الأحد، 3 مارس 2013

تحري الإخلاص في تدبر سورة الاخلاص

د. عائشة القرني

 بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }.
 1- في معنى قوله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أي قل قولاً جازماً به معتقداً له عارفاً بمعناه : (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وهذه الكلمة هي حقيقة الإسلام ، و "قل" تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم ، وخطابٌ من الله عز وجل يأمره فيه بوصفِه سبحانه بأكمل الصفات، وأبلغ العبارات .
 2- في الآية : أن من أهم أبواب الدعوة إلى الله : تعريف الناس بالتوحيد .
 3- ( الأحد ) هو المنفرد بالكمال الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، ولفظ "أحد" أدق من لفظ "واحد" فهو لا شيء غيره ولا أحد سواه ، فهو المتفرد بالألوهية فلا يستحق العبادة سواه ، وهو المتفرد بالربوبية فلا يخلق ولا يرزق إلا هو جل وعلا، وهو الواحد في أسمائه وصفاته فليس كمثله شيء .
 4- إن الاعتقاد الجازم بهذه الآية يثمر خلوص القلب من كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير الواحد الأحد ، الذي لا يشاركه شيء من خلقه لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه، ولا في أحكامه وتدبيره ، فهو جل وعلا واحد لا مثيل له ولا نظير .
 5- { اللَّهُ الصَّمَدُ } أي : المقصود في جميع الحوائج ، فالصمد مأخوذ من المصمود ، ومعناه : المقصود ، فهو المقصود وحده جل في علاه ، يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم فالخلق كلهم مفتقرون إليه ، لا يُقضى أمر إلا بإذنه ، وهو السيد الذي قد كمل في سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والعليم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل في حكمه. 6- إن صفة الصمدية التي وصف الله بها نفسه كفت الإنسان اللجوء لغيره والاحتياج لسواه، فإذا كان كذلك ، فلماذا يلجأ الإنسان لغير الله تعالى في طلب الحاجات؟ أو التعلق بغيره في الملمات ، ولا يعني هذا أن لا يتخذ العبد من الأسباب في الدنيا ما يتحصلُ به على المطلوب ، ولكن لا ينبغي تعلق القلب بها ، أو الاعتماد على هذه الأسباب في جلب نتائجها .
 7- إذا أيقنت أن الله قاضي حاجاتك ، وأنه المقصود في الرغائب ، المستغاث به عند المصائب ، الذي يسد حاجة من صدق في اللجوء إليه ، الذي يرزق في العاجل والآجل ، الذي يشفي من الأسقام والأمراض ، فإنك تلجأ إليه ، وينطرح قلبك بين يديه ، فالعبد الذي تعرف على ربه الصمد قد أشرق في قلبه معرفة إلهه ومولاه ، فأثمرت تلك المعرفة إيماناً كاملاً ويقيناً صادقاً .
 8- في قوله تعالى : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } حقيقة ثابتة أبدية أزلية صفتها الكمال المطلق في جميع الأحوال ، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، والله عز وجل لا يورث ولا يموت.
 9- في الآية قدَّم قوله : { لَمْ يَلِدْ } على قوله: { وَلَمْ يُولَدْ } وذلك لأن المشركين ادعوا أن له ولداً، سبحانه وتعالى عما يصفون ، فمشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله ، واليهود قالت : عزير ابن الله ، والنصارى قالت : المسيح ابن الله ، ولم يدّعِ أحد أن له والداً ، فلهذا بدأ بالأهم فقال : { لَمْ يَلِدْ } ثم أشار إلى الحجة فقال: { وَلَمْ يُولَدْ }.
 10- في قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } نفي الشبيه والنظير لا في أسمائه ولا في أوصافه ولا في أفعاله تبارك وتعالى , ولا في خلقه، ولا في تدبيره، ولا في حكمته، ولا في مشيئته، ولا في علمه، ولا في ألوهيته ولا ربوبيته، ولا في أي شيء من صفاته وأسمائه، بل له الكمال المطلق فهو مالك كل شي وخالقه ، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه تعالى وتقدس وتنزه .
 11- إن من أعظم قضايا التوحيد الإيمان بصفات الله جل وعلا‏ ، ‏فالإيمان بصفات الله سبحانه وتعالى هو أكبر قضية من قضايا العبادة والإيمان ، وهذه السورة تشتمل على صفة الله تبارك وتعالى كما جاء في الحديث‏ :‏ أن‏ ‏{ قل هو الله أحد‏ }‏ تعدل ثلث القرآن، وليس فيها إلا صفة الله سبحانه وتعالى‏ ، وهل الإيمان إلا امتلاء القلب بنور صفات الله وإشراقه بمعرفة إلهه ومولاه‏؟‏‏!‏.
 12- هذه السورة تضمنت إثبات الكمال لله جل وعلا ونفي النقائص عنه ، قال تعالى :{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ، وقال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . وهذا هو مدار توحيد الأسماء والصفات ، فتوحيد الأسماء والصفات أن يُثبت العبد الكمال لله، وأن ينفي النقص عن الله جل وعلا . 
فقوله سبحانه : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } فيه إثبات الكمال لله
وقوله سبحانه : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فيه نفي النقائص والعيوب عن الله جل وعلا .
 13- هذه السورة مشتملة على عقيدة التوحيد ، ولهذا لابد أن يكون لهذه السورة أثر في قلب قارئها ، وذلك باستشعار عظمة الله كما يليق بجلاله وعلو شأنه وذاته ، فالقلب إذا خلص واستشعر ذلك تحرر من جميع القيود ، وتحرر من الرغبة في غير الله ومن الرهبة من غيره، وهذا هو منهج عبادة الله وحده ،ومنهج الاتجاه إليه وحده في الرغبة والرهبة ، في السراء والضراء ، في النعماء والبأساء .
 14- إن استشعار القلب لوحدانية الله يخلصه من التعلق بالخلق ، ومن الخوف منهم ، ومن الرجاء لهم ، ومن هنا ينبثق منهج كامل للحياة قائم على ذلك المنهج .
 15- إذا استقر هذا الشعور في قلب العبد أثناء قراءة هذه السورة وغيرها من السور التي تصور هذه الحقيقة ، فستصحبه هذه الحقيقة ليصل القلب إلى درجة اليقين بالواحد الأحد والتعلق به والتوكل عليه والمحبة له وهذا هو تحقيق معنى لاإله إلا الله .
 16- استحضار كل ذلك يسكب في قلب العبد الطمأنينة ، ويجعله يعرف الملجأ الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه المؤثرات والأسباب الظاهرة ، ويرد الأمر إلى مشيئة الله وحده .
 17- في هذه السورة منهج للتحرك والعمل لله وحده ابتغاء وجهه ، فالله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان يقصد به وجهه خالصًا، فالرياء وحب السمعة تفسد العمل الصالح ، والإخلاص هو الأرضية التي ينبني عليها كل عمل ، وقد سميت هذه السورة بالإخلاص لأنها تُخلِّص صاحبها من الشرك الأكبر والأصغر .
 18- على المسلم أن يتحرَّى الإخلاص في كل أعماله، ويكون ذلك قبل البدء في العمل وأثناء العمل وبعده، فأما قبل العمل، فإنه يبحث في نيته هل يقصد من هذا العمل رضا الله فحسب، أم أنه يبتغي منه - فضلاً عن ذلك - مدح الناس والثناء عليه، فإذا وجد خللاً في نيته، فلا يصرفه ذلك عن الإقبال على عمله، وإنما عليه أن يصحح نيته ويجعلها لله تعالى وحده ، ويجتهد في تحقيق ذلك ، فالعمل الذي يشوبه الرياء أو عدم الإخلاص مردودٌ على صاحبه .
 19- في هذه السورة منهج للتلقي عن الله وحده ، تلقي العقيدة والقيم والشرائع والقوانين ، فكما تبدو صورة التوحيد الخالص في هذه السورة فلابد أن يكون لها آثار في حياة المسلم ، فالانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل , والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص ، ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .
 20- في السورة تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب ، فعندما نقرأ تلك السورة لابد من استحضار أنها ليست كلمات تُحفظ أو ألفاظاً تُقرأ وتُجود فحسب ، وإنما هي عقيدة تستقر في القلب تصور هذه المعاني بتعمقها للحياة كلها وقيام الحياة على أساسها .
 21- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما ، وقرأ فيهما ، " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها . وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِىِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَاحِلَتَهُ فِى غَزْوَةٍ، إِذْ قَالَ : يَا عُقْبَةُ قُلْ فَاسْتَمَعْتُ ثُمَّ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ قُلْ». فَاسْتَمَعْتُ فَقَالَهَا الثَّالِثَة َ، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ ؟ فَقَالَ: «(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)». فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ». رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم‏:‏ 7950

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق