الخميس، 28 مارس 2013

تفسير سورة طه من الآية (24-55) / دورة الأترجة

 د. محمد بن عبد العزيز الخضيري



{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
 فهذا المجلس هو المجلس الثَّاني من مجالس تفسير سورةِ (طـَه) في هذه الدَّورة المباركة (دَورةُ الأُتــرجـَة) المقامة في جامع الشِّيخ محمّد بن عبدالوَّهاب - تعالى- بِحيّ الخَلِيج في بُريدة. وهذه اللَّيلة ليلة الثَّامِن عشر من شهر شوَّال من عام ألْفٍ وأَربعمائة واثنين وثلاثين من الهجرة النَّبوية.
/ يقول الله -عزَّ وجل- (اِذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)
بيَّنا في المجلس الـــمَاضي أنَّ الله -عَـــزَّ وجل- كَـــلَّمَ موسى وبيَّن له حَقيقة الأَمر الذِّي إبتَعثَهُ به وهُـــوَ أن يَعبُدَ الله ويُوَحِّدَه ويدعُوَ النَّاس إلى ذلك وأن يُقيمَ الصَّلاة لِذكرِه سُبحانه وتعالى، وأن يعلَمَ أنَّ السَّاعة آتية من أَجلِ أن تُجزى كُلُّ نفسٍ بِـما تَسْعى. ثُمَّ إنَّ الله -عزَّ وجل- أَراهُ آيتين عَظيمتين تكونُ بِيدِ موسى -عليه الصَّلاة والسَّلام- يَستَدِلُّ بِـهما على نُبُوَّتِه، وعلى أنَّه رسَولٌ من عند الله حقَّاً. ثُمَّ كَلَّفَه بالرِّسالة فقال (اِذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) مُوسَى -عليه الصَّلاة والسَّلام- أُرسِل لتحقيق مُهِمَّتين:
المهمَّة الأُولى: أن يَدعُوَ فــِرْعون إلى الله عزّ وجل
المهمَّة الثَّانية: إذا لـــَم يَستَجِب فِرعــون للدَّعوة ولــَم يقبَلها قَال مِن أَجلِ أن يُرسَلَ إلى بَني إِسرائيل فيُنقِذَهُم ويَرُدَّهُم إلى الأَرضِ الــمُقدَّسَة، الأَرض التِّي جاؤوا منها أوَّلَ مرَّة. ولذلك قَال لَهُ فِــيما يأتِي من آيات (فَـأْتِيَاهُ فقُولا إنَّا رسُولا ربِّك فأرسِل معنا بني إسرائيل ولا تُعَذِّبهم) فَدَعَا فرعون أوَّل الأَمر فلمَّا أبى فرعون واستكبر واستنْكَف طَلَبَ أن يخرُجَ ببني إسرائيل ثُمَّ حَصَل ما حَصَل مِـمـَّا سيأتِي ذِكرُهُ - إن شاء الله- في هذا المجلس والمجالس التِّي تَلِيه-.
/ قال (اِذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ) فَادعُهُ إلى الله، (إِنَّهُ طَغَى) أَيّ تَجاوز الحَدّ وزادَ في الضَّلالة والإِفساد، لأنَّه ادَّعى أنَّه إلهٌ من دُونِ الله وقال لقومه (أنا ربُّكُم الأعْلى) وقال (ما عَلِمتُ لَكُم من إلهٍ غيري). قال الله -عزّ وجل- لــمَّا سَمـِعَ مُوسى -عليه الصَّلاةُ والسَّلام- هَذه الــمُهمَّة العظيمة الضَّخمة، أن يحملَ التَّوحيد والدِّين إلى رجُلٍ طاغية في مثلِ مَقَام فِرعَـون البــَطَّاش، الأفَّــاك، الأَثِيم، الــمُجرِم الذِّي قَتَل بني إسرائيل،قَتَل رِجالهم،واِستحيا نِسَاءهم وفَعلَ بهم الأفاعيل. (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بدأ بشرح الصَّدْر، لأنَّه لا يـُمكِن لإنسانٍ أن يقُومَ بِمهُمَّة عظيمة ما لــَم يَكُن مُنشَرِح الصَّدر. انشراح الصَّدر يُفيدُ الإنسان في
 ثَبَاتِ الحُجَّة
 وفي طُولِ البَال
 وفي استقبال الصَّدَمَات
 ومُواجهة المشكلات
 وفي الصَّبر على أَذى الــمَدعُوين
 وتَخطِّي جميع العَقَبَات التِّي تُوضَعُ للدَّعوة.
 قال الله تعالى (آلـــم (1) أَحسِبَ النَّاس أن يُترَكُوا أن يَقُولوا آمنَّا وهُم لا يُفتَنُون (2) ولقد فتنَّا الذِّين من قبلهم فَليعلَمَنّ الله الذِّين صَدَقُوا وليعلمَنَّ الكاذبين) .
/ (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) بَدأَ بِشَرح الصَّدر لِــمَا ذَكرنا. ثُمَّ سَألَ الله عزّ وجل مسألةً عامَّة وهي أن يُيسَّر له أمره، تيسيرُ الأَمر:
بأن يُسَهِّلَ لَه الوُصُول.
 وأن يُسَهِّل له الدُّخُول على فِرعون.
 وأن يُسَهِّل له الأُسلُوب الذِّي يَدعُو به فرعون لأنَّ فــِرعــون رَجُلٌ خصيمٌ، حَجِيج مُراوغ من الدَّرَجةِ الأُولى.
 وأن يُسَهِّل له الأَمر في بُلُوغ الحُجَج والآيات التِّي اُبتُعِثَ بِـها موسى لتكُونَ مُؤيِّدة له حتَّى يُقنِعَ بها فرعون ومن معه ويُيسِّر له كُلَّ الأُمُور التِّي يحتاجُها فإنَّهُ:
 إذَا لــَم يَكُن عونٌ من الله للفتى ** فأوَّلُ ما يَجني عليه اجتهادُه.
 ولِذَلِك ينبَغي للإنسانِ أن يَسأَلَ الله التَّيسير، تيسير الأُمُور كُلَّها. وهذان الأَمران قد ذُكِــرا في سورة الشَّرح: قال الله عزّ وجل (ألَــمْ نشْرَح لكَ صَدْرُك) فبَدَأ بِذكِر النِّعم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنعمة شرحِ الصَّدر. (ألــَم نشرَح لك) يا مُحمَّد صَدرَك لأنَّك بِحاجةٍ إلى شَــرْح الصَّدر (ووضعنا عنكَ وِزرَك * الذِّي أنقَضَ ظهرك * ورَفعنا لكَ ذِكرَك * فإنَّ مع العُسرِ يُسراً * إنَّ مع العُسرِ يُسراً) لاحظُوا (فإنَّ مع العُسرِ يُسراً * إنَّ مع العُسرِ يُسراً) بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم بِأنَّ كُلّ عُسرٍ يُصيبُك يا مُحمَّد فإنَّ الله عزّ وجل يُنزِلُ اليُسْرَ مَعه، فَتَرقَّب الفَرَج واعلم بأنَّ كُلَّ عُسْرٍ فمَعَهُ يُسْر بل يُسران كما قال ابنُ عبَّاس رضي الله تعالى عنهُما وأرضاه.
/ قال (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) هذا هو الأَمر الثَّالث الذِّي سَأَلَهُ مُـوسى وهُوَ فيما يَتَصِّل بتبليغ الدَّعوة.
 الأوَّل: أمرٌ نفسي.
والثَّاني: تيسيرٌ عَامّ في كُلِّ الوسائل والأَسباب والأُمُور التِّي تُحقِّق لموسى مقصوده. والثَّالث: فيما يُوصِلُ هذه الدَّعوة ويَنقُلُها إلى فِرعون، وهو أَنْ يَحلُل اللهُ عزّ وجل عُقْدةً من لسانه. قال العُلماء: وقد كَان في لِسَانِ مُوسى عُقدَة فيه شيءٌ من لَثغَة تُثقِلُ لسانه، وكانَ سبَبُها فيما يذكُر الــمُؤرِّخُون أنَّ مُوسى عندما التقطتُهُ امرأةُ فرعون ثُمَّ جاءَت به إلى فرعون وقَالت (قُرَّةُ عينٍ لي ولَك). لــمَّا جلسَ على صدر فِرعون، أخذَ لحيته فجَرَّها فتشاءَم منه فرعون، وجاءَ الذِّين يتنبَئُون لفرعون فحذَّرُوه منه فقالوا: نخشى أن يكون هذا من بني إسرائيل، فَأَمَر بذبحه. فاستجَارَت اِمرأةُ فِرعون وقالت: والله إنَّه لا يَفقَهُ شيئاً. قال: وما بَــيِّنُـــتكِ على ذلِك؟ قالت: نَعرِض عَليه جَمرةً وتمرة فإن فَرَّقَ بينهما فهُو يَعقِل. فَعَرضُوا عليه جمرةً وتمرة، فأقبَلَ بيده على الجَمرة فأَلقاها في فَمِه فانعَقَد لسانه، هذا ما يذكُرونه والله أعلم بِصِّحة ما قالُوه. وقد ورَد في حديث الــفُتُون الطَّويل الذِّي رواهُ ابن عبَّاس وهُو موقُوفٌ عليه.
 الــمُهِمّ أنَّ لسان موسى كانَ فيه ثِقَل وقد قال الله في سورة الزُّخرُف (أَمْ أَنا خيرٌ من هذا الذِّي هُو مَهينٌ ولا يَكَادُ يُبين) يقُولُه فرعون يُعيِّر به موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلام. لكنَّ العَجِيب أنَّ موسى ما سَأَل الله أن يَحُلَّ عُقَدَ لِسَانِه كُلِّها. قال الحسن: "لَـــو سأَلَ الله ذلِكَ لأَجَابَه، لكنَّ الأنبياء لا يَسألُون الله إلاَّ على قَدْرِ الحَاجَة فيما يتعلَّق بِأَمرِ الدُّنيا". فَطَلَب من الله أن يَحُلَّ عُقدةً من لِسَانه من أَجلِ أن يفقهُوا قوله. وقد حَصل ذَلِك، فَحَلَّ الله عُقْدةً من لسانه فَفَقِهَ النَّاسُ قَوله. قَال (يَفْقَهُوا قَوْلِي) .
أمَّا المسألة الرَّابعة: فهي مسألةٌ خَارِجَة ليستْ في الصَّدْر ولا في اللِّسان، ولا في تيسير الأُمُور الخاصَّة والدَّاخلية التِّي هِيَ قَــريبةٌ من موسى بل هي أمرٌ خارِج، قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي). كَان هذا سُؤالاً غريباً لأنَّ العَادَة أنَّ الإنسان يُحِبّ أن يَتَفَرَّد من بين أُسرَتِه بالسُّؤدد، والشَّرَف، والجاه، والمنزِلة. ولكن لأنَّ مُوسى -عليه الصَّلاةُ والسَّلام -قَـــد سَلِمَ صَدرُه، وشَرُفَت نفسُه فهُو يُحِبّ أن يُـــوصِلَ هَذه الدَّعوة، وأن يُبَلِّغُها إلى من يتقَبَّلُها، وأن يَستعين بِكُلّ الأَسباب التِّي تُعِينُ على تحقيقِ هذا الهَدف سَواءً كان ذلك بوصُول آخرين إلى المركب الذِّي وَصَل إليه وهو مركَب النُّبُوَّة، أو كانَ ذلك بما هُو دُونَ ذلِك. فمُوسَى صاحب هدَف، صاحب رسالة، وليسَ طالِبَ مُلك، ولا طَالِبَ جَــاهٍ ورِياسَة. قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي) أَنا أُريد هارُون أن يكُون وزيراً لي، لماذا؟ طَلَب من الله عزّ وجل (اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) يَا ربّ شُدَّ به أَزري، أَيّ قَوِّي به ظَهري، حتَّى أَستَنِدَ إليه، وأستَعينَ بِه، وأستَشِيرَه فيما يَهُمُّنِي (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) لأنَّ مُوسى يُلقي الدَّعوة على مَن يَدعُوه ثُمَّ ينطَلق هَارُون عليه الصَّلاة والسَّلام يَشْرَح ويُبَيِّن ويُوضِّح ويُحَاجّ ويُخاصِم.
/ قال الله عزّ وجل (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) فأَنا لا أُريده أن يكُون مُستشاراً عندي، بل يكون شَريكاً في النُّبُوَّة فلا يُعرَف في العالَمِين أَحدٌ من الإِخوة كانَ أكثرَ بركةً من موسى على أخيه عليهُما الصَّلاةُ والسَّلام. ثُمّ ذكَــرَ أسباباً تُسوِّغُ هذا المطلُوب:
 (كَــيْ نُسَبِّحَكَ كَـثِيرًا) فإذا كان معي أَعانني على التَّسبيح والصَّلاة
 (وَنَــذْكُــرَكَ كَـثِيرًا) ويُعينُنِي عَلَى الذِّكْر الكثير، والذِّكْر كُلَّ ما ذُكِرَ في القُرآن ذُكِــــرَ مَطلُوباً فيه الكثرة (واذكُر ربَّكَ كثيراً) (والذَّاكرين الله كثيراً والذَّاكِرات) في أكثر من عشرةِ مواطِن في كتاب الله عزّ وجل، (يا أيُّها الذِّين آمنُوا اُذكُروا الله ذكْراً كثيراً) وما طُلِبَ شيء من الشَّرائع والشَّعائر بشكلٍ كبيرٍ كثير غيرَ الذِّكر. قال الله عزّ وجل (إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا) أيّ تعلَمُ حالنا، وتعلَمُ أنَّ هذا ممَّا يُصلِحُنا.
/ قال (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) اِستجابَ الله له الدُّعاء، في نفسِ الموطن مَوطن النِّداء، والمناجاة بالوَادِّ الــمُقَدِّس طُوى، في أوَّل لِقاء. وهذا يَدُلّ على أنَّ مُوسى -عليه الصَّلاة  والسلام- كَانَ رجُلاً شريفاً وكَانَ عاقِلاً وذَكيِّاً وكان مُحنَّكَاً وكانَ جَلْداً فَهُو في اللِّقاء الأوَّل لــَمْ يرتَبِكْ، ولم يَـــفِــرّ، ولَـــمْ تَـختَلِطْ عليه الأَوراق لكنَّ الله ثبَّتَه، وطَلَب ما يُعينُه على القيام بالـــمُهِمَّة التِّي كَلَّفه الله -عزّ وجل- بها.
 (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) يُبيِّن الله -عزّ وجل- أنَّه إن كُنْت أجَبتُك هذه الـــمرَّة، فَلَقَد أجبْتُك قَبلها، وسَبَقَت لي عَلْيكَ مِنَنٌ يا مُـوسى، فإن كانت تِلْك الــمِنَن قد تَـحقَّقت فهذه سَتتحَقَّقُ وزيادة، مثل لو جاء إنسان يَسألُك ويقول: رَجَوْتُك أن تُقرِضَني ألْفَ ريـــال، فتقول: قد أَجَبْتُك، لقد سألتَني ما هُو أكثرُ من ذلك وقبلَ أن تسألَني أعطيتُكَ أشياءَ كثيرة، يعني هذا أمـرٌ يسيرٌ عند تِلْكَ الأُمُور التِّي اِبتدأْتُكَ بها.
 (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى.إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) قبل أن تُولَد أوحينا إلى أُمِّك أنَّه سيُولَدُ لكِ وَلَدٌ فاقذِفــيه وألقيهِ في اليَمّ، فليأخُذه اليَمّ إلى عدُوٌ لَه وعَدُوٌ لكِ، ويحصُل له ما يحصُل ، قال (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) أَلْقيهِ فـــي التَّابُوت عندما تَـخافين عليه. وسمَّى إلقاءهُ في التَّابُوت قذفاً لأنَّ الخائف في العَادَة يَـحتَفِظ بالشْيء الذِّي يَـخافُ عليه إلى آخِرِ لحظة، ثُمَّ إذا أَيِسْ من أنْ يَقدِر على المحافظة عليه، قذَفَ به في المكان الذِّي يَظُنّ أنَّهُ يَأْمَن فيه. وكانت أُمّ موسى قد وضَعَت تابُوتاً على النَّهر وأَعَدَّتْهُ، فإذا جَاءَ الذَبَّاحُون يَبحثُون عن المواليد الجُدُد أخَذَت موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ورَمَتْهُ في التَّابُوت، ولـــمَّا رَمَت به في إِحدى الــمرَّات اِنْطَلَق الحبل وجَرَى النَّهرُ بالتَّابُوت وذَهَبَ منها مُوسى -عليه الصَّلاةُ والسَّلام- وكادَت رضي الله تعالى عنها وأرضَاها أن تُجَنّ من شِدَّة ما أصابها من الهَلَع (وأصبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فَارِغاً إن كادْت لَتُبدِي به لولا أن ربَطْنا على قــَلْبِها). قال (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أَيّ بالشَّاطِئ لأنَّ قَصْرَ فِرعون كان على الشَّاطئ - شاطِئْ النِّيل- (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) عَدُوٌّ لله وعَدُوٌ لموسى لأنَّ فرعونَ كان عدُوَّاً لبني إسرائيل، كانَ يبحثُ عن أبنائهم فيذبَحهُم، يذبَحُ أبناءَ عَام، ويَدَعُ أبناء عام، حتَّى يكُونَ الأبناءَ الذِّينَ ذُبِحُوا تقليلاً وإِضعافاً لبني إسرائيل، والأَبناء الذِّين بَقُوا يُستعمَلُون في السُّخرَة والأَعمال الــمُهينة، خَدَماً عند القِبْط من الـــمِصْريِّين.
/ قال الله عزّ وجل (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) هذه جُنُودُ الله التِّي لا يستطيع أَحدٌ أن يُكافِحها ولا أن يَرُدَّها، الحُبّ جُنْدي من جُنُود الله ألقَاهُ الله على مُوسى، ما رآهُ أَحَدٌ إلاَّ أَحَبَّه. (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) أيّ تُرَبَّى وتُحفَظ وتُرعَى عَلَى رَقابتي ورِعايتي، فلا تَغيبُ عَنِّي ولا يَطَالُكَ سُوءٌ بسبب رِعايتي.
قال الله مُذَكِّراً موسى بما سَبَق من إنعامه عليه (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ) عندما حَـــرَّمنا عليك الـــمَراضِع، فَجَاؤُوا بِكُلِّ مُرضِعةٍ في البَلَد يريدُونها أن تُرضِعَكْ فلم تقبل ثدي واحدةً مِنهُنّ، حتِّى جِيءَ بِأُمِّك فلــمَّا ألْقَمتْكَ ثديها قَبِلتها.
(ورَدْدنَاكَ إلى أُمِّك كَيّ تَقَرَّ عينُها) وبعد أنْ كانَ موسى باقياً عند أُمِّه على خَوْفٍ وَوَجَل، جاءَ إليها وهُوَ مـَحروس وتُعطَى أجْرَها لإرضَاعِ وَلَدِها فــمَن أَحَظّ من أُمِّ مُوسى وصَارَت أيضاً مُشَرَّفة ومُعَزَّزَة، وهذا من بَركَاتِ مُوسى على أُمِّه.
/ قال (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) كَيْ تَطمَئنّ، ولا يُصُيبها شيءٌ من الحُزُن، والقَلَق عَلْيك. قال الله مُذكِّراً إيَّاه كيف أنجاهُ من هَلَكَةٍ مُحقَّقة (وَقَتَلْتَ نَفْسًا) أي من القِبطِّيين (فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) أَي بَلَوْناكَ اِبتلاءَاتٍ مُتعَدِّدة، وفي كُلِّ بَلاءِ نُنَجِّيكْ، ونهدِيكْ، ونرْعاكْ، ونَصُونُكْ، ونحفَظُكْ ومنها عندما فَرَرْتَ إلى مَدْين كما قال الله -عزّ وجل- (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلام بعدما قَتَل القِبطِيّ، وتآمَرَ عليه فرعون وأَمَر بقتله، فَـرَّ هارِباً ولا يعرِفْ الطَّريق، بل مُوسى كان يعيش رفَاهية عالية جِدَّاً، لأنَّه عاش في قصْر فِرعَونْ وكانَ أميراً في مِصْر يَهَابُه النَّاس ويَخافُونه لأنَّه كان يَتَردَّدُ على بيت الــمَلِك، ولم يَكُن له عهدٌ بالسَّفر، ولا بالجُوع، والعَطَش، ولا بغيرِ ذلك. ففَرَّ في اتِّجاه مَدْيَن وهُوَ لا يعرفُ الطَّريق ولم يسلُكهُ من قبْل. ولذلك لــمَّا جاءهُ الرَّجُل (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)
كانَ جائِعاً، وكانَ مُشتاقاً للرَّاحة، وكَانَ في حَالةٍ بئيسَة، وقَد مضى على مَشيِهِ أو مَسِيره أيَّام طويلة، وهُـــو لـَــمْ يأكُل ولم يَأْوِي. ومع ذلك قام بهذه الــمُهمَّة العظيمة، وبهذا الخيْر لِتلْكَ الفَتَاتين، ولَــمْ يُخبِرهُما عن حَالِه، ولم يَسألْهُما أَجْــراً على ما فعلَ لــهُما وإنَّما تولّى إلى الظِلّ ونادى ربَّه (رَبِّ إنِّي لـــِما أنزَلتَ إليَّ من خيرٍ فقير). وبهذا نعرِف أن مُوسى ما اختير للرِّسالة عبَثاً، اختير لأنَّه يحمِل مَعاني، وصفات وأخلاق عالية جِدَّاً ليست مَوجُودة في كثيرٍ من البِشَر. ولذلك قال الله عزّ وجل (فَلِبثْتَ سِنينَ في أهلِ مَدْين) في القِصَّةِ المعروفة عندما واجَرَهُ أبو الفتاتين على أنّ يُزوِّجه ثُمَّ بعد ذلك يبقى يرعى له الغَنَم ثماني سنين فإن أتــمَّ عشراً فمن عنده.
/ قال (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) رَجَعت لــِوَقتٍ معلوم قدَّرْناهُ لك، وحصل ما حصل من هذا اللِّقاء الــمُبَارَك الذِّي كُلِّفتَ فيه بالنُّبُوَّة وكلَّمَك الله -سبحانه وتعالى- فيه.
 (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أَيّ هيَّأْتُك لهذه الــمُهِمَّة العظيمة ولهذه النُّبُوَّة التِّي ستحملُها.
 قال الله عزّ وجل (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) أعاد عليه أمر الرِّسالة مرَّةً أُخرى، في المرَّةِ الأُولى قال (اِذهَب إلى فِرعون إنَّه طَغى) فلمَّا سَأَلَ مُـوسى ما سَأَل وطَلَب أن يُشرِكَ معه أخاهُ هارون قال (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) أي ومعكُما الآيات التِّي جَعلتُها دليلاً على صِدقُكُما وعلى صِحَّة ما تَدَّعِيَان من النُّبُوَّة. (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) أَيّ لا تَكسَلا ولا تتَوانيا في ذِكْرِ الله عزّ وجل. وهذا يَدُلُنَا - يا إخواني- على أنَّ ذكْر الله عونْ للإنسان على أدَاء مهامِهِ كُلِّها، وأنَّ من أراد العوْن، والقُوَّة، والــمَدَد، والنَّصْر فليُكثِر من ذِكْر الله عزّ وجل. ولذلك فاطمة سيِّدَةُ نساء العَالمين - رضي الله تعالى عنها وأَرضاها- ذَهبَت إلى أَبيها مُحمَّد -صلى الله عليه وسلَّم- لــمَّا سَمِعَت أنَّه جَاءَه شيءٌ من الغَنائم والسَّبي، فَلمْ تَجِدهُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلام-، فَلــمَّا عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- إلى بيتِه قيلَ له: إنَّ فاطمة جاءَت تسأْلُ عنْك، فجاء النَّبي -صلى الله عليه وسلَّم- إليها يَسألُها ماذا تُريد فأَخبَرتُه أنَّها تَعِبَت من العَمَلْ الكثير الذِّي عليها، وأنَّها تُريدُ خادِماً تُعِينُها. فقال النَّبي -صلى الله عليه وسلّم- : (أَلاَ أَدُلُّكُما على خيرٍ لكُمَا من خادِم؟ - يقصِد بِذلِك عليَّاً وفاطمة- فقالا: بلى يا رسُول الله، قال : إذا آويتُما إلى فِراشكُما فسَبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكَبِّرا أربعاً وثلاثين. فَهُو خيرٌ لكُما من خادِم). ولا يَقصِد النَّبي صلى الله عليه وسلَّم بذلك أنَّ الخيرية هُنا خيرية أُخرَويِّة فقط، بَــل حتَّى في الدُّنيا لأنَّ القيام بالذِّكر يُعينُ الإنسان على القيام بالعَملِ فيما وُكِل إليه من عمل.
/ قال الله عزّ وجل (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) في الــمرَّة الأُولى (اِذهبْ) لأنَّ التَّكليف كان على مُوسى، والآن عندما أُجِيبت دعوة موسى -عليه الصَّلاة والسَّلام- وكُلِّفَ هارون، يُقال إنَّ هارُون نزِل عليه الوحي في تلك اللَّحظة التِّي أَجَابَ الله فيها الدُّعاء، قال (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) أيّ تَجَبَّرَ، وزاد، وتَعَدَّى. (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) أوَّل الدَّعوة (القَوْل) أن يُبَلَّغ الإنسان بالقَوْل لأنَّ القول أيسَرْ وسيلة تُوصِل حقيقة الدَّعوة إلى المدعُو. ولكن هذا القوْل كيف صفته؟ قال الله عزّ وجل (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) يُعلِّمْهُما الله -عزّ وجل- كيفِية القَوْل أو صفة القوْل وهو أن يكُونَ ليِّناً لأنَّه إذا كانَ الإنسانُ جبَّاراً فإنَّهُ لا يقبَلُ أن يستَعلِيَ عليه أَحَد ولو كانَ بِحقّ، وهذا من طبع البشر. الجبَّار وغير الجبَّار كُلُّهُم يُحِبُّون القول اللَّين، ولا يَرضَوْن أن يتجبَّرَ عليهم أحد، أو يستعْلِي عليهم. وخُصُوصاً في القـــوْل وفي سورة النَّازعات قال (وهل أتاكِ حديثُ مُوسى (15) إذْ نَاداهُ ربُّهُ بالوادِ الــمُقَدِّس طُــوَىً (16) اِذْهب إلى فرعونَ إنَّه طَغَى ) ثُمَّ يُعَلِّمُه الله الألفاظ التِّي يقُولها. هنا يقول (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) وهُناك يقول (فَقُل هل لَكَ إلى أن تَزَكَّى (18) وأهْدِيك إلى ربِّكَ فتخْشى) يُعَلِّمُه كيف يتَلَفَظّ بالعبارات والكَلمات التِّي يدعُوهُ بها. (هل لَكَ) على سبيل العَرْض لا على سبيل الأَمر، ما يقول له: أَسْلِم وإلاَّ طَرَحَكَ الله في النَّار. هذه العبارة لا يقبَلُها أمثال هؤلاء الجبابرة (هل لَكَ إلى أن تَزَكَّى (18) وأهْدِيَكَ إلى ربِّكَ فتخْشى) وهنا يقول (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) لماذا يا ربَّنا؟ قال (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) يتذَكَّر: يتَّعِظ بهذا القول الذِّي تقولُهُ له يا مُوسى أو يخاف من سوء العاقبة ويخشى ويَحذَرْ بعد أن تُوصِلَ له الرِّسالة.
/ (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) نخاف أن يستعجِلَ علينا بالعقُوبة أو أن يطْغى طُغياناً شديداً فلا يسمع منَّا الكلام ولا يرى الـــبَيِّنات ولا يتأَنَّى في مُحاورَتنا (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) يَطْغى بأن يتكبَّر فيَرُدَّ قولنا، ويستهزئَ بنا، ويسخَر منّا. (قَالَ لَا تَخَافَا) تطمينٌ من الله لهُما (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وهذه مثلُ الكلمة التِّي قالها نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلَّم- لصاحبه (إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لا تَحْزَن إنَّ الله معنا). قال (إِنَّنِي مَعَكُمَا) قال العُلْماء الــمَعِيَّة نوعان:
معيَّةٌ عامَّة: وهَذِهِ لِكُلِّ البَشَر (وهُو معَكُم أينما كُنتُم)
معِيَّةٌ خاصَّة: وهذِهِ تكون للخَاصَّة من عبادِ الله وأولياء الله والــمُتَّقين ولأهلِ الإيمان وللمحسِنين ولِكُلِّ أحَدٍ من المؤمنين مَعيَّةٌ بِقَدْرِ قُرْبِهِ من الله سُبحانه وتعالى. فَمَعيَّتُهُ للأنبياء ليست كمَعِيَّتهِ لسائر المؤمنين، ومَعِيَّتُه للمُحسنين ليست كمَعِيّتِهِ للمُؤمنين.
 قال (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ) مَا يقولُه لكُمَا وما تقولانِهِ لَــهُ (وَأَرَى) ما يَفعلُهُ بِكُما، وما يحصُلُ منكُما. (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) نحنُ مُرسلان مِن عندالله عزّ وجل ربِّك، الْذِّي خَلَقَك ورَزَقَك وربَّاك وأوجَدَك من العَدَمْ،فأنتَ لــمْ تكُن شيئاً ثُمَّ كُنْت، لأنَّ الذِّي أوْجَدَك هو الله ربُّك، (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ) نحنُ جِئنا ندعُوك، ونطْلُب مِنْك أن تُخَلِّصَ بني إسرائيل لأننَّا نُريد أن ننقُلَهُم من هذه الدِّيار إلى بلادهم التِّي قَدِمُوا منها، ويُهاجِرُوا إليها (فَأَرْسِل معنا بني إسرائيل ولا تُعَذِّبْهُم).
(إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) ما الدَّلِيل على أنَّكُما رسوُلان من عند الله؟ قال لهم الله (قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) معنا ما يَدُلّ على صِدْقِ دعوانا، وأَننّا رُسُلٌ من عند الله (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) ما نقُول إلاَّ أننَّا نُسَلِّم ونطْلُبُ السَّلامة على من اتَّبَع الهُدى، فمنِ اتَّبَع الهُدى نسأل الله لَهُ السَّلام، ونُسَلِّمُ نحنُ عليه.
وبعد أن رغَّبُوهُ وذكَّرُوه أيضاً ذكروا التَّرهيب لأَنَّ الدَّاعية ينبغي له أن يَقْرِن بين هذا وهذا، فالنُّفُوسُ لا تَصلُحُ إلاَّ بهما "ترغيبٌ وتَرْهيب" (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) طبعاً في هذه الأثناء قال: أين هذه الآية؟ فجاءَهُ موسى بالآية ألْقَى العَصَا فإذا هي حيَّةٌ تسعى ووضَعَ يَدَهُ في جَنْبِهِ ثُمَّ أخْرَجَها بيضاء من غيرِ سُوء، وعند ذلك عَرَفَ فرعون أنَّهُما رسولان من عند الله حقَّاً قال الله (وجَحَدُوا بها واستيْقَنتْها أنفُسُهُم ظُلْماً وعُلُواً) ولِذلك بَدَأَ طريق الـمُخَادعة والــمُخَاتَنة والــمُراوغة ومحاولة التَّـمويه على الحاضِرين والجُلسَاء (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) لاحظُوا أوَّل دليل على إعراضه ما قال فمن ربِّي يا موسى؟ بـــَلْ (فمن ربُّكُما) أنتُم الآن قادِمين من ربُّكما؟ هذا أوَّل سؤال نــمتَحِنَكُم به، لأنَّه المعروف أنِّي أنا ربّ هؤلاء جميعاً (أناْ ربُّكُم الأعلى) هكذا يدَّعِي هذا الطَّاغية! (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى) يُريد أن يدَّعِيَ عليهما حتَّى يُقرِّرَهُم. فموسى -عليه الصَّلاةُ والسَّلام- لــمْ يَقُل (ربُّنا الله) إنَّـما قَرَنَ الجواب بِالدَّليل الذِّي يَدْحَض به ما أراد فِرْعون أنْ يَرُدَّ به على موسى وهارون (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) يعني صوَّرَ كُلَّ شَيءٍ على صُورتِه، وخَلَقَهُ عَلى الخِلْقة التِّي اختارها له (ثُمَّ هَدَى) أي هداه لِمَا يُصلِحُه ، مثلُ قول الله -عزّ وجل- (سَبِّح اسمَ ربِّكَ الأعلى (1) الذِّي خَلَقَ فسَوَّى (2) والذِّي قَدَّرَ فهَدَى) وفي هذا ردٌّ على فـرْعون، لأنَّ فرعون ما أعطى كُلَّ شيءٍ خَلْقَه، بل حتَّى صُورة نفسِه لــم يُعطِها نفسُه، ولو أراد ابناً زائداً على الأبناء الذِّين عنده، أو أنْ يَخلُقَ حَيواناً، أو يُغيِّرَ شَيئاً ما استطَاع!. فمُوسى يَحتَّجُ عليه بِحُجّةٍ عظيمة (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ) مِن هذه الكائنات (خَلْقَهُ) وصوُرته، وقِوامُهُ الذِّي هو عليه ثُمَّ هداه لــِما يُصلِحُه (ثُمَّ هَدَى). هذه الهداية من أين؟
 من الذِّي هدَى الطِّفل لكي إذا وُضع في فمه الثدي مصّ، لماذا لا يُعَلَّم الــمصّ كما يُعَلَّم قضاء الحاجة؟ من الذِّي هدَاهُ لهذا؟
 من الذِّي يَهدي القِطّ للطَّريقة التِّي يصطاد بها الحشرات والهَوامّ وغيرها؟
 من الذِّي يهدي الذِّئب لصيد الغَنَم بِطُرُق عجيبة؟
 (الله) لا أَحَدْ إلاَّ الله جَلَّ جلاله.
 ولــمَّا كانَ الجواب قويِّاً وحَجِيجاً هُنَا رَاوَغَ فرعون، وبَدلْ أنْ يقول صَحيح، حَقَّاً ما قُلتُمَا، أو يستفسر أكثر، مُباشرةً صَرَفَ أنظارَ النَّاس إلى مسألَةٍ أخرى، وفرعون مشهورٌ بِـهذا، يُحاوِل أثناء الــمُجادَلة والمحاورة أن يصرِفَ أنظارَ النَّاس. تذكُرون في سورةِ غَافِر في قصَّة الرَّجُل الـمُؤمِن عندمَا تكَلَّم وأقنَعَ النَّاس بِحُرمَة قتلِ موسى -عليه الصَّلاة والسَّلام- (أتقتُلُون رجُلاً أن يقُولَ ربِّي الله) ماذا قال فرعون؟ فرعون من أجلِ أن يَـخرُج من هذه الورْطة وهي أنَّ هذا الرَّجُل قام أمام الملأ وتكَلَّم بهذا الكلام (قال ما أُريكُم إلاَّ مَا أَرى وما أَهديكُم إلاَّ سبيل الرَّشاد) فَــرَّ. فَلَــمَّا رأَى الــمُؤمِن أنَّه قد ضَعُف وأنَّه ليسَ بيده حُجَّة استمَرّ في الموعظة. ماذا قال فرعون؟ (قــَال يا هــَامان ابْنِ لي صَرْحاً لعلِّي أبلُغُ الأسباب أسبابَ السَّموات فأَطِّلِعَ إلى إلهِ مُوسى وإنِّي لأَظُنُّه كَاذِباً) اُنظُروا إلى المُـرَاوغة! مُراوغَة عجيبة، لماذا؟ لأنَّه بَدَل أن يقُول صحيح والله كلامك كُلُّه صحيح وما عندنا شيء يـــَرُدُّه، قال: لا، نُريد الآن أن نُقيم مشروع مُدَّتُه عشر سنوات وهو أن نبني صرحاً طويلاً جداً، وبعده أَصعد أنا على هذا الصَّرح لأنظُر هل بالفعل هُناك إله كما يدَّعِي موسى أو ليسَ كذلك؟ من أجْل أن يخرُج النَّاس يقولون: إذاً ننتظر ماذا يقوله الــمَلِك الــمُعظَّم فرعون، بعد عشر سنوات سنرى، سَيصْعد الــمَلِكْ ويرى هل هناك إله لموسى أو لا؟ رأيتُم كيف الــمُراوغة؟ عجيب! مكَّار، ولذلك هو يُعتَبَر شيطان من شياطين الإنْس ما مَــرّ على الأرض مثله في الـــمَكْر، والدَّهاء، والخُبْث، والطُّغيان، والجَبَروت.
/ قال الله عزّ وجل مُبيَّناً مُرَاوغَة فرعون (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) أيّ ما شَأْن القُرُون الأولى؟ القُرون الأولى التِّي ما آمنتْ بِك يا مُوسى، ولا بَلغَتْها رِسالَتُك ولا جِئتها بهذه الآيات، أينَ هي الآن؟ أراد فِرْعَون أن يُوَرِّطَ مُوسى، لأنَّ موسى لو قال هُم في النَّار، أو أهلَكَهُم الله قال: اسمعوا ماذا يَحكُم هذا الرَّجُل على آبائكُم وعلى مُتَقَدِّمِيكُم، أراد بهذا أن يـَمكُر لموسى، لكنَّ مُوسى عليه الصَّلاة والسَّلام أقفَلَ الباب (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) نحنُ ما عَلْينا من هؤلاء الماضيين، علينا الآن من دَعوة حاضِرة بين يديك، هذه الآيات، وهذا حَقّ تُصَدِّق أو لا تُصَدِّق، أمَّا مَا بالُ القُرُون الأولى، ما شَأنُها؟ ما خَبَرُها؟ هل أنتْ أُرسِلْت إليهم أو لم تُرسِلْ؟ آمنُوا بك أو لــم يُؤمِنُوا؟ جاءهُم مثل الذِّي جاءنا أو لــم يَأتِهم؟ هذا ليسَ شَأنُك. أراد موسى -عليه الصَّلاة والسَّلام- أن يُغلِقَ الباب مثل ما فعل إبراهيم- عليه الصَّلاة والسَّلام- عندما جاءَ ليُحاجّ النَّمرُود قال الله عزّ وجل (ألــمْ تَر إلى الذِّي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه أن آتاهُ الله الـمُلْك إذْ قال إبراهيمُ ربِّيَ الذِّي يُحيي ويُميت) هذه حُجَّة عظيمة، فقال النُّمرود (أناْ أُحيي وأُميت) كيف تُحيي وتُميت؟ أتى بِرَجُلين فقتل أحدُهُما وترك الآخر. وقَال: أنا أحْيَيت هذا، وأَمَتُّ هذا، وهذا دليل في غاية السُّخْف لأنّ كُلّ النّاس يقدِرون على مثل هذا. فكيف أنت تُحيي وتُميت؟! الإحياء مَعروف حقيقَتُها، كذلك الإماتة. عند ذلك استَغَلَّ إبراهيم نُقطَة الضَّعْف هَذه، وهُو أنَّ الـمَلِك قام وتصَرَّف تَصَّرُف قال (فإنَّ الله يأتِي بالشَّمس من المشرق فأْتِي بها من المغْرِب) لا إله إلاَّ الله، عجيب! يعني كما فعَلْت قبل قليل أَتيْت باثنين فقَتَلت أحدهُما وتَركْت الآخر، الله يأتي بالشَّمس من المشرق، نُريد الآن يَدَكَ الكريمة تمتَدّ إلى الشَّمسْ وتُخرِجْها لنا الآن من المغرب كَمَا أَقَمْت لنا الدَّليل قبل قليل وأَريْتنا أنَّك بالفعل إنسان تستطيع أن تفعل الأفاعِيل، تَدَّعي الأُلوهية، أعْطِنا الدَّليل! فبُــهِتَ الذِّي كَفَر. ولذلك هنا في المنُاظرة أغلَقَ مُوسَى الأَمر قال (علْمُها عند ربِّي فِي كِتَابٍ) ليسَ عِندي (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) لا يُخطِئ جَلَّ جلاله، ولا ينسى شيئاً مِــمَّا حصَل لِتلْكَ الأُمم.
 ثُمَّ استَمَرّ مُوسى يُبيِّنُ حقيقة هذا الرَّب الذِّي يَدعُو إليه وإلى توحيده (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) أيّ مــمهدَّة (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) أي طُرُقاً تمشُونَ فيها (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى) (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) أيّ اِحمَدُوا الله -عزّ وجل- على ما يسَّرَهُ وسَخَّرَهُ لكُم (وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ) عِبَر (لِأُولِي النُّهَى) أي ذَوي العُقُول - كُلُّ ذَلِك من كلام موسى واحتِجَاجه على فرعون.
/ (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) أيّ من هذه الأرض خلقْناكُم (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) أيّ ستعُودُون إليها فتَأْكُلُكُم فلا يَبقى منكُم شيءٌ إلاَّ العُصعُص أوْ ما يُسمَّى -عجْبَ الذَّنَبْ- منها تُعادُون مرَّةً أُخرى (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).
أسأل الله عزّ وجل أن يُفقهنا في كتابه، وأن يجعلنا من أهل القرآن العظيم الذِّين هُم أهْلُه وخاصّته وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيَّنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ الملف الصوتي:







-----------------------------------------------------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق