الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على أشرف خلقه وسيد رسله وبعد :
فنستعين الله -جل وعلا- في هذه الدروس المباركة في هذا الجامع المبارك ، وقد بيّنا مرارآ أن دروس هذا العام تُعنى بالمفردات المتقابلة أو المتضادة في القرآن ، و عنوان درس الليلة (الذكر والأنثى) وسنتدارس هاتين اللفظنين في لقاءين متتابعين إن شاء الله تعالى .
ونبدأ بقول الله -عز وجل- (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) فالخالق الله ، وقال ربنا هنا : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) أي إذا تُراق ، و لهذا سميت مِنى بهذا الإسم لأن الدماء تُراق فيها ، و يُنحر فيها الهدي ، قول الله : (مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) جاء مُبَيّنَا في السنة ، فقد ذكر ثوبان -رضي الله عنه و أرضاه- صحابي جليل قال : كنت عند رسول الله -صلى الله عليه و سلم- فجاءه حبرٌ من أحبار يهود ، والحبر: العالم الجليل الذي يبقى أثر علمه في الناس كما يبقى الحبر في الورق له أثر فكذلك العالم إذا كان له أثرٌ في الناس يٌسمى حَبر ، قال ثوبان رضي الله عنه و أرضاه : جاء حَبرٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يسأله في أول الحديث هذا الحبر يسأل عن أمور عدة ، سأل عن أين يكون الناس يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ، فقراء المهاجرين ،هذا كله لا علاقة له بما نحن فيه إلى أن قال : (يا أبا القاسم بقي شيء لا يعلمه إلا نبي أو رجل أو رجلان ، فقال عليه الصلاة والسلام : ينفعك حديث إن حدثتك به؟ -يُريد منه صلى الله عليه و سلم أن يُؤمن- فقال الحبر : أسمع بأذُنيّ) ولم يلتزم بأن يقول أنتفع ، يريد أن يخرج من المحاورة أن لا تقوم عليه حُجة ديانة وقضاءَ ، ولكن الحُجةُ قائمةً عليه لأنه يعلم، (فقال -صلى الله عليه و سلم- وهو يَنْكُت الأرض بعود في يده : سل ، فقال الحبر : جئت أسألك عن الولد ؟ فقال -صلى الله عليه و سلم- : ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر ، فإذا علا ماءُ الرجل ماءَ المرأة أذكرَا بإذن الله -أي كان المولود ذكرا- ، وإذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل آنثَا بإذن الله -أي كان المولود أنثى- ، فقال الحَبر : صدقت وإنك لنبي وانصرف و لم يؤمن) .. ماذا يُقال ؟ الهداية بيد الله .
والله هناك من يؤمن ولا يُحسن أن يكتب اسمه ، وهناك من يحمل أعلى الشهادات ولم يدخل الإيمان قلبه ، اللهم ثبتنا على الهدى آمين.
قال : (فانصرف ، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : والله لقد سألني هذا عما سألني عنه وما ليَ به من علم إلا أن الله أخبرني بها الساعة) .
هذا الحَبر يعلم أن مثل هذا العلم لا يمكن أن يُعلم ويُدرك إلا بوحي ، فلما أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحَبرَ علِم الحبرُ أن هذا النبي يُوحى إليه ، أن هذا محمدا، أن هذا الرجل ، أن أبا القاسم في ظنه يوُحى إليه ، ومادام يُوحى إليه فهو قطعا نبي ، فخرج من عنده . هذا أصل المسألة .
/ قال الله -عز وجل- عن امرأة عمران (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقد فسرنا هذا في لقاءات عدة لكنا الآن نأخذ أصل المسألة (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي) تعتذر إلى الله (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) ثم قال (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) ما معنى و ليس الذكر كالأنثى ؟
أول المعاني : ليس الأنثى التي وُهبت ورُزِقت كالذكر الذي طلبت ورغبت ، أول ما فوجئت به امرأة عمران كانت تزمع ، تعقد العزم على أن يكون المولود، تظن أن المولود سيكون ذكرآ فيخدم في بيت المقدس ، وتعلم أن هناك خصائص للأنثى ، وخصائص للذكر، ولايمكن لأحدهما أن يقوم مقام الآخر ، فالآية لا تعني التفضيل إنما التفضيل يُعرف من آيات أُخر ، لكن الآية تعني أنه لا يمكن أن تكون خصائص الذكر مثل خصائص الأنثى ، لكن في أصل مقام التكليف وفي الثواب والعقاب الأمر واحد ، قال رب العالمين (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) وقد دلت الآية أول ما دلت على أنه لابد من الجمع ما بين الإيمان والعمل الصالح ، وقول الله -عز وجل- (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) وإن من لم يُنقِص من الثواب أولى من أن يزيد في العقاب ، فالله لا يُكلّف أحدا ، لا يكتب على أحدٍ سيئةً لم يفعلها ، ولا يُنقص أجر أحدٍ كائن من كان ، وقد قال وهو أصدق القائلين (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) هذا تأصيل للمسألة في مسألة الذكر و الأنثى .
إلا أن الله -جل وعلا- هو الخالق وقد جعل في الرجل خصائص تفوق الأنثى ، قال ربنا (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء) وهذه القوامة يترتب عليها أمور من أجلّها ، من أوضحها، من أظهرها بيانا أنه يجوز للرجل المسلم أن ينكح المرأة الكتابية يهودية كانت أونصرانية ، ولا يجوز للمرأة المسلمة أن تنكح الكافر كتابيا أو غير كتابي لأن المسألة في أصلها لما يتزوج المؤمن يهودية أو نصرانية فالولاية في المنزل في البيت ، في الدار ، في حياة الزوجية للرجل ، فهي للمؤمن الذي هو الرجل على الكافرة ، لكن لو قدّرنا أن الشرع جاء -ولم يأتِ بهذا- لو أن الشرع جاء بأنه يجوز للمرأة المسلمة أن تنكح يهوديا أو نصرانيا كما جاز للرجل لأصبحت الولاية لليهودي أو للنصراني على المسلمة ، وهذا أصلا لا ينبغي أن يكون والله -جل وعلا- يقول (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) فالأصل أن لا تُجعل الولاية للكافر على المسلم خاصة الولايات المباشرة ، وقد قال العلماء أن علي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وهو يجمع مهر فاطمة ، يجمع ليبني بفاطمة -رضي الله عنها وأرضاها- عمل عند يهودي لكن العمل عندهم ينبغي أن لا يكون عملا مباشرا ، تفصيل ذلك: يجوز أن يعمل في مزرعة ، في مصنع يملكه نصراني ، يملكه يهودي إذا كان هذا العمل مباحا ، كما كان علي -رضي الله عنه- يعمل عند ذلكم اليهودي في بستان له ، لكن الذي لا يجوز أن تكون الخدمة خدمة مباشرة ليهودي أو نصراني ، فرق ما بين الضيافة وفرق ما بين الخدمة المباشرة لشخصه لبدنه لنفسه ، هذا ينبغي أن يحتاط المؤمن فلا يصنعها .
فقال الله -جل وعلا- هنا (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) وقلنا قال الله هنا (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) إذا تحرر هذا أهل العلم يقولون أن هناك في التكليف فيما دل الشرع عليه من حيث الجملة أن هناك فوارق خمسة جُعلت فيها المرأة على النصف من الرجل وأولها وأظهرها الميراث ، قال الله -عز وجل- (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) لكن ينبغي أن يُعلم هذا الأمر ليس على إطلاقه ، بمعنى لا يُقال على الإطلاق الأنثى على النصف من الرجل إذا اجتمعا ، إنما إذا كانوا في منزلة واحدة كلهم أولاد للمتوفى هنا يكون الرجل له نصيب المرأتين ، إن كانوا إخوة في منزلة واحدة يكون الرجل له نصيب الأختين ، لكن أحيانا قد يجتمع رجل ولا ينال شيئا كما تكون هناك إبنة وورثة آخرون وهناك ابن عم وابن العم رجل لكنه لا يرث والإبنة ترث واضح ، فليس الأمر عندما يُقال يُحكى على إطلاقه .
وقد جاء بعض من -عياذا بالله فيهم من الجرأة على الله مافيه- يرُدُ مثل هذا القول يعني يرد أن يقال كيف الاسلام يأتي بأن للذكر مثل حظ الأنثيين ، لما ذكر العلماء -رحمهم الله أحياءً وأمواتا- هذا قالوا : إن مال الرجل مُترَقّبٌ فيه النقص ومال المرأة مُترقّبٌ فيه الزيادة ، ما معنى أن مال الرجل مُترقّبٌ فيه النقص ؟ لأن الرجل مُكلف بالإنفاق هو يعول من تحته ، يأتيه الأضياف يكرمهم، فماله مُترقّبٌ فيه النقص فإيثاره على مال من يُترقّب فيه مالها الزيادة هذا مقتضى الحكمة وبه جاء الدين ، أما المرأة فهي لا تُكلّف بالنفقة ، لا تُكلَف بأن تنفق ، ولا يوجد امرأة -في الغالب- يأتيها الأضياف وإنما يأتيها المهر ويصبح ملكا لها ، فما جاء به القرآن هو الحق ، فهمنا علته، فهمنا الحكمة منه أو لم نفقهها ، لم نفهمها لاريب أن الله أعلم بخلقه (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) فهذه الحالة الأولى وهي المرأة على النصف من الرجل في الميراث .
الحالة الثانية : قالوا في الدية ، قالوا إن دية المرأة على النصف من دية الرجل ، هذا الحكم عليه عمل المسلمين منذ الصحابة إلى يومنا هذا ، لكن لا يوجد أثر مرفوع صحيح إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه ، فيه حديث عند البيهقي من طريق معاذ لكن الحديث فيه أحد الرواة صدوق لكن يحمل في يديه أغلاط فمثله لا يُقبل حديثه ويُحتج به في مثل هذا الحال ، على النقيض تفرّد عالم أو عالمان مثل أبو بكر بن الأصم من المعتزلة وأظن ابن عُليَة واثنان أو ثلاث من العلماء قالوا إن المرأة موازية ديتها مثل دية الرجل واحتجوا بما روى النسائي في السنن والطبراني في الكبير من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (عقل المرأة مثل عقل الرجل) . يعني الدية واحدة ، هذا الحديث يقال فيه ما يقال في الأول لم يثبت رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا المانعون ولا المثبتون لديهم حديث مرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ، لكن عمل المسلمين أخذوه من نصف الميراث وعليه عمل الصحابه ، وقطعا هناك أثر لم يبلُغنا وإلا الصحابة لا يمكن أن يعملوا بشيء من غير أثر ، فعملهم حجة لنا ، وقد نقل ابن رشد إجماع العلماء على العمل أن دية المرأة على النصف من دية الرجل إلا ما ذكرنا من أبي بكر بن الأصم من المعتزلة وأظن ابن عُليّة قال به أيضا ، لكن تظافر الإجماع في بعض مراحل عصور الأمة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ، هذه الحالة الثانية .
الحالة الثالثة: قالوا في العقيقة ، والعقيقة تُشرع للمولود، تُذبح يوم سابعه ، وحجتهم في هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة) وهذا ظاهر ، لكن هذا الأمر لا نقول به على الإطلاق ، ما معنى لا نقول به على الإطلاق ؟ لثبوت الحديث عن عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عقّ عن الحسن والحسين كبشا كبشا . هذا يدل على أنه واحد ، لكننا نقول أن الأصل في العقيقة عن الغلام شاتان ، والأصل في العقيقة عن الجارية -عن الأنثى- شاة واحدة ، بل قال بعض العلماء وهذا يروى عن الحسن البصري أظنه قال أنه لا يُعقّ عن الجارية لكن هذا غير مقبول لمعارضته للحديث الصحيح ، ومتى ما قال أحد من علماء المسلمين قولا ووجدنا قولا يعارضه يُحفظ له مكانه ،مقامه إجلاله، ولا يؤذى مثقال ذرة لكن يُردّ عليه قوله ويُعتذَر له ويقال لعل الحديث لم يبلغه أو بلغه وظن به ضعفا فلم يعمل به ، ولابد من رفع الملامة عن الأئمة الأعلام -رحمهم الله تعالى- أحياءً وأمواتا . هذه الثالثة .
الرابعة : في الشهادة ، قال الله -عز وجل- (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) أصل المسألة من أكبر الأخطاء أن تأتي لأحد غير معني بأمرٍ فتكلفه بالشيء الذي لا يُعنى به وتريد منه أن يأتي به على الوجه الذي يأتي به غيره ، سأضرب مثلا: قبل أن أفسر الآية ، يقولون أن يزيد بن معاوية -الخليفة الأموي المعروف ابن أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه- جاءه رجل فيه حُمق فقال : يا أمير المؤمنين ماذا يقصد فلان -وسمى شاعرا أظنه مغمور- بقوله وأتى ببيت شعر يعني يقول لأمير المؤمنين هذه الكلمة لم أفهمها ، ماذا يقصد فلان بقوله ؟ فقال يزيد : قبحك الله وما يدريني عن قول رجل جاهل في الصحراء بوال على قدميه ماذا يقول . ما المعنى هنا ؟ المعنى يزيد يريد أن يقول أنا أمير المؤمنين سلني فيما يُشغل به الملوك ، فيما يُشغل به الخلفاء ، فيما يُشغل به قادة الناس ، لا تشغلني بمعنى قول شاعر مغمور قال بيتا تختبرني أعرفها أو لا أعرفها ، حتى لو أعرفها لن أقولها لك ،والمراد أن مثل هذا خليفة لا يُلام على أنه لا يعرف معاني الكلمات التي يقولها الشعراء ، لأن ذهنه في في الأصل مشغول بأمور عظام . ظاهر هذا.
الأصل أن المرأة موكل إليها بيتها، زوجها ،أهلها ،أبناؤها ، فلا يمكن أن يكون ذهنها مثل ذهن الرجل الذي يبيع ويشتري ويقوت أبناءه ويتعامل مع الناس فهذا حاضر الذهن مجرب للمسائل متعود على مثل هذا الشآن ، عندما تأتي شهادته تأتي في شيء يخصه ، شيء يألفه ، شيء تعوّد عليه ، لكن المرأة في مثل هذه الحالة لا تكون مثل الرجل ولهذا قال الله -جل وعلا- (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) واضح الآن ، هذا تأصيل المسألة لكنه قائم على أنه المرأة فيه على النصف من الرجل ، و هذه هي الحال الرابعة .
بقيت الخامسة ستكون في اللقاء القادم ، لكن لو سألتكم ما هي ؟ سكت المشائخ وأنا أسكت حتى اللقاء القادم ، وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .
__________________________________
شكر الله لأخيتنا (**) لقيامها بتفريغ الحلقة وبارك فيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق