الأربعاء، 12 فبراير 2014

تفسير سورة الروم (١-٢١) / من دورة الأترجة

د.محمد بن عبد الله الربيعة



 {الم ﴿١﴾ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٤﴾ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿٥﴾ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٦﴾ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴿٧﴾}
 بسم الله الرحمن الرحيم هذه السورة سورة الروم متممة لسورة العنكبوت قبلها وإن كانت نازلة قبل سورة العنكبوت والدليل أنها أخبرت بنصر الفرس على الروم وهذا قبل الهجرة بسنوات يؤكد أنها نازلة قبلها لكن في سياقها وغرضها هي متممة لسورة العنكبوت.
 ما غرضها ومقصدها؟ غرضها عظيم وهذا الغرض نحتاجه في هذا الوقت الذي نعيشه في أحداث الأمة اليوم من تسلط أعداء الله -عز وجل- من الطغاة المجرمين وما نراه من أمل وفرج قريب في نصر الإسلام والمسلمين وهو آية من آيات الله تعالى. هذه الأحداث التي حصلت في الأمة كأحداث تونس وليبيا ومصر والأحداث الجارية في سوريا واليمن حقيقة أن هذه الأحداث هى آية من آيات الله لا يمكن لأحد أن يتنبأ بها أو يتوقعها قبل سنين. وهذه السورة تؤكد هذا أن الأمر لله في تصريف الأمور والأحوال (للَهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) يمكن أن نجعل هذه الآية هي خلاصة هذه السورة في بيان أن الأمر كله وتصريف الكون كله لله -سبحانه وتعالى- يصرِّف الكون حيث يشاء، الله ينصر من يشاء ويذلّ من يشاء ويعزّ من يشاء أو يرفع من يشاء ويخفض من يشاء سبحانه وتعالى.
فهذه السورة تخبرنا بالأدلة والشواهد أن القدرة النافذة في تصريف الكون لله وحده، في أحداث الناس فيما بينهم وفي أحوال الناس في معيشتهم وفي أحوال الكون كله، في أحداث الناس من حروب وأحوالهم المعيشية مما خلقهم الله عليه وأحداث الكون كله كلها بتصريف الله (للَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) هذا الأمر الأول.
 الأمر الثاني: أنّ في هذه السورة وعدٌ من الله بنصر عباده وتمكين عباده المؤمنين وتطمين لهم وكأنها متممة لسورة العنكبوت التي عنت بأولئك المستضعفين الذين فتنوا في دينهم ثم هاجروا في سبيل الله.
فالله تعالى هنا يؤكِّد لهم أنهم منصورون وأن دينهم منصور وأن أمرهم ظاهر بإذن الله ولهذا لاحظوا أن الله تعالى يقول (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) كأن هذا فيه إشارة للمؤمنين (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ.ينَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ) وهذه هي الآية الرابعة من الآيات التي أشارت وأفادت بذكر غزوة بدر (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ.ينَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ) ولاحظوا أنه قال في ثنايا السورة أيضاً أو في آخرها قال الله تعالى (وكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وعدٌ جازمٌ عازمٌ من الله أنه سينصر المؤمنين ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه هم أحرى الناس وأحقّ بالنصر صبروا وصابروا وجاهدوا.
 ثم في آخر السورة أتى الوعد مرة أخرى بقوله (َفاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) ما هو وعد الله؟ وعد الله بالنصر والتمكين ووعده بإهلاك المستكبرين المكذبين. فهذه السورة تبيّن لنا وعد الله الباقي الدائم بنصر أوليائه إلى يوم الدين فهي خير ما يستأنس به في عصرنا الحاضر خير ما نستأنس به أن نتعلق بهذا الوعد وأن نحقق شروطه وأن نسعى لتحقيقه بما أمرنا الله به -عز وجل- ورسوله صلى الله عليه وسلم.
  دعونا نتأمل السورة وإن كان الوقت ربما يضيق لكننا لعلنا نستطيع أن نأتي على آياتها ببيان مناسب.
/ قال تعالى (الم) افتتاح السورة بالحروف المقطعة فيه إشارة للتحدي وإعجاز ووعد بالنصر كما قلت لكم في سورة العنكبوت افتتحت بالحروف المقطعة ولم تُتبع كغيرها بالحديث عن القرآن كأن فيها إعجاز من نوع آخر وهو إعجاز بنصر الله لأوليائه ولدينه وإهلاك أعدائه الكافرين المكذبين. أما غيرها التي افتتحت بالحروف المقطعة وأُتبعت بالحديث عن القرآن فهي إثبات أن هذا القرآن حق لكن هذه السورة لا، هي كذلك وإضافة بيان أن دين الله حق وأنه منصور وأن الكافرين لهم العذاب العاجل والآجل.
/ قال الله تعالى (ألم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ) متى غلبت الروم؟ ومن غلبها؟ غلبتها الفرس وذلك أن تلك الدولتان كانتا أعظم دولتين في ذلك الزمان كما نقول في الوقت الحاضر أمريكا وروسيا،هؤلاء الفرس عُبّاد أوثان وهؤلاء الروم من أهل الكتاب فكان المؤمنون يفرحون بنصر الروم لأنهم أهل كتاب وكان المشركون كفار قريش يتطلعون ويفرحون بنصرة بني جنسهم من عُبّاد الأوثان فغُلبت الروم، غلبتها فارس في هزيمة نكراء عظيمة في أدنى الأرض هزيمة لا يتوقع بعدها إلى عودة لأنها في أدنى الأرض، المقصود بأدنى الأرض: أي أدنى الأرض من قِبل بلاد العرب أدنى الأرض أي أقرب بلادهم إلى بلاد العرب، وإن كان في هذه الجملة أخذ بعضهم فيها إعجازاً علمياً بأن أدنى وأدنى مستوى للأرض هو منطقة البحر الميت التي هي أخفض الأرض وفيها وقعت تلك المعركة، هذا إن صدق فهو يوافق الآية لكن المقصود بأدنى الأرض هنا أدنى الأرض من حيث بلاد العرب. (وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) هذه الهزيمة لا يتوقع بعدها أن ترجع الروم إلى القوة فإن الله -عز وجل- يبين أن الأمر له وكما غُلبوا سيغلبون لإثبات أن الأمر لله وأن التصرف بيده يقلب الأمور كيف يشاء سبحانه وتعالى وأنه ينصر من يشاء ويُذِلّ من يشاء.
 قال (فِي بِضْعِ سِنِينَ) البضع: من ثلاث إلى تسع. أبو بكر -رضي الله عنه- فرح بهذه الآية حين تفرّح المشركون على المسلمين بنصرة فارس فأنزل الله هذه الآية ذهب مستبشراً إلى المشركين وقال لينصرنّ الله الروم على فارس ثم راهنهم بذلك بخمس قلائص أنهم سيُنصرون فراهنوه على ذلك لأنهم لا يتصورون مع هذه الهزيمة النكراء أن تعود الدائرة للروم في وقت قريب وهو إنما قال لهم (فِي بِضْعِ سِنِينَ) دولة تُهزم هزيمة نكراء يمكن أن تعود قوتها في بضع سنين؟! هذا في التخطيط الطبيعى البشري بعيد تحتاج إلى سنوات حتى تعيد قوتها، فراهنهم على ست سنين فمضت الست سنين ولم يغلِب الروم الفرس فأتوا وقالوا يا أبا بكر الرهان، فذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال إن الله يقول (فِي بِضْعِ سِنِينَ) قال ألا مددتهم إلى تسع؟ لأن البضع إلى تسع سنين هذا يبيّن أن البضع إلى تسع سنين فمدّهم إلى تسع سنين فغلبوا في السنة السابعة بعد الهجرة. وقد قيل أن أُبيّ بن خلف أتى إلى أبي بكر قرب الهجرة وخشي أن يهاجر ويذهب عليه رهانه فقال اضمن لي الرهان، قال ابني عبد الرحمن -ولم يكن أسلم بعد- فوقع الأمر الذي وعد الله تعالى به في السنة التي نصر الله فيها المسلمين على المشركين في بدر، في السنة التي وقعت فيها بدر ونصر الله فيها المسلمين المؤمنين على الكافرين وقع فيها نصر الله للروم على الفرس فكان فرحاً مضاعفاً للمؤمنين ولهذا قال (يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ) فرحين فرح بنصر الروم وفرح بنصرهم هم على هؤلاء المشركين.
 (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) لهذا جاءت قوله (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) استطراداً بين الجملة وإلا فالجمل (في بِضْعِ سِنِينَ) (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) لكن لما كان الغرض فيها إثبات أن الأمر لله من قبل ومن بعد أي من قبل هذا النصر ومن بعده فكل الأمر له سبحانه وتعالى. (يَنصُرُ مَن يَشَاءُ) وهذا وعد بنصر الله للمؤمنين.
 في قوله (يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ) فيه وعد وإشعار بنصر الله للمؤمنين في بدر وهذه هى الآية الرابعة في الوعد بنصر يوم بدر.
 قال الله -عز وجل- (يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) العزيز بقوته وغلبته على الكافرين وبقدرته عليهم، والرحيم بالمؤمنين المستضعفين بأن ينصرهم سبحانه وتعالى.  / قال الله سبحانه وتعالى (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ) فهذا وعد من الله مُنجَز فهو سبحانه وتعالى إذا وعد لا يُخلَف وعده فهو وعد من الله لهم بالنصر.
 قال (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) لا يعلمون ماذا؟ لا يعلمون سنن الله في الكون وفي الخلق والبشر لو كانوا يعلمون سنن الله لعلموا أن ذلك أمر مُتقرر ثابت ممكن لأن سُنّة الله باقية ومن تتبّع سنن الله عرف ما هو واقع -بإذن الله- لأن لكل أمر سُنن إلهية تتحقق بتحققه بإذن الله عز وجل. قال الله في أمر الكافرين (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أي سنن الله وأمر الله وإرادة الله وحكمه.
(يعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ما المقصود بالظاهر في الحياة الدنيا؟
 الأمر الذي بين أيديهم فقط معيشتهم وأحوالهم والأمور التي يشاهدونها أمام أعينهم أما حقائق الأمور وحقائق الحياة الدنيا وما فيها من صراع الحق مع الباطل وسنن الله في دول الناس وتلك الأيام نداولها بين الناس ووعد الله لعباده بالنصر وبيان أن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء وبيان أن هذه الدنيا زائلة متحولة بتحول الليل والنهار كما يتحول الليل والنهار وكما يزول الإنسان ويتجدد خلقه هذه أمور لا يعلمونها، يعلمونها لكنهم غافلون عنها (يعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هذا يبين لنا أن العلم بظاهر الحياة الدنيا ليس ذا شأن عند الله عز وجل وليس ذا فخر وليس موضع إكبار وانبهار كما هو الحاصل الآن. هؤلاء الغرب أعداء الله هؤلاء الكفار الآن يعلمون شيئاً عظيما من أمور الدنيا لا نعلمها من دقائق أمور الدنيا أو من الأمور الظاهرة من الحياة الدنيا من هذه الصناعات والمصنوعات والمراكب والطائرات والسفن والتقنيات هذه حقيقتها لا شيء أما حقيقة الحياة الدنيا، ما بالك من إنسان يعلم دقائق الأجهزة والمخترعات لكنه لا يعلم حقيقة الحياة الدنيا التي من أجلها خلقها الله، لماذا خلق الله الحياة الدنيا؟ ألم يقل الله عز وجل (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2] فقط الحياة الدنيا لم توجد لهذه الاختراعات والتقنيات ولا لهذه الاكتشافات والمظاهر الكبيرة، لا، إذا هؤلاء لا يعلمون شيئا وإن بهرونا بما عليهم من اكتشافات ووصلوا إلى ما وصلوا من الفضاء والاكتشافات العظيمة التى لم يسبقهم فيها أحد إلا أن هذه كلها مختزلة في شيء يسير يسمى ظاهر أما الحقائق فلم ينتبهوا لها. وعلى هذا الواجب على المؤمن أن يعلم حقائق الحياة الدنيا ولا تصرفه تلك الظواهر عن الحقائق ما هي الحقائق؟؟ يعلم حقيقة الدنيا لماذا وجدت، ابتلاء، فتن، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) يعلم أن هذه الحياة الدنيا دار ممر وعمل للآخرة فيكون هذا سعيه يعلم أن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان فيصبر على ما أصابه، هؤلاء هم الذين يعلمون باطن الحياة الدنيا وظاهرها فلنعي أن هذه العلوم التي فتحت على العالم اليوم ليست بشيء عند الله.
 ثم قال الله يؤكد ذلك (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) كأن الله تعالى يقول الحقائق في الدنيا أنها طريق للآخرة وسبيل إليها ومزرعة لها فمن يتنبّه لذلك؟ ومن يكون سعيه لها؟
 (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) هذه الآية حقيقة لا ننتهي من بيانها والتفكر فيها لكن الوقت لا يكفي إلا أنني أحيلكم إلى من وقف معها وقفة نفيسة وحريٌّ أن يُقرأ كلامه فيها وهو الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان له كلام نفيس في تقرير هذه الآية (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).(1)
 / ثم بيّن الله سبحانه وتعالى أمرهم بأن يتفكروا في أمرين قال الله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ) ليعلموا حقيقة الأمر وسنن الله -عز وجل- ولماذا أوجد الله الخلق، يتفكروا في أنفسهم فالله يدعوهم لذلك (مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى) لو تفكروا في ذلك لعلموا أن حقيقة ما هم فيه على غير ما أراد الله بل هم عن ذلك غافلون. (وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) لقاء ربهم في الآخرة بسبب إعراضهم عن الحياة الآخرة والتفكير فيها وعدم معرفتهم لحقيقة الحياة الدنيا.
/ قال الله بعد ذلك في أمرهم بأن يتفكروا في أمر يدلهم على الحق والحقيقة قال (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بعد أن تفكّروا في أنفسهم بالنظر يسيروا في الأرض بالتفكّر في خلق الله فيما يرونه من سابق أمم سبقتهم فكذبت فعاقبها الله -عز وجل- وأخذها (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي من المكذّبين (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) ولا شك أن عاد وثمود أقوى من قريش فقد آتاهم الله ملكاً عظيماً ومكّنهم مما لم يمكّن فيه قريش، قريش ليست على شيء في مقابل هؤلاء ولا عُشر ما آتاهم الله، عاد الذين كان خلقهم أعظم خلق في قوله تعالى (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر:8] لا في أجسامها ولا فيما مكّنهم الله تعالى فيه حتى أنه يقال أن الغلام لا يبلغ إلا في سن الثمانين وأن طولهم ثمانين ذراعاً يعني أربعين متراً هذا خَلْقٌ عظيم أما هؤلاء ليسوا على شيء ولهذا قال كانوا أشد منهم قوة. (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) حرثوها واكتشفوا كنوزها في استخداماتها المتعددة ولذلك كانت مصنوعاتهم عظيمة إلا أن الله مكّن أهل هذا الزمن بأمور أيضاً أثاروا فيها الأرض بمخزونها وبكنوزها ومصنوعاتها مما تقيم عليهم الحُجّة في آيات الله عز وجل.
 قال (وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) بالقصور والبيوت والحدائق وغير ذلك أكثر مما عمرها قريش.
 (وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بل ظلموا أنفسهم بالكفر والتكذيب واستحقوا بذلك الوعيد والعقاب قال الله (وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
/ (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى) أي أن الله جعل هذا عاقبة لكل من أساء (السوأى) في مقابل (الحسنى) أي الأمر السيء (أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون).
  ثم بين الله -عز وجل- آيات كلها افتتحت بلفظ الجلالة أربع آيات افتتحت بلفظ الجلالة كلها تركز على بيان أن الأمر لله في تصريف الكون في تصريف الأحوال وفي تصريف المخلوقات وأحوالها :
/ قال (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي أنه سبحانه وتعالى هو الخالق وحده هو الذي يبدأه ثم يعيده في البعث ثم اليه ترجعون للجزاء والحساب.
 قال الله إتماماً لذلك (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) الإبلاس أبلسوا انقطعت الحيلة عنهم فليس لهم سبيل في الخلاص بعد ذلك. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء) كانوا يظنون أن شركاءهم سيشفعون لهم (وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ) أي أنهم سيكفرون، يوم القيامة سيكفرون بهم لأنهم لم يجدوا ما كانوا يظنون ويطمعون أن تشفع لهم.
/ قال الله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) مرة أخرى إعادة لبيان أحوالهم (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) كيف يتفرقون؟ يتفرقون حزبين يتفرقون بين المؤمنين وبين الكافرين فهؤلاء حزب الإيمان وهذا حزب الكفر.
/ قال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) والحبور هو: غاية السرور الذى يظهر فيه السرور الباطن والظاهر، سرور القلب بالفرح وسرور الوجه بالابتهاج فهم في روضة من رياض الجنة -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها- (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) ينعمون بها ويسرون فيها غاية السرور.
 ثم بيّن حال الكافرين فقال (وأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) بيّن الله سبب استحقاقهم العذاب كفروا وكذبوا بلقاء الله ولقاء الآخرة فهذا سبب إستحقاقهم للعذاب (فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) أي أنهم حاضرون في النار أو أنهم سيُحضرون لها، المعنيان ظاهران لا تنافي بينهما.
ثم إنتقل السياق هنا في بيان أيضاً آيات من آيات تصريف الله -عز وجل-:
 (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) تقليب الأمور بيده -سبحانه وتعالى- الإصباح والإمساء كله بأمره -عز وجل- فينزه الله عن هذا الشرك الذي أشركوا به وأن له الحق في العبودية وحده سبحانه وتعالى فسبحانه تنزيهاً له عما أشرك به المشركون وزعموا أن آلهة دون الله تُعبّد.
 قال (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * ولَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) له الحمد أنه صاحب التصرف الكامل والذي هيّأ هذا الكون لنا بأن جعل فيه ليلاً نسكن فيه وجعل فيه نهاراً نتعيش فيه. (لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الثناء الكامل فهو المحمود الموصوف بالكمال المطلق في كل أمر من أموره سبحانه وتعالى وفى كل خلق من خلقه. (وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُون) هذه الآية جمعت أوقات الصلوات الخمس من الآيات الثلاث التي ذكر الله فيها أوقات الصلاة منها هذه الآية.
 (حِينَ تُمْسُونَ) تشتمل على صلاة العصر
 (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر
(وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُون) وعشياً المغرب والعشاء والظهر يدخل في المساء يكون الظهر والعصر تمسون، وعشياً المغرب والعشاء، وحين تصبحون الفجر. والآيات الأخرى التي جمعت الصلوات الخمس:
 آية الإسراء (أقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء: 78]
والثالثة (فسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه:130]. (2)
  هذه الآيات التي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- كلها في تصنيف الكون ودلائل قدرته على الخلق وتصنيفه وتنوع خلقه -سبحانه وتعالى- وهي كلها راجعة إلى تسخير الله -عز وجل- لهم وتهيئة الحياة لهم.
/ قال (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ) ما المقصود خلقكم من تراب؟
 إما أن يكون المقصود أصلكم من تراب وهو آدم عليه السلام
 أو أن يكون عيشكم من تراب إذ أن عيشكم قائمٌ على النبات والحيوان وأصله التراب، فهذا معنى يمكن أن تتضمنه الآية.
 (ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) تنتشرون في الأرض تعيشون فيها برزق الله -عز وجل- وتتهيؤن فيها أسباب رزقه وعيشه ولهذا قال (ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) تتفرقون في بلاد الله عز وجل بعيدها وقريبها. فهذا امتنان لهم من الله عز وجل أن هيأ لهم الأرض خلقهم منهم ثم هيأهم للانتشار فيها والعيش فيها فهذه منة وهى تصريف من تصريفه للكون وللخلق.
/ قال (مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً) ذكر الآية الثانية وهى أصل الأسرة وأصل بناء الأسرة التي بها يتكاثر الناس ويتناسلون وهى الزوجية فقال (أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً) ثم ذكر حكمته من هذه الزواج أنها ليست للتكاثر فقط بل هي لأنسكم واستقراركم وسكنكم فحكمة الله في الزواج عظيمة ومتعددة فمنها استقرار الإنسان وسُكناه وحصول الألفة له مع من يعيش معه وأقرب ذلك هو زوجه.
 قال الله (لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) والسكن هنا داخلٌ فيه معنى السكون والاستقرار وهذا هو الأصل ومنه يُقام المسكن، المسكن إنما سُمي مسكناً لسكون الإنسان فيه واستقراره ولا يقيم الإنسان المسكن إلا ليقيم فيه أسرته فالبيت لا يُقيمه الإنسان لنفسه وحده وإنما يقيمه ليقيم فيه أسرته التي يسكن معها. فأصل هذا البيت ليس هو الأصل في المسكن إنما المسكن مع من يسكن فيه فالبيت الذي لا أحد فيه ليس فيه سكن فالأصل هو من يعيش فيه.
قال الله (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) ما الفرق بين المودة والرحمة؟
 المودة هي: المحبة وما في القلب من الألف والقُرب. والرحمة: التي بها يتعايش الناس حتى مع عدم توافقهم فالإنسان إما أن يعيش مع أهله بهما أو بأحدهما. والرحمة المقصود بها أن يكون رحيماً بزوجه وأهله برعايتهم والقيام بشؤونهم ومراعاة أمرهم كل ذلك داخل في معنى الرحمة. فمن حكمة الله أنه جمع الله تعالى للإنسان هذين الأمرين الأول راجع إليه بحصول المودة والمحبة والألفة والثاني بحصول الرحمة التي بها يرعى حاجات المرأة ويقوم بشؤونها ونحو ذلك. فما أعظم هذا التركيب العظيم في خلق الله عز وجل والتصريف البديع في بناء بيت الزوجية الذي منه تنتشر البشرية وتتناسل ولذلك قال (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) نعم إن نشأة الأسرة وبناءها وما شرعه الله فيها من المحبة والمودة والرحمة ليحتاج إلى التفكر في نعمة الله -عز وجل- ويحتاج إلى التفكر في سنة الله في هذا الأمر الذى يبيّن لنا أن شرعة الله العظيمة فلو كان الناس رُعاعاً لا سبيل لهم إلى الاجتماع لكان ذلك سبباً في تقاتلهم وسبباً في نزاعهم وسبباً في طمع بعضهم ببعض لكن هذه الأسر وهذه القبائل هي السبب في تراحمهم وتكاتفهم وتعاونهم ومواساة بعضهم لبعض كما قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات:13] التعارف والتآلف والتكافل عظيم في شرع الله -عز وجل- يحتاج إلى التفكّر ويحتاج إلى أن نوثِّقه في بيوتنا وفي أُسرنا وفي قبائلنا ومجتمعاتنا فإنه من أعظم ما أراده الله -عز وجل- لخلقه وشَرَعه في شرعه ودينه.
 نقف هنا ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم التوفيق والإخلاص ويفهّمنا علم كتابه ويرزقنا علمه والعمل به وصلى الله وسلم على نبيه.
----------------------------------------------------------------------------
1- وقفة مع قوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) 
2- علاقة الشمس بالصلوات في القرآن الكريم 
/ المصدر: ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق