السبت، 9 مارس 2013

سورة البقرة (أسماؤها - نزولها- فضائلها)

د.محمد بن عبد العزيز الخضيري




إنَّ الحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شُرورِ أنفُسِنا وَسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل فَلا هادِيَ له، وأشْهَدُ أن لا إلهَ إلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ له، وأشهَدُ أنّ محمَّداً عَبْدُهُ وَرَسولُه صلّى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسْليماً كثيراً أمّا بعد:
 فقد قدَّمْنا في هذه الدّروس مُقَدِّمَةً في مقاصِدِ السُّوَر: تعريفِ هذا العلم، وبيان أهميَّتِهِ، والمُؤلَّفات ومناهج العلماء فيه، ثمّ تحدّثنا في الدّرس السّابق عن مقْصَدِ سورةِ الفاتحة، واليوم نتحدّث عن مقصَدِ سورة البقرة. وقبل أن نلج إلى المقصد، أو نحدّد مقصد سورة البقرة، ينبغي لنا أن نتحدَّث عن أمورٍ عِدّة تتعلَّق بهذه السّورة تعريفاً بها، وبياناً لِما تضمّنتْهُ من المعاني والموضوعات، ولماذا سُمِّيَت بهذا الاسم، وأيْضاً بعْضُ فضائِلِها، وكلُّ ذلك على وجه التذكير لا على وجه الحصر والاستقصاء.
 هذه السّورة تشتهر بأنّها سورةُ البقرة، وقد ورد ذلك في الأحاديث النَّبوية:
 قال النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- (مَنْ قرأ الآيَتَيْن الأخيرَتَيْن من سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه) فسمّاها سورة البقرة .
وقال (اقرؤوا البقرةَ وَآل عِمْران فَإنَّهُما يأْتِيانِ يَوْمَ القيامة؛ كأنَّهُما غمامتان أو غَيايَتان). وسيأتي بيانُ هذا الحديث في فضائل السّورة.
 فهذا الاسم، اسمٌ ثابت منصوصٌ عليه، والبقرة الّتي سُمِّيَت بها هذه السّورة إشارة إلى تلك القِصّة الّتي ذُكِرَت في ثَنايا هذه السّورة، وفي الثُّمُن الرّابع من أثمانِها، وهي قصَّةٌ حدَثَت لِبَني إسرائيل، ذلك: أنَّ رَجُلاً قتل ابنَ عَمِّهِ من بني إسرائيل، ثمّ أصبح يُطالبُ بدمِه، فاختلف بنوا إسرائيل، فجاءوا إلى موسى - عليه الصّلاةُ والسّلام - واحتكموا إليه، فأمَرَهُ اللهُ - عزّ وجلّ - أن يأمُرَهُمْ أن يَذْبَحوا بقرة: {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ {67} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} إلخ هذه القصّة. فهذه هي القصّة المُراد بها، أو التي سُمِّيَت بها هذه السّورة.
 والعادة الجارية أنَّ أسماء السُّوَر يُراعى فيها:
- أن يكون الشَّيْء بارزً وظاهِراً يُمَيِّز هذه السّورة عمّا سِواها.
- وأيْضاً يُراعى فيه أن يكون ذا صلة لمضمون ومحتوى هذه السّورة .
وهذا الأمر ينبغي لنا أن نتفطَّنَ لهُ في سورةِ البقرة، وقد ذكرناهُ في المقدِّمة، ونُعيدُهُ الآن. ذلكم أنَّ سورة البقرة، أو قصّة البقرة تُعْتَبَرُ رَمْزاً لِمعاملة بَني إسرائيل لِنَبيِّ اللهِ موسى، ورَمْزاً لطريقة استقبالهم لأوامِرِ اللهِ - عزّ وجلّ - ونواهيه، فإنَّهم كانوا يستقبلونها بكثيرٍ من التلَكُّؤ والتأبي وعدم الانقياد والأسئلة الّتي لا يُراد منها - يعني - تمام العلم بالمسؤول حتى ينقاد الإنسان انقيادا تامّا، ولذلك سألوا أسئلة شقَّقوا فيها على أنفُسِهم، وتشَطَّطوا فيها فشَقَّ الله - سبحانه وتعالى - عليهم وهذه القضيّة - يا إخواني - هي المَعْلَم البارز الّذي أُريدَ أن تُظْهَر قصّة بني إسرائيل من خلالِها، فيُقال: يا أُمّةَ محمَّد! إيّاكم أن تفعلوا مثلَ فعلهم. أو تكونوا مثلَهم في طريقةِ تلقّيكم لأوامِرِ الله - عزّ وجلّ - وطاعتكم لرسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، فإنَّ الواجِبَ على الإنسان إذا أرادَ أن يُطيعَ اللهَ - عزّ وجلّ - أن ينقاد ويستسلم ويقبل ما جاء عن الله وعن رسولِهِ -صلّى الله عليه وسلّم- بِلا تلكُّؤ ولا ترَدُّد ولا تباطُؤ، ولا تكونوا مثلَ بني إسرائيل فإنّ اللهَ - سبحانه وتعالى - قد سلبهم الخيْرِيّة وسلبهم التّفضيل لما كانوا عليه من هذا التأبّي وقلّة الطّاعة، وعدم الانقياد لرسولِ الله -صلّى الله عليه وسلّمَ- موسى، هذه هي مناسبة هذا الاسم، وسيأتي مزيد في ذلك عندما نتحدّث عن المقصود - بإذن الله عزّ وجلّ - .
/ هذه السّورة أيْضاً تُسمّى بأسماء أخرى يذكُرُها العلماء، فمنها:
- اسمُ الزّهْراء؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (اقرَأوا الزَّهْراوَيْن) فسمّى سورة البقرة ( الزّهراء ) .
- ويُقالُ لها أيْضاً: فُسْطاطُ القرآن والفُسطاط هو: الشّيْء أو السّور الّذي يُحيط بالمكان، فكأنّها أحاطت بالشريعة من جميع جوانِبِها، إذا بحثْت عن أحكامِ العبادات وجدتها، وإذا بحثت عن أحكام المعاملات وجدتها، وإذا بحثْت عن المناكحات وجدتُها، وإذا بحثْت عن أخبار اليهود ومعاملاتهم ونِعم الله عليهم، ونُكْرانِهِم وجحودِهم لأمرِ الله وجدتها، وإذا أردتَ الإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنَّبيِّين وجدتها، وإذا أردت ذكر أخبار أو بعض أخبار الأُمم السّابقة وجدتها، وإذا أردت القَصص موجودة، وإذا أردتَ الأحكام فهي كثيرة قد تبلُغ -كما يذكُر بعض العلماء- أكثر من خمسمائة حكم .
 وسنقرأ عليكم كلمة ابن العربي عن بعضِ أشياخه أنَّهُ قال: "سورةُ البقرة فيها ألفُ أمرٍ وألفُ نَهْيٍ وألْفُ خبر"، فقوله "فيها ألْفُ أمْرٍ وألْفُ نَهْيٍ وألْفُ خبر" يدُلُّنا على سَعة هذه السّورة، ويُؤكِّد هذا أنّ بعْضَ الصّحابة بَقي في دِراسَتِها، وتَعَلُّمِ ما فيها سنين طويلة، فعُمر بن الخطّاب ورد أنه بقي فيها ثلاثة عشر عاماً، وابنُ عُمَر بقي فيها -كما ذكر نافع  رحمه الله- ثمانيَ سِنين، وفي رواية عندَ ابنِ سعْد أربع سنين، وسواءً كانت ثمان أو أربع فهذا يَدُلّ على أنَّ ابنَ عُمَر وجد فيها خيْراً كثيراً، ووجد أنَّها تستحقّ أن يمكُثَ الإنسانُ فيها هذه المدّةَ الطّويلة؛ لِيَتعلَّم ما فيها من الأحكام والحِكم والدُّروس والعِبَر والفضائل، والأعمال، والعقائد، فهذه السورة سورة عظيمة جدّاً.
/ أيْضاً تُسمّى : سَنام القرآن، وسنامُ الشَّيْ هو: أعلاه، ومنه سنامُ البعير؛ لأنّهُ أعلى شيْءٍ فيه، فهي أعلى القرآن من حيثُ أنّها شاملة للعبادات والعقائد وشاملة للمعاملات، وشاملة للأقضية، وشاملة للقَصص، وشاملة للتوحيد، وإلى ما سِوى ذلك.وفضْلُها ثابت في أحاديث كثيرة سنتلو عليكم بعْضاً منها. إذاًهذه السّورة تدور أسماؤها على هذه الأسماء الأربعة:
- أمّا الاسم الأوّل فهو الاسم الثّابت لها في السُّنّة، وهو المشهور، وهو الّذي تُسمّى به في مصاحف المسلمين.
- وأما الأسماء الثلاثة فهي أقرب أن تكون أوصافاً منها إلى أن تكونَ أسماء، والأوْصاف يتجوَّز النّاس فيها، ويذكرون أوصاف للسّورة وأوصاف للشّيْء قد لا تكون موصوفة، وقد تأخذ جانِباً أو حيِّزاً من هذه السّورة، والأمر في ذلك واسع.
/ نأتي بعدَ ذلك إلى مكان نزول هذه السّورة:
 هذه السّورة نزلت أوَّل ما قَدِمَ النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- بالمدينة، ويُؤكِّد هذا أنَّها تحدَّثَت عن بني إسرائيل حديثاً مُفَصَّلاً، وذكّرَتْهُمْ بأوامِرِ الله لهم، ثمّ بِنِعَمِ اللهِ عليْهِم، ثمّ بِما وقع منهم، وما صار منهم مع موسى عليه الصّلاةُ والسّلام، وكيف قابلوا نعمةَ الله - عزّ وجلّ - عليهم بالهداية والرِّسالة؛ بما ذَكَرْناهُ من التأبي وعدم القَبول والاستسلام والانقياد، وكان ذلك مَثابة التّعريف للمؤمنين بحالِ هذه الأُمّة الّتي صارت تُقاسم أهلَ الإسلام هذا البلد، فاليهود؛ كما لا يخفى عليكم هم سُكّانُ المدينة وكانوا ثلاث قبائل: يهود بني قَيْنُقاع، ويهود بني النَّضير، ويهود بني قُرَيظة، ولذلك النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-أوَّل ما جاء المدينة عمِلَ ثلاثة أشياء: الأمر الأوَّل: بنى المسجد. والأمر الثاني: آخى بين الأنصار والمهاجرين. والأمر الثالث: عقد الاتِّفاقِيّات والمعاهدات بينَهُ وبين اليهود. لماذا؟ لأنَّهُ يعلم أنّ اليهود قوْمٌ غُدر لا ذِمَّةَ لهم، لا يُوَفّون بالعهود، ولا يَرْعَوْنَ حُرْمَةً للعقود، ولذلك بادر النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى عقْدِ اتِّفاقِيّات لهم. مَن أنتم؟ وماذا عليكم؟ ومَن نحن؟ وماذا علينا ؟ وماذا يجب علينا جميعاً تُجاه بعضِنا وتُجاه البلد الّذي نسكن فيه؟ ولأجلِ هذه البنود والاتِّفاقِيّات الّتي حدثت بينهم وبين رسولِ الله -صلّى الله عليه وسلّم-صار مصيرُهم إلى الطَّرْد والإبعاد، أو القتل، فَطُرِد بنو قَيْنُقاع أوَّلاً، ثمّ لَحِقَهم بنو النَّضير، ثمّ وقعت الواقعة الّتي قُصِمَت لِأجلِها الظُّهور، وقُطِعَت لِأجْلِها الرِّقاب، وهي: خيانةُ بني قُرَيْضة لرسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة الأحزاب. فلا إشكال عند العلماء، بل هذا محلُّ اتِّفاق:أنَّ سورة البقرة ابتدأ نزولُها في المدينة، وهي مدنيّة بالإجماع، ليست محلاًّ للإشكال أسلوبُها، ونزولُها، وآياتُها، وموضوعاتُها، كلُّها تدُلّ على أنَّها سورة مدنيّة. وحكى ابنُ حجر في الفتح الاتفاق على هذا الأمر.
 وهل هي أوَّلُ سورةٍ نزلت في المدينة؟
هذا محلُّ إشكال، فأكثرُ العلماء على أنّها أوَّلُ سورةٍ نزلت في المدينة. وقيل: بل سورةُ المطفِّفين قبلها.
 تعرفون أنّ سورة المطفِّفين من السُّوَر الّتي اختُلِفَ فيها هل هي مدنيّة أو مكيّة؟ والسّبب الّذي حمل بعض العلماء على أن يجعلوها من السُّور المدنية، هو أنّ سبب نزول أوَّل آياتها هو التّطفيف. لقد جاء النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- المدينة وكان أهلُها مشهورين بتطفيف المكاييل والموازين، فأنزل الله - عزّ وجلّ - قولَهُ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ {3} أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ}.. إلخ . فمن هنا قال بعض العلماء: إنَّ هذه السّورة سورة مدنيّة. والّذي ينظُر إلى عموم موضوعات السّورة يجد أنَّها من السُّوَر المكيّة.
 وعلى كُلِّ حال: سورةُ البقرة بهذا تبقى من أوائلِ السُّوَر الّتي نزلت في المدينة إن لم تكُن أوَّلَها، واستمرّ نزول سورة البقرة إلى آخر سنة، بدليل:
أنّ آخر آية نزلت في القرآن موجودةٌ في سورة البقرة.
- ومن أواخر ما نزل تحريمه على المؤمنين : ( تحريم الرِّبا ) لمّا قال النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- في حَجَّةِ الوَداع (ألا وإنَّ رِبا الجاهِلِيّةِ موضوع، وأوَّلُ رِباً أضَعُهُ مِن رِبانا رِبا عَمِّيَ العبّاس) وفي هذه السّورة تحريمُ الرِّبا، قال الله - عزّ وجلّ - {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وقال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}، وقد كان قبلاً نزل تحريم: الرِّبا المُضاعف -رِبا النَّسيئة المُضاعف- في سورة آلِ عمران، وكان هذا في السّنة الثّانية الهجرية، قال الله - عزّ وجلّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} فَحُرِّم أوَّل ما حُرِّم (الرِّبا المُضاعف)، ثمّ حرَّم الله - عزّ وجلّ - الرِّبا كُلَّه، وذلك في سورة البقرة.
 إذاً: استمرّ نزول هذه السّورة - يا إخواني - على امتداد بقاء النَّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في المدينة، من أوّل سنة هاجَرَ فيها عليه الصّلاةُ والسّلام إلى قبل وفاته بتسعين ليلة؛ لأنَّ قوْلَهُ {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} هي آخر آية أُنزِلَت من القرآن على الرّاجح من أقوالِ أهلِ العلم، وقد ذكر ابنُ عبّاس - رضي الله تعالى عنه - أنَّهُ ليس بينها وبين وفاةِ النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلاّ ليالي معدودة. فهذا يدُلُّنا على أنّ هذه السّورة استمرّ نزولُها الفترة المدنيّة كاملة.
/ وهذه السّورة هي السورة السابعة والثَّمانون في ترتيب النّزول، والّتي قبلَها هي سورة المُطَفِّفين، والتّي بعدَها هي سورة الأنفال. يقول عِكرِمة "أوَّلُ سورةٍ نزلَت في المدينة سورةُ البقرة" أخرَجَهُ أبو داود في النّاسِخِ والمنسوخ.
 أمّا فضائل هذه السّورة فهي كثيرةٌ جدّاً منها:
 - الثّابتُ في الصّحيح المقطوع في صحَّتِه.
- ومنها: الحَسَن.
- ومنها: الضّعيف الّذي يُعلَم به أنَّ هذه السّورة فاضلة، وأنَّها ذات منزلة، ولكن قد لا يكون ما ورد فيها مرفوعاً إلى النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- وإنَّما يكون من قبيلِ الموقوفِ على بعضِ الصّحابة، أو ضعيفُ الإسناد ليس مقبولاً جملةً ولا تفصيلاً.
 أوَّلُ هذه الأحاديث الّتي نقرَأُها عليكم: ما أخرَجَهُ أبوا عُبَيْدة، وأحمد، وحُمَيْد بن زنجويه في فضائلِ القرآن، والإمامُ مسلم، وابنُ الضريس ، وابنُ حِبّان والطّبراني وأبوا ذرّ الهَرَوي في فضائلِه، والحاكم، والبيهَقي في سُننه، عن أبي أُمامةَ الباهِليّ - رضي الله عنه - قال، سمِعْتُ رسولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول (اقْرَأُوا القرآن فَإنَّهُ يَأتي يَوْمَ القِيامةِ شَفيعاً لِأصْحابِه، اقْرَؤوا الزهراوَيْن: سورةَ البقرةِ، وسورةَ آلِ عِمْران؛ فإنَّهُما يأتِيان يَومَ القيامة؛ كأنَّهُما غَيايَتانِ، أو كأنَّهما غمامتانِ أو كأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صوافّ يُحاجّانِ عن صاحِبِهِما، اقرأوا سورة البقرة؛ فإنَّ أخْذَها بركة، وتَرْكَها حسْرة، ولا تستطيعُها البَطَلة) .
 تأمّلوا - يا إخواني - هذا الحديث فقد أمر النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- بإدْمانِ قراءة القرآن؛ لأنّ الّذي يدمن قراءة القرآن، ويُكثِرُ من ذلك يَظْفَرُ بشَيْءٍ عظيمٍ جدّاً، وهو شفاعةُ القرآن له، قال: ((اقرؤوا القرآن فإنَّهُ يأتي يَوْمَ القِيامةِ شَفيعاً لِأصْحابِه))، ولمّا قال لأصحابِه دَلَّنا ذلك على أنَّ الإنسان لا ينال شفاعةَ القرآن؛ حتى يُصاحب القرآن، والمُصاحبة تقتضي طول الملازمة؛ لأنَّهُ لا يُقال لإنسان يقرأ القرآن في رمضان فقط (صاحب للقرآن)، بل صاحِبُ الإنسان مَن كان مُلازِماً له ومعهُ في اللّيل والنّهار، ولا يكاد يَفوتُهُ يوم إلاّ والقرآن على لِسانِه، ويجري ذِكْرُهُ على قلبِه. ولمّا انتهى من هذا العموم في قراءةِ القرآنِ كُلِّه خصَّ منه شيْئاً، وهما: (الزَّهْراوان)، فقال: ((اقرؤوا الزَّهْراوَيْن: سورةَ البقرة، وسورةَ آلَ عِمْرَن)) وصفَهُما بِأنَّهُما زَهْراوان، وسمّاهما فقال: (سورة البقرة)، وسورة (آلِ عِمْران) وهذا استدلَّ به العلماء على جواز أن يُقال مثل هذا اللّفظ في أسماءِ السُّور؛ لأنَّ من التّابِعين مَن نهى عن ذلك، ويقول: ما تقول سورة البقرة، بينما تقول: السّورةُ الّتي لم يُذْكَرُ فيها البقرة، فيُقال: قد قالَها رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم- وانتهى كلامُ من بعده لا يُلْتَفَت إليه، وهذا منهم على وجه الاستحسان، والتأدُّب في نظرهم، لكن ما دامت قد ثبتت عن رسولِ الله -صلّى الله عليه وسلّم- فلا إشكالَ في أن تقال.
 قال: (فإنَّهُما يأتِيانِ يَوْمَ القِيامة؛ كأنَّهُما غَيايَتان أو غمامتان - يعني: سحابتان - أو كأنَّهُما فِرْقانِ) - الفِرْق هو: جماعة من الطُّيور - (فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صوافّ يُحاجّانِ عن صاحِبِهِما) يعني: تأتي هاتان السّورَتان بشفاعةٍ خاصّة غير الشّفاعة الثّابتة لعموم القرآن. فإذا صاحبْتَ القرآن، وصاحبْت هاتين السّورَتين بشكلٍ خاصّ، فإنَّ لَهُما شفاعة خاصّة تأتي يوم القيامة سورة البقرة وتُحاجّ عنك، تقول: (يا ربّي كان هذا الرَّجُل يقومُ بي في اللّيل، كان يَتْلوني آناءَ اللّيل وأطرافَ النَّهار) وتأتي آل عمران، وتفعَلُ مثلَ ذلك. ولأجلِ ذلك ورد عن بعضِ السّلف أنَّهُ كان له في كلّ يوم ختمة سِوى قراءتِهِ لسورة البقرة وآلِ عِمْران يقومُ بها في اللّيل؛ لأنَّهُ يُريد أن يكون صاحب للقرآن، حتى ينال شفاعةَ القرآن، ويُريد شفاعة إضافيّة؛ لمزيد الاحتياط والتّأكُّد، ومزيد الدّعْم والمُساندة في ذلك اليوم المَهيب الرَّهيب الّذي يخلع القلوب ويحتاج فيه الإنسان إلى كلّ ما يُنجيه من عذابِ الله - عزّ وجلّ - ويقيه سخطَ اللهِ - جلّ وعلا -، فيقرأ سورةَ البقرة وآلِ عمران قراءة خاصة. / ثمّ قال عليه الصّلاةُ والسّلام: ((اقرؤوا سورةَ البقرة فإنَّ أخْذَها بركة)). إذاً هي سورة مباركة:
 من بركتِها أنّها جاءت في هذه الأحكام العظيمة.
 من برَكَتِها أنّها بيَّنت لنا هذه الآداب الشّاملة.
 من بركتِها أنّها اتّسَعَت لهذه المائدة الضّخمة من التّعليمات، والآداب، والحِكَم، والأحكام، والعقائد.
 من بركتِها أنّها ما تكاد تُتْلى في شيْء إلاّ حضرت هذه البركة، إذا تُلِيَت سورة البقرة في بيت؛ فرَّ الشَّيْطانُ منه، وإذا قرأت آيتين منها في ليلة كفتاك كلَّ سوء، وإذا قرأت آية منها، وهي (آية الكرسي) دُبُرَ كلِّ صلاة لم يمنعْكَ من دخولِ الجنّةِ إلاّ أن تموت. يعني: هذه أشياء من بركة هذه السّورة العظيمة. ولاحظوا - يا إخواني - أنَّنا لو تتبَّعْنا أمْرَ البركة في هذه السّورة؛ لوَجَدْنا أنَّهُ أمرٌ عظيمٌ يستحيلُ على الحصْر.
/ قال: ((فإنَّ أخْذَها بركة، وتَرْكَها حسرة)) إذا تركها الإنسان سواءً: ترك تعلُّمَها، أو تعلَّمَها ولم يقُمْ بِها. ترْكَها حسرة: يتحسَّر الإنسان أعظمَ الحسرة على أن لم يكُن قد قرأ هذه السورة وتعلَّمَها، أو حَفِظَها ووعاها، فانتفع بها. فوصِيَّتي واللهِ لنفسي، ولكم يا أحِبّائي أن نأخُذَ هذه السّورة بقوّة، وأن نستمسِكَ بها، وأن نتعَلَّمها، ولو بَقينا في تَعَلُّمِها عَشْرَ سنين.
/ قال: ((فإنَّ أخْذَها بركة، وتَرْكَها حَسْرة، ولا تستَطيعُها البَطَلة)) أي: السّحرة. هذه السّورة إذا قُرِئت توقّف السّحرة، بل إنَّ آية واحدة منها كافية لإبطال كيْدِ السّحرة مهما كانت، وهي: (آية الكرسي) فكيف إذا قرأ الإنسان سورة البقرة كلّها ؟! ما يقرَأُها إنسانٌ فيُصيبُهُ سحرٌ بإذنِ الله - عزّ وجلّ-.
 وأخرج أحمد والبخاري في تاريخِهِ وليس في صحيحه، ومسلمٌ، والتّرمِذيّ، ومحمّد بن نصر عن النّواس بن سَمْعان قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((يُؤتى بالقرآنِ وأهلِهِ الّذينَ كانوا يعْمَلونَ بِهِ في الدُّنيا تَقْدُمُهم سورة البقرة وآلِ عِمْران)) انظروا - يا إخواني - "أهله" فسّره بأنّهم: الّذينَ كانوا يعْمَلون به في الدُّنيا. إذاً: لن تكون من أهلِ القرآن؛ حتى تعْمَلَ بالقرآن، وبهذا نُحَذِّر جميعَ إخوانِنا أن يكون حظُّهم من القرآن هو مجَرَّد إمرار الحروف على اللّسان هذا ليس مقصودا، وليس مطلوباً لوحده، بل المقصود والمطلوب الأعظم هو: العمل بالقرآن، والعمل بالقرآن لا يكون إلاّ بعد فهمه وتدَبُّرِه، ومعرفةِ مقصودِه، ولذلك قال هنا: ((يُؤتى بالقرآن وأهلِهِ الّذينَ كانوا يعملونَ به في الدُّنيا تقْدُمُهم سورةُ البقرةِ وآلِ عِمْران)). قال: وضرب لهما رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثةَ أمثالٍ ما نسيتُهُنّ بعد: قال: ((كأنَّهُما غَمامَتان أو كأنّهما غَيايَتان، أو كأنَّهُما ظُلَّتانِ سَوداوانِ بينهما شَرَف، أو " كأنّهُما فِرْقانِ من طَيْرٍ صوافّ يُحاجّانِ عن صاحِبِهما)) يعني تأتي مثل السّحابة العظيمة المليئة بالماء والخير والبركة، وهذا تشبيهٌ لها بالحجم والضّخامة والعِظَم، تأتي يومَ القيامة؛ لِتُحاجّ عَمَّن كان يعمَلُ بها ويتلوها ويحفَظُها ويصاحِبُها في دُنياه.
 وأخرج ابنُ أبي شيْبة، وأحمد، وغيرهم، عن بُرَيْدة قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: ((تَعَلَّموا سورةَ البقرة، فإنَّ خْذَها بَرَكة، وتَرْكَها حَسْرة، ولا تستطيعُها البَطَلة، ثمّ سكت ساعةً، ثمّ قال: تعلَّموا سورة البقرة، وآلَ عِمْران، فإنَّهُما الزَّهْراوان يُضِلاّنِ صاحِبَهُما يومَ القيامة؛ كأنَّهما غمامتانِ، أو غَبابَتانِ، أو فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صوافّ)).
وأخرج أحمدُ، ومسلم، والتِّرْمِذيّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّمَ قال: ((لا تَجْعَلوا بُيوتَكم مقابِرَ، الشَّيْطانُ ينفِرُ من البيتِ الّذي تُقْرَأُ فيه سورةُ البقرة)) ولفْظُ التِّرْمِذِيّ: ((وإنَّ البيْتَ الّذي تُقْرَأُ فيهِ سورةُ البقرة لا يَدْخُلُهُ الشَّيْطان)) وهذا خير تُقرَأ أو يُقرأ مطلق لم يقل (الّذي تقرأُ فيه أو يقرأُ فيه صاحبه سورةُ البقرة) وهذا يعني: أنَّ الإنسان لو قرأ أي واحد من أهل البيت سورة البقرة فرّ الشّيْطان. وأيْضاً لو قُرِئت سورةُ البقرة عبر تسجيل إذاعي أو تلفزيوني أيْضاً كانت سبباً في فِرارِ الشَّيْطان. وفي هذا العصر تيسّر للنّاس ما لم يتيسّر لِمَن كان قبلهم؛ لعموم أو لإطلاق اللّفظ في الحديث.
 وأخرج أبو عُبَيْد، والنَّسائي، ومحمَّد بن نصر في كتاب الصّلاة عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: ((صَلّوا في بُيوتِكم وَلا تَجْعَلوها قُبوراً، وَزَيِّنوا أصواتَكم بالقرآن، فإنَّ الشَّيْطان ينفِرُ من البيت الّذي يُقرَأُ فيه سورةُ البقرة)) وما الّذي يمنع -يا إخواني- أن يتعاهد أهلَ البيت الواحد على أن يكون كلّ واحد منهم يقرأ سورة البقرة في يوم؟ فيقول محمّد: أنا أقرَأُها يوم السّبت، وتقول فاطمة: أنا أقرَأُها يومَ الأحد، وتقول الأُمّ أنا أقرأُها يومَ الإثنين، ويقول الأب: أنا أقرَأُها يومَ الثُّلاثاء؛ لكي يتعاهَدوا بيتَهم ألاّ يدخُلَهُ شيْطان، فيُحْفَظ البيت وأهله من الشَّياطين.
 وأخرج أبوا عُبيْدٍ عن أنس قال، قال رسولُ الله صلّى الله عليه ّوسلّم: ((إنَّ الشَّيْطانَ يخْرُجُ من البيت إذا سمع سورةُ البقرةِ تُقْرَأُ فيه)) وهذا فيما ذكرْتُ لكم أيْضاً مطلق لم يُحَدِّد فيه مَن هو القارئ، سواءً كان أنت، أو أحدٌ من أهلِ بيتِك، أو رجُلٌ أجنبيّ، أو تسجيل من التّسجيلات.
 أخرج أبو عُبَيْد والدّارِمي عن أبي أُمامة - وهذا ليس من الفضائل الواردة في السّنّة النّبويّة ولكنَّه من الآثار - عن أبي أُمامةَ قال: ((إنَّ أخاً لكم رأى في المنام أنّ النّاس يسلكونَ في صدر جبل وعْرٍ طويل، وعلى رأسِ الجبلِ شجرتانِ خَضْراوانِ تهتفان، هل فيكم مَن يقرأُ سورةَ البقرة؟ هل فيكم مَن يقرأُ سورة آلِ عِمْران؟ فإذا قال الرَّجُلُ: نعم دنتا منه بأعناقِهما؛ حتى يتعلّق بهما فيخطرا به الجبل)) يعني فيصعدانِ به الجبل من غيرِ مشقّةٍ ولا عناء، وكأنّ هذا تفسير لشفاعة هاتين السّورتَيْن لصاحِبِهما.
 وأخرج الدّارِميّ عن ابن مسعود : أنّه قرأ رجلٌ عندَهُ سورة البقرة، وآلَ عِمْران، فقال: ((قَرَأْتُ سورَتَيْن فيهما اسمُ اللهِ الأعْظَم الّذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئلَ به أعطى)) ولعل مقصودَهُ - واللهُ أعلم - في سورة البقرة: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فلفظُ الجلالة (الله، والحيّ، والقيّوم)، هذه اسمُ اللهِ الأعظم؛ لأنّ هذه الأسماء الثّلاثة، وردت أيْضاً في سورة آل عمران في أوّلِها: { الم {1} اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...} . قال: ((قرأْتُ سورَتَيْن فيهِما اسمُ اللهِ الأعْظم الّذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئلَ به أعطى)) .
 وأخرج أبو عُبَيْد، وابنُ الدُرَيْد، عن أبي مُنيبٍ عن عمِّهِ أنَّ رجُلاً قرأ البقرةَ، وآلَ عِمْران، فلمّا قضى صلاته قال له كعب: "أقرأتَ البقرة وآلَ عِمْران؟ قال: نعم. قال: "فَوَ الّذي نفسي بِيَدِه إنَّ فيهِما اسمَ الله الّذي إذا دُعِيَ به استجاب. قال: فأخبرني به. قال: لا واللهِ لا أخبَرْتُك ولو أخْبَرْتُكَ لأَوْشَكْتَ أن تدْعُوَ بدعوةٍ أهْلَكُ فيها أنا وأنت". يعني: فأبى أُبَيٌّ أن يُخْبِرَ هذا الرَّجُل باسم الله الأعظم.
 وأخرج أحمد ومسلم وأبوا مُعَيْنٍ في الدّلائل عن أنسٍ بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان الرَّجُل إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْران جدَّ فينا" يعني:عظُم ، صار ذا من منزلة وحظوة. ويدُلُّ على ذلك ما سيأتي من الروايات من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يُسَيِّرَ سَرِيَّةً سألهم: أيُّكم يحفظ سورة البقرة؟ فإذا قال رجلٌ منهم: أنا. أمّره عليهم. وفي الموتى إذا عُرِف في الموتى أو في الشُّهداء مَن يحفظ سورةَ البقرة قُدِّمَ على أصحابِه، وقُرِّب إلى الإمام على بقيّةِ أصحابه.
 وأخرج الدّارِميّ عن كعبٍ قال: ((مَن قرأ البقرةَ وآلِ عِمْران جاءتا يومَ القيامةِ يقولان: ربَّنا لا سبيلَ عليه)) وهذا تفسيرٌ للشّفاعة المذكورة في الأحاديث المتقدِّمة.
 وأخرج أبو عبيْد، وسعيدُ بن منصور، وعبده بن حُمَيْد والبيْهَقيّ في الشُّعَب، عن عُمَرَ بن الخطّابِ قال: ((مَن قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ والنِّساءَ في ليلةٍ ؛ كُتِبَ من القانتين)) والقانت هو: المديم والمُطيل للطّاعة.
 ورد في الحديث الّذي رواه ابن السُنّي في عملِ اليوم واللّيلة، والنّسائي أيْضاً في عملِ اليوم واللّيلة، قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((مَن قام بِعَشْرِ آياتٍ لم يُكْتَب من الغافلين، ومَن قام بِمِئةِ آيةٍ كُتِبَ من القانتين، ومَن قام بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المقنطرين)) يعني: ذوي القناطير العظيمة. قال الحافظ بن حجر وهو يشرح هذا الحديث أو يُعَلِّق عليه، قال: "ووجدتُ الرَّجُل يمكنُهُ أن يقرأَ ألفَ آية إذا قرأ جُزْأي تبارك وعمَّ، وقد أحصَيْت ما فيهِما من الآيات ووجدت أنّها تسع مئة وستة وتسعين آية"؛ فكأنَّ الحافظ أراد أنَّهُ لا بُدّ أن يكون معها الفاتحة فتُصبح بذلك كأنَّما قرأ الإنسان ألف آية، فما الّذي يمنعُك - يا أخي - أنّك في ليلة من الليالي تقول: اللّيلة أُريد أن أكون من المقنطرين، فتقرأ بألفِ آية فتقوم بجزئي تبارك وعمّ . وفي هذا الحديث يقول عمر: (مَن قرأ البقرة وآلَ عِمْران والنِّساء في ليلة كُتِبَ من القانتين) وهذا لا يُخالف ما جاء في الحديث؛ لأنّ في الحديث: (مَن قرأ مئة كُتِب من القانتين) والقنوت هو: دوامُ الطّاعة وطولُ القيامِ في الصّلاة، يُطْلَق على هذا وعلى هذا {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}.
 وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابنِ مسعودٍ قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ما خَيَّبَ اللهُ امْرَأً قامَ في جوْفِ اللّيل فافتتح سورة البقرة وآلَ عِمْران)) وأين منّا - يا إخواني - في هذا الزّمان الّذي كَثُرَت فيه النِّعم وَضَعُفَت فيه الهِمم مَن يقوم بالبقرة وآلِ عِمران ؟ . أبو إسحاق السبيعي قرأت في ترجمته كلمة عجيبة يقولون: أنَّه كان يقول وهو في السبعين من عمره "أوّاه على زمَنِ الشّباب قد ذهب القيامُ منّي، قيلَ له: يا أبا إسحاق كم تقوم في عُمُرِك هذا من اللّيل؟ قال: إنّي لا أقوم الرّكعة إلاّ بالبقرة وآلِ عِمران" في الرّكعة ما أقوم إلاّ بالبقرة وآل عمران، وينك يا أيّام الشّباب يوم كنّا نقرأ كلامَ الله - عزّ وجلّ - حتى تتفطّر منّا الأقدام . قام عثمان - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن كلِّه في ركعة واحدة في جوف الكعبة - تأمّلوا يا إخواني الإيمان - أسألُ الله أن يجعلَني وإيّاكم من أهل الهمم العالية.
 وأخرج أبو عُبَيْد عن أبي سعيد التَّنوخي، أنَّ يزيدَ بن الأسوَد الجُرَشي كان يُحَدِّث: (إنَّهُ مَن قرأ البقرةَ وآلَ عِمرانَ في يومٍ بَرِئ من النِّفاقِ حتّى يُمْسي، ومَن قرأهما في ليلةٍ بَرِئَ من النِّفاق حتى يُصبح، قال: وكان يقرأَهُما كلَّ يوْمٍ وكُلَّ ليلة سوى جزئه) ليبرأ من النِّفاق، بسببِ قراءةِ هذه السّورة .
 وأخرج الدّارِميّ ومحمّد بن النّصر وابنُ الضريس، والطّبراني والحاكم، وصحَّحه، والبيهقي في الشُّعب عن ابنِ مسعود قال: ((إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَناماً، وسنامُ القرآنِ البقرة، وإنَّ الشَّيْطانَ إذا سَمِعَ سورةَ البقرة نفر من البيت الّذي يُقْرَأُ فيه وله ضريط)) يعني: وله ضُراط من شدَّةِ فِراره وهروبه من المكان الّذي تُقْرَأُ فيه سورةُ البقرة.
 واسمعوا هذا الحديث الّذي ليس خاصّاً في سورة البقرة، لكن جاءت القصّة وفيها ذكر سورة البقرة: أخرج الإمامُ البخاري في صحيحه؛ تعليقاً، ومسلم، والنَّسائي، وغيرهم عن أُسَيْد بن حُضَيْر، قال: (بينما هو يقرأُ من اللّيلِ سورة البقرة وفرَسُهُ مرْبوطةٌ عندَه إذ جالت الفرس فسكت، فسكنت - أي الفرس - ثمّ قرأ فجالت الفرس، فسكت أُسَيْد، فسكنت، ثمّ قرأ فجالت، فسكت، فسكنت، ثمّ قرأ فجالت فانصرف إلى ابنِهِ يحيى، وكان قريباً منها، فأشفق أن تُصيبَه، فلمّا أخذه رفع رأسَهُ إلى السّماء، فإذا هو بمثلِ الظُّلّة فيها أمثالُ المصابيح، عرجت إلى السّماء؛ حتى ما يراها، فلمّا أصبح حدَّثَ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم. فقال له رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: " أتَدْري ما ذاك؟ قال: لا يا رسولَ الله. قال: تلك الملائكة دنت لصوْتِك ولو قرأتَ لأصبحت تنظر النّاسُ إليها لا تتوارى منها) انظروا - يا إخواني - نزلت الملائكة في ظُلّة؛ لتستمع لتلاوةِ أُسَيْدٍ وهو يقْرأُ سورة البقرة . وهذا الفضل ليس خاصّا بسورة البقرة، بل هو عام للقرآن، ولكن سورةُ البقرة فيها مزيدُ فضيلة.
 وأخرج ابنُ أبي شيْبة في المُصَنَّف، وأحمدُ ومسلم، وأبوا داود، والتِّرمِذي، والنّسائي، عن حُذَيْفةَ قال: (صَلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ليلةً من رمضان، فافتتح البقرة، فقلتُ يُصَلّي بها ركعة، ثمّ افتتح النِّساء فقرأها، ثمّ افتتحَ آلَ عِمْران، فقرأها مُتَرَسِّلاً إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبّح، وإذا مرَّ بِسُؤالٍ سأل وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذّ) لا إله إلاّ الله ما هذه القراءة وما هذه الصّلاة ؟ كل ذلك في ركعة وليس في أكثر من ركعة؛ ولذلك قال ابنُ مسعود: (حتّى هَممتُ بِأمرِ سوء. قيلَ: وما هممتَ به؟ قال: هممتُ أن أركَعَ وأَدَعَه) من طولِ قيامِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، لقد كان عليه الصّلاةُ والسّلام عَبْداً شَكوراً. ولاحظوا: طريقة التِّلاوة: مُتَرَسِّلاً إذا مرَّ بآيةٍ تعوُّذٍ تعوَّذ، وإذا مرَّ بآيةِ تسبيحٍ سبّح، وإذا مرَّ بآيةِ سُؤالٍ سأل. وهذا تقديرُه في حدود أربع ساعات ونصف إلى خمس ساعات . لأنه لا يمكن تُقْرَأ هذه السّور الثلاث بهذه الطّريقة في أقلّ من ذلك؛ لأنَّ الجزء الآن - يا إخواني - يقرَأُهُ الّذي يقرأ قراءة عاديّة في نصف ساعة، فإذا كانت هذه الآن خمسة أجزاء وزيادة، معنى ذلك أنّ الخمسة أجزاء تحتاج إلى كم؟ إلى ساعتين ونصف. هذا بالقراءة العادية بدون توقُّف ولا تسبيح ولا تعوُّذ ولا سُؤال، ومن دون ركوع ولا سجود ولا غيرُ ذلك ممّا يلزم للصّلاة. إذاً كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وقف يتلو القرآن في تلك القراءة المترسِّلة قرابة أربع ساعات ونصف أو أزيد والله أعلم.
 وأخرج التِّرْمِذيّ، وحسَّنه النَّسائي وابنُ ماجه، وغيرهم، عن أبي هريرة قال: بعث رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بعْثاً وهم ذَووا عَددٍ، فاستقرأ كُلَّ رجُلٍ منهم. يعني: ما معه من القرآن، فأتى على رَجُلٍ منهم من أحدَثِهم سِنّاً، فقال: " ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورةُ البقرة. قال: أَمعك سورةُ البقرة؟ ! قال: نعم. قال: اذهب فأنت أميرُهم. " فقال رجُلٌ من أشرافهم: (واللهِ ما مَنَعَني أن أتعلَّمَ سورة البقرةَ إلاّ خشيَةَ ألاّ أقومَ بها) فقال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: ((تعلَّموا القرآن، واقرأوه، فإنَّ مَثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمه فقرأه وقام به كَمثَلِ جِرابٍ محْشُوٍّ مسكاً يفوحُ ريحُهُ في كُلِّ مكان، ومَثَلُ مَن تعَلَّمَهُ فيَرْقُدُ وهو في جَوْفِه؛ كمَثَلِ جِرابٍ أوكي على مسكه))، يا الله! ما أجمل هذا التّشبيه ! المقصود من هذا الحديث فضيلة هذه السّورة، وفضل مَن أخذ بها وتعلَّمَها، وحفِظَها، فالنّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أمَّرَ هذا الفتى الصّغير الحَدَث السِّنّ على أصحابه؛ لأنّ معه سورة البقرة، وقد استقرأ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابَهُ البقيّة؛ لينظُر مَن هو أعلَمُهم، أفقَهُهم، أعلاهم شأناً؟ فأعلى النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم مَن كان معه السّورة العالية الشّريفة الّتي هي سنام القرآن. وانظروا لمّا قال الرّجل: (واللهِ ما مَنَعَني أن أتعلَّمها إلاّ خَشْيَةَ ألاّ أقومَ بها) قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم؛ مُبَيِّنا خطأ هذا المنهج : ((تعَلَّموا القرآن، واقرأوه، فإنّكم لن تعدموا من هذه القراءة خيراً)) ومن هذا التعليل، لن تعدموا منه خيراً، سيُصيبُكم الخير بإذنِ الله. قال: ((تعلَّموا القرآن واقرؤوه؛ فإنَّ مَثَلَ القرآنِ لِمَن تعلَّمَهُ، فقرأه وقام به) - هذا المثل الأوّل- (كَمَثَلِ جِراب) - الوعاء المعروف - (جِراب محْشُوٍّ مسكاً)) قد حُشي وَمُلِئ مسْكاًـ طيباً ـ من أطيب الطّيب، والمسك هذا الّذي يُسْتَخْرَج من الغزال المعروف ـ غزال المسك ـ من صُرَّةٍ، في سُرّته. قال : ((يفوحُ ريحُهُ في كُلِّ مكان)) هذا من ثمرة ونور وبركة هذا القرآن كلُّه. ((وَمَثَل مَن تعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وهو في جَوْفِه كَمَثَلِ جِرابٍ أوكِيَ على مسكِ)) الّذي في جوفه -مسك- ليس شرّاً ، خير عظيم جدّاً لكنَّهُ لا يفوح ولا ينتفع به صاحبُهُ وينتفع به الآخَرون انتِفاعاً بيِّناً.
 إذاً أنت يا مَن تلكَّأْت في تعَلُّم هذه السّورة خشيةَ ألاّ تقوم بها، أنت لن تعدَم: إمّا أن تكون جِراباً قد حُشِيَ مسكاً، وهو مفتوح يشُمُّهُ كُلُّ النّاس، أو جِراب قد حُشِيَ مسْكاً وهو موكوء. يعني: قد أُغْلِق، فأنت في خير ما دام في جوْفِكَ المسك أنت في خير، فهذا هو ردُّ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على مَن يقول مثل هذه المقالة .
 وأخرج البيْهَقي في الدّلائلِ عن عثمان بن العاص قال: (استعملني رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أصغَرُ السِّتّة الّذينَ وَفَدوا عليه من ثقيف، وذلك أنّي كنت قرأت سورة البقرة) .
 وقال ابنُ مسعودٍ كما روى الطّبرانيُّ عنه: (مَن قرأ سورةَ البقرة فقد أغبط وأطاب) يعني: قد حصَّل خيراً كثيراً.
 وأخرج وكيع، وأبوا ذرّ الهَرَوي، عن التّميمي قال: "سألْتُ ابنَ عَبّاسٍ أيُّ سورةٍ في القرآنِ أفضل؟ قال: البقرة. قلتُ: فأيُّ آية؟ قال: آيةُ الكُرْسي" فجعل ابنُ عبّاس أفضلَ سُوَرِ القرآن (سورة البقرة). ولعلّ هذا والله أعلم قد يكون تلقّاهُ من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فإن قيل: ألا يُعارض هذا ما ورد في سورة الفاتحة؛ من أنّها أعظم سورة في القرآن؟ فيُقال: تلك أعظم، وهذه أفضل، والعِظَم يشمل الفضيلة وزيادة. وعلى كُلٍّ لو تعارضا، فقولُ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مُقَدَّمٌ على قوْلِ ابنِ عبّاس.
 وأخرج محمّد بن نصر في كتاب الصّلاة من طريقِ سعيدِ بن جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبّاسٍ قال: (أشرَفُ سورةٍ في القرآن البقرة، وأشرفُ آيةٍ، آيةُ الكرسي) .
هذه السّورة لمّا نزلت شعر الصّحابة بعِظَمِها، وعَلِموا من رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مكانتها؛ اعتَنَواْ بِها أشدَّ العِناية. واسمعوا بعضَ الآثار الّتي تدُلّ على اعتناءِ الصّحابة بهذه السّورة:
/ أخرج الخطيب، ومالك، والبيهَقي، عن ابنِ عُمَر، قال: (تعلَّمَ عُمَرُ البقرةَ في اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سنة، فلمّا خَتَمَها نَحَرَ جَزوراً ). هل عمر تعلَّمها في اثنتي عشرةَ سنة؛ لأنه كان يتباطأ في تعلُّمِها، ويُؤجِّل اليوم بعدَ اليوم، والشّهر بعد الشّهر، أو لا يُدارِسُها ولا يقْرَأُها إلاّ في رمضان؟ لا، كان مُتابِعاً مواصِلاً على درسه وتلاوته وقراءته وتعلُّمه واستنباطه وفهمه بما في هذه السّورة، ولكن السّورة فيها من الخير والمعاني الشّيْء الكثير.
 وذكر مالكٌ في المُوَطَّأ أنَّهُ بلغَهُ أنَّ عبدَ اللهِ بن عُمَر مكثَ على سورةِ البقرة ثمانيَ سنين يتعلَّمُها.
 وأخرج ابنُ سعْدٍ في طبقاته عن ميْمون أنَّ ابنَ عُمَر تعلَّمَ سورةَ البقرة في أربع سنين. وأخرج مالكٌ، وسعيد بن منصور، والبيهقي في سننه عن عُرْوة (أنَّ أبا بكرٍ الصِّدّيق صلّى الصُّبح ، فقرأ فيها بسورةِ البقرة في الرَّكعَتَيْنِ كِلْتَيْهِما) يعني: قسم البقرة على الرّكعتين. فانظروا - يا إخواني - من شدّة عناية الصّحابة بها أنّهم يسمعونها الناس في الصّلاة، إذا كانت سورة البقرة تحتاج إلى قرابة ساعة ونصف، فمعنى ذلك كأنَّ أبا بكر صلّى من أوّل الوقت إلى أن قاربت الشّمس أن تخرُج.
 وأخرج الشّافعي في (الأُمّ) وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف، والبيْهَقي، عن أنس: (أنَّ أبا بكرٍ الصِّدّيق صلّى بالنّاسِ الصُّبح، فقرأ بسورةِ البقرة، فقال عُمَر: قرُبَت الشّمسُ أن تطلع، فقال له: لو طلعت لم تجدنا غافلين).
 وأخرج ابنُ أبي شيبةَ، عن أنسٍ أنَّ أبا بكر قرأ في يومِ عيدٍ البقرة حتى رَأيْتُ الشَّيْخَ يميد  - يعني يتمايل - من طولِ القيام. هذا يدُلّ على ماذا ؟ يدُلّ على أنَّ أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - كان حريصاً على أن يُسْمِعَها للنّاس؛ لكثرة ما فيها من أحكام والتعاليم والآداب والشّرائع والحِكم والأخبار والقَصص والعقائد، وأنّ الأُمّة بحاجة إلى أن يسمعوها، وأن يسمعوها في المجلسِ الواحد، وليس في مجالس متعدِّدة.
 ومن شِدَّةِ عنايةِ الصّحابة بهذه السّورة، وإعلائهم بشأن صاحبِها، واهتِمامهم بها، واعتنائهم بها، يخُصّونها من بينِ سائرِ القرآن؛ حتى في النِّداء، وجعْلِها شِعارً ورمزاً للمؤمنين. يقول: أخرج عبدُ الرّزّاق وابنُ أبي شَيْبة في المُصَنَّف عن عُرْوةَ قال "كان شِعارُ أصحابِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم يومَ مُسَيْلِمة - يعني في حروب الرِّدة في معركة اليمامة - "كان شعار أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم مُسَيْلِمة، يا أصحابَ سورةِ البقرة" .
 يقولُ ابنُ عربي - رحمه الله - سمعْتُ بعْضَ أشياخي يقول: "فيها ألْفُ أمْرٍ، وألْفُ نَهْيٍ، وألْفُ حُكْمٍ، وألفُ خبر" وهذا الأمر قد يكون شاقّاً - يعني - علينا نحن؛ لأنّنا ما نعرف، وما درسنا، وما تعلّمنا، وما نأخذ من الآية إلاّ أظهر الظّاهر منها، ولم نتأمّل الآية حتى نعرف جميع ما فيها. ولو تنظرون في بعضِ الكتب الّتي تهتمّ باستنباط الفوائد، وبعض العلماء الّذينَ يُعْنَون باستنباط الفوائد؛ لرأيْتُم من ذلك عَجَباً. الشيخ ابن عثيمين له في تفسير هذه السّورة ثلاث مجلّدات يقف عند بعض الآيات فيستنبط -وهي آية قد لا تتجاوز السّطر الواحد- يستنبط سبع وعشر وعشرين فائدة، وهذا ما ستنبطه الشيخ فكيف ما استنبطه الأئمّة من قبله ،وما يستنبطه النّاس من بعده! إنّه شيء كثير جدّاً. هذا كلام ابن العربي.
 أمّا الرّازي - رحمه الله - صاحب التّفسير الكبير المُسَمّى ـ مفاتيح الغيب ـ قال: (اعلم أنّهُ مرَّ على لسانِي في بعضِ الأوقات أنَّ هذه السّورةَ الكريمة - يعني سورة البقرة - يمكِنُ أن يُسْتَنبَطَ من فوائدِها ونفائِسِها عشَرةُ آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعْضُ الحُسّاد وقومٌ من أهلِ الجهلِ والغَيِّ والعِناد وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التصنفاتٍ الفارغة عن المعاني والكلمات الخالية ،أو ما ألِفوه من أنفُسِهم من التصنفات الفارغةِ عن المعاني والكلمات الخالية عن تحقيقِ المعاقب والمبادئ، فلمّا شَرَعْتُ في تصنيفِ هذا الكتاب - يعني تفسيرَهُ الكبير - قدَّمْتُ هذه المقدِّمة؛ لتصيرَ كالتنبيهِ على أنَّ ما ذكرنا أمرٌ ممكنُ الحصول قريبُ الوصول".
 وقال ابنُ عطيّة في ـ المحرَّر الوجيز ـ قال: "سورةُ البقرة فيها خمْسُ مِئةِ حكم، وخمسةَ عشَرَ مَثَلاً".
 وأمّا عدد آيات هذه السّورة فاختُلِف في عَدِّها بين مذاهب النّاس في العدّ: فهناك العدّ البصري، والعدّ الكوفي، والعدّ المكّي، والمدني، والعدّ الشّامي. وكلّ واحد منها له اعتبارات . لكن أقلّ ما عُدّت فيه سورة البقرة 285 آية . وأكثر ما عُدَّت عليه سورة البقرة: ( 287 آية ). وأكثر النّاس جرى على العدّ الكوفي الّذي عليه مصاحفنا اليوم، وهو: ( 286 آية ) . هذه السّورة كم فيها - يا إخواني - ؟ فيها كما يقول الفَيْروز أبادي ـ في بصار التمييز ـ وهو كتابٌ نفيس في ذكر هذه المعاني وذكر المقدِّمات، وذكر أيْضاً ألفاظ القرآن؛ وِما تحتمِلُهُ أيْضاً من معاني، والنّاسخ والمنسوخ ، ومقاصد السُّور، وموضوعات كلّ سورة وما يتّصل بها، قال: "هذه السّورة فيها خمسةٌ وعشرون ألف حرف وخمس مئة حرف -يعني 25500 حرف- وفيها ستةُ آلاف ومئة وإحدى وعشرون كلمة " والمقصود بالكلمة: يعني: كلّ كلمة قد انقطعت عن الكلمة الّتي قبلها. فمثلاً: ذلك كلمة، الكتاب كلمة، لا ريبَ كلمة، فيه كلمة .. وهَلُمَّ جرّا . إذاً فهذه السّورة فيها : 286 آية، فيها 25500 حرف، فيها 6121 كلمة . وهذا قريب من عدد آيات القرآن .
 أمّا موضوعات هذه السّورة في الحقيقة أنَّنا أمام بحر طويل من موضوعات هذه السّورة، ولذلك لن أتحدَّثَ عنه اليوم سأُرْجِئ الحديث عنه - إن شاء الله - في الأسبوع القادم؛ لأجلِ أن نأخُذَهُ بشكلٍ كامل وَمُفَصَّل، وأتمنّى من الإخوة الّذين معي في هذا المجلس في الأسبوع القادم إذا جَلَسوا أن يكون معهم مصاحف؛ حتى نُتابع الموضوعات موضوعاً موضوعاً، ونعرف كيف تضمَّنت هذه السّورة هذه الموضوعات، وكيف تسلسلت هذه الموضوعات في السّورة تسَلْسُلاً عجيباً ومُبْهِراً، لا على كما يظنّ بعض النّاس: أنَّها موضوعات مفرَّقة، وآيات مشتَّتة، وأحكام مبعثرة ومنفصلة، لا رابط بينها ولا زمام يزُمُّها ويجمعُها، بل هي منظومة نظْماً عجيباً، ومُرَكَّباً تركيباً بديعاً، وسنُبَيِّن هذا بإذن الله - عزّ وجلّ - وحوله وقوّته الأسبوع القادم عندما نتحدَّث عن موضوعاتِ هذه السّورة وكيف رُكِّبَت ؟ وكيف نُظِمَت ؟ وكيف قُسِمَت إلى قسمين واضحين؟ سنذكر بداية كلّ قسم ونهايته، ونُبيِّن كيف كان القسم الأوّل مُقَدِّمة للقسم الثّاني.
 أسألُ الله - سبحانه وتعالى - أن يُفَقَهِني وإيّاكم في كتابه ، وأن يجعَلَنا من أهلِ القرآنِ العظيم الّذينَ هم أهلُ الله وخاصّتُه. وصلّى الله وسلَّمَ وبارك على نَبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين . 
______________________________
التفريغ من موقع إسلاميات لـ / سمر الأرنوؤط  (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق