د. محمد بن عبدالله الربيعة
المجلس الأول
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿١﴾ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿٢﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴿٣﴾ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿٤﴾ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴿٥﴾ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴿٦﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأصلي وأسلم على نبينا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نجدد اللقاء أيها الأخوة في هذه الدورة المباركة دورة الأترجة ونحن بين يدي سور من كتاب الله عز وجل من الجزء السادس والعشرين وحديثنا اليوم بإذن الله عز وجل سيكون عن سورة محمد، سورة الفتح، سورة الحجرات، سورة ق، سورة الذاريات بإذن الله عز وجل. نبتدئ بتوفيق الله عز وجل وعونه وتيسيره بسورة محمد.
هذه السورة سورة مدنية وذلك أنه ذكر فيها القتال وذكر فيها أحوال المنافقين وما يتعلق بهم فالحديث فيها مركز على القتال ولهذا لعلنا ندخل على السورة من مقصدها.
فمقصد السورة الذي تدور عليه -والله تعالى أعلم- القضية التي تركز عليها السورة وتعالجها هي قضية القتال لكنها القتال من حيث حض المؤمنين على القتال وتوهين شأن الكافرين والتقليل من شأنهم وأمرهم يعني هي تحفيز المؤمنين على مواجهة الكفرين وبيان أن الكافرين لا شأن لهم وأن أعمالهم قد أضلهم الله فيها وأنهم ليس لهم شأن ففي ذلك من التحفيز والتقوية قلوب المؤمنين على الجرأة على قتال الكافرين ما فيه وهذا ظاهر من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن اسمها القتال سميت بمحمد لذكر محمد صلى الله عليه وسلم فيها، والسور التي ذكر فيها محمد ثلاث ما هي؟ سورة آل عمران (١)، وسورة الأحزاب (٢)، وسورة محمد (٣)، وسورة الفتح (٤) أربع سور.
فهذه السورة سميت بمحمد لأمرين:
الأمر الأول: أن محمداً صلى الله عليه وسلم ذكر فيها.
والأمر الثاني: أن فيها إظهار لشأن محمد صلى الله عليه وسلم على الكافرين والمنافقين الشانئين.
ويؤكد أن السورة في القتال أنها سميت سورة القتال
ويؤكده أيضاً أنه صرح بذلك في السورة فقال في ضمن آيات السورة (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) أي أن أعظم وأبرز ما ذكر فيها القتال، فهي في شأن القتال والحض عليه وتوهين أمر الكافرين
ومما يؤكد ذلك افتتاح السورة بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) ففيها تصريح وإبراز بأن الكافرين قد يصدون عن سبيل الله
أولا: أنهم قد كفروا
ثانياً: أنهم صدوا عن سبيل الله. وهذا أعظم دافع وأعظم داعٍ للمؤمنين أن يقاتلونهم فضلا عن أن الله تعالى أضل أعمالهم. ففي هذا الافتتاح المفاجئ الصريح بشأن الكافرين هو الحقيقة غرضه -والله أعلم- بعث نفوس المؤمنين على قتال هؤلاء الكافرين الصادين عن سبيل الله.
وأيضاً مما يؤكد أن السورة في القتال أنه قال بعد ذلك (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) فيها تصريح بأمر القتال ولهذا قال بعدها(وَالَّذِينَ قُتِلُوا) وفي قراءة (وَالَّذِينَ قاَتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وقوله تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المقصد ومن ضمنها قوله في آخرها (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) فالسورة واضح فيها هذا المقصد العظيم، هذا المقصد الذي يحتاجه المسلمون في وقت فتورهم عن الجهاد وانقطاعهم عنه وحاجتهم الشديدة إليه، يحتاجون إليه في الوقت الذي يُخشى على أمر الإسلام من الكافرين فيحتاج أن تستنهض هِمم المسلمين إلى هذا القتال فليسوا في هذه الفترة في حاجة إلى أن يطلبوا السِلم فيكونوا في وهنٍ وضعفٍ وامتهانٍ من الكافرين وما نحن فيه من الأحوال والأوضاع والأحداث التي تجري اليوم خاصة في أمر إخواننا في سوريا، هم بحاجة إلى مثل هذه السورة العظيمة التي تستنهض هممهم وتقوي عزمهم وتثير نفوسهم في مواجهة عدوهم وعدم الوهن في نفوسهم فإنهم اليوم لا رجوع لهم ولا سبيل إلى الرجوع، وهم اليوم بحاجة إلى أن يشدوا عزائمهم والمسلمون جميعاً في أقطار الأرض واجب عليهم أن يشدوا العزم في الوقوف مع إخوانهم هناك فإنهم والله بحاجة إلى هذا الأمر العظيم من شد أزرهم ودعمهم والوقوف معهم في مقابل ما نراه من وقوف الرافضة الحاقدين على أهل السنة في دعمهم ووقفوهم مع إخوانهم النصيرين. أقول هذا ونحن نستقرئ من كتاب الله عز وجل منهجنا وحياتنا ونقتبس من هذا النور هدينا في واقعنا وإلا فأين أثر القرآن فينا؟!
نحن بحاجة إلى أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل نستنهض فيه الهمم ونستلهم منه الهداية والتوجيه والمنهج وما هذه السورة إلا طريق في ذلك، الوقت ربما لا يُسعف لتطويل وإنما هي شذرات ولطائف في هذا السياق.
يقول الله عز وجل (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) لاحظوا أنه صرّح بكفرهم فمما أدى إلى ضلال أعمالهم أنهم كفروا وهذا يبين -أيها الأخوة- ويؤنس المؤمنين ويشد من قلوبهم أن الله سيضل أعمال الكافرين مهما كانوا عليه من قوة ومن عتاد ومن معونة من أنصارهم فإن كفرهم كافٍ في أن الله سيضل أعمالهم وأن العاقبة عليهم ثم زيادة على ذلك وصفهم بأنهم صدوا عن سبيل الله.
وصدهم عن سبيل الله يدخل فيه:
-أذية المؤمنين.
-يدخل فيه التضيق على عباد الله الصالحين.
-يدخل فيه امتهانهم لبيوت الله عز وجل.
-يدخل فيه ما كان من أمر المشركين من إخراج المسلمين من مكة، وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم.
-يدخل فيه من التضييق على أصحابهم وأهليهم وذويهم من الدخول في هذا الدين.
كل ذلك صد عن سبيل الله عز وجل.
ثم قال الله تعالى (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) هذه عاقبة للكفر وعاقبة لصد أن الله سبحانه وتعالى سيضل، والضلال هو: التيه، ومعنى ذلك أن الكفر عاقبته بوار ولا نهاية له صحيحة سيكون ضلالاً وحيرة ونهاية مؤلمة في الدنيا وفي الآخرة.
قال الله عز وجل (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) هذا وصف لأهل الإيمان ولاحظوا في سياق السورة -وهذا ملحظٌ لطيف فيها- أنها جاءت بذكر الطائفتين في كثير من آياتها -في آيات السورة- أنها ذكرت أحوال الكافرين وأحوال المؤمنين، أحوال المؤمنين ثم أحوال الكافرين جزاءً وأعمالا، وحالا ووصفا، وإلى غير ذلك.
فهنا ذكر في الآية الأولى حال الكافرين ثم قال في الآية الثانية (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في مقابل الذين كفروا، وقوله (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) في مقابل (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فهم آمنوا بما نُزّل على محمد وهو القرآن قال (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ما هو الحق من ربهم؟ هو ما أُنزل على محمد، وهو أيضاً محمد، هو الحق من ربهم، فما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فهو حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق فهم آمنوا بما أُنزل وايقنوا به (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) هذا في مقابل (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) فهؤلاء المؤمنين كفّر عنهم سيئاتهم، وهذا يؤكد أن الإيمان والتصديق سبب من أسباب تكفير السيئات. ثم قال الله تعالى (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) ما معنى أصلح بالهم؟ البال ما هو؟
- إما أن يكون البال هو الخاطر والعقل والتفكير وما يدور في أذهانهم وعقائدهم ومفاهيمهم فالله تعالى -بسبب هذا الايمان والتصديق- الله سبحانه وتعالى يصلح عقولهم بالهدى ونور الحق ونور الإيمان و نور القرآن فتكون آراؤهم سديدة وأقوالهم سديدة وتصوراتهم صحيحة وما يخطر على بالهم يتجه نحو الهدي الصحيح.
(وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) أصلح خواطرهم وعقولهم. ويدخل في ذلك أيضاً (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) أصلح أحوالهم كلها.
ثم قال الله سبحانه وتعالى في وصف الطائفتين أيضاً (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ) لماذا أضل أعمالهم؟ لأنهم اتبعوا الباطل، فاتبعوا الباطل فكفروا وصدوا عن سبيل الله فكانت عاقبتهم أن الله سبحانه وتعالى أضلهم، هؤلاء الذين كفروا اتبعوا الباطل فأي باطل هم متبعون له.
(وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) لاحظ قوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) أنهم يتبعون ما جاءهم من ربهم عز وجل وهذا هو الهُدى، فإذا كنت تروم أن تكون من أهل الإيمان فانظر ماذا يأمرك به ربك فاتبعه هذا هو اتباع الحق من ربهم.
قال الله تعالى (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) ما الغرض من هذه الجملة؟
الغرض من هذه الجملة بيان أن الناس فريقان فريق الكفر وفريق الإيمان (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) مثل أهل الكفر ومثل أهل الإيمان ولهذا السورة بُنيت عل هذا التقسيم في كثير من آياتها كما ذكرت لكم.
قال الله وسبحانه تعالى (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) لاحظوا أنها جاءت الآية بالفاء للتعقيب فلما شحن قلوب المؤمنين على الكافرين وبيّن أن هؤلاء الكافرين ليسوا على الحق وأنهم كفروا وصدوا واتبعوا الباطل فما بقي إلا أن تواجهونهم على كفرهم وتقفون في وجههم لئلا يغلب الباطل على الحق، ولئلا يكون كفرهم وضلالهم يغلب الحق وأهله فقال تعالى (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ما قال اقتلوهم قال (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) لاحظوا هذا التعبير القوي المتين الذي يبعث في نفوس المؤمنين القوة ويحفز نفوسهم للجرأة على قتال الكافرين (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ولاشك أن ضرب الرقاب أعظم أثرا في نفوس المؤمنين من العزة والتمكين والعلو من قضية القتل المجرد فلهذا قال (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) أن المؤمن حينما يقتل كافراً بالسيف يضربه ضربا بالسيف أعظم من قضية أنه يرميه رميا، فيه شفاء غليله وفيه ظهور عزته وتمكين ما في نفسه.
قال (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) ما معنى أثخنتموهم؟ تحتمل معنيان:
- المعنى الأول: حتى إذا قتلتم منهم قتلاً شديداً ولم تبقوا منهم إلا قليل، أثخنتم فيه القتل والثخانة في اللغة: هي الأمر الثقيل، أثقلتم فيهم القتل وأكثرتم في قتلهم وما بقي منهم إلا بقية (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) في هؤلاء البقية، أثخنوا القتل أكثر واسروا من تأسرون منهم. فانظروا إلى التأكيد على القتل أكثر من الأسر كأن الله تعالى يقول فيلكن همكم في القتل أكثر من الأسر.
ثم المعنى الثاني: حتى إذا تمكنتم منهم، قاتلتموهم حتى تمكنتم من ديارهم أو تمكنتم منهم وحاصرتموهم (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) أي الأسر، الوثاق مأخوذ من توثيقهم لأن الأسير في الأصل يوثق حتى لا يهرب أو يذهب هنا أو هناك فشدوا الوثاق.
قال الله تعالى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ما معنى (مَنًّا بَعْدُ)؟ تحتمل معنيين:
المعنى الأول: المنّ عليهم بإطلاق سراحهم.
والمعنى الثاني: إبقاؤهم عبيدا تحت ايدي المسلمين هذا منَّ، بل هو قد يكون خير المنّ لأنه قد يكون سببا في إسلامهم فالعلماء أدخلوا من المنَّ عليهم ابقاؤهم عبيدا واستخدامهم ودعوتهم إلى الإسلام فإن ذلك من المنَّ.
والحالة الثانية (وَإِمَّا فِدَاءً) والفداء هو: أن يؤخذ منهم ما يفتدون به من الأسر فيطلقون. لكن هنا لماذا قدم المنّ على الفداء؟ أيهما أولى أن يمنَّ على الأسير فيطلق بلا مقابل أو يفدى فينتفع المسلمون بهذا المال؟
هنا قدم المنّ لأن المنّ فيه اليد العليا، واليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى. في كلٍ خير لكن حين تمنّ عليه يكون لك الفضل عليه وهذا يبعث في نفسه أنه حينما أطلق صراح غيره فداء ذلك سيحبب إلى قلبه الإيمان وأهل الإيمان. ثم أيضاً إذا ذهب إلى بلده فإنه لن يوغل صدره على المسلمين ويشحن نفوس أهله ومن يلاقيهم على أهل الإيمان. لاحظوا هذه المصالح كلها معتبرة في هذا المنّ ليس مجرد أنه يطلق سراحه فقط وإنما ليعرف على أن الاسلام دين رحمة وأنك أُطلق سراحك مع التمكن منك فيقرب ذلك قلبه إلى الإيمان.
قال الله عز وجل (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) ما أجمل وأبلغ هذه العبارة، هذا استعارة ضمنية في هذا الأسلوب فقال (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) الحرب لا تضع أوزارها الحرب تنتهي بانتهائها أو بعدم وجود أسبابها لكن قوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) كأن الانسان يضع أوزاره أو ما يثقل ظهره أو ما يشد حبله بعد انتهاء عمله والمشقة -الطريق الذي سار فيه- كأن الله تعالى يقول حتى تنتهي الحرب وينتهي أمركم مع الكافرين. فوضع الوزر يحتمل معنيان:
الأمر الأول: أن الإنسان إذا أسترخى وقت الراحة يضع أوزاره.
والأمر الثاني: -وهو الأقرب- أن الإنسان إذا ارتاح من سفره وضع أوزاره وأثقاله التي عليه، أثقال السفر من المتاعب وغيره.
قال (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) يعني كأن الله تعالى يقول لو شاء الله لم يشرع لكم الجهاد لانتصر منهم بغير ذلك، أرسل عليهم ريحاً، أو أرسل عليهم جنداً من جنده فلا حاجة إلى القتال، إذاً لماذا القتال؟ القتال قال (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) لاحظ قال (لِيَبْلُوَ) أي ليختبر (بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) فالجهاد إنما شُرع مع قدرة الله ومشيئته على إنفاذ أمره بغير ذلك حتى يبلوَ ويختبر ويمحص الصادقين المؤمنين في إيمانهم وبذلهم ونصرتهم لدين الله من غيرهم.
حتى يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق.
وحتى يظهر في ذلك عزّ المسلمين على الكافرين.
وحتى يكون في نصر الله عز وجل المؤمنين على الكافرين قرة أعين لهم لأن المؤمنين حينما ينصرون على الكافرين بأيديهم أشفى لصدورهم من أن الله ينزل على الكافرين بلاءً من عنده فذلك أمر مقصود في هذا البلاء والابتلاء.
قال الله عز وجل (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وفي قراءة (وَالَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) ما هي أعمالهم؟ الأصل هنا في سياق الحديث أنها أعمال الجهاد (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) الجهاد، فلن يضل أعمالهم التي عملوها ثم أعمالهم الأخرى التي عملوها قبل ذلك.
(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) وهنا أكد على صلاح بال المجاهدين أكثر من غيرهم. ولاحظوا هذه الأمور الأربعة التي خص فيها المجاهدين في سبيل الله أو الشهداء والله لهي كافية في تحفيز المؤمنين على القتال: (يصلح بالهم، لن يضل أعمالهم، سيهديهم الله عز وجل إلى كل خير ويصلح بالهم يصلح أمرهم كله ومن ذلك عقولهم وأفكارهم وأراءهم يسددهم ويدخلهم الجنة) ماذا بعد ذلك من التحليل الذي يرغب به المؤمن في الجهاد في سبيل الله والله لهذه الكافية في تحفيزه وحظه.
قال الله تعالى (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) ما معنى عرفها لهم؟
أي بيّنها وبيّن أوصافها وزينتها وحفزهم إليها بأنواع من الأساليب التي ذكرها الله تعالى في كتابه.
قال الله سبحانه تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) هذا بيان لسنته سبحانه وتعالى أنكم إن نصرتم الله وأقمتم على دينه وبذلتم وسعكم في نصرة الدين فإن الله ناصركم. سنة إلهية ثابتة بأن المؤمنين المسلمين إذا أقاموا أمرهم على دين الله وصدقوا الله في نصرة الدين وهذا الجهاد في سبيل الله لوجه الله تعالى فإن الله ناصره، وإننا لنرجو الله عز وجل في هذه الآية نحققها في ما نراه اليوم في حال المسلمين وخاصة في حال إخواننا في سوريا وفلسطين فإننا اليوم نرى أيها الأخوة أنهم الآن حقيقةً أنبرت نفوسهم إلى أن يقاتلوا هذا العدو الظالم الغاشم عليهم وما طلبوا إلا نصر الله عز وجل حتى أنه في ما نسمع من الأخبار أنهم استعدوا للجهاد وللموت وعزموا على ذلك وكلماتهم وتصريحاتهم في وسائل الإعلام والله أنها لتثلج الصدر مما يكمن في نفوسهم من الصدق واليقين بالله عز وجل ورغبة في الجهاد في سبيل الله ونصرة هذا الدين وكف هذا العدو الظالم الغاشم المبين والله إن هذا لمما يؤمل به أن يكون -بإذن الله ثقة بالله- أن يكون هذا ضامناً لهم لنصر وإن أمارات النصر في حال إخواننا في سوريا ثم غيرهم في فلسطين وغيره فهي ظاهرة بإذن الله يكاد تتواتر وتتوافق آراء أهل العلم الراسخين في سنن الله عز وجل وأهل الخبرة وأهل القتال وأهل السياسة يجمعون ويتفقون أن أمر هؤلاء بإذن الله ظاهر وأن أمر هؤلاء الكافرين النصيرين الظالمين بائت في ضلال وهزيمة قريبة بإذن الله عز وجل. نسأل الله بإذنه وقوته أن يرينا في هؤلاء الظالمين أمره الشديد وأن يُقِرّ أعيننا بنصر إخواننا نصرا مبينا.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) إن كنتم قصدتم بهذا النصر نصرة الله فإن الله سينصركم ويثبت أقدامكم على هذا الجهاد وما أنتم فيه.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ) ما معنى (فَتَعْسًا)؟ يعني لاحظوا هذه الكلمة البليغة العظيمة ليس هو فقط تعسا، يعني هلاكا وضلالا وبؤسا وسفولا. والله إن هذه الكلمة لتحمل هذه المعاني كلها التعاسة من الحزن والكآبة ومن الضلال والهلاك والبوار كله داخل في معنى هذه الآية ولذلك قال (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) في هذه الآية أعاد قضية الضلال الأعمال المتعلق -والله تعالى أعلم بسياق الآيات وهو أمر القتال- أن الله تعالى سيضل أعمالهم في القتال. ونحن نرى الآن، ترون كيف يتخبط هؤلاء في أعمالهم ليس لهم طريق واحد ليس لهم منهج، لم يثبتوا على أمر فهم في تخبط من أمرهم وسنرى ذلك بإذن الله آية من آيات الله فيهم.
قال الله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) يبين الله عز وجل تأكيدا على أن هذا الأمر الذي هم فيه بأنهم كفروا وأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم تأكيداً وإعادةً وتحقيقاً لما في نفوس المؤمنين من التحفيز ومعرفة حال أعداء الله وعاقبتهم.
قال الله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الخطاب للكافرين، انظروا مما يؤكد صدق وعد الله فيكم وأن الله سيحبط أعمالكم -سيضل أعمالكم- سيروا في الأرض فانظروا (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مِمن كفر وصد عن سبيل الله وكره ما أنزل الله كيف حالهم (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) لاحظ كلمة (دمّر) التدمير بمعنى الهلاك التام. دمرهم تدميرا وهذا ظاهر في حال القوم والأمم التي استأصلها الله عز وجل بعد تكذيبهم لأنبيائهم.
قال الله (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) من هم الكافرون؟
أولا: قريش الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. فكأن في هذه الآية تهديد لهم ووعيد وأن الله عز وجل سيهلكهم وكأن هذه الآية تعرِّض بنصرة أو بهلاك طغاتهم وزعمائهم في بدر، كأن الله تعالى يتوعدهم في ذلك في بدر وما بعدها من المواقع.
قال الله تعالى (ذَلِكَ) أي تدمير الله عز وجل ونصرة المؤمنين (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ومن يكون الله مولاه فالنصر حليفه ولاشك.
قال الله (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) لا نصير لهم فإذا كانوا هؤلاء الكافرين في مواجهة مع أولياء الله الذين هم منصورين بإذن الله فمن يستطيع الوقوف في وجه نصرة الله وولايته للمؤمنين.
ثم قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) لاحظوا أن هذه الآية فيها تشويق للمؤمنين لما وعدهم الله في جنته قبل ذلك في قوله تعالى (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) لاحظوا قوله (عَرَّفَهَا لَهُمْ) جاء تفسيرها في السورة (عَرَّفَهَا لَهُمْ) يعني بيّنها وعرّف أوصافها ما هي أوصاف هذه الجنة التي تمكن في قلوب المؤمنين الثبات والقوة والتطلع لما عند الله من الأجر والجزاء الحسن في الجنة؟ قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) هذا وصف أولاً: وعد بدخولهم. يدخلهم بماذا؟ بوصف الإيمان والعمل الصالح، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) هذا عاقبة الذين آمنوا وإن كان أمرهم في الدنيا في ضعف أو في قلة أو في فقر وربما يكون ذلك بتساؤل وهو:
إذا كان وعد الله حق وأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ما الذي يجعلنا نرى الكافرين في عزة وفي متعة وفي ظهور؟
فأجاب الله عز وجل: أن هذه الدنيا متعة للكافرين لكنها عذاب عليهم في الآخرة.
قال الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي في الدنيا والمتاع متعة مؤقتة. (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) انظر كيف وصفهم بمتعة الأنعام أي أن حالهم في الدنيا كالأنعام ليس لهم شأن في الحياة إلا متعة الأنعام كما تأكل الأنعام ولكن قال (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) مثوى يعني مصير ومستقر ويثوبون إليه ويستقرون فيه. فإذا قال ثاب إلى كذا معناه استقر فيه كأن الله تعالى يقول هي مستقرهم وأما هم فيه الآن من متعة ومن ظهور ومن متاع وعدة فإنه زائل قليل منقطع.
قال الله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها توعد للمشركين الذين أخرجوا نبي الله صلى الله عليه وسلم (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) ما هي القرى التي هي أشد قوة؟ كعاد وثمود. عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد والتي وصفها الله بالقوة فهي أظهر وأقوى من هذه القرية التي أخرجت النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الله يقول إذا كان الله تعالى أهلك أولئك وهم أقوى من هؤلاء فإن الله مهلك هؤلاء وهم ليسوا عند أولئك بشيء.
قال الله (قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) كأن الله تعالى يبين هنا سبب استحقاقهم للهلاك وهو اخراجهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم في هذا ما يؤخذ منه أن المؤمنين إذا أُخرجوا من ديارهم وقُهروا في بلدهم وظُلموا وطُردوا فإن هذا من اسباب استحقاق أعدائهم للهلاك. وما نراه اليوم من مطاردة وتضييق لإخواننا المسلمين -خاصة في فلسطين- وفي غيرها من بلاد الله لهو والله مؤذن -بإذن الله- بإهلاك هؤلاء الكافرين.
قال الله تعالى (أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) إذا أتى أمر الله على هؤلاء اليهود من ينصرهم؟ والله لا سبيل لأحد أن ينصرهم ولا أن يمدهم.
قال الله عز وجل (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) لاحظوا تفصيل وتفسير قوله تعالى (عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ).
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) لاحظوا المقابلة السورة فيها مقابلة كأن الله يصف حال هؤلاء وحال هؤلاء (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ) واضحة وهدى من ربه عز وجل (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) بهذا الكفر وهذا الضلال وعبادة الأصنام وما هم فيه من صد عن سبيل الله الذي زين لهم (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) أي أن أمرهم ليس من ربهم وإنما هو من أهوائهم، أولئك كانوا على بينة من ربهم وهؤلاء زينة لهم سوء أعمالهم واتبعوا أهواءهم. فرق والله وأي فرق، فرق وأي فرق بين هؤلاء الطائفتين. قال الله عز وجل عودا على حضّ المؤمنين وتحفيزهم في وعد الله لهم قال (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) ومعنى آسن: أي متغير، فيها أنهار جارية غير آسنة وإنما ذكر الله تعالى هذه الأنهار وهذه الأنواع من الأطعمة التي كان يتلذذ بها هؤلاء الكافرون في الدنيا فجعلها الله تعالى خالصة لعباد الله المتقين في الجنة قال (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ) النهر في الماء معروف فهو معروف في الدنيا أنه هناك أنهار من ماء غير آسن لماذا قال غير آسن؟ لأن الماء حينما يجري فهو أصفى له وأنظف له من الماء الراكد وإنما وصفه هنا لأن الجزيرة لم تكن فيها أنهار فكأن الله تعالى هنا يشوق المؤمنين ويبين للكافرين حال المؤمنين في الآخرة مما فيه من نعيم قال (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ) لم يعرف في الدنيا فالله عز وجل يزيد هؤلاء المؤمنين من النعيم ما لا عين رأت في الدنيا ولم يروه ولم يتصوروه لكنه ذا لذة ونظرة وجمال. قال الله تعالى (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) وإنما وصفه الله تعالى بأنه لم يتغير طعمه لأن حال اللبن في الدنيا -في الغالب- إذا صور ذلك في حال العرب لم يكن يبقى اللبن على طول المدة لم يتغير فهم يحلبون ثم في آخر الوقت يتغير طعمه فيشربونه على تغير طعمه فيبين الله أن اللبن في الجنة للمتقين لا يتغير طعمه.
ثم قال الله تعالى (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) هذا الخمر الذي هو لحال أهل الدنيا وهؤلاء الكافرين غصة هو ليس لذة لهم وإنما يشربونه لا للذتهم وإنما لمخامرة عقولهم به وما يرجون من غياب عقولهم بهذي يحصل بهم سكرة بعد شربه وإنما شرب الخمر ليس فيه لذة لأن فيه ملوحة وحموضة لا يطيقها من أجل ما بعدها قال الله تعالى (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) واللذة هي: سرور نفسي وإحساس مع سرور بهذا الشرب الذي يشربونه ولذلك فإن الخمر في الآخرة إنما للذة لا للسكرة.
قال الله (مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) وإنما ذكر قوله (مُصَفًّى) لأن العسل -في حال العرب- غالبا ما يشوبه شوبا من بقايا من شمع وغيره خاصة أن العرب يؤتى لهم العسل من خارج مكة من الطائف أو من اليمن أو من غير ذلك فلابد من شيء يتغير فيه.
قال الله (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فنوّع الله لهم من كل الثمرات ليُبين أن لهم نعيما لا منتهى له.
قال الله سبحانه تعالى (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ما مناسبة قوله مغفرة؟
هنا لفته جميلة وهي: كأن الله تعالى يقول هذا النعيم هو لكم ومغفرة من ربكم لا حساب عليه، كأن الله تعالى يقول اشربوا وكلوا وتمتعوا بلا حساب مثل ما قال الله عز وجل لأهل بدر (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) فهنا يقول لأهل الجنة كلوا وأشربوا وتمتعوا فقد غفرت لكم فلا حساب، يعني لا يتخوفون من هذا الذي يشربونه ويطعمونه وإنما يتلذذون فيه ويستمتعون بما أنعم الله عليهم بلا خوف من حساب.
قال الله تعالى (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) انظروا بعد ذلك ذكر حال الكافرين واختصر حالهم أكمن هو خالد في النار -عياذاً بالله- (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا) لاحظوا أنه ذكر هنا شرابهم فقط ولم يذكر طعامهم في مقابل ذكر شراب المؤمنين (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا) والحميم هو: الماء الحار الذي أحمي -عياذاً بالله- (فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) وهي مجاري الماء إلى المعدة فما أعظم هذا الشراب الذي هم يشربونه لا يجدون فيه لذة بل يجدون فيه عذاباً -عياذاً بالله- انظر إلى هذه المقارنة بين حال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا ثم حالهم وجزاؤهم في الآخرة. نقف هنا ونجدد اللقاء في الدرس الثاني.
المجلس الثاني
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴿١٦﴾ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴿١٧﴾ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴿١٨﴾ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴿١٩﴾)
يقول الله عز وجل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) من هم هؤلاء؟ هؤلاء المنافقون وهم جنس آخر من الكافرين بعد أن ذكر الله تعالى حال الكافرين المشركين الذين هم أهل مكة ومن كان على ملتهم من الشرك ذكر الله حال المنافقين ليبين أمرهم وقلة شأنهم وليحط من قدرهم.
قال الله سبحانه وتعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أين يستمعون إليه؟ في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، في المسجد هم يستمعون إليه قال (يَسْتَمِعُ) ولم يقل يسمع، هؤلاء المنافقون يستمعون لماذا يستمعون مع أنهم لا ينتفعون؟ ما الفرق بين السماع والاستماع؟ السماع هو: أن تسمع الشيء غير مبال فيه. يعني أنت مررت بالشارع وسمعت صوتاً. لكن الاستماع كما أنت الآن منصت إليّ تستمع إلى ما أقوله لتعيَه، فهم لماذا يستمع المنافقون مع أنهم لا ينتفعون؟ ليبعدوا عنهم الشك وليبينوا وليظهروا أنهم مهتمين بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم من أحرص الناس عليه، انظروا إلى هذا الوصف وصف من أوصاف المنافقين الظهور بأنهم حريصون على هذا الحديث الذي يقال.
(حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) أي خرجوا بعد مجالسك (قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من هم الذين أوتوا العلم؟ الصحابة المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أجمل وما أعظم هذا الوصف العظيم لأهل مجالس الذكر فإن الله وصفهم بأنهم أهل العلم، أولو العلم إذا كانت هذه شهادة الله لأهل هؤلاء المجالس أصحاب هؤلاء المجالس مجالس الذكر وخصوصاً المجالس التي يُتلى فيها كتاب الله عز وجل ويُبين كمثل هذه المجالس التي نحسبها -بإذن الله- من مجالس الذكر ونرجو الله أن يجعلنا من أهلها وأهل العلم فيها قال الله (قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وصف شرف، وليس فقط هو وصف يعني عابث إنما وصف شرف كأن الله تعالى يقول هؤلاء الذين يستمعون إلى الذكر وينتفعون به، الذين أتوا إلى هذا الذكر يريدون الانتفاع، يريدون الإيمان، يريدون العلم، يريدون العمل، هذه المقاصد إذا تحققت في طالب العلم في مجالس الذكر فإنها بإذن الله وصف له بأن يكون من أهل العلم بما وصفه الله عز وجل، ولا شك أن أعظم وأشرف أهل العلم هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا) ما الذي جعلهم يقولون (مَاذَا قَالَ آنِفًا)؟
إما أن يكون المراد التشكيك وإثارة الشكوك في أفراد المسلمين. مثل لو إنسان جلس إلى مجلس مع إنسان لا يريده ثم ذهب يقول: يا أخي ماذا يقول هذا؟ هذا كلامه صحيح؟ أو نحو هذا، يقلل من شأنه، أو يحاول التشكيك في أمر هذا الكلام. هذا غرض من أغراضهم.
الغرض الثاني الذي يوافق حال المنافقين بكونهم يظهرون الإيمان يعني كأنه يظهر لصحابة رسول الله الصادقين المؤمنين أنهم يريدون الاستفادة القصوى فيقولون ماذا قال قبل قليل في كذا كأنه يتحقق ويتأكد من هذا الصحابي ليظهر له أنه مهتم وليبعد عن نفسه الشك والريبة. هذا احتمال آخر في قولهم ذلك والله أعلم.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) لماذا طبع الله على قلوبهم؟ والله يا إخوان إنه وصف عظيم ووصف ينبغي أن يخاف منه الإنسان وهو أن الإنسان إذا حضر مجالس الذكر لا يريد منها ذكراً ولا يريد منها نفعاً أو بل أشد من ذلك يريد أن يسيء إلى أهلها أو أن يلمزهم هذا من أعظم أسباب طبع الله على قلوب أصحاب أولئك الذي يأتي للذكر لا للذكر وإنما يحارب أهل الذكر أو ليلمزهم. بعض الناس يذهب ليستمع إلى بعض الأشرطة -أشرطة بعض الدعاة- ليتصيد عليهم وينشره ما صادوه فيها والتقطه منها مما يريد به الإساءة لينشره بين الناس انظروا ماذا قال، والله إن هذا لمن أسباب طبع الله على قلوب أولئك، ربما يظهرون النصح ويريدون الخير أو يزعمون أنهم يريدون الخير، لا والله لا يريدون الخير، كيف يريدون الخير؟! من يتتبع أهل العلم والدعوة ويظهر سوءاتهم أو يحاول تأويل أقوالهم بما لم يقولوه، ونسأل الله أن يحمينا وإياكم من أسباب طبع القلوب.
قال (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) لاحظ أن من يفعل ذلك ومن يحضر هذه المجالس كالمنافقين الذين يستمعون إلى مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريدون الذكر ولا الانتفاع ولا الإيمان وإنما يريدوا فقط أن يقال لهم هؤلاء من المسلمين ويحوزوا على ما يحوز المسلمين من حفظ أمنهم وسلامتهم ويجرى عليهم أحكام أهل الإسلام (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ). قال الله عز وجل (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) لاحظوا مقابلة أهل النفاق بأهل الإيمان وهنا وصف أهل الإيمان بوصف اختلف عن وصفهم مع الكافرين لاحظوا أنه قال (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) هؤلاء الذين أتوا لطلب الهداية وأتوا لطلب الانتفاع ما جزاؤهم؟ قال الله (زَادَهُمْ هُدًى) ويُبين هذا -أيها الأخوة- أن الإنسان إذا أتى إلى مجلس أو رغب في حديث ليزداد في هداه، ليحصل على هدى قال الله (زَادَهُمْ هُدًى) أن من أسباب زيادة الهداية وزيادة الإيمان في نفس الإنسان هو أن يأتي الانسان إلى هذه المجالس طالباً الهدى.
قال الله تعالى (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) ما مناسبة هذه الجملة (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)؟
يعني يحفظهم من دخائل الشيطان ومن حظوظ النفس، يعني أن الإنسان إذا أتى صافي النية في هذه المجالس فإن الله يحقق له التقوى سيكون أمره خير وعاقبة هذه الدروس له خير ولا يأتيه من هذه الدروس إلا الإيمان ولا يأتيه منها كِبر أو عُجب أو افتخار أو نحو ذلك. وهذا أيها الأخوة مدخل دقيق قل أن ينتبه له الإنسان، تأملوا أن الإنسان إذا أتى إلى هذه المجالس نيته خالصة فإنه سيُصفّي له كما قال الإمام أحمد "من صفى صُفّي له ومن كَدَّر كُدِّر عليه". أما الذي يأتي ليباهي، ليجاري السفهاء، ليُقال، فإنه سيحصل من شيء من ذلك لكنه سيكون عاقبة له أنه لن يؤتى التقوى في هذا الإيمان، سيحصل له في ذلك كِبر أو عُجب أو نحو ذلك وستكون عاقبته في مثل ما كان في نيته، فأخلصوا النية -أيها الأخوة- في كل ما تطلبونه لله خصوصاً في مجالس الذكر، في طلب العلم، بل حتى في مدارسكم، في جامعاتكم، لتكن نيتكم خالصة فتكون عاقبتكم حسنة بإذن الله.
قال الله تعالى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) هؤلاء المنافقون وهؤلاء الكفار كلاهما جميعاً فهل ينظرون على فعلهم هذا وكفرهم وصدهم واستخفافهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) ما هي أشراطها؟
أشراطها التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم علاماتها ومنها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومنها ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من الأخبار التي بين أنها من علامات الساعة الصغرى أو الكبرى لكن المقصود هنا الصغرى لأنه قال (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) ومن الأشراط التي جاءت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بها علامة، ألا يكفيهم أن يأتيهم من الله هذه العلامة التي جعلها الله من علامات الساعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» فيبين لهم أنه لا حجة لهم فالأشراط قد جاءتهم .
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ) أي الساعة (ذِكْرَاهُمْ) أنى لهم إذا جاءتهم ساعتهم إما بالموت أو الساعة الكبرى بالعذاب أو ساعتهم بالعذاب أو ساعة القيامة أن يتذكروا وينتفعوا، لا يتذكر الإنسان فقد انتهى فيه أجله وانقضى فيه أمره.
قال الله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) من يلتمس مناسبة هذه الآية للآيات التي قبلها؟
ما علاقة قوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مع قوله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ)؟
كأنك تقول أنها تشير إلى موت النبي صلى الله عليه وسلم وأجله، قد يكون ذلك كما كانت سورة النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) هذا معنى لطيف وجميل.
معنى آخر؟ نعم جيد.
لكن نقول: الأمر بالعلم هنا قال (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لما ذكر الله أمر الساعة قوله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون ماذا ينبغي للإنسان وهو ينتظر الساعة؟ يحقق التوحيد أولاً، يخلص لله عز وجل عمله، ويستغفر لله من ذنبه الذي قد قصّر فيه في طاعة الله أو اقترف ما حرم الله عز وجل، هذا الذي ينبغي للإنسان الذي ينتظر الساعة، أما الذي لا ينتظر الساعة فإنه سيكون على حال من الضلال والكفر والنفاق. فكأن الله تعالى يقول لنبيه وللمؤمنين أنتم على الحق فاثبتوا وحققوا هذا المعنى ليكون لكم أمركم عند الله حسناً في الآخرة. ثم في هذه الآيات -أيها الأخوة- بوّب لها البخاري باباً ما هو؟ أخذ منها باباً من أبوابه، نعم قوله (فَاعْلَمْ) باب العلم قبل القول والعمل، العلم قال (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فهنا العلم لا يمكن العمل إلا بعلم صحيح، علم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) تفيد العلم والعمل.
قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فهذه الآية دالة على أن العلم قبل العمل وأن العلم يهدي إلى العمل وأنه لا علم صحيح إلا بعمل، كما قال علي: "هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل". هذا يبين في هذه الآية أيها الأخوة أن العلم لا بد له من عمل.
ثم أيضاً في هذه الآية في قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أن الإنسان مهما عمل ومهما علِم لا يزال في تقصير في حق ربه، مهما حقق لن تستطيع أن تحقق كمال العبودية لله عز وجل لِما فَطر الناس عليه من الخطأ والضعف والذنب "كل ابن آدم خطّاء" فقوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) هو خطاب للنبي وغيره، لكل من قرأ هذه الآية.
(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) وذكر المؤمنات لما كان الأمر متعلق بالواجب في انتظار الساعة وهو الإيمان والتوحيد فذكرهن وخصّهن عناية من الله عز وجل بشأن النساء. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) ما معنى (مُتَقَلَّبَكُمْ)؟ يعني تقلب أحوالكم بين الليل والنهار وأحوال صلاتكم ظهراً وعصراً ومغرباً تقلب الأحوال وتقلب الشرائع فيكم، ويعلم مثواكم (وَمَثْوَاكُمْ) أي مآلكم ومصيركم وعاقبتكم.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) انظروا هذه الآية من الآيات الصريحة على مقصد السورة وأنها في القتال (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) وماذا يُقصد بالسورة؟ يقصدون فيها أحكام القتال، المقصود هنا (لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) وآيات تبين لنا أحكام القتال (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) يكون فيها أمر القتال قال الله (فَإِذَا أُنْزِلَتْ) ما الفرق بين نزلت وأنزلت في كتاب الله عز وجل؟ -مما هو ظاهر غالب ليس مُطرد-. أن التنزيل ظاهر بالتدرج فكأنهم قصدوا بذلك في قول (لَوْلَا نُزِّلَتْ) آيات ليست سورة كاملة فقال (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) وهي سورة كاملة كأن الله عز وجل كأن في هذه الآية نأخذ منها أن هذه السورة سورة محمد أنزلت جملة واحدة إن كان المقصود بقوله (سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) المقصود بها هذه السورة على خلاف بين المفسرين ولكن يظهر أن المقصود بها هذه السورة وأن قول المؤمنين كان قبل نزول هذه السورة، وكأن هذه الآية من أسباب نزول هذه السورة إذ أنه جرى حديث بين المؤمنين والمنافقين فقال المؤمنون لو أنزل الله تعالى أحكام القتال. وهذه السورة متى نزلت؟ هي نزلت والله تعالى أعلم بعد بدر وقبل أُحد. كأنهم لما قاتلوا المشركين في بدر ونصرهم الله تحفزوا إلى القتال قتال المشركين وتطلعوا إلى أن يُنزل الله عز وجل آيات الجهاد وتكليفهم به. هذا واضح في هذه الفترة فإن الإنسان المنتصر يتطلع إلى نصر آخر.
قال الله سبحانه وتعالى (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) ولهذا سميت هذه السورة بسورة القتال, قال المحكمة ماذا يبين؟ ماذا يدل عليه قوله (سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ)؟ أي عازمة للقتال، محكمة هنا يعني موجبة للقتال ومحكمة له، أو أنها محكمة لم يُنسخ منها شيء. إما أن يكون المقصود:
سورة محكمة فيها إيجاب كما قال الله عز وجل (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) تأكيد بأنها مفروضة، فهنا (مُحْكَمَةٌ) موجبة على المؤمنين.
أو أنها محكمة غير منسوخة.
(وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم المنافقون (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) إذ أن المنافقين حين تنزل آيات الجهاد هم لا يريدون الجهاد لأن ذلك يُعرض نفوسهم إلى الهلاك وهم لا يريدون الهلاك هم يريدون مصلحتهم الدنيوية (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ولم يقل المنافقون لأن الأمر الذي حصل منهم بسبب مرض قلوبهم وما في نفوسهم من الأهواء. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) يعني من الخوف يعني خوفاً من هذا الأمر الذي نزل عليهم.
(فَأَوْلَى لَهُمْ) ما معنى (فَأَوْلَى لَهُمْ)؟ إما أن يكون المقصود:
فويل لهم وهنا يؤكده هذا المعنى قطع الآية بالفاصلة (فَأَوْلَى لَهُمْ) أي فويل لهم كما قال الله عز وجل في سورة القيامة (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى).
المعنى الثاني (فَأَوْلَى لَهُمْ) فالأولى لهم أن يطيعوا أن يقولوا طاعة . أما المعنى الأول فهو ويل لهم.
قال (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) على المعنى الأول أن طاعتهم وقولهم معروف أصلاً لا حاجة إلى أن يقولوا ما يقولوا (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعتهم معروفة لن يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم معروف ماذا سيقولون.
والمعنى الثاني الأولى لهم أن يطيعوا ويقولوا قولاً معروفاً.
(فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جاء الجد في الأمر بالجهاد ونودي الجهاد (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ) وما معنى صدقهم لله عز وجل؟ هو امتثالهم لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وانقيادهم لهذا الأمر وامتثالهم له.
(لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) وفي هذه في الآية قاعدة عظيمة من قواعد القرآن أن من صدق الله في أي أمر من الأمور كان أمره خير وعاقبته خير. (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) فإن كل من صدق الله عز وجل فإن الله سيصدقه:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)
وقوله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)
فهنا قاعدة أيها الأخوة ليجعلها الإنسان أمام ناظريه وهو في هذه الحياة يتعامل مع ربه أنه كلما صدق الله في أي أمر من الأمور فيعلم أن الله تعالى وعده بالخير (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
قال الله (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) أي المنافقون (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) هم كأنهم إنما تعذروا عن الجهاد لماذا؟ هنا هم لا يريدون أن يواجهوا المشركين لأن هؤلاء المشركين بينهم وبين المشركين ود،ّ لا يريدون أن يواجهونهم فيقطعون هذا الوصل الذي بينهم وبين الكافرين فقال الله عز وجل (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وتراجعتم (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) أي أن توليكم هذا سبب للإفساد في الأرض لماذا؟ لأنهم بتراجعهم قد يجترئ الكفار على المسلمين وتضعف فئة المسلمين كما فعلوا في أُحد حينما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّ عبد الله بن أُبيّ ومن معه وكان قدرهم ثلث الجيش، وهذا الحقيقة سيؤثر في نفوس المسلمين وعزمهم وسيُربك أمر الجيش إلا أن ذلك أمر يمنعه -بإذن الله- صدق المؤمنين وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقينهم بالله. قال الله (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) لا شك أن التولي عن القتال إفساد في الأرض لأن ذلك يجرئ الكافرين على المسلمين ويضعف فئة المسلمين.
قال (وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) والمقصود بالأرحام هنا: المسلمين، أن هذا الذي ستؤولون إليه من الارتداد سيؤول إلى قطيعة الأرحام بينكم وبين المسلمين إما بأنكم تتسببون في أمر يضر المسلمين، أو أنكم بعد ذلك يكون الخلاف بينكم وبينهم وتكونوا قد قطعتم الأرحام ومن الأرحام رسول الله صلى الله عليه وسلم في طاعته.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أن من ارتدّ عن دين الله وعن أمر الله استحق لعنة الله -عياذاً بالله- والله يا إخواني لهذه الآية عظيمة لمن تأملها وتدبرها إذا كان الارتداد عن دين الله والتخلي عن الأمر بالجهاد سبب للعنة الله، والله إن هو لأمر فظيع لو تنبه لها المسلمون. واليوم يا إخواني المسلمون اليوم يُنادون بأمر الجهاد والوقوف في صف إخوانهم دعوة ودعاء ودعماً وتجد من المسلمين من لا يأبه، لا يبالي وكأن الأمر لا يعنيه ولا يفكر في حال أمر المسلمين فضلاً عن أن يقدم ولو أمراً يسيراً ربما الدعاء لا يدعو، ربما الهمّ لا يحمله ولا يفكر فيه، ربما يرى هذه الفظائع والجرائم ولا تحرك فيه ساكناً ينام ليله ويقوم نهاره ويعبث ويلهو وكأن الأمر لا يعنيه، والله إن هذا -أيها الأخوة- ليُخشى عليه من أن ينال غضب الله عز وجل لأنه لم يحرك فيه ساكناً «المسلم أخو المسلم لا يسلبه ولا يظلمه ولا يخذله»، «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد» فإذا لم يكن هذا الأمر مُحركاً لنا أيها الأخوة فما الذي يحركنا؟! هذا الذي يُبين الصدق -أيها الأخوة- والعزم على نصر دين الله بما يستطيعه الإنسان. نحن لا نقول لمن لا يستطيع حمل السلاح احمل السلاح، أنت بما تستطيعه وأقلّ ما تستطيعه الهمّ والدعاء لإخوانك. قال الله عز وجل (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) عياذاً بالله.
ثم قال الله (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ما أجمل وأعظم وأبلغ هذه الآية ومناسبتها في هذه السورة وهذه الآيات أي أن هذه الآية واردة في الحضّ على القتال وتحفيز نفوس المؤمنين، إذا لم تتحفز نفوس المؤمنين بمثل هذه الآيات ولا يتغير أمر الإنسان في نفسه وهو يقرأ هذه الآيات أين هو عن كتاب الله؟! أفلا يتدبر القرآن الذي يقرأ قول الله عز وجل (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ويقرأ قول الله عز وجل (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) ويقرأ قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) أين القلوب الحية من هذه الحياة من هذه الآيات أفلا تتحرك وتنهض وتستيقظ لمنادي الله عز وجل ولهذا قال الله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) كأن الله تعالى يقول الذي يقرأ هذه السورة ولا يحرك فيه ساكناً لا فائدة فيه على قلبه قفل، ولم يقل قفل (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) قفل الغفلة، وقفل الخوف والوهن، وقفل طمع الدنيا والتعلق بها وحبها وطول الأمل، كل هذه الأقفال عن تحرك الإنسان إلى أن يقوم إلى الجهاد في سبيل الله ويبذل نفسه فيما يستطيع من نصرة دين الله ونصرة أوليائه. قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) هذه الآيات هدى -يا إخواني- بيّنات محكمات، الذي لا ينفعه تلك الآيات والله ليس فيه خير وليس فيه نفع لذلك قال (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) بعد هذا البيان وبعد هذا التفصيل وهذا الهدى بعد ما تبين له الهدى (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ) ماذا سول لهم؟ خوّفهم وأطمعهم في الدنيا وأوقع الوهن في نفوسهم وأملى لهم في الدنيا بأنكم السلامة خير لكم، والراحة خير لكم من أن تعرضوا أنفسكم، انظروا الشيطان كيف يُزين للإنسان فيُوهنه، فيُقعده. تصوروا يا إخواني لو نادى منادي الجهاد الله المستعان كيف يكون حالنا؟ لو نادى منادي الجهاد الشرعي الصحيح ماذا يكون حالنا؟ اسأل نفسك هذا السؤال وقف مع هذه الآيات هل أنت مستعد أم تقول والله أنا ما أستطيع، أنا منشغل بأعمالي، أنا منشغل بأموالي، أنا منشغل بأهلي وأولادي كيف أفعل الجهاد له أهله. هكذا أيها الأخوة تُبلى القلوب وتُمتحن فإذا كان عندك صدق ويقين ونصرة واستعداد فستنهض ولن تلتفت إلى شيء من تلك الدنيا الفانية لأن أمام أمر الله وأمام جهاد في سبيل الله وأمام نصرة دين الله وأمام حظ عظيم لك في الدنيا وفي الآخرة بالنصر والتمكين أو الفوز والشهادة والمقام العظيم عند الله.
قال الله سبحانه وتعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) كأن الله تعالى يقول هنا ما الذي منع الكافرين ما الذي منع المنافقين من الجهاد قال (بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ) أي الكافرين المشركين (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ما هو بعض الأمر الذي سيطيعونهم فيه ما هو بعض الأمر؟ إما أن يكون (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) يعني في الكفر، سنطيعكم في الكفر ونخفي هذا الكفر في نفوسنا أو (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) فيما يتعلق بشأن المسلمين وتوهينهم وتشكيكهم أو نحو ذلك.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) وفي قراءة (أَسْرَارَهُمْ) إسرارهم: ما يكون في نفوسهم من الرغبة إلى الكافرين والطمع فيما عندهم، أو طاعتهم، أو كُره ما أنزل الله أو كُره المؤمنين فإن الله يعلم إسرارهم وهذا يبين أن الله سيكشف أمرهم فضيحة لهم.
قال الله (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) ما مناسبة هذه الآية؟ مناسبتها: أنهم لما ارتدوا عن الجهاد في سبيل الله الذي فيه كر وفر وفيه ضرب وصولة وجولة ذكر الله تعالى حالهم في الآخرة أو عند الموت وأنهم سيصيروا إلى هذا الأمر وسيواجهون ما قد يواجهونه ويخافون منه في القتال قال الله (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) تصويراً لمن يضرب في القتال (وَأَدْبَارَهُمْ) تصويراً لمن يفر، يعني كأنه يقول الموت حاصل لكم حاصل لن تفروا وأنكم مقبلون على خوف من الموت أشد مما تخافون منه الآن.
قال الله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ) وما هو الذي أسخط الله؟ أسخط الله عز وجل نفاقهم وطاعتهم للكافرين واستهزاءهم بالمؤمنين وعدم صدقهم وغير ذلك.
(وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ) يعني كرهوا ما يرضي الله عز وجل من الجهاد والدعوة إليه والإيمان ونحو ذلك، قال الله (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) وهذا يبين أن من سخِط ما أنزل الله عليه وكرهه فإن ذلك سبب لحبوط أعماله.
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هؤلاء المنافقين (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) أي ما في قلوبهم من الضغن والحقد على المؤمنين وعلى أهل الإيمان، أيحسبون أن الله لن يخرجهم.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ) يعني لو نشاء لعرفناك أسماءهم وأوصافهم وأعيانهم كأن في هذه الآية بيان أن الله عز وجل سيخبر نبيه بالمنافقين، وهل اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المنافقين؟ فيه خلاف، هل أطلع الله تعالى نبيه على أعيانهم بأنه يعرف أن هذا منافق؟ يقول أنس: أنه ما نزلت هذه الآية إلا وقد علِم النبي صلى الله عليه وسلم أعيان المنافقين بأسمائهم ولكنه لم يخبر به أحداً إنما أخبر بعضاً منهم حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه معنى آخر أو قول آخر: أن الله عز وجل لم يُطلع نبيه إلا على طائفة منهم.
قال (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) يعني تعرفهم بالسيمة وهي العلامة، علامات تعرفهم بها إما في وجوههم أو في أقوالهم أو في أحوالهم. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) يعني هذا أمر ظاهر وواقع (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) يعني ستعرفهم بلحن أقوالهم ولحن القول ما هو؟ لحن القول هو -سلمكم الله- الإنسان يتكلم بأمر وهو يريد غيره يوهم الآخر أنه يريد ذلك وهو لا يريده والذي معه يعرف أن كلامه ذلك غير صحيح فهو لحن القول الذي يظهر به الانسان خلاف ما يبطن.
قال الله تعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فالمؤمن يعرف لحن القول، ومن يؤتيه الله فراسة يعرف ولذلك عثمان رضي الله عنه يقول: "ما أسرّ عبد سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه". سبحان الله الإنسان يا إخواني مهما أبطن فسيظهر في وجهه، ولذلك أصحاب المعاصي يظهر على وجوههم معاصيهم، أصحاب الشهوات تظهر لهم معالم أصحاب الشهوات، الشبهات تظهر لهم معالم مختلفة، وغير ذلك، وأهل الإيمان يظهر لهم النور في بيانهم وكلامهم من الخير والهدى وغير ذلك.
قال الله تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) والخطاب هنا للمؤمنين وللمنافقين يعلم أعمالكم ما أنتم فيه.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) هنا الخطاب للمؤمنين والمنافقين كأنه لعلهم يتوبون، لعلهم يؤبون بعد هذه النصيحة وبعد هذا البيان وهو خطاب للمؤمنين (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بماذا؟ بالجهاد، (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) والصادقين أيضاً أي الصادقين المؤمنين والصابرين ونبلو المنافين أيضاً. قال الله تعالى (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) ما معنى نبلو أخباركم؟ نمتحن أعمالكم، نمتحن ماذا تكونون عليه؟ وماذا سيؤول أمركم وحالكم.
قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) قيل أن هذه الآية -أيها الأخوة- في المنافقين، وقيل أنها عودٌ على حال الكافرين في أول السورة حتى يعود أول السورة على آخرها فيكون الحديث في الكافرين، وقيل أنها آية يُراد بها أهل الكتاب الكافرين لأن الله يقول (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي من أهل الكتاب (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) خالفوه هم شاقوا الرسول وخالفوه (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) مما أنزله الله الهدى الذي عندهم في كتبهم (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) هذه في طائفة ثالثة وهم أهل الكتاب.
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) عودٌ على المؤمنين فالسورة فيها خطاب للمؤمنين وعن الكافرين، أطيعوا الله ورسوله ومن طاعته اتباع أمره والجهاد في سبيله إذا نادى مناديه.
قال الله (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) كيف يكون إبطال العمل؟ إما إبطال العمل بالرياء والنفاق وغير ذلك، وإما أن هذه الآية تبين معنى آخر قلّ أن ينتبه له القارئ وهو أن إبطال العمل يعني انقطاع العمل، كأن الله يقول أطيعوا وأطيعوا الرسول واستمروا على ذلك لا تنقطعوا أكثروا من النوافل، أكثروا من الصلاة، أكثروا من الأعمال فلا تبطلوا يعني تقطعوا، ففسروا هنا البطلان بالقطع.
قال الله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) هنا في بيان حال الكافرين عند الموت فإن الله تعالى لن يغفر لهم تيئيساً لهم.
ثم قال الله للمؤمنين (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) لاحظ أن هذه الآية تختلف عن آية الأنفال (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) هنا قال (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) لماذا؟ لأن حال المؤمنين هنا في حال قوة، هم بعد بدر فلا تسالموهم ما دمتم في قوة وفي تمكّن لأن السِلْم في حال القوة ماذا يؤدي بالمسلمين؟ إلى الوهن وإلى الانشغال بالدنيا أما في حالة الضعف الذي لا يستطيعون فيه مواجهة الكافرين فلا بأس وعليه تنطبق الآية في قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) وهذا ما يبين أحكام السلم والحرب وهو قد فصّله العلماء مشايخ الإسلام رحمهم الله تعالى فيكفي بياناً كافياً وافياً لمن أراد أن يرجع إليه.
قال الله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) هذا مما يبين أنهم في حال عُلو وهو الحال الذي كانوا فيه بعد بدر (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) أي ما دمتم في نصرة دين الله فالله معكم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) يعني لن يبخسكم أعمالكم سيهبكم أعمالكم وأجوركم كاملة ومن ذلك نصركم وعاقبة أمركم الحسنة.
ثم قال الله تعالى (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) هنا فيه بيان سبب من أسباب التي تمنع المؤمنين من القيام بالجهاد وهي الحياة الدنيا والانشغال بها، فالله تعالى هنا كما أنه يحفزهم فينبههم ويحذرهم من الأسباب التي توهنهم عن القتال وهي تعلّقُهم بالدنيا فقال (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وما الفرق بين اللعب واللهو؟ اللعب هو: الذي لا هدف فيه كمثل لعب الأطفال. واللهو هو: الذي يكون بعد عمل عندما يرتاح الإنسان يلهو يجدد طاقته لكن إذا استمرأ فيه فهو مذموم في ذلك. قال الله تعالى (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ) أي لا فائدة فيه أو لهو يشغلكم عن الجد والعمل والقيام بالأمر. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) تحققوا الإيمان والتقوى باليقين ونصرة دين الله عز وجل والتحفيز الصادق لنصرة دين الله (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) أي أن الله عز وجل هنا يقول إنما يبعثكم الجهاد لا لتبذلوا الأموال وإنما لسلامتكم أنتم ومصلحتكم أنتم فقوله (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) يعني لا يسألكم أموالكم كلها ليفنيها لكم وإنما يسألكم الأموال للإنفاق في سبيل الله ليبقيكم بها فهو حظ لكم وليقيم بها دين الله عز وجل فقوله (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) أي لا يسألكم الله عز وجل أن تنفقوا الأموال كلها في سبيل الله عز وجل وإنما أنفقوا ما استطعتم وما أمكنكم (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا) كلها في سبيل الله (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا)، (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ) أي يُلحح عليكم ويُلزمكم بذلك، الإلحاف هو: الإلزام والإلحاح بالشيء يلحفكم عليها فتبخلوا. ولا شك أن الإنسان بطبيعته أيها الإخوة إذا طُلب وألح كره ذلك حتى وإن كان في أمر خير، يعني أنت أتيت إلى شخص وقلت أخي أنفق في سبيل الله، ابذل، يا أخي هذا مال الله، يا أخي هذا في سبيل الله والمؤسسة الخيرية...الخ وتكرهه فإنه سيبخل أو سيعطيك عطاء بكره فالله تعالى لا يريد ذلك.
قال الله تعالى (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) يخرج ما في قلوبكم من كره الإنفاق أو الحرص على المال.
قال الله (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعني هي دعوة لكم أنفقوا في سبيل الله، فكأن الآية هنا ختم الله السورة بعد حض المسلمين على الجهاد قال (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) الذي يبخل سيكون مآله على نفسه لأنك لبخلك سيؤدي ذلك إلى قتل، هزيمة، أو إلى عاقبة سيئة لك والله عز وجل يفتنك بهذا المال (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) والله عز وجل لا يسألكم الأموال لنفسه فهو غني سبحانه وتعالى وإنما ليُبقي دينكم ويُظهر عزكم ومقامكم ويبقي ما أنتم فيه من نعمة (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) فأنفقوا في سبيل الله يؤتكم خيرا مما أخذ منكم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أي تتولوا عن الجهاد، تبخلوا بالمال وتتولوا عن الجهاد (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) الصحابة حينما أنزل الله هذه الآية ماذا قالوا؟ قالوا: يا رسول الله ومن يستبدل بنا؟ يعني هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظنون أن لا أحداً يستبدله الله بهم فقالوا: من يستبدل الله بنا؟ فكان بجواره سلمان فضرب على فخذه قال: «هذا وقومه». أي أن الله عز وجل إذا انكفأ العرب وارتدوا عن الإسلام فإن الله سينصره بقوم آخرين من العجم والفرس. كأن المفسرون أو بعض المفسرين استنبط في هذا أن أهل الفرس أن فارس إذا آمنت لا ترتد لقوة بأسها وهذا التماس من هذه الآية. ثم قال (لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أي لا يكونوا أمثالكم في الضعف والهون والخوف والارتداد.
وهذا أيها الأخوة نختم السورة بأن الله عز وجل في هذه السورة يحضنا ويحفز نفوسنا إلى القيام بأمر الله والجهاد في سبيل الله بما نستطيع والبذل من أموالنا بما أمكننا في سبيل الله عز وجل فإننا إن تخلينا عن ذلك فإنه سيأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
يا إخواني لا نتقاعس، لا نضعف، لا نوهن، فيستبدل الله بنا قوماً آخرين، فليس بيننا وبين الله نسب ولا حسب والله إن ارتددنا بضعفنا ووهننا وتعلقنا بالدنيا وتركنا نصرة الله ودينه وأوليائه، والله سيأتي أناس ينصرونه وينصرون دينه وأوليائه فنحن أولى يا إخواني أن يكون لنا في ذلك القيام بأمر الله بما مكننا الله في هذه البلاد، وما أعطنا الله من النعمة، وما منحنا الله من الفضل.
نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أنصار دينه، وأن يوقظ في قلوبنا الغيرة لدينه ونصرة دينه، وأن يجعلنا من المجاهدين في سبيله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
المصدر / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
١- (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )[آل عمران:١٤٤]
٢- (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) [الأحزاب:٤٠]
٣- (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) [محمد:٢]
٤- (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا....) [الفتح:٢٩]
الأمر الأول: أن محمداً صلى الله عليه وسلم ذكر فيها.
والأمر الثاني: أن فيها إظهار لشأن محمد صلى الله عليه وسلم على الكافرين والمنافقين الشانئين.
ويؤكد أن السورة في القتال أنها سميت سورة القتال
ويؤكده أيضاً أنه صرح بذلك في السورة فقال في ضمن آيات السورة (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) أي أن أعظم وأبرز ما ذكر فيها القتال، فهي في شأن القتال والحض عليه وتوهين أمر الكافرين
ومما يؤكد ذلك افتتاح السورة بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) ففيها تصريح وإبراز بأن الكافرين قد يصدون عن سبيل الله
أولا: أنهم قد كفروا
ثانياً: أنهم صدوا عن سبيل الله. وهذا أعظم دافع وأعظم داعٍ للمؤمنين أن يقاتلونهم فضلا عن أن الله تعالى أضل أعمالهم. ففي هذا الافتتاح المفاجئ الصريح بشأن الكافرين هو الحقيقة غرضه -والله أعلم- بعث نفوس المؤمنين على قتال هؤلاء الكافرين الصادين عن سبيل الله.
وأيضاً مما يؤكد أن السورة في القتال أنه قال بعد ذلك (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) فيها تصريح بأمر القتال ولهذا قال بعدها(وَالَّذِينَ قُتِلُوا) وفي قراءة (وَالَّذِينَ قاَتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وقوله تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المقصد ومن ضمنها قوله في آخرها (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) فالسورة واضح فيها هذا المقصد العظيم، هذا المقصد الذي يحتاجه المسلمون في وقت فتورهم عن الجهاد وانقطاعهم عنه وحاجتهم الشديدة إليه، يحتاجون إليه في الوقت الذي يُخشى على أمر الإسلام من الكافرين فيحتاج أن تستنهض هِمم المسلمين إلى هذا القتال فليسوا في هذه الفترة في حاجة إلى أن يطلبوا السِلم فيكونوا في وهنٍ وضعفٍ وامتهانٍ من الكافرين وما نحن فيه من الأحوال والأوضاع والأحداث التي تجري اليوم خاصة في أمر إخواننا في سوريا، هم بحاجة إلى مثل هذه السورة العظيمة التي تستنهض هممهم وتقوي عزمهم وتثير نفوسهم في مواجهة عدوهم وعدم الوهن في نفوسهم فإنهم اليوم لا رجوع لهم ولا سبيل إلى الرجوع، وهم اليوم بحاجة إلى أن يشدوا عزائمهم والمسلمون جميعاً في أقطار الأرض واجب عليهم أن يشدوا العزم في الوقوف مع إخوانهم هناك فإنهم والله بحاجة إلى هذا الأمر العظيم من شد أزرهم ودعمهم والوقوف معهم في مقابل ما نراه من وقوف الرافضة الحاقدين على أهل السنة في دعمهم ووقفوهم مع إخوانهم النصيرين. أقول هذا ونحن نستقرئ من كتاب الله عز وجل منهجنا وحياتنا ونقتبس من هذا النور هدينا في واقعنا وإلا فأين أثر القرآن فينا؟!
نحن بحاجة إلى أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل نستنهض فيه الهمم ونستلهم منه الهداية والتوجيه والمنهج وما هذه السورة إلا طريق في ذلك، الوقت ربما لا يُسعف لتطويل وإنما هي شذرات ولطائف في هذا السياق.
يقول الله عز وجل (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) لاحظوا أنه صرّح بكفرهم فمما أدى إلى ضلال أعمالهم أنهم كفروا وهذا يبين -أيها الأخوة- ويؤنس المؤمنين ويشد من قلوبهم أن الله سيضل أعمال الكافرين مهما كانوا عليه من قوة ومن عتاد ومن معونة من أنصارهم فإن كفرهم كافٍ في أن الله سيضل أعمالهم وأن العاقبة عليهم ثم زيادة على ذلك وصفهم بأنهم صدوا عن سبيل الله.
وصدهم عن سبيل الله يدخل فيه:
-أذية المؤمنين.
-يدخل فيه التضيق على عباد الله الصالحين.
-يدخل فيه امتهانهم لبيوت الله عز وجل.
-يدخل فيه ما كان من أمر المشركين من إخراج المسلمين من مكة، وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم.
-يدخل فيه من التضييق على أصحابهم وأهليهم وذويهم من الدخول في هذا الدين.
كل ذلك صد عن سبيل الله عز وجل.
ثم قال الله تعالى (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) هذه عاقبة للكفر وعاقبة لصد أن الله سبحانه وتعالى سيضل، والضلال هو: التيه، ومعنى ذلك أن الكفر عاقبته بوار ولا نهاية له صحيحة سيكون ضلالاً وحيرة ونهاية مؤلمة في الدنيا وفي الآخرة.
قال الله عز وجل (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) هذا وصف لأهل الإيمان ولاحظوا في سياق السورة -وهذا ملحظٌ لطيف فيها- أنها جاءت بذكر الطائفتين في كثير من آياتها -في آيات السورة- أنها ذكرت أحوال الكافرين وأحوال المؤمنين، أحوال المؤمنين ثم أحوال الكافرين جزاءً وأعمالا، وحالا ووصفا، وإلى غير ذلك.
فهنا ذكر في الآية الأولى حال الكافرين ثم قال في الآية الثانية (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في مقابل الذين كفروا، وقوله (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) في مقابل (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فهم آمنوا بما نُزّل على محمد وهو القرآن قال (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ما هو الحق من ربهم؟ هو ما أُنزل على محمد، وهو أيضاً محمد، هو الحق من ربهم، فما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فهو حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق فهم آمنوا بما أُنزل وايقنوا به (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) هذا في مقابل (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) فهؤلاء المؤمنين كفّر عنهم سيئاتهم، وهذا يؤكد أن الإيمان والتصديق سبب من أسباب تكفير السيئات. ثم قال الله تعالى (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) ما معنى أصلح بالهم؟ البال ما هو؟
- إما أن يكون البال هو الخاطر والعقل والتفكير وما يدور في أذهانهم وعقائدهم ومفاهيمهم فالله تعالى -بسبب هذا الايمان والتصديق- الله سبحانه وتعالى يصلح عقولهم بالهدى ونور الحق ونور الإيمان و نور القرآن فتكون آراؤهم سديدة وأقوالهم سديدة وتصوراتهم صحيحة وما يخطر على بالهم يتجه نحو الهدي الصحيح.
(وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) أصلح خواطرهم وعقولهم. ويدخل في ذلك أيضاً (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) أصلح أحوالهم كلها.
ثم قال الله سبحانه وتعالى في وصف الطائفتين أيضاً (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ) لماذا أضل أعمالهم؟ لأنهم اتبعوا الباطل، فاتبعوا الباطل فكفروا وصدوا عن سبيل الله فكانت عاقبتهم أن الله سبحانه وتعالى أضلهم، هؤلاء الذين كفروا اتبعوا الباطل فأي باطل هم متبعون له.
(وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) لاحظ قوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) أنهم يتبعون ما جاءهم من ربهم عز وجل وهذا هو الهُدى، فإذا كنت تروم أن تكون من أهل الإيمان فانظر ماذا يأمرك به ربك فاتبعه هذا هو اتباع الحق من ربهم.
قال الله تعالى (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) ما الغرض من هذه الجملة؟
الغرض من هذه الجملة بيان أن الناس فريقان فريق الكفر وفريق الإيمان (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) مثل أهل الكفر ومثل أهل الإيمان ولهذا السورة بُنيت عل هذا التقسيم في كثير من آياتها كما ذكرت لكم.
قال الله وسبحانه تعالى (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) لاحظوا أنها جاءت الآية بالفاء للتعقيب فلما شحن قلوب المؤمنين على الكافرين وبيّن أن هؤلاء الكافرين ليسوا على الحق وأنهم كفروا وصدوا واتبعوا الباطل فما بقي إلا أن تواجهونهم على كفرهم وتقفون في وجههم لئلا يغلب الباطل على الحق، ولئلا يكون كفرهم وضلالهم يغلب الحق وأهله فقال تعالى (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ما قال اقتلوهم قال (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) لاحظوا هذا التعبير القوي المتين الذي يبعث في نفوس المؤمنين القوة ويحفز نفوسهم للجرأة على قتال الكافرين (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ولاشك أن ضرب الرقاب أعظم أثرا في نفوس المؤمنين من العزة والتمكين والعلو من قضية القتل المجرد فلهذا قال (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) أن المؤمن حينما يقتل كافراً بالسيف يضربه ضربا بالسيف أعظم من قضية أنه يرميه رميا، فيه شفاء غليله وفيه ظهور عزته وتمكين ما في نفسه.
قال (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) ما معنى أثخنتموهم؟ تحتمل معنيان:
- المعنى الأول: حتى إذا قتلتم منهم قتلاً شديداً ولم تبقوا منهم إلا قليل، أثخنتم فيه القتل والثخانة في اللغة: هي الأمر الثقيل، أثقلتم فيهم القتل وأكثرتم في قتلهم وما بقي منهم إلا بقية (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) في هؤلاء البقية، أثخنوا القتل أكثر واسروا من تأسرون منهم. فانظروا إلى التأكيد على القتل أكثر من الأسر كأن الله تعالى يقول فيلكن همكم في القتل أكثر من الأسر.
ثم المعنى الثاني: حتى إذا تمكنتم منهم، قاتلتموهم حتى تمكنتم من ديارهم أو تمكنتم منهم وحاصرتموهم (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) أي الأسر، الوثاق مأخوذ من توثيقهم لأن الأسير في الأصل يوثق حتى لا يهرب أو يذهب هنا أو هناك فشدوا الوثاق.
قال الله تعالى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ما معنى (مَنًّا بَعْدُ)؟ تحتمل معنيين:
المعنى الأول: المنّ عليهم بإطلاق سراحهم.
والمعنى الثاني: إبقاؤهم عبيدا تحت ايدي المسلمين هذا منَّ، بل هو قد يكون خير المنّ لأنه قد يكون سببا في إسلامهم فالعلماء أدخلوا من المنَّ عليهم ابقاؤهم عبيدا واستخدامهم ودعوتهم إلى الإسلام فإن ذلك من المنَّ.
والحالة الثانية (وَإِمَّا فِدَاءً) والفداء هو: أن يؤخذ منهم ما يفتدون به من الأسر فيطلقون. لكن هنا لماذا قدم المنّ على الفداء؟ أيهما أولى أن يمنَّ على الأسير فيطلق بلا مقابل أو يفدى فينتفع المسلمون بهذا المال؟
هنا قدم المنّ لأن المنّ فيه اليد العليا، واليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى. في كلٍ خير لكن حين تمنّ عليه يكون لك الفضل عليه وهذا يبعث في نفسه أنه حينما أطلق صراح غيره فداء ذلك سيحبب إلى قلبه الإيمان وأهل الإيمان. ثم أيضاً إذا ذهب إلى بلده فإنه لن يوغل صدره على المسلمين ويشحن نفوس أهله ومن يلاقيهم على أهل الإيمان. لاحظوا هذه المصالح كلها معتبرة في هذا المنّ ليس مجرد أنه يطلق سراحه فقط وإنما ليعرف على أن الاسلام دين رحمة وأنك أُطلق سراحك مع التمكن منك فيقرب ذلك قلبه إلى الإيمان.
قال الله عز وجل (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) ما أجمل وأبلغ هذه العبارة، هذا استعارة ضمنية في هذا الأسلوب فقال (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) الحرب لا تضع أوزارها الحرب تنتهي بانتهائها أو بعدم وجود أسبابها لكن قوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) كأن الانسان يضع أوزاره أو ما يثقل ظهره أو ما يشد حبله بعد انتهاء عمله والمشقة -الطريق الذي سار فيه- كأن الله تعالى يقول حتى تنتهي الحرب وينتهي أمركم مع الكافرين. فوضع الوزر يحتمل معنيان:
الأمر الأول: أن الإنسان إذا أسترخى وقت الراحة يضع أوزاره.
والأمر الثاني: -وهو الأقرب- أن الإنسان إذا ارتاح من سفره وضع أوزاره وأثقاله التي عليه، أثقال السفر من المتاعب وغيره.
قال (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) يعني كأن الله تعالى يقول لو شاء الله لم يشرع لكم الجهاد لانتصر منهم بغير ذلك، أرسل عليهم ريحاً، أو أرسل عليهم جنداً من جنده فلا حاجة إلى القتال، إذاً لماذا القتال؟ القتال قال (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) لاحظ قال (لِيَبْلُوَ) أي ليختبر (بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) فالجهاد إنما شُرع مع قدرة الله ومشيئته على إنفاذ أمره بغير ذلك حتى يبلوَ ويختبر ويمحص الصادقين المؤمنين في إيمانهم وبذلهم ونصرتهم لدين الله من غيرهم.
حتى يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق.
وحتى يظهر في ذلك عزّ المسلمين على الكافرين.
وحتى يكون في نصر الله عز وجل المؤمنين على الكافرين قرة أعين لهم لأن المؤمنين حينما ينصرون على الكافرين بأيديهم أشفى لصدورهم من أن الله ينزل على الكافرين بلاءً من عنده فذلك أمر مقصود في هذا البلاء والابتلاء.
قال الله عز وجل (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وفي قراءة (وَالَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) ما هي أعمالهم؟ الأصل هنا في سياق الحديث أنها أعمال الجهاد (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) الجهاد، فلن يضل أعمالهم التي عملوها ثم أعمالهم الأخرى التي عملوها قبل ذلك.
(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) وهنا أكد على صلاح بال المجاهدين أكثر من غيرهم. ولاحظوا هذه الأمور الأربعة التي خص فيها المجاهدين في سبيل الله أو الشهداء والله لهي كافية في تحفيز المؤمنين على القتال: (يصلح بالهم، لن يضل أعمالهم، سيهديهم الله عز وجل إلى كل خير ويصلح بالهم يصلح أمرهم كله ومن ذلك عقولهم وأفكارهم وأراءهم يسددهم ويدخلهم الجنة) ماذا بعد ذلك من التحليل الذي يرغب به المؤمن في الجهاد في سبيل الله والله لهذه الكافية في تحفيزه وحظه.
قال الله تعالى (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) ما معنى عرفها لهم؟
أي بيّنها وبيّن أوصافها وزينتها وحفزهم إليها بأنواع من الأساليب التي ذكرها الله تعالى في كتابه.
قال الله سبحانه تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) هذا بيان لسنته سبحانه وتعالى أنكم إن نصرتم الله وأقمتم على دينه وبذلتم وسعكم في نصرة الدين فإن الله ناصركم. سنة إلهية ثابتة بأن المؤمنين المسلمين إذا أقاموا أمرهم على دين الله وصدقوا الله في نصرة الدين وهذا الجهاد في سبيل الله لوجه الله تعالى فإن الله ناصره، وإننا لنرجو الله عز وجل في هذه الآية نحققها في ما نراه اليوم في حال المسلمين وخاصة في حال إخواننا في سوريا وفلسطين فإننا اليوم نرى أيها الأخوة أنهم الآن حقيقةً أنبرت نفوسهم إلى أن يقاتلوا هذا العدو الظالم الغاشم عليهم وما طلبوا إلا نصر الله عز وجل حتى أنه في ما نسمع من الأخبار أنهم استعدوا للجهاد وللموت وعزموا على ذلك وكلماتهم وتصريحاتهم في وسائل الإعلام والله أنها لتثلج الصدر مما يكمن في نفوسهم من الصدق واليقين بالله عز وجل ورغبة في الجهاد في سبيل الله ونصرة هذا الدين وكف هذا العدو الظالم الغاشم المبين والله إن هذا لمما يؤمل به أن يكون -بإذن الله ثقة بالله- أن يكون هذا ضامناً لهم لنصر وإن أمارات النصر في حال إخواننا في سوريا ثم غيرهم في فلسطين وغيره فهي ظاهرة بإذن الله يكاد تتواتر وتتوافق آراء أهل العلم الراسخين في سنن الله عز وجل وأهل الخبرة وأهل القتال وأهل السياسة يجمعون ويتفقون أن أمر هؤلاء بإذن الله ظاهر وأن أمر هؤلاء الكافرين النصيرين الظالمين بائت في ضلال وهزيمة قريبة بإذن الله عز وجل. نسأل الله بإذنه وقوته أن يرينا في هؤلاء الظالمين أمره الشديد وأن يُقِرّ أعيننا بنصر إخواننا نصرا مبينا.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) إن كنتم قصدتم بهذا النصر نصرة الله فإن الله سينصركم ويثبت أقدامكم على هذا الجهاد وما أنتم فيه.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ) ما معنى (فَتَعْسًا)؟ يعني لاحظوا هذه الكلمة البليغة العظيمة ليس هو فقط تعسا، يعني هلاكا وضلالا وبؤسا وسفولا. والله إن هذه الكلمة لتحمل هذه المعاني كلها التعاسة من الحزن والكآبة ومن الضلال والهلاك والبوار كله داخل في معنى هذه الآية ولذلك قال (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) في هذه الآية أعاد قضية الضلال الأعمال المتعلق -والله تعالى أعلم بسياق الآيات وهو أمر القتال- أن الله تعالى سيضل أعمالهم في القتال. ونحن نرى الآن، ترون كيف يتخبط هؤلاء في أعمالهم ليس لهم طريق واحد ليس لهم منهج، لم يثبتوا على أمر فهم في تخبط من أمرهم وسنرى ذلك بإذن الله آية من آيات الله فيهم.
قال الله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) يبين الله عز وجل تأكيدا على أن هذا الأمر الذي هم فيه بأنهم كفروا وأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم تأكيداً وإعادةً وتحقيقاً لما في نفوس المؤمنين من التحفيز ومعرفة حال أعداء الله وعاقبتهم.
قال الله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الخطاب للكافرين، انظروا مما يؤكد صدق وعد الله فيكم وأن الله سيحبط أعمالكم -سيضل أعمالكم- سيروا في الأرض فانظروا (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مِمن كفر وصد عن سبيل الله وكره ما أنزل الله كيف حالهم (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) لاحظ كلمة (دمّر) التدمير بمعنى الهلاك التام. دمرهم تدميرا وهذا ظاهر في حال القوم والأمم التي استأصلها الله عز وجل بعد تكذيبهم لأنبيائهم.
قال الله (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) من هم الكافرون؟
أولا: قريش الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. فكأن في هذه الآية تهديد لهم ووعيد وأن الله عز وجل سيهلكهم وكأن هذه الآية تعرِّض بنصرة أو بهلاك طغاتهم وزعمائهم في بدر، كأن الله تعالى يتوعدهم في ذلك في بدر وما بعدها من المواقع.
قال الله تعالى (ذَلِكَ) أي تدمير الله عز وجل ونصرة المؤمنين (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ومن يكون الله مولاه فالنصر حليفه ولاشك.
قال الله (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) لا نصير لهم فإذا كانوا هؤلاء الكافرين في مواجهة مع أولياء الله الذين هم منصورين بإذن الله فمن يستطيع الوقوف في وجه نصرة الله وولايته للمؤمنين.
ثم قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) لاحظوا أن هذه الآية فيها تشويق للمؤمنين لما وعدهم الله في جنته قبل ذلك في قوله تعالى (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) لاحظوا قوله (عَرَّفَهَا لَهُمْ) جاء تفسيرها في السورة (عَرَّفَهَا لَهُمْ) يعني بيّنها وعرّف أوصافها ما هي أوصاف هذه الجنة التي تمكن في قلوب المؤمنين الثبات والقوة والتطلع لما عند الله من الأجر والجزاء الحسن في الجنة؟ قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) هذا وصف أولاً: وعد بدخولهم. يدخلهم بماذا؟ بوصف الإيمان والعمل الصالح، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) هذا عاقبة الذين آمنوا وإن كان أمرهم في الدنيا في ضعف أو في قلة أو في فقر وربما يكون ذلك بتساؤل وهو:
إذا كان وعد الله حق وأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ما الذي يجعلنا نرى الكافرين في عزة وفي متعة وفي ظهور؟
فأجاب الله عز وجل: أن هذه الدنيا متعة للكافرين لكنها عذاب عليهم في الآخرة.
قال الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي في الدنيا والمتاع متعة مؤقتة. (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) انظر كيف وصفهم بمتعة الأنعام أي أن حالهم في الدنيا كالأنعام ليس لهم شأن في الحياة إلا متعة الأنعام كما تأكل الأنعام ولكن قال (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) مثوى يعني مصير ومستقر ويثوبون إليه ويستقرون فيه. فإذا قال ثاب إلى كذا معناه استقر فيه كأن الله تعالى يقول هي مستقرهم وأما هم فيه الآن من متعة ومن ظهور ومن متاع وعدة فإنه زائل قليل منقطع.
قال الله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها توعد للمشركين الذين أخرجوا نبي الله صلى الله عليه وسلم (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) ما هي القرى التي هي أشد قوة؟ كعاد وثمود. عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد والتي وصفها الله بالقوة فهي أظهر وأقوى من هذه القرية التي أخرجت النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الله يقول إذا كان الله تعالى أهلك أولئك وهم أقوى من هؤلاء فإن الله مهلك هؤلاء وهم ليسوا عند أولئك بشيء.
قال الله (قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) كأن الله تعالى يبين هنا سبب استحقاقهم للهلاك وهو اخراجهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم في هذا ما يؤخذ منه أن المؤمنين إذا أُخرجوا من ديارهم وقُهروا في بلدهم وظُلموا وطُردوا فإن هذا من اسباب استحقاق أعدائهم للهلاك. وما نراه اليوم من مطاردة وتضييق لإخواننا المسلمين -خاصة في فلسطين- وفي غيرها من بلاد الله لهو والله مؤذن -بإذن الله- بإهلاك هؤلاء الكافرين.
قال الله تعالى (أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) إذا أتى أمر الله على هؤلاء اليهود من ينصرهم؟ والله لا سبيل لأحد أن ينصرهم ولا أن يمدهم.
قال الله عز وجل (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) لاحظوا تفصيل وتفسير قوله تعالى (عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ).
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) لاحظوا المقابلة السورة فيها مقابلة كأن الله يصف حال هؤلاء وحال هؤلاء (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ) واضحة وهدى من ربه عز وجل (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) بهذا الكفر وهذا الضلال وعبادة الأصنام وما هم فيه من صد عن سبيل الله الذي زين لهم (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) أي أن أمرهم ليس من ربهم وإنما هو من أهوائهم، أولئك كانوا على بينة من ربهم وهؤلاء زينة لهم سوء أعمالهم واتبعوا أهواءهم. فرق والله وأي فرق، فرق وأي فرق بين هؤلاء الطائفتين. قال الله عز وجل عودا على حضّ المؤمنين وتحفيزهم في وعد الله لهم قال (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) ومعنى آسن: أي متغير، فيها أنهار جارية غير آسنة وإنما ذكر الله تعالى هذه الأنهار وهذه الأنواع من الأطعمة التي كان يتلذذ بها هؤلاء الكافرون في الدنيا فجعلها الله تعالى خالصة لعباد الله المتقين في الجنة قال (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ) النهر في الماء معروف فهو معروف في الدنيا أنه هناك أنهار من ماء غير آسن لماذا قال غير آسن؟ لأن الماء حينما يجري فهو أصفى له وأنظف له من الماء الراكد وإنما وصفه هنا لأن الجزيرة لم تكن فيها أنهار فكأن الله تعالى هنا يشوق المؤمنين ويبين للكافرين حال المؤمنين في الآخرة مما فيه من نعيم قال (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ) لم يعرف في الدنيا فالله عز وجل يزيد هؤلاء المؤمنين من النعيم ما لا عين رأت في الدنيا ولم يروه ولم يتصوروه لكنه ذا لذة ونظرة وجمال. قال الله تعالى (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) وإنما وصفه الله تعالى بأنه لم يتغير طعمه لأن حال اللبن في الدنيا -في الغالب- إذا صور ذلك في حال العرب لم يكن يبقى اللبن على طول المدة لم يتغير فهم يحلبون ثم في آخر الوقت يتغير طعمه فيشربونه على تغير طعمه فيبين الله أن اللبن في الجنة للمتقين لا يتغير طعمه.
ثم قال الله تعالى (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) هذا الخمر الذي هو لحال أهل الدنيا وهؤلاء الكافرين غصة هو ليس لذة لهم وإنما يشربونه لا للذتهم وإنما لمخامرة عقولهم به وما يرجون من غياب عقولهم بهذي يحصل بهم سكرة بعد شربه وإنما شرب الخمر ليس فيه لذة لأن فيه ملوحة وحموضة لا يطيقها من أجل ما بعدها قال الله تعالى (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) واللذة هي: سرور نفسي وإحساس مع سرور بهذا الشرب الذي يشربونه ولذلك فإن الخمر في الآخرة إنما للذة لا للسكرة.
قال الله (مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) وإنما ذكر قوله (مُصَفًّى) لأن العسل -في حال العرب- غالبا ما يشوبه شوبا من بقايا من شمع وغيره خاصة أن العرب يؤتى لهم العسل من خارج مكة من الطائف أو من اليمن أو من غير ذلك فلابد من شيء يتغير فيه.
قال الله (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فنوّع الله لهم من كل الثمرات ليُبين أن لهم نعيما لا منتهى له.
قال الله سبحانه تعالى (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ما مناسبة قوله مغفرة؟
هنا لفته جميلة وهي: كأن الله تعالى يقول هذا النعيم هو لكم ومغفرة من ربكم لا حساب عليه، كأن الله تعالى يقول اشربوا وكلوا وتمتعوا بلا حساب مثل ما قال الله عز وجل لأهل بدر (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) فهنا يقول لأهل الجنة كلوا وأشربوا وتمتعوا فقد غفرت لكم فلا حساب، يعني لا يتخوفون من هذا الذي يشربونه ويطعمونه وإنما يتلذذون فيه ويستمتعون بما أنعم الله عليهم بلا خوف من حساب.
قال الله تعالى (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) انظروا بعد ذلك ذكر حال الكافرين واختصر حالهم أكمن هو خالد في النار -عياذاً بالله- (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا) لاحظوا أنه ذكر هنا شرابهم فقط ولم يذكر طعامهم في مقابل ذكر شراب المؤمنين (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا) والحميم هو: الماء الحار الذي أحمي -عياذاً بالله- (فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) وهي مجاري الماء إلى المعدة فما أعظم هذا الشراب الذي هم يشربونه لا يجدون فيه لذة بل يجدون فيه عذاباً -عياذاً بالله- انظر إلى هذه المقارنة بين حال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا ثم حالهم وجزاؤهم في الآخرة. نقف هنا ونجدد اللقاء في الدرس الثاني.
المجلس الثاني
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴿١٦﴾ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴿١٧﴾ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴿١٨﴾ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴿١٩﴾)
يقول الله عز وجل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) من هم هؤلاء؟ هؤلاء المنافقون وهم جنس آخر من الكافرين بعد أن ذكر الله تعالى حال الكافرين المشركين الذين هم أهل مكة ومن كان على ملتهم من الشرك ذكر الله حال المنافقين ليبين أمرهم وقلة شأنهم وليحط من قدرهم.
قال الله سبحانه وتعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أين يستمعون إليه؟ في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، في المسجد هم يستمعون إليه قال (يَسْتَمِعُ) ولم يقل يسمع، هؤلاء المنافقون يستمعون لماذا يستمعون مع أنهم لا ينتفعون؟ ما الفرق بين السماع والاستماع؟ السماع هو: أن تسمع الشيء غير مبال فيه. يعني أنت مررت بالشارع وسمعت صوتاً. لكن الاستماع كما أنت الآن منصت إليّ تستمع إلى ما أقوله لتعيَه، فهم لماذا يستمع المنافقون مع أنهم لا ينتفعون؟ ليبعدوا عنهم الشك وليبينوا وليظهروا أنهم مهتمين بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم من أحرص الناس عليه، انظروا إلى هذا الوصف وصف من أوصاف المنافقين الظهور بأنهم حريصون على هذا الحديث الذي يقال.
(حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) أي خرجوا بعد مجالسك (قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من هم الذين أوتوا العلم؟ الصحابة المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أجمل وما أعظم هذا الوصف العظيم لأهل مجالس الذكر فإن الله وصفهم بأنهم أهل العلم، أولو العلم إذا كانت هذه شهادة الله لأهل هؤلاء المجالس أصحاب هؤلاء المجالس مجالس الذكر وخصوصاً المجالس التي يُتلى فيها كتاب الله عز وجل ويُبين كمثل هذه المجالس التي نحسبها -بإذن الله- من مجالس الذكر ونرجو الله أن يجعلنا من أهلها وأهل العلم فيها قال الله (قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وصف شرف، وليس فقط هو وصف يعني عابث إنما وصف شرف كأن الله تعالى يقول هؤلاء الذين يستمعون إلى الذكر وينتفعون به، الذين أتوا إلى هذا الذكر يريدون الانتفاع، يريدون الإيمان، يريدون العلم، يريدون العمل، هذه المقاصد إذا تحققت في طالب العلم في مجالس الذكر فإنها بإذن الله وصف له بأن يكون من أهل العلم بما وصفه الله عز وجل، ولا شك أن أعظم وأشرف أهل العلم هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا) ما الذي جعلهم يقولون (مَاذَا قَالَ آنِفًا)؟
إما أن يكون المراد التشكيك وإثارة الشكوك في أفراد المسلمين. مثل لو إنسان جلس إلى مجلس مع إنسان لا يريده ثم ذهب يقول: يا أخي ماذا يقول هذا؟ هذا كلامه صحيح؟ أو نحو هذا، يقلل من شأنه، أو يحاول التشكيك في أمر هذا الكلام. هذا غرض من أغراضهم.
الغرض الثاني الذي يوافق حال المنافقين بكونهم يظهرون الإيمان يعني كأنه يظهر لصحابة رسول الله الصادقين المؤمنين أنهم يريدون الاستفادة القصوى فيقولون ماذا قال قبل قليل في كذا كأنه يتحقق ويتأكد من هذا الصحابي ليظهر له أنه مهتم وليبعد عن نفسه الشك والريبة. هذا احتمال آخر في قولهم ذلك والله أعلم.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) لماذا طبع الله على قلوبهم؟ والله يا إخوان إنه وصف عظيم ووصف ينبغي أن يخاف منه الإنسان وهو أن الإنسان إذا حضر مجالس الذكر لا يريد منها ذكراً ولا يريد منها نفعاً أو بل أشد من ذلك يريد أن يسيء إلى أهلها أو أن يلمزهم هذا من أعظم أسباب طبع الله على قلوب أصحاب أولئك الذي يأتي للذكر لا للذكر وإنما يحارب أهل الذكر أو ليلمزهم. بعض الناس يذهب ليستمع إلى بعض الأشرطة -أشرطة بعض الدعاة- ليتصيد عليهم وينشره ما صادوه فيها والتقطه منها مما يريد به الإساءة لينشره بين الناس انظروا ماذا قال، والله إن هذا لمن أسباب طبع الله على قلوب أولئك، ربما يظهرون النصح ويريدون الخير أو يزعمون أنهم يريدون الخير، لا والله لا يريدون الخير، كيف يريدون الخير؟! من يتتبع أهل العلم والدعوة ويظهر سوءاتهم أو يحاول تأويل أقوالهم بما لم يقولوه، ونسأل الله أن يحمينا وإياكم من أسباب طبع القلوب.
قال (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) لاحظ أن من يفعل ذلك ومن يحضر هذه المجالس كالمنافقين الذين يستمعون إلى مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريدون الذكر ولا الانتفاع ولا الإيمان وإنما يريدوا فقط أن يقال لهم هؤلاء من المسلمين ويحوزوا على ما يحوز المسلمين من حفظ أمنهم وسلامتهم ويجرى عليهم أحكام أهل الإسلام (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ). قال الله عز وجل (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) لاحظوا مقابلة أهل النفاق بأهل الإيمان وهنا وصف أهل الإيمان بوصف اختلف عن وصفهم مع الكافرين لاحظوا أنه قال (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) هؤلاء الذين أتوا لطلب الهداية وأتوا لطلب الانتفاع ما جزاؤهم؟ قال الله (زَادَهُمْ هُدًى) ويُبين هذا -أيها الأخوة- أن الإنسان إذا أتى إلى مجلس أو رغب في حديث ليزداد في هداه، ليحصل على هدى قال الله (زَادَهُمْ هُدًى) أن من أسباب زيادة الهداية وزيادة الإيمان في نفس الإنسان هو أن يأتي الانسان إلى هذه المجالس طالباً الهدى.
قال الله تعالى (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) ما مناسبة هذه الجملة (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)؟
يعني يحفظهم من دخائل الشيطان ومن حظوظ النفس، يعني أن الإنسان إذا أتى صافي النية في هذه المجالس فإن الله يحقق له التقوى سيكون أمره خير وعاقبة هذه الدروس له خير ولا يأتيه من هذه الدروس إلا الإيمان ولا يأتيه منها كِبر أو عُجب أو افتخار أو نحو ذلك. وهذا أيها الأخوة مدخل دقيق قل أن ينتبه له الإنسان، تأملوا أن الإنسان إذا أتى إلى هذه المجالس نيته خالصة فإنه سيُصفّي له كما قال الإمام أحمد "من صفى صُفّي له ومن كَدَّر كُدِّر عليه". أما الذي يأتي ليباهي، ليجاري السفهاء، ليُقال، فإنه سيحصل من شيء من ذلك لكنه سيكون عاقبة له أنه لن يؤتى التقوى في هذا الإيمان، سيحصل له في ذلك كِبر أو عُجب أو نحو ذلك وستكون عاقبته في مثل ما كان في نيته، فأخلصوا النية -أيها الأخوة- في كل ما تطلبونه لله خصوصاً في مجالس الذكر، في طلب العلم، بل حتى في مدارسكم، في جامعاتكم، لتكن نيتكم خالصة فتكون عاقبتكم حسنة بإذن الله.
قال الله تعالى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) هؤلاء المنافقون وهؤلاء الكفار كلاهما جميعاً فهل ينظرون على فعلهم هذا وكفرهم وصدهم واستخفافهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) ما هي أشراطها؟
أشراطها التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم علاماتها ومنها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومنها ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من الأخبار التي بين أنها من علامات الساعة الصغرى أو الكبرى لكن المقصود هنا الصغرى لأنه قال (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) ومن الأشراط التي جاءت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بها علامة، ألا يكفيهم أن يأتيهم من الله هذه العلامة التي جعلها الله من علامات الساعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» فيبين لهم أنه لا حجة لهم فالأشراط قد جاءتهم .
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ) أي الساعة (ذِكْرَاهُمْ) أنى لهم إذا جاءتهم ساعتهم إما بالموت أو الساعة الكبرى بالعذاب أو ساعتهم بالعذاب أو ساعة القيامة أن يتذكروا وينتفعوا، لا يتذكر الإنسان فقد انتهى فيه أجله وانقضى فيه أمره.
قال الله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) من يلتمس مناسبة هذه الآية للآيات التي قبلها؟
ما علاقة قوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مع قوله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ)؟
كأنك تقول أنها تشير إلى موت النبي صلى الله عليه وسلم وأجله، قد يكون ذلك كما كانت سورة النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) هذا معنى لطيف وجميل.
معنى آخر؟ نعم جيد.
لكن نقول: الأمر بالعلم هنا قال (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لما ذكر الله أمر الساعة قوله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون ماذا ينبغي للإنسان وهو ينتظر الساعة؟ يحقق التوحيد أولاً، يخلص لله عز وجل عمله، ويستغفر لله من ذنبه الذي قد قصّر فيه في طاعة الله أو اقترف ما حرم الله عز وجل، هذا الذي ينبغي للإنسان الذي ينتظر الساعة، أما الذي لا ينتظر الساعة فإنه سيكون على حال من الضلال والكفر والنفاق. فكأن الله تعالى يقول لنبيه وللمؤمنين أنتم على الحق فاثبتوا وحققوا هذا المعنى ليكون لكم أمركم عند الله حسناً في الآخرة. ثم في هذه الآيات -أيها الأخوة- بوّب لها البخاري باباً ما هو؟ أخذ منها باباً من أبوابه، نعم قوله (فَاعْلَمْ) باب العلم قبل القول والعمل، العلم قال (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فهنا العلم لا يمكن العمل إلا بعلم صحيح، علم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) تفيد العلم والعمل.
قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فهذه الآية دالة على أن العلم قبل العمل وأن العلم يهدي إلى العمل وأنه لا علم صحيح إلا بعمل، كما قال علي: "هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل". هذا يبين في هذه الآية أيها الأخوة أن العلم لا بد له من عمل.
ثم أيضاً في هذه الآية في قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أن الإنسان مهما عمل ومهما علِم لا يزال في تقصير في حق ربه، مهما حقق لن تستطيع أن تحقق كمال العبودية لله عز وجل لِما فَطر الناس عليه من الخطأ والضعف والذنب "كل ابن آدم خطّاء" فقوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) هو خطاب للنبي وغيره، لكل من قرأ هذه الآية.
(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) وذكر المؤمنات لما كان الأمر متعلق بالواجب في انتظار الساعة وهو الإيمان والتوحيد فذكرهن وخصّهن عناية من الله عز وجل بشأن النساء. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) ما معنى (مُتَقَلَّبَكُمْ)؟ يعني تقلب أحوالكم بين الليل والنهار وأحوال صلاتكم ظهراً وعصراً ومغرباً تقلب الأحوال وتقلب الشرائع فيكم، ويعلم مثواكم (وَمَثْوَاكُمْ) أي مآلكم ومصيركم وعاقبتكم.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) انظروا هذه الآية من الآيات الصريحة على مقصد السورة وأنها في القتال (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) وماذا يُقصد بالسورة؟ يقصدون فيها أحكام القتال، المقصود هنا (لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) وآيات تبين لنا أحكام القتال (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) يكون فيها أمر القتال قال الله (فَإِذَا أُنْزِلَتْ) ما الفرق بين نزلت وأنزلت في كتاب الله عز وجل؟ -مما هو ظاهر غالب ليس مُطرد-. أن التنزيل ظاهر بالتدرج فكأنهم قصدوا بذلك في قول (لَوْلَا نُزِّلَتْ) آيات ليست سورة كاملة فقال (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) وهي سورة كاملة كأن الله عز وجل كأن في هذه الآية نأخذ منها أن هذه السورة سورة محمد أنزلت جملة واحدة إن كان المقصود بقوله (سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) المقصود بها هذه السورة على خلاف بين المفسرين ولكن يظهر أن المقصود بها هذه السورة وأن قول المؤمنين كان قبل نزول هذه السورة، وكأن هذه الآية من أسباب نزول هذه السورة إذ أنه جرى حديث بين المؤمنين والمنافقين فقال المؤمنون لو أنزل الله تعالى أحكام القتال. وهذه السورة متى نزلت؟ هي نزلت والله تعالى أعلم بعد بدر وقبل أُحد. كأنهم لما قاتلوا المشركين في بدر ونصرهم الله تحفزوا إلى القتال قتال المشركين وتطلعوا إلى أن يُنزل الله عز وجل آيات الجهاد وتكليفهم به. هذا واضح في هذه الفترة فإن الإنسان المنتصر يتطلع إلى نصر آخر.
قال الله سبحانه وتعالى (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) ولهذا سميت هذه السورة بسورة القتال, قال المحكمة ماذا يبين؟ ماذا يدل عليه قوله (سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ)؟ أي عازمة للقتال، محكمة هنا يعني موجبة للقتال ومحكمة له، أو أنها محكمة لم يُنسخ منها شيء. إما أن يكون المقصود:
سورة محكمة فيها إيجاب كما قال الله عز وجل (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) تأكيد بأنها مفروضة، فهنا (مُحْكَمَةٌ) موجبة على المؤمنين.
أو أنها محكمة غير منسوخة.
(وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم المنافقون (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) إذ أن المنافقين حين تنزل آيات الجهاد هم لا يريدون الجهاد لأن ذلك يُعرض نفوسهم إلى الهلاك وهم لا يريدون الهلاك هم يريدون مصلحتهم الدنيوية (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ولم يقل المنافقون لأن الأمر الذي حصل منهم بسبب مرض قلوبهم وما في نفوسهم من الأهواء. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) يعني من الخوف يعني خوفاً من هذا الأمر الذي نزل عليهم.
(فَأَوْلَى لَهُمْ) ما معنى (فَأَوْلَى لَهُمْ)؟ إما أن يكون المقصود:
فويل لهم وهنا يؤكده هذا المعنى قطع الآية بالفاصلة (فَأَوْلَى لَهُمْ) أي فويل لهم كما قال الله عز وجل في سورة القيامة (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى).
المعنى الثاني (فَأَوْلَى لَهُمْ) فالأولى لهم أن يطيعوا أن يقولوا طاعة . أما المعنى الأول فهو ويل لهم.
قال (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) على المعنى الأول أن طاعتهم وقولهم معروف أصلاً لا حاجة إلى أن يقولوا ما يقولوا (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعتهم معروفة لن يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم معروف ماذا سيقولون.
والمعنى الثاني الأولى لهم أن يطيعوا ويقولوا قولاً معروفاً.
(فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جاء الجد في الأمر بالجهاد ونودي الجهاد (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ) وما معنى صدقهم لله عز وجل؟ هو امتثالهم لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وانقيادهم لهذا الأمر وامتثالهم له.
(لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) وفي هذه في الآية قاعدة عظيمة من قواعد القرآن أن من صدق الله في أي أمر من الأمور كان أمره خير وعاقبته خير. (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) فإن كل من صدق الله عز وجل فإن الله سيصدقه:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)
وقوله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)
فهنا قاعدة أيها الأخوة ليجعلها الإنسان أمام ناظريه وهو في هذه الحياة يتعامل مع ربه أنه كلما صدق الله في أي أمر من الأمور فيعلم أن الله تعالى وعده بالخير (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
قال الله (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) أي المنافقون (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) هم كأنهم إنما تعذروا عن الجهاد لماذا؟ هنا هم لا يريدون أن يواجهوا المشركين لأن هؤلاء المشركين بينهم وبين المشركين ود،ّ لا يريدون أن يواجهونهم فيقطعون هذا الوصل الذي بينهم وبين الكافرين فقال الله عز وجل (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وتراجعتم (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) أي أن توليكم هذا سبب للإفساد في الأرض لماذا؟ لأنهم بتراجعهم قد يجترئ الكفار على المسلمين وتضعف فئة المسلمين كما فعلوا في أُحد حينما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّ عبد الله بن أُبيّ ومن معه وكان قدرهم ثلث الجيش، وهذا الحقيقة سيؤثر في نفوس المسلمين وعزمهم وسيُربك أمر الجيش إلا أن ذلك أمر يمنعه -بإذن الله- صدق المؤمنين وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقينهم بالله. قال الله (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) لا شك أن التولي عن القتال إفساد في الأرض لأن ذلك يجرئ الكافرين على المسلمين ويضعف فئة المسلمين.
قال (وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) والمقصود بالأرحام هنا: المسلمين، أن هذا الذي ستؤولون إليه من الارتداد سيؤول إلى قطيعة الأرحام بينكم وبين المسلمين إما بأنكم تتسببون في أمر يضر المسلمين، أو أنكم بعد ذلك يكون الخلاف بينكم وبينهم وتكونوا قد قطعتم الأرحام ومن الأرحام رسول الله صلى الله عليه وسلم في طاعته.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أن من ارتدّ عن دين الله وعن أمر الله استحق لعنة الله -عياذاً بالله- والله يا إخواني لهذه الآية عظيمة لمن تأملها وتدبرها إذا كان الارتداد عن دين الله والتخلي عن الأمر بالجهاد سبب للعنة الله، والله إن هو لأمر فظيع لو تنبه لها المسلمون. واليوم يا إخواني المسلمون اليوم يُنادون بأمر الجهاد والوقوف في صف إخوانهم دعوة ودعاء ودعماً وتجد من المسلمين من لا يأبه، لا يبالي وكأن الأمر لا يعنيه ولا يفكر في حال أمر المسلمين فضلاً عن أن يقدم ولو أمراً يسيراً ربما الدعاء لا يدعو، ربما الهمّ لا يحمله ولا يفكر فيه، ربما يرى هذه الفظائع والجرائم ولا تحرك فيه ساكناً ينام ليله ويقوم نهاره ويعبث ويلهو وكأن الأمر لا يعنيه، والله إن هذا -أيها الأخوة- ليُخشى عليه من أن ينال غضب الله عز وجل لأنه لم يحرك فيه ساكناً «المسلم أخو المسلم لا يسلبه ولا يظلمه ولا يخذله»، «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد» فإذا لم يكن هذا الأمر مُحركاً لنا أيها الأخوة فما الذي يحركنا؟! هذا الذي يُبين الصدق -أيها الأخوة- والعزم على نصر دين الله بما يستطيعه الإنسان. نحن لا نقول لمن لا يستطيع حمل السلاح احمل السلاح، أنت بما تستطيعه وأقلّ ما تستطيعه الهمّ والدعاء لإخوانك. قال الله عز وجل (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) عياذاً بالله.
ثم قال الله (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ما أجمل وأعظم وأبلغ هذه الآية ومناسبتها في هذه السورة وهذه الآيات أي أن هذه الآية واردة في الحضّ على القتال وتحفيز نفوس المؤمنين، إذا لم تتحفز نفوس المؤمنين بمثل هذه الآيات ولا يتغير أمر الإنسان في نفسه وهو يقرأ هذه الآيات أين هو عن كتاب الله؟! أفلا يتدبر القرآن الذي يقرأ قول الله عز وجل (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ويقرأ قول الله عز وجل (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) ويقرأ قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) أين القلوب الحية من هذه الحياة من هذه الآيات أفلا تتحرك وتنهض وتستيقظ لمنادي الله عز وجل ولهذا قال الله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) كأن الله تعالى يقول الذي يقرأ هذه السورة ولا يحرك فيه ساكناً لا فائدة فيه على قلبه قفل، ولم يقل قفل (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) قفل الغفلة، وقفل الخوف والوهن، وقفل طمع الدنيا والتعلق بها وحبها وطول الأمل، كل هذه الأقفال عن تحرك الإنسان إلى أن يقوم إلى الجهاد في سبيل الله ويبذل نفسه فيما يستطيع من نصرة دين الله ونصرة أوليائه. قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) هذه الآيات هدى -يا إخواني- بيّنات محكمات، الذي لا ينفعه تلك الآيات والله ليس فيه خير وليس فيه نفع لذلك قال (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) بعد هذا البيان وبعد هذا التفصيل وهذا الهدى بعد ما تبين له الهدى (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ) ماذا سول لهم؟ خوّفهم وأطمعهم في الدنيا وأوقع الوهن في نفوسهم وأملى لهم في الدنيا بأنكم السلامة خير لكم، والراحة خير لكم من أن تعرضوا أنفسكم، انظروا الشيطان كيف يُزين للإنسان فيُوهنه، فيُقعده. تصوروا يا إخواني لو نادى منادي الجهاد الله المستعان كيف يكون حالنا؟ لو نادى منادي الجهاد الشرعي الصحيح ماذا يكون حالنا؟ اسأل نفسك هذا السؤال وقف مع هذه الآيات هل أنت مستعد أم تقول والله أنا ما أستطيع، أنا منشغل بأعمالي، أنا منشغل بأموالي، أنا منشغل بأهلي وأولادي كيف أفعل الجهاد له أهله. هكذا أيها الأخوة تُبلى القلوب وتُمتحن فإذا كان عندك صدق ويقين ونصرة واستعداد فستنهض ولن تلتفت إلى شيء من تلك الدنيا الفانية لأن أمام أمر الله وأمام جهاد في سبيل الله وأمام نصرة دين الله وأمام حظ عظيم لك في الدنيا وفي الآخرة بالنصر والتمكين أو الفوز والشهادة والمقام العظيم عند الله.
قال الله سبحانه وتعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) كأن الله تعالى يقول هنا ما الذي منع الكافرين ما الذي منع المنافقين من الجهاد قال (بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ) أي الكافرين المشركين (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ما هو بعض الأمر الذي سيطيعونهم فيه ما هو بعض الأمر؟ إما أن يكون (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) يعني في الكفر، سنطيعكم في الكفر ونخفي هذا الكفر في نفوسنا أو (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) فيما يتعلق بشأن المسلمين وتوهينهم وتشكيكهم أو نحو ذلك.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) وفي قراءة (أَسْرَارَهُمْ) إسرارهم: ما يكون في نفوسهم من الرغبة إلى الكافرين والطمع فيما عندهم، أو طاعتهم، أو كُره ما أنزل الله أو كُره المؤمنين فإن الله يعلم إسرارهم وهذا يبين أن الله سيكشف أمرهم فضيحة لهم.
قال الله (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) ما مناسبة هذه الآية؟ مناسبتها: أنهم لما ارتدوا عن الجهاد في سبيل الله الذي فيه كر وفر وفيه ضرب وصولة وجولة ذكر الله تعالى حالهم في الآخرة أو عند الموت وأنهم سيصيروا إلى هذا الأمر وسيواجهون ما قد يواجهونه ويخافون منه في القتال قال الله (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) تصويراً لمن يضرب في القتال (وَأَدْبَارَهُمْ) تصويراً لمن يفر، يعني كأنه يقول الموت حاصل لكم حاصل لن تفروا وأنكم مقبلون على خوف من الموت أشد مما تخافون منه الآن.
قال الله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ) وما هو الذي أسخط الله؟ أسخط الله عز وجل نفاقهم وطاعتهم للكافرين واستهزاءهم بالمؤمنين وعدم صدقهم وغير ذلك.
(وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ) يعني كرهوا ما يرضي الله عز وجل من الجهاد والدعوة إليه والإيمان ونحو ذلك، قال الله (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) وهذا يبين أن من سخِط ما أنزل الله عليه وكرهه فإن ذلك سبب لحبوط أعماله.
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هؤلاء المنافقين (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) أي ما في قلوبهم من الضغن والحقد على المؤمنين وعلى أهل الإيمان، أيحسبون أن الله لن يخرجهم.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ) يعني لو نشاء لعرفناك أسماءهم وأوصافهم وأعيانهم كأن في هذه الآية بيان أن الله عز وجل سيخبر نبيه بالمنافقين، وهل اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المنافقين؟ فيه خلاف، هل أطلع الله تعالى نبيه على أعيانهم بأنه يعرف أن هذا منافق؟ يقول أنس: أنه ما نزلت هذه الآية إلا وقد علِم النبي صلى الله عليه وسلم أعيان المنافقين بأسمائهم ولكنه لم يخبر به أحداً إنما أخبر بعضاً منهم حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه معنى آخر أو قول آخر: أن الله عز وجل لم يُطلع نبيه إلا على طائفة منهم.
قال (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) يعني تعرفهم بالسيمة وهي العلامة، علامات تعرفهم بها إما في وجوههم أو في أقوالهم أو في أحوالهم. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) يعني هذا أمر ظاهر وواقع (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) يعني ستعرفهم بلحن أقوالهم ولحن القول ما هو؟ لحن القول هو -سلمكم الله- الإنسان يتكلم بأمر وهو يريد غيره يوهم الآخر أنه يريد ذلك وهو لا يريده والذي معه يعرف أن كلامه ذلك غير صحيح فهو لحن القول الذي يظهر به الانسان خلاف ما يبطن.
قال الله تعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فالمؤمن يعرف لحن القول، ومن يؤتيه الله فراسة يعرف ولذلك عثمان رضي الله عنه يقول: "ما أسرّ عبد سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه". سبحان الله الإنسان يا إخواني مهما أبطن فسيظهر في وجهه، ولذلك أصحاب المعاصي يظهر على وجوههم معاصيهم، أصحاب الشهوات تظهر لهم معالم أصحاب الشهوات، الشبهات تظهر لهم معالم مختلفة، وغير ذلك، وأهل الإيمان يظهر لهم النور في بيانهم وكلامهم من الخير والهدى وغير ذلك.
قال الله تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) والخطاب هنا للمؤمنين وللمنافقين يعلم أعمالكم ما أنتم فيه.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) هنا الخطاب للمؤمنين والمنافقين كأنه لعلهم يتوبون، لعلهم يؤبون بعد هذه النصيحة وبعد هذا البيان وهو خطاب للمؤمنين (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بماذا؟ بالجهاد، (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) والصادقين أيضاً أي الصادقين المؤمنين والصابرين ونبلو المنافين أيضاً. قال الله تعالى (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) ما معنى نبلو أخباركم؟ نمتحن أعمالكم، نمتحن ماذا تكونون عليه؟ وماذا سيؤول أمركم وحالكم.
قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) قيل أن هذه الآية -أيها الأخوة- في المنافقين، وقيل أنها عودٌ على حال الكافرين في أول السورة حتى يعود أول السورة على آخرها فيكون الحديث في الكافرين، وقيل أنها آية يُراد بها أهل الكتاب الكافرين لأن الله يقول (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي من أهل الكتاب (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) خالفوه هم شاقوا الرسول وخالفوه (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) مما أنزله الله الهدى الذي عندهم في كتبهم (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) هذه في طائفة ثالثة وهم أهل الكتاب.
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) عودٌ على المؤمنين فالسورة فيها خطاب للمؤمنين وعن الكافرين، أطيعوا الله ورسوله ومن طاعته اتباع أمره والجهاد في سبيله إذا نادى مناديه.
قال الله (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) كيف يكون إبطال العمل؟ إما إبطال العمل بالرياء والنفاق وغير ذلك، وإما أن هذه الآية تبين معنى آخر قلّ أن ينتبه له القارئ وهو أن إبطال العمل يعني انقطاع العمل، كأن الله يقول أطيعوا وأطيعوا الرسول واستمروا على ذلك لا تنقطعوا أكثروا من النوافل، أكثروا من الصلاة، أكثروا من الأعمال فلا تبطلوا يعني تقطعوا، ففسروا هنا البطلان بالقطع.
قال الله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) هنا في بيان حال الكافرين عند الموت فإن الله تعالى لن يغفر لهم تيئيساً لهم.
ثم قال الله للمؤمنين (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) لاحظ أن هذه الآية تختلف عن آية الأنفال (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) هنا قال (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) لماذا؟ لأن حال المؤمنين هنا في حال قوة، هم بعد بدر فلا تسالموهم ما دمتم في قوة وفي تمكّن لأن السِلْم في حال القوة ماذا يؤدي بالمسلمين؟ إلى الوهن وإلى الانشغال بالدنيا أما في حالة الضعف الذي لا يستطيعون فيه مواجهة الكافرين فلا بأس وعليه تنطبق الآية في قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) وهذا ما يبين أحكام السلم والحرب وهو قد فصّله العلماء مشايخ الإسلام رحمهم الله تعالى فيكفي بياناً كافياً وافياً لمن أراد أن يرجع إليه.
قال الله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) هذا مما يبين أنهم في حال عُلو وهو الحال الذي كانوا فيه بعد بدر (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) أي ما دمتم في نصرة دين الله فالله معكم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) يعني لن يبخسكم أعمالكم سيهبكم أعمالكم وأجوركم كاملة ومن ذلك نصركم وعاقبة أمركم الحسنة.
ثم قال الله تعالى (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) هنا فيه بيان سبب من أسباب التي تمنع المؤمنين من القيام بالجهاد وهي الحياة الدنيا والانشغال بها، فالله تعالى هنا كما أنه يحفزهم فينبههم ويحذرهم من الأسباب التي توهنهم عن القتال وهي تعلّقُهم بالدنيا فقال (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وما الفرق بين اللعب واللهو؟ اللعب هو: الذي لا هدف فيه كمثل لعب الأطفال. واللهو هو: الذي يكون بعد عمل عندما يرتاح الإنسان يلهو يجدد طاقته لكن إذا استمرأ فيه فهو مذموم في ذلك. قال الله تعالى (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ) أي لا فائدة فيه أو لهو يشغلكم عن الجد والعمل والقيام بالأمر. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) تحققوا الإيمان والتقوى باليقين ونصرة دين الله عز وجل والتحفيز الصادق لنصرة دين الله (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) أي أن الله عز وجل هنا يقول إنما يبعثكم الجهاد لا لتبذلوا الأموال وإنما لسلامتكم أنتم ومصلحتكم أنتم فقوله (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) يعني لا يسألكم أموالكم كلها ليفنيها لكم وإنما يسألكم الأموال للإنفاق في سبيل الله ليبقيكم بها فهو حظ لكم وليقيم بها دين الله عز وجل فقوله (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) أي لا يسألكم الله عز وجل أن تنفقوا الأموال كلها في سبيل الله عز وجل وإنما أنفقوا ما استطعتم وما أمكنكم (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا) كلها في سبيل الله (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا)، (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ) أي يُلحح عليكم ويُلزمكم بذلك، الإلحاف هو: الإلزام والإلحاح بالشيء يلحفكم عليها فتبخلوا. ولا شك أن الإنسان بطبيعته أيها الإخوة إذا طُلب وألح كره ذلك حتى وإن كان في أمر خير، يعني أنت أتيت إلى شخص وقلت أخي أنفق في سبيل الله، ابذل، يا أخي هذا مال الله، يا أخي هذا في سبيل الله والمؤسسة الخيرية...الخ وتكرهه فإنه سيبخل أو سيعطيك عطاء بكره فالله تعالى لا يريد ذلك.
قال الله تعالى (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) يخرج ما في قلوبكم من كره الإنفاق أو الحرص على المال.
قال الله (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعني هي دعوة لكم أنفقوا في سبيل الله، فكأن الآية هنا ختم الله السورة بعد حض المسلمين على الجهاد قال (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) الذي يبخل سيكون مآله على نفسه لأنك لبخلك سيؤدي ذلك إلى قتل، هزيمة، أو إلى عاقبة سيئة لك والله عز وجل يفتنك بهذا المال (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) والله عز وجل لا يسألكم الأموال لنفسه فهو غني سبحانه وتعالى وإنما ليُبقي دينكم ويُظهر عزكم ومقامكم ويبقي ما أنتم فيه من نعمة (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) فأنفقوا في سبيل الله يؤتكم خيرا مما أخذ منكم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أي تتولوا عن الجهاد، تبخلوا بالمال وتتولوا عن الجهاد (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) الصحابة حينما أنزل الله هذه الآية ماذا قالوا؟ قالوا: يا رسول الله ومن يستبدل بنا؟ يعني هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظنون أن لا أحداً يستبدله الله بهم فقالوا: من يستبدل الله بنا؟ فكان بجواره سلمان فضرب على فخذه قال: «هذا وقومه». أي أن الله عز وجل إذا انكفأ العرب وارتدوا عن الإسلام فإن الله سينصره بقوم آخرين من العجم والفرس. كأن المفسرون أو بعض المفسرين استنبط في هذا أن أهل الفرس أن فارس إذا آمنت لا ترتد لقوة بأسها وهذا التماس من هذه الآية. ثم قال (لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أي لا يكونوا أمثالكم في الضعف والهون والخوف والارتداد.
وهذا أيها الأخوة نختم السورة بأن الله عز وجل في هذه السورة يحضنا ويحفز نفوسنا إلى القيام بأمر الله والجهاد في سبيل الله بما نستطيع والبذل من أموالنا بما أمكننا في سبيل الله عز وجل فإننا إن تخلينا عن ذلك فإنه سيأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
يا إخواني لا نتقاعس، لا نضعف، لا نوهن، فيستبدل الله بنا قوماً آخرين، فليس بيننا وبين الله نسب ولا حسب والله إن ارتددنا بضعفنا ووهننا وتعلقنا بالدنيا وتركنا نصرة الله ودينه وأوليائه، والله سيأتي أناس ينصرونه وينصرون دينه وأوليائه فنحن أولى يا إخواني أن يكون لنا في ذلك القيام بأمر الله بما مكننا الله في هذه البلاد، وما أعطنا الله من النعمة، وما منحنا الله من الفضل.
نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أنصار دينه، وأن يوقظ في قلوبنا الغيرة لدينه ونصرة دينه، وأن يجعلنا من المجاهدين في سبيله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
المصدر / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
١- (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )[آل عمران:١٤٤]
٢- (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) [الأحزاب:٤٠]
٣- (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) [محمد:٢]
٤- (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا....) [الفتح:٢٩]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق