجعل الإنسان ينام ثم يقوم، يفتر فينام ثم ينشط للرزق؟ هذا التصريف يبعث الإنسان إلى التأمل في خلق الله -عز وجل- فالنوم منامكم بالليل والنهار أيضاً هو فيه اختلاف بين الناس فمن الناس من يكون نومه بالليل -وإن كان هو الأصل- في آيات أخرى ذكره الله تعالى أنه هو الأصل كما قال في آيات منها (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) [يونس:67] فالليل هو موضع النوم والسكون لكنه ذكر هنا حالاً آخر من أحوال نومهم أنه باختلاف ظروفهم قد يكون الإنسان يحتاج إلى النوم في النهار للقيلولة أو بسبب ظروف الجو من الحرارة ونحو ذلك فينام بالنهار ويقوم بالليل. قال (وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ) أي ابتغاؤكم الرزق وهذه آية من آيات الله -عز وجل- في تصريف الكون.
 (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) تأملت في سر ختم الآية بالسمع هنا فما وجدت من ذكر ملحظاً دقيقاً إلا أنه رُبِط بالنوم من حيث أن أحوال النوم تُذكَر وتُقال تسمع أكثر مما تُرى لأن النائم لا يرى ولا يعلم حاله فأحوال النوم وتغيره واختلافه لا يدركه الإنسان إلا بالسماع لا يدركه بالرؤيا حتى يتفكر في هذا النوم لا يدركه بنفسه وهو نائم إنما يدركه حينما يستيقظ فيسمع أحوال النوم وفوائده وغير ذلك والله أعلم.
/  قال الله (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) هذا أيضاً من تصريف الله للكون (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا) خوفاً من هذا البرق بصوته الذي  يخاف الإنسان منه ومن مسبباته التي قد تحدث للإنسان بسبب هذا البرق فصوتاً يرهب الإنسان لكنه يطمع به بحصول المطر ونزوله بسببه ولهذا قال بعدها (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإنزال المطر وإحياء النبات تحتاج إلى تأمل وعقل يدرك حقيقتها وأنها دالة على قدرة الله ودالة على البعث.
/ ثم قال الله -سبحانه وتعالى- وهي آية جامعة لما سبق كله ختم بها وهي ركيزة في السورة وفي مقصدها قال (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) كل أمر في السماء والأرض كله راجعٌ لأمره سبحانه وتعالى فهو يصرِّف الكون حيث شاء والكون كله تحت أمره -سبحانه وتعالى- وتحت مشيئته.
 قال (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ) في قبوركم بعد موتكم (إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ) للبعث فكأن الله -عز وجل- أراد بهذا إثبات البعث وأنه كما أن بيده تسيير الأمور فهو قادر على البعث ففي هذا إثبات للبعث وإقرارٌ بما كذّب به المشركون بالدليل.
 قال الله تعالى (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) هذا يبين أن الأمر له سبحانه وتعالى وأن التصرّف له والحكم له (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) أي مطيعون. والطاعة المُراد بها هنا: الاستجابة لأمره، فالله تعالى هو الذي قال للنار كوني برداً وسلاماً فكانت برداً وسلاماً فالقنوت هنا ليس هو الطاعة العبادة المقصود بها الصلاة وغيرها وإنما المقصود الاستجابة لأمر الله وأنها مستسلمة لأمره سبحانه وتعالى قائمةٌ بذلك دوماً.
 قال الله (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) إعادة لإثبات البعث والنشور إقراراً لذلك وإقامة للحجة على المكذبين به فالله سبحانه وتعالى يقرّر هذا الأصل العظيم في كثير من السور المكية، لماذا؟ لأنهما أصلان كذبا بها المشركون هما سبب تكذيبهم بسائر أصول الدين، هما كفرهم بالله وتوحيده واليوم الآخر، تكذيبهما بهذين هو سبب تكذيبهم بالرسول وبالكتاب وبغير ذلك من أمور الدين. فلذلك تلحظون أن هذين الأمرين يتكرران في كل السور المكية غالباً أو كثيراً ليس لأن مقصد السورة ذلك ولكن لأن الآية هنا في اثبات الآيات والدلائل جاء إقرار البعث بأنه من الدلائل المهمة التي يريد الله إقرارها وإثباتها في نفوس المشركين.
 قال الله سبحانه وتعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي الإعادة فإعادة الشي على مثال سابق أهون من إيجاده من غير مثال.
 قال (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ما مناسبة هذه الآية؟
مناسبتها أنه يبين الله سبحانه وتعالى أن له في ذاته وصفاته وأمره المثل الأعلى في السموات والأرض ولكنه سبحانه وتعالى يبين لهؤلاء المشركين المثل على وفق لغتهم ويُظهِر لهم الحق بما تستوعبه عقولهم وإلا فهو سبحانه له المثل الأعلى في ضربها وله الميل الأعلى في ذاته وفي أسمائه وصفاته وفي بيانه وكلامه لكنه سبحانه وتعالى إنما يذكر هذه الأمثال في القرآن لأنها توافق عقول هؤلاء ولو أن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن الأمثلة الكاملة في بيانها البليغة التي لا يطيقها البشر لما أدركها الناس لكنه سبحانه وتعالى جاء القرآن بما يفقهه الناس ويدركونه بعقولهم التي خلقهم الله تعالى عليها فهو سبحانه يبين هنا أن له المثل الأعلى في ذاته وصفاته وبما يضربه من الأمثال. قال الله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) عزيز بحكمه وأمره وبقدرته وحكيم بذلك أيضاً.
/ ثم قال الله (ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ) هنا الله سبحانه وتعالى أراد أن يقرّهم أن إشراكهم الأصنام في العبادة إنما هو اختلاق من أنفسهم وهو باطلٌ حتماً بشهادة أنفسهم كيف ذلك؟ فضرب لهم مثلاً من أنفسهم هل يُقرون به أم لا؟ ما هو هذا المثل؟
 قال (هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ) يضرب الله المثل للإنسان الكافر بعبده في أن هذا العبد لو أنك قال (هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ) لو أن هؤلاء العبيد شركاء في أموالكم -وهذا لا يمكن- لأن العبد لا يملك، في أصل الأمر لا يملك، قال لو أنهم شركاء وهم سينكرون هذا طبعاً كيف يكونون شركاء لنا في أموالنا وهم عبيد لنا؟! لكن الله يريد إقرار أنفسهم في أمر الأصنام التي ملّكوها ما هو من أمر الله عز وجل، قال (فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء) أنتم وهم في هذا المال سواء (تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ) تخافون على أموالكم منهم كما تخافون على أنفسكم فهل هذا يتأتى في أمركم؟ فلا شك أنهم لن يقبلوا ذلك، لن يقبلوا أن يكون لمماليكهم التصرف في أموالهم بل إنهم قد يأخذون ما ليس لهم أو زيادة على ذلك. فأثبت الله لهم أنه كما أن هؤلاء العبيد المماليك ليس لهم الحق في أموالكم ولا رزقكم فكذلك هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ليس لها من الأمر شيء ولا مُلك ولا تصرف في حق الله عز وجل الذي ليس لأحد فيه تصرف إلا هو سبحانه وتعالى.
 فما أعظم هذا المثل الذي قصم ظهورهم وقطع حجتهم ولهذا قال (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لكن هل يعقلون؟ ما عقلوا ذلك! (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ) بل بقوا على ما هم عليه بغير علم. (فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) لن ينصرهم هؤلاء يوم أن يلقوا الله ويوم أن يروا عذاب الله عز وجل.
 ثم بعد أن أقام عليهم الحجة والبرهان وقطع حجتهم وفصل الأمر معهم توجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين قال (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أعرِض عنهم وانشغِل بأمر ربك (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) إقامة الوجه بمعنى أن الإنسان يتوجه بكامل وجهته إلى أمر ربه لا يلتفت يميناً فيطلب من غير ربه شيئاً ولا شمالاً بل إن أمره كله لله -عز وجل- هذا معنى قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) هذا الأمر الدين الحنيف وهو الميل عما لا يرضي الله وعن الشرك بالله فالحنيف هو المائل والمقصود كل ما لا يرضي الله عن الشرك والضلالة والمعصية والبدعة فهو يميل عنها إلى هذا الطريق المستقيم.
قال الله عن هذا الدين الحنيف (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) أي أن هذا الدين يوافق كل الموافقة طبائع الإنسان وفطرته التي خلقه الله عليها فهو إن تمسك به فسيجد في نفسه توافقاً ورغبة والتئاماً على ما فطره الله عليه.
 قال الله (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي لا تبديل لما خلق الله في النفوس من تغيير فِطَر الناس التي فطرهم عليها على التوحيد إلا إن إبليس يسعى أن يغيّر فطرة الله كما قال الله تعالى عنه في سورة النساء (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ) يسعى إلى تغيير فطرة الناس في النفوس بمحبة الأهواء والشهوات والكفر بالله -عز وجل- -عياذاً بالله- لكن الأصل في الإنسان الفطرة السليمة هكذا خلقه الله (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه) فالأصل في خلق الإنسان - كما قال العلماء - لو أن الإنسان بقي في بيئة لوحده يرى مخلوقات الله ويرى الشمس والقمر ويرى سائر المخلوقات فإن قلبه سيبصر به وحدانية الله -عز وجل- بلا ريب، هكذا خلقه الله -عز وجل- ويعلم يقيناً أن لهذه المخلوقات التي تتحرك وتسير وتأكل وتشرب إن لها خالق مسير ورازق وهو الله سبحانه وتعالى.
 قال الله تعالى (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) بعد أن وصفه الله بأنه حنيفاً قال (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) إما أنه قيمٌ في ذاته هذا الدين أُقيم على أكمل وجه كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ) فلم يجعل الله في هذا الدين عوجاً، قيماً في ذاته بأحكامه وأوامره وفي جميع حدوده وأحواله ومضامينه، وهو قيّم يقيم الإنسان على أكمل وجه كما قال تعالى (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9] فهو قيّم في ذاته (ديناً قيماً) وقيّم فيمن يتحلى به فيقيّمه على أحسن حال. قال تعالى (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) لا يعلمون حقيقة هذا الدين وأنه سبب لسعادتهم وقيام شؤونهم وصلاح أمورهم.
قال تعالى بعد ذلك (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) والإنابة هي: الرجوع والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، الإنابة هي الرجوع ولكن المقصود بها هنا: الإنابة أن يكون أمره متجه إلى الله، منيب إلى الله راجع إليه في كل أمر في كل شأن من شؤون حياته يرجع إلى الله، ماذا يريد الله؟ ما هو أمر الله؟ وما هي حدود الله في هذا الأمر؟ هذا معنى الإنابة التامة الكاملة. (وَاتَّقُوهُ) في ترك والحذر في كل ما نهى عنه سبحانه وتعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) لأن إقامة الصلاة فيها توجه كامل إلى الله -عز وجل- (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) لأنهم تفرقوا عن هذا السبيل الذي جعله الله لهم (وَكَانُوا شِيَعًا) في هذه الآية دليل صريح على أن من ترك دين الله فإنه سيكون في أمر فرقاً وشيعاً وتفرق وتشتت في شأنه وفي ملته وأحواله ما تجد ملة متفقة على رأي واحد بل تختلف حينما يموت زعيمها تختلف وينشأ منها طرقان وهكذا إلا دين الإسلام فهو دين واحد دائم ما دامت الأرض أما غيره من الأديان فهي دين متفرقة متشتتة حتى اليهود وحتى النصارى وحتى أهل البدع فإنهم متشتتون إلا من كان على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فهم ملة واحدة على الحنيفية السمحة. قال الله تعالى (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) كل حزب فرح بما هو فيه من الضلالة ويظن أنه على الحق وهذه تحتاج أن يتبين الإنسان، ليس كون الإنسان يرتاح لما هو عليه ويطمئن إليه يدل أنه على الحق. قد يطمئن الإنسان ويُزيّن له أنه على الخير وهو على غير صراط كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة فاطر في دليل يبين أن الانسان قد يُزيَّن له عمله من غير أن يشعر وقد ذكر ذلك في سورة الكهف ما هما الآيتان؟ (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر:8] عياذاً بالله! والله الإنسان يخشى من هذه الآية (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) قد يكون الإنسان يرى أنه على الحق وهو على الباطل كمثل أهل البدع الذين يرون أنهم على الحق ويُزيّن لهم أنهم على الحق ويظنّون أنهم على الحق فحريٌّ بالإنسان أن يستبصر بدين الله -عز وجل- ولا يُعجب بما هو عليه من عمل ويرى أنه على الحقّ حتى يتبين له الحق بدليله وبرهانه وبينته.
/ قال الله سبحانه وتعالى (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ) هنا في بيان حال الناس مشركهم وكافرهم في الأصل وأنهم إذا مسهم الضر دعوا ربهم منيبين إليه راجعين إليه، هذا حال الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، هذا الأصل لأنهم مرجعهم إلى الله -عز وجل- وملجؤهم إلى الله فطرة فطرهم الله عليها لكنهم يفترقون في أمر وهو أنهم بعد أن يروا نعمة الله وينجون مما هم فيه فريق منهم يُشرك بالله فقال الله (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً) (أذاقهم) فقط حين يرون بصيص الأمل ويرون باباً إلى الفرج والرزق (إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ) الذي رزقهم وهيأ لهم هذه الرحمة وهذا الرزق (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) أي هذه النعم التي هم عليها سيكفرون باستخدامها في معصية الله -عز وجل- (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) هناك في سورة العنكبوت قال (وليتمتعوا) هو أمر وهو كذلك هنا أمر (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي العقوبة في الدنيا إما بالعاقبة السيئة أو في الآخرة بالعذاب الأليم.
/ يقول الله تعالى (أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) هل عندهم كتاب ينطق ويشهد أن ما هم فيه حق؟ يتكلم المقصود ينطق كما قال الله -عز وجل- في سورة الجاثية (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ) هو لا ينطق وإنما يبين لهم مكتوباً مشاهداً فالمقصود به هنا (أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا) أي كتاباً فيه بيّنة لهم فهو ينطق ويشهد بما هم عليه من الشرك أنه حق ليس عندهم من ذلك شيء.
/ قال الله بعد ذلك (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا) هذا حال البشر في طبيعتهم إذا أذاقهم الله رحمة فرحوا بها أيّاً كانت هذه الرحمة (وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم يدلنا على أن الأصل هو رحمة الله ورزقه وخيره وفضله وإحسانه لكن ما الذي يكدر على الناس أحوالهم وما الذي يجعلهم يصيبهم ما يصيبهم من الجدب والقحط والشدة والبلاء إلا بما قدّمت أيديهم (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30] كما قال بعضهم من "كدّر كُدِّر عليه ومن صفّى صُفّيَ له" فالإنسان الذي صفّى تصفّى له الحياة وإن ابتُلي قد تكون هذه البلوى قد تكون بسبب سيئاته وقد تكون امتحاناً لإيمانه إن كان صادقاً أم لا، فإن كان صادقاً فالعاقبة له بلا شك ولا ريب.
 قال الله سبحانه وتعالى (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ  إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) ييأسون من رحمة الله، أين تعلقهم بالله؟ أين إيمانهم بالله؟ أين ثقتهم بالله أنه هو الرزاق وأن بيده سبحانه وتعالى الفرج؟ ولهذا قال بعدها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ما الذي يجعلهم يقنطون حينما تصيبهم المصائب وييأسون وهم يرون أن الله -عز وجل- يرزق هذا ويقدر على هذا ويمنع هذا ولا يقنطون من ذلك بل إنهم يسعون للعيش مع ما هم فيه من حال. فالله -عز وجل- هنا يحتج عليهم بأن حالهم في الرزق يسعون به ويكدون لكن حينما تصيبهم المصائب يقنطون، أين سعيكم في حال حصول السيئات بالرجوع إلى الله وإصلاح أمركم مع الله عز وجل كما تسعون حينما حينما يصيبكم التقتير في الرزق تسعون في الأرزاق مهما كان حالكم؟ هل رأيتم إنساناً أصيب في رزقه بالتقتير والفقر جالس في بيته يقول أنا يئست من الحياة؟! ما يكون هذا! بل هو يسعى بكل ما استطاع إلى أن يحقق رزقه لأنه يعلم أن الرزق حاصل له من الله عز وجل. فلماذا إذا أصابته مصيبة يقنط وييأس؟ لماذا لا يرجع إلى ربه ويسعى إلى إصلاح نفسه وإصلاح أمره ويرجو رحمة ربه.
  قال الله تعالى بعد ذلك في بيان ما هو المشروع للإنسان الذي آتاه الله تعالى النعمة ورزقه ووسع عليه ومنّ عليه بالفضل والخير ما هو واجبه؟ واجبه الشكر. فالله -عز وجل- وجّه المؤمنين هنا ابتداء بنبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) إذا وسع الله عليك فآت ذا القربى حقه ولذلك أخذ العلماء من هذه الآية حُكماً وهو: وجوب إيتاء القريب حقه لمن وسّع الله عليه. يعني إذا كان إنسان وسّع الله عليه وله قريب فإنه يجب عليه أن يؤتيه من ماله غير وجوب الزكاة. هذه الآية تثبت أمراً واجباً في المال غير الزكاة وهو حقّ القريب لمن رزقه الله مالاً وإن كان بعض العلماء قالوا أن هذه الآية نُسِخَت بآية المواريث لكن الصحيح أنها باقية وأن الإنسان يلزمه كما يلزمه القيام بشؤون أهله وأولاده ومعيشتهم وتوفير الرزق لهم فإنه أيضاً يطالب بوجوب من الدرجة الثانية في حق المقرّبين قال الله تعالى (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) سمّاه الله حقه فهو حق (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) فجعلهم درجات هنا بحسب حال الإنسان وقربه وحاجته.
 قال (ذَلِكَ خَيْرٌ) في الدنيا وفي الآخرة (لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ) ما الحكمة في قوله (لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ)؟ ما المناسبة؟
 المناسبة هو أنه لما أعطاك الله من هذه النعم فالواجب أن تصرفها لوجه الله تعالى لا تصرفها لوجاهة كما يفعلها المشركون، كأن في هذه الآية ذمّ للمشركين الذين لا ينفقون إلا لأجل الوجاهة ولا يعطون إلا لأجل الشرف والرياء ولا يؤتون من أموالهم إلا لمن لهم مصلحة عندهم فالله تعالى هنا عابهم كيف تصرفون أموالكم تؤتون من أجل مصالحكم؟ أين حق الله الذي آتاكم هذه الأموال؟ فالإنسان من شكر نعمة الله أنه يؤتي المال لوجه الله -عز وجل- سواء آتاه في معيشة نفسه أو أهله أو الأقربين أو غير ذلك المهم أن يريد بذلك وجه الله (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفلاح هو: الفوز أي أنهم سينالون بهذه النفقة خيراً من ربهم فلاحاً في الدنيا بالتوفيق ووافر الرزق ومزيد العطاء من الله، وفي الآخرة بالفوز والأجر عند الله تعالى.
 قال الله (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ) هذه الآية يمكن أن تحتمل معنيين: المعنى الأول: أي ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس لأنهم كانوا يعطون الناس فإذا جاء في نهاية السنة وجاء يوم القضاء زادوهم في القرض والعطاء وزادوا في النسئ والقرض فهذا ربا، فالله تعالى يقول (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ) لتزيد أموالكم من أموال الناس (فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ) لأن هذا ليس لوجه الله وإنما هو لأجل زيادة أموالكم والتكسب بأموال الناس واستغلال فقرهم وحاجتهم.
 المعنى الثاني: في (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا) أن هذا ليس هو الربا المقصود به الزيادة وإنما وما آتيتم من زيادة في إعطاء الناس من الأموال لتتكثروا فيها بأموال الناس فيكون المقصود بها التكثّر بأموال الناس مع أموالهم فتزيد أموالكم عند أموالهم ويكون لكم حقٌ عندهم فلا يربو عند الله وقد كان هذا من حال الجاهلية أنهم يعطون أموالهم لتربو عند الناس فتزداد عندهم ولا يكون لهم فيها شأن في الإنفاق وإعطاء المساكين واليتامى وأولي القربى وإنما هو فقط من أجل جمع المال والتكثر به والازدياد فقال الله -عز وجل- ليس هذا هو الشأن الذي يريده الله إنما يريد الله أن تؤتوا من هذه الأموال حق من له حق فيها. لكن المعنى الأول أظهر والله أعلم.
 قال الله تعالى (وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) المقصود بالزكاة هنا ليست الزكاة الواجبة وإنما هي الصدقة لكن سمّاها زكاة لأنها تزكّي النفس وتزكّي المال بزيادته وإلا الزكاة إنما شُرعت في النبينا محمدسنة التاسعة للهجرة لكن الله سمّاها زكاة في السور المكية فهو إيتاء المال والإعطاء منه والنفقة منه.
قال الله (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي أن الله -عز وجل- يضاعف لهم أموالهم في الدنيا ويضاعف لهم الأجر عنده في الآخرة فهي مضاعفة في الدنيا في الأموال ومضاعفة في الآخرة بالأجر منه سبحانه وتعالى.
نقف هنا ونسأل الله عزوجل أن يرزقنا وإياكم التوفيق والإخلاص وأن يُفهِّمنا علم كتابه ويرزقنا علمه والعمل به وصلى الله وسلم على نبينا محمد.





 المجلس الثاني:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿٤٠﴾ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿٤١﴾}
هذه الآية (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) هي الآية الثانية في السورة التي افتتحت بلفظ الجلالة وهي أربع آيات كلها في إظهار الدلائل أن التصرف لله وحده لا شريك له وأن تصريف الكون كله بأمره سبحانه وتعالى وأحوال الخلق كلها بحكمه وقدرته ومشيئته، قال الله هنا (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) هذا التحول كله والتصرف والاختلاف كله بأمر الله -عز وجل- ولذلك افتتحها بلفظ الجلالة ليدل على أنه هو صاحب الأمر في ذلك وأنه صاحب القدرة وأن المرجع إليه سبحانه وتعالى.
قال (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) كلا، ليس من شركائهم من يُحيي ولا يزعمون ذلك وليس من شركائهم من يرزق وليس من شركائهم من يميت وليس من شركائهم من يحيي بعد الموت، إذا ما بقي لشركائهم؟! لم يبق لهم شيء فالأمر كله لله -عز وجل- في تصريف الأمر.
 (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) إذا يتنزّه الله عن أن يكون له شريك في ذلك ما دمتم أقررتم بأنه ليس للشركاء شيء من هذه الأمور الأربعة التي أصول الخلق فماذا بقي لهم بعد ذلك؟!.
/ قال الله بعد ذلك (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) هذه الآية تبين لنا عاقبة شركهم وأن إشراكهم بالله -عز وجل- كان سبباً في ظهور الفساد في الأرض بسبب إشراكهم فقال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الفساد هنا يحتمل معنيين:
 المعنى الأول: الفساد الكوني بفساد الزروع والثمار والحوادث والأحوال التي يقدّرها الله عز وجل. (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ) بموت الزروع وانقطاع المياه أو نحو ذلك وفي البحر أيضاً بموت الحيتان وجفاف الأنهار ونحو ذلك. هذا الفساد الذي يحصل، التغير الذي يكون سببه (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسبب ما كسبوه من الشرك بالله ومعصيته ومخالفة أمره فمن كَدّر كُدّر عليه (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي جزاء عملهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فإن الإنسان المؤمن المتبصر إذا أصيب بمصيبة رجع إلى الله وتأمل (إنا لله وإنا إليه راجعون) إذا ابتلي ببلاء رأى أن ذلك من ذنوبه فرجع إلى الله، كأن ذلك إشارات تحذير له فيما يصيبه، هذا المؤمن أما الكافر فلا يبعثه ذلك على رجوع ولا إيمان ولا عقل ولا إدراك، هذا المعنى الأول.
 المعنى الثاني: ظهر الفساد الذي هو الشرك والمعاصي وانتشرت إنما انتشرت وظهرت في الأرض بما كسبت أيدي الناس أي بفعلهم وسعيهم ونشرهم للشرك والفاحشة والبدعة والضلالة والمعصية. الانتشار هذا إنما هو بسبب كسبهم سعيهم، هذا المعنى الثاني وإن كان المعنى الأول أظهر.
قال (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) من الجزاء لعلهم يرجعون إلى الله -عز وجل-.
 في الآية -في المعنى الثاني- إشكال وهو قوله (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكن الذي عليه عامة السلف هو المعنى الأول وهو أن الفساد هنا هو الفساد الكوني بما يحدثه الله -عز وجل- في الأرض.
/  قال الله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) الله سبحانه وتعالى هنا يأمرهم بأن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كان عاقبة المفسدين وأنهم أهلكهم الله -عز وجل- بسبب إشراكهم لعل ذلك يكون سبباً في رجوعهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فكأن الله تعالى ذكر لهم سبيلاً إلى الرجوع وهو مسيرهم في الأرض لينظروا هنا وهناك في الأمم السابقة التي أهلكها الله تعالى بسبب إشراكهم.
 / قال الله تعالى عوداً بالسياق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم وإلى المؤمنين (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) هناك قال (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) ثم وصفه الله تعالى هنا بالقيّم للتأكيد على أن القيام بهذا الأمر هو سبيل قيام الناس وصلاح معاشهم واستقامة أمورهم.
 قال الله (لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) كأن الله تعالى يبين أن قيام هذا الدين سبب أيضاً لقيام وصلاح الناس في الآخرة فإن قيامهم بأمر الله -عز وجل- هو سبب لنجاتهم في الآخرة وتأكيد بأنه لا نجاة في ذلك اليوم الذي لا مرد له من الله إلا بإقامة دين الله -عز وجل- والاستقامة على طاعته.
قال الله تعالى (مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) هذه الآية تحتمل معنيين:
 المعنى الأول: أن اليوم الذي لا مرد له من الله هو يوم في الآخرة وهذا ظاهر في الآية. المعنى الثاني: هو يوم إهلاكهم وفي هذه الآية ما يشير إلى غزوة بدر، هذه الآية الخامسة. قال (مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) إذا جاء هلاكهم وأخذهم فلن يردهم عن ذلك رادّ فهو إشارة إلى أخذ الله لهم.
(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) وهذا في الآخرة في الظاهر لأنه قال (يَوْمَئِذٍ) فهو أقرب إلى الآخرة (يَصَّدَّعُونَ) يتصدعون يعني يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير ويتفرق أمرهم، هذا تفرقهم وتصدعهم من تصدِّع الجدار وتفرّقه.
(مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي أن من كفر في الدنيا فإن في الآخرة كفره عليه وهذا معنى جامع فعليه كفره في جزائه وعقابه (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) ما معنى (فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)؟ يُهيؤن يعني من عمل صالحاً فلأنفسهم يهيؤن استقرارهم في الآخرة في الجنة، يهيؤن مكانهم بأنفسهم بعملهم الصالح وأيضاً يدخل في ذلك حال الدنيا وجزائها فإن من عمل صالحاً فإنه يهيئ لنفسه الحياة المستقيمة والراحة التي يمهد بها براحة واستقرار. فهذه الآية من الآيات التي تدل على أن الإيمان والعمل الصالح سبب للراحة والاستقرار وأن الإنسان بعمله الصالح يبعث ذلك على مهده وراحته واستقراره في الدنيا والآخرة.
 قال الله تعالى (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أكّد مرة أخرى بجزاء المؤمنين مع أنه ذكرهم قبل ذلك لكنه من باب إكرام أهل الإيمان وتشويقهم إلى ذلك وبعثهم عليه بيّن فضلهم وجزاءهم، قدّمهم في الجزاء هنا قال (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ) وأي شيء يريدونه إلا فضل الله الواسع سبحانه وتعالى وفضل الله عظيم إذا أتاك فضل الله فليس لك بعد ذلك من أمر تريده فإن فضل الله عظيم كريم سبحانه وتعالى واسع الفضل والعطاء.
ثم قال في حال الكافرين (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) وإذا كان الله لا يُحبّ الإنسان فأيّ سعادة سيسعدها وأيّ حياة سيعيشها وأيّ جزاء سيلقاه عند الله إلا الشقاء والغضب من ربه واللعنة والطرد من رحمة الله عز وجل عياذاً بالله. فكفى جزاء للكافرين أن الله لا يحبهم وكفى المؤمنين أن الله يعطيهم من فضله ويوسّع لهم سبحانه وتعالى. ما أعظم هذه الآية وأوجزها في بيان جزاء الفريقين.
/ قال الله تعالى بعد ذلك عوداً على بيان تصريف الله للأمور التي هي سياق السورة وقيامها قال (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) يرسل الرياح سبحانه وتعالى للناس تبشرهم بالرزق الذي تحمله هذه الرياح بسوقها للسحاب (وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ) وهو المطر والماء (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) التي فيها أرزاقكم وتحمل لكم الأرزاق (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) بالبيع والشراء وطلب الرزق (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي هذه الأمور التي سخرها لكم كلها من أجل شكر الله -عز وجل- على نعمته واستغلالها وصرفها في طاعته.
/ قال الله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) كأن في ذلك تذكير وتخويف، تذكير للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الله معك وناصِرك كما نصر عباده المرسلين من قبل وفيه تخويف وتهديد للكافرين المكذبين بأن الله مهلكهم كما أهلك المجرمين من قبل (فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) ثم قال (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وهذه هي الآية السادسة من الآيات التي فيها دلالة على نصرة الله لعباده ومنها نصرته في بدر فإن الله عز وجل ذكّر بها رسوله ثم وعده بالنصر قال (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ففيها تهديد للكافرين بالانتقام وتطمين للمؤمنين بالنصر المبين.
/ قال الله عز وجل في الآية الثالثة التي افتتحت بلفظ الجلالة وفيها دلائل على قدرته وتصرفه في الأحوال والخلق قال (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) يرسل الرياح لماذا؟ قال (فَتُثِيرُ سَحَابًا) والإثارة ليست هي التحريك وإنما تقليبها وتفريقها فهي بمثل تفرّق الشيء بعد أن يصطدم به أمر أو شيء يثيره قال الله (فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء) هذا السحاب المتراكم المتجمد بعد أن يرسل الرياح عليه فتثيره فيبسطه سبحانه وتعالى في السماء سحابة واحدة مبسوطة كيف يشاء سبحانه وتعالى. (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) كيف يجعله كسفاً؟ يعني قطعاً بعد أن يُبسط في السماء يعود قطعاً، هو قطعة واحدة، سبحان الله أمر عجيب قطعة واحدة يبسطه الله في السماء ثم يكون قطعا (كِسَفًا) قطعاً متفرقة (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) المطر يخرج من خلال هذا الكِسف أو القطع أو الغمام (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يبين الله -عز وجل- حالة البشر مع المطر كيف أنهم يتعطشون له ويفرحون به ويستبشرون بنزوله، هذه حالة البشر التي تدل على حاجتهم إلى الرزق وحاجتهم إلى الله عز وجل.
/ قال (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) المُبْلِس هو: اليائس المنكسر ليس عنده شيء وإنما هو قد أفلس فهو منكسر الحال، (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) يائسين منكسرين (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) انظر الى آثار هذه الرحمة التي نزلت فغيّرت أحوال الناس وهذا فيه إشارة إلى تصريف الله لأحوال الناس بهذه الأرزاق وهذه الأحوال انظر تغير الأحوال في الكون سبب في تغير أحوال البشر في طبائعهم ونفوسهم، هذا يدل على أن الله -عز وجل- هو الذي يغير الأحوال ويصرّف الأمور وبيده سبحانه وتعالى قلوب البشر وأحوالهم.
/ قال الله تعالى (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) ومن آثار رحمة الله قال (كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) كيف يحيي الأرض بعد موتها تموت فتتغير إلى الحياة، كيف أن هذا التراب اليابس الجامد الذي ليس فيه حِراك إذا به يتحرك من بينه يخرج ثمراً ونبتاً وزرعاً إن هذا لمن أعظم آثار رحمة الله ومن أعظم تصريف الله وتحويله الشيء الجامد إلى متحرك فهو سبحانه وتعالى هو الذي يصرّف الأمور كيف يشاء القاسي يجعله ليناً (إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى) انظر إلى تكرر إعادة التأكيد على البعث بعد النشور بكل ما يمكن أن يأتي له شاهد يورده في موضعه (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
/ ثم قال الله تعالى (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) ما هو المُصفر؟ الزرع بعد أن رأوه خضراً يانعاً مثمراً رأوه بالريح التي سُلّطت عليه مصفراً (لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) يائسون لا يلجؤن إلى الله -عز وجل- ويستغفرون الله ويتوبون إليه ويرجعون إليه.
/ قال الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أن هؤلاء لا ينفع معهم أي نقاش ولا بيّنة ولا حجة قال (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) الموتى المقصود به الذين لا تحركهم أيّ آية من آيات الله (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ) المتكلمون (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء) أنت لا تُسمِع من كان ميتاً منهم ولا الصم الذين لا ينطقون فأيّاً كان حالهم فإنهم مدبرين عنك غير مبالين بدعوتك وتذكيرك وتوعدك وتحذيرك.
 (وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ) أحوال ثلاثة في أحوال مختلفة، (إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ) فالذي يتفكر في هذه الآيات ويجد آثارها ويعرف سبب القحط وسبب الرحمة ويتفكر فيها ويزيده إيماناً ورجوعاً إلى الله واستغفاراً هؤلاء هم المسلمون (إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ).
 ثم جاءت الآية الرابعة من الآيات التي افتتحت بلفظ الجلالة الدالة على قدرته في تصريف الأمور سبحانه وتعالى وتغيّرها انظروا إلى هذه الآية التي ختمت بالآيات الأربع كيف يكون فيها تصريف البشر -الإنسان نفسه- قال الله (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ) كيف يكون الإنسان أول ما يُخلَق من ضعف، والمقصود (مِّن ضَعْفٍ) من خروجه ماء إلى كونه جنيناً إلى كونه طفلاً كل ذلك ضعف، (ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) وهو بناؤهم تكوينهم إلى أن يشبوا ويبلغوا سن الرشد والأشد إلى سن الأربعين كل ذلك تغير من ضعف إلى قوة. ما الذي غيّر هذا الكائن من كونه ضعيفاً إلى أن يكون له شأن في الأرض إلا الله عز وجل؟!. ثم قال (ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) انتهى أمره ضعفاً في جسده وشيباً في علاماته وجسده.
/ قال الله (يَخْلُقُ مَا يَشَاء) أي يُصرّف ما يشاء سبحانه وتعالى ويخلق الإنسان حيث شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى وفي أي حال يريد. قال الله (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) العليم بأحوال البشر والخلق والقدير عليهم بتصريفهم حيث شاء سبحانه وتعالى.
 ما أعظم هذه الآيات في إيماننا بأن الأمر كله لله ولذلك كل هذه الايات كلها عِقْد في حَلَقة واحدة هي لله الأمر من قبل ومن بعد، إيمان صادق جازم أن الأمر كله لله فلا يحرك في نفوسنا أي أمر في طلب الشيء من غيره ولا أمر في اعتقاد أن غيره يحرّك شيئاً في الكون إلا بإذنه. إذا بلغنا هذه المرتبة بأننا نوقن يقيناً بأنه ليس لأحد أن يصرِّف في الكون حركة إلا بإذن الله فقد بلغنا مرتبة الإيمان واليقين بالله -عز وجل- في وذلك أمر الرزق وتصريف الناس فيه وأن الإنسان ليس له في أيّ شأن أو قدرة إلا بإذن الله -عز وجل-والنفع والضر وغير ذلك.
/ قال الله سبحانه وتعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) هنا عاد السياق إلى التذكير بمآل الناس وكيف سيكون حال هؤلاء المشركين ومآلهم وكيف سيكون خطابهم في الآخرة، ماذا سيكون خطابهم في الآخرة؟ قال (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) عجيب حال هؤلاء المشركين؟ يعني كأنهم في الآخرة يظنون أن لهم شأن فيُعذِّرون لأنفسهم بأعذار واهية يضحك منها ويسخر منها أدنى عاقل كيف يقولون؟ يقولون نحن صادقون في أننا لن نُبعث لأننا ما بقينا إلا ساعة من نهار، هذا ليس موتاً وإنما هو كمثل الراحة يرتاحها الإنسان. قال (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) وأننا لم نكذب بالبعث يزعمون يريدون أن يلبِّسوا بأنهم لم يكذبوا بالبعث لأن ما هم فيه ما هو إلا ساعة -في ظنهم- لأن الإنسان يظن أنه لم يمكث إلا ساعة من نهار كما قال الله -عز وجل-، قال (كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) والإفك هو: الإفتراء الباطل والاختلاق المقصود فهم إنما يريدون أن يُعذِّروا لأنفسهم فهل يُقبل هذا العذر منهم؟ كلا، ويشهد المؤمنون على كلامهم ويسخرون منهم ويقرّونهم بالحق فيقولوا (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ) ما هو العلم الذي أوتوه؟ العلم الذي بيّنه الله في هذه السورة من الآيات البينات والدلائل القاطعات التي ملأت قلوب هؤلاء إيماناً علماً ويقيناً بما أخبر الله بهقال الله (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فهذا يوم البعث لقد لبثتم في قبوركم إلى أن بعثكم الله -عز وجل- بما أخبر الله تعالى وهو بخبره يقين واقع (فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ) كأنهم يُقرّونهم هذا يوم جزائكم (وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أي لا تعلمون حقائق الأمور ولم تقفوا على حقائقها ولم تتبصروا بها فتؤمنوا وفي هذه الآية دليل على أن كمال الإنسان في أمرين هما العلم والإيمان. كمال الإنسان الذي يورثه معرفة الحق والتبصر به والعمل به واليقين هو العلم والإيمان.
لاحظوا أنه قال (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ) قدّم العلم ليدل على أنه أورثهم الإيمان فالعلم الحقّ هو الذي يورثك الإيمان هو الذي يورثك العبادة ويورثك معرفة الله حقّ معرفته واليقين بما أخبر الله تعالى به والتبصّر بحقيقة الحياة والسعي لما يرضي الله -عز وجل- والنجاة يوم القيامة.
/ قال الله تعالى في حال هؤلاء الكفار وأن هذا التعذّر الذي تعذّروه لن ينفعهم قال الله (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يقبل منهم عتاباً وإن استعتبوا لا يستعتبون لا يقبل منهم العتاب، لا يقبل منهم أن يُقدموا أعذاراً لأنه لو قُبِل منهم أن يقدّموا أعذاراً كان ذلك قبولاً للعذر، (لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) يتعذرون لكن من غير إذن (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يُطلب منهم العتاب فيقرّوا ويبينوا أعذراهم في ذلك لئلا يكون لهم في ذلك سبيل أو مطمع لأنه في الأصل الإنسان لا يقبل منه العذر والاستعتاب إلا حينما يكون له مجال في النجاة والعذر.
/ قال الله عز وجل بعد نهاية الأمر وختام السورة وإقرار الحق قال لنبيه (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ) قد انتهى الأمر، قد بُيّن لهم الأمر في القرآن الكريم فهذا القرآن لم يدع شيئاً في البيان. أرأيتم في هذه السورة كيف بيّن لهم النصح في الدعوة وتحقيق الحق وإقرارهم والزامهم ليس بعد هذا إلزام وليس بعد هذا بيان أن يبين لهم الحق كالشمس في رابعة النهار لكنهم عُمي لا يبصرون ولا يعلمون.
/ قال الله (وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) يعني مهما أتيت به من آية زيادة على ما في القرآن، آية مبصرة لا ينفع معهم ذلك (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ).
/ قال الله (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) فإنهم إذا كانوا لا يريدون الحق فإن الله يطبع على قلوبهم عياذاً بالله وهذه مصيبة ، الإنسان الذي لا يريد الحق ويستكبر عليه حقُه من الله أن يطبع عليه فلا ينتفع بموعظة ولا ينتفع بتذكير إذا كان مُعرِضاً (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة:67] .هذه الآية تثبت أنه لن ينفع معهم بيان بعد ذلك وتيئيس للنبي -صلى الله عليه وسلم منهم يكفي بياناً لهم ما بيّنه القرآن خير بيان.
 ثم ختم الله السورة بتطمين رسوله وتأنيسه وتثبيته والمؤمنين معه قال (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) اصبر على ما كلّفك الله به من البلاغ والدين وأقم دين الله -عز وجل- وأعرض عن هؤلاء (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) وما هو وعد الله؟ وعد الحق هو نصره وتمكينه ووعد الله لهؤلاء بالهلاك وهذه هي الآية السابعة التي تدل على غزوة بدر بنصر الله عز وجل، إذا هي سبع آيات هذا الذي وقفنا عليه وقد يكون غير ذلك.
 (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) هذه الآية تطلعنا على عاقبة الصبر أن عاقبة الصبر تحقيق وعد الله -عز وجل- بالتمكين والتأييد والفتح المبين والله إن الصبر عظيم فمن صبر ظفر، "بالصبر واليقين" كما قال شيخ الإسلام  "تُنال الإمامة في الدين" (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
 فمن أراد أن يحقق الله له وعده وتوفيقه وفتح وتأييده فليصبر على أمر الله وليستمسك بهذا الدين حق التمسك ويقوم به حق القيام ولا يغريه انصراف الناس وتغير أحوالهم وضعفهم وتنازلهم فإن هذا سبيل التمسك والصبر. نحن نرى الآن الناس يضعفون عن الدين ويتنازلون عن شيء من مبادئهم من أجل مصالحهم الدنيوية وبسبب ما فتح الله عليهم لكن المؤمن الصادق ثابت على دينه مستمسك به لا تغيّره الأحوال ولا تغيّر الناس وعاداتهم. فالإنسان الذي ينظر إلى الناس إن أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا أساء -إمّعة- هذا لن يكون على شيء، الذي يكون على شيء هو الثابت الجبل الأشمّ الذي سيكون مآله صعوداً إلى قمة الخير والسعادة والتوفيق والفلاح وتحقيق أمر الله -عز وجل- بحكمه. ولهذا رأيت سُنة من سنن الله في خلقه في الكتاب العظيم من تمسك في الأمر في أساسه كان له فتح مبين والآيات في هذا كثيرة (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم:12] جزاء، قال الله -عز وجل أيضاً- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) [المائدة:1] وأيضاً قوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132] (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) [الأنفال:29] فالصبر أساس والتقوى كالقاعدة التي يبنى عليه البناء الكامل الذي فيه خير للإنسان وسعادة وتمكن وفتح من الله.
 قال الله (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) تعبير بديع في التعامل مع هؤلاء، كيف يستخفّونه؟ بالاستهزاء والسخرية والإعراض والتهكم فقد لا يمتلك الإنسان نفسه مع هذه التصرفات فيخف عقله فيغضب ثم يتصرف بما لا تحمد عقباه. قال الله عز وجل (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) بتصرفاتهم المشينة واستهزائهم واستخفافهم وغير ذلك بل كن ثابتاً قوياً رصيناً بحكمك وحكمتك. وهذه قاعدة في الإنسان الحكيم القوي لا تحركه العواصف وإن كانت قوية، بعض الناس إلا ويغضب ويتلفّظ ويلعن ويشتم.
 أذكر مرة قيل لي أن رجلاً ذهب مع إمام المسجد ينصحون إنساناً لا يصلي فلما طرقوا الباب وخرج عليهم جلس يشتم ويسب عليهم ذاك الرجل الذي مع الإمام ما صبر وقال أنت حمار ما فيك خير! يعني ردة الفعل جعلته يتلفظ بألفاظ خف عقله بها، فهذا التصرف لا يكون من صاحب صاحب العقل الرزين والحكمة الواعية، بل ينبغي أن يصبر ويتحمل الضربات حتى وإن كسرته هذه الضربات فيتحمل هذا الكسر حتى يقوم عوده ويقوى شأنه بإذن الله عز وجل. فلا يستخفنك المستهزؤن ولا يستخفك المكذبون المعرضون ولا يستخفنك أصحاب الأهواء وغير ذلك كُن ثقيلاً في أمرك وعقلك ورشدك وتمسكك بدينك فالله سبحانه وتعالى ما أبدع هذه الكلمة حينما يوصي بها نبيّه وأولياءه في تصرفهم ومعاملتهم مع أعدائهم الذين يريدون أن يستخفّونهم ولهذا قال (الذين لَا يُوقِنُونَ) أي لا يوقنون بوعد الله ولا بجزائه ولا بما عنده. فما أعظم هذه الآية أن نأخذها منهجاً لنا في حياتنا، في دعوتنا منهجاً حتى في تربيتنا، حتى في تعليمنا، حتى في تعاملنا مع الناس نصبر ولا يستخفننا تصرفات الناس المختلفة التي ربما تُخرِج الإنسان أحياناً كما يقال عن طوره فيتصرف بما لا يليق.
 هذه آيات بيّنات عظيمة وهذه السورة ما أعظمها في مثل هذا الزمن الذي نعيشه وتعطينا قوة بإيماننا بالله -عز وجل- ويقيناً راسخاً بوعده فإنه سبحانه وتعالى قد أكّد فيها وعده في أولها وآخرها ففي أولها قال (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ) وفي آخرها قال (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) فعلينا أن نؤمن بوعد الله بالنصر وعلينا أن نرجع إلى الله حقاً وأن نصدُقه باليقين والصبر وأن نقيم أمر الله كما أمرنا بقوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) هذا من أعظم ما يوصل الإنسان إلى هذا الوعد الحقّ والفتح والنصر والتمكين.
 نسأل الله عز وجل أن يقر أعيننا بنصر قريب للإسلام والمسلمين وأن يرينا في أعدائه بأسه وأخذه الأليم وصلى الله وسلم وبارك على محمد. بارك الله فيكم جميعاً ولنا لقاء إن شاء الله تعالى في مجالس أخرى نسأل الله تعالى أن يجمعنا على محبته والعمل بدينه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
--------------------------------
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق