الاثنين، 1 أكتوبر 2012

شرح مقدمة التفسير لشيخ الإسلام (2)

الشيخ د. أحمد البريدي





 الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . نستأنف الآن أيها الإخوة ما بدأنا به مجلسنا الأول ، وكنا قد وقفنا أو بدأنا في الفصل الثاني من مقدمة تفسير ابن تيمية - رحمه الله - وهو الخلاف الواقع بين السلف في التفسير , وذكرنا الصنف الأول ثم ذكرنا الصنف الثاني وهو التفسير بالمثال ومثّلنا له , ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن من أنواع التفسير بالمثال : أسباب النزول المنقولة عن السلف .
 وفي آخر الدرس الماضي تكلمنا عن صيغ أسباب النزول الصريحة وغير الصريحة , ثم تكلمنا وقلنا أن أسباب النزول الأصل فيها أنها من باب التفسير بالمثال , وأن ما يحكى فيها عن السلف ليس من باب الاختلاف هذا هو الأصل فيها فإذا وجد الاختلاف فإننا ننظر إلى الأصح منها فنقدمه ، فإن تساويا في الصحة فإننا ننظر إلى الصريح منها فنقدمه ، فإن كانت كلها صحيحة وصريحة فهنا اختلف العلماء فيها على قولين : , وهذا الذي وقفنا عليه في الدرس الماضي :
القول الأول : أن نحملها على تعدد السبب بمعنى أن لهذه الآية أكثر من سبب نزول . القول الثاني : أن نحملها على تعدد النزول .
 وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذا في المقدمة عند قوله : " وإذا ذكر أحدهم لها سبباً نزلت لأجله وذكر الآخر سببا فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب , أو تكون نزلت مرتين , مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب".
 أيهما أصح أيها الإخوة نحمل على تعدد السبب أم نحملها على تعدد النزول ؟
- ومعنى تعدد النزول يعني أن الآية نزلت مرتين , أتى هذا السبب فنزلت لأجله , ثم أتى السبب الآخر فنزلت لأجله - الأولى أن نحملها على تعدد السبب , هذا هو الأصل وهذا هو الأولى ، ما لم يكن هناك تباعد في الزمن ينتفي معه تعدد سبب النزول , بمعنى هل يمكن أن نذكر ونقول هناك تعدد سبب لآية نزلت بمكة , وتعدد سبب لآية نزلت في المدينة !! لا .. هذه نحملها على تعدد النزول لكن أحب أن أشير أيها الإخوة إلى أنَّ تعدد النزول نادر , بل إنّ بعض الباحثين في كتاب له تتبّع كل ما قيل بتكرار نزوله وأجاب عنه وخلص إلى أنه لا يوجد له مثال - بحسب اجتهاده - وأنه لا يصح .
 لكن في الواقع لو تأملنا لابد بأن نستخدم تكرار النزول في بعض المواضع التي وردت فيها أسباب النزول صحيحة صريحة والزمن بين السببين متباعد . ولذلك أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذا وهو رأيه يقول : "أو تكون نزلت مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب".
/ قال المؤلف رحمه الله تعالى : "ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية , فإن العلم بالسبب يُورث العلم بالمُسبب ولهذا كان أصح قولي الفقهاء" المسبب هو: الآية النازلة لتلك السبب , يقول شيخ الإسلام - وهذه قاعدة نفيسة - : "العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب" يورث العلم بالآية . أضرب لكم مثال بسيط لهذه الفائدة : الله عز وجل قال : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) لو نظرنا إلى هذه الآية معزولة عن سببها كيف يكون حكم الطواف أو السعي بين الصفـا والمروة باعتبار هذه الآية لوحدها ؟ "فلا جناح" أقلّه أن يكون مباحاً , ولذلك عروة بن الزبير فهم هذا وسأل عائشة , لكن عائشة رضي الله عنها أجابت بسبب النزول تقول : "لا يا عروة لعمر الله ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة , لكن كان الناس في الجاهلية يُهلّون لمناة , فلما أسلموا تحرّج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يُهلّوا لمناة , وكان مناة على الصفا والمروة - وكيف هم الآن يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك - فتحرّجوا في الطواف استصحاباً لما كانوا يصنعونه في الجاهلية , فأتى القرآن بإزالة الحرج الواقع في نفوسهم لا لبيان حكم السعي بين الصفا والمروة" . ولذلك العلم بالسبب يورث العلم بالمُسَبب لو لم يكن عندنا هذا السبب أيها الإخوة لفهم من فهم , أو لو نظر ناظر إلى الآية بدون سبب نزولها لقال إن القرآن يدل على أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة أقل أحواله أن يكون مباحاً لأنه قال : (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
/ " ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما أيّدها وأثارها " لأن السبب كالمشروط , فمثلاً لو حلف حالف وقال : والله لا أزور فلاناً وفي نيته سبب عدم زيارته أنه فاسق , فتبين عدم زيارته وزاره لا يعتبر حانثاً , وهذا ينفع كلام شيخ الإسلام رحمه الله نفيس في باب الأيمان وباب الطلاق فإذا طلّق مثلاً بناءً على سبب ثم تبيّن انتفاء ذلك السبب فإن المرأة لا تطلق .
/ " وقولهم نزلت هذه الآية في كذا يُراد به تارةً أنه سبب النزول, ويُراد به تارةً أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب, كما تقول : عنيَ بهذه الآية كذا " هُنا يتكلم المؤلف عن صيغ أسباب النزول , فقوله نزلت هذه الآية في كذا .. صيغة محتملة من أن تكون تفسيرا للمعنى فتكون "في" للظرفية والظرف هنا معنوي , وبين أن تكون سبباً للنزول فتكون "في" هنا للسببية , ( نزلت هذه الآية في كذا ) أي في سبب كذا .. أما إذا قيل سبب نزول الآية كذا .. فهي صريحة في السببية , وأما إذا قال حصل كذا وكذا فأنزل الله .. فهي ظاهرة وليست صريحة , فتكون الصيغ ثلاث :
 1- صريحة .
 2- وظاهرة .
 3- ومحتمِلة .
 وفائدة معرفة الصيغ هو : الترجيح عند التعارض بين الأسباب كما تقدّم .
/ " وقد تنازع العلماء في قول الصحابي نزلت هذه الآية في كذا , وهل يجري مجرى المسند ؟ كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله , أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند , فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند , وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره , بخلاف ما إذا ذكر سبباً نزلت عقبه , فإنهم كلهم يُدخلون مثل هذا في المسند , وإذا عُرف هذا فقول أحدهم " .
 إذا قال الصحابي قولاً ، أسباب النزول هل له حكم مرفوع .. هذه مسألة كثيراً ما يشير إليها بعض المحدّثين فيما قول الحاكم , الأصل فيها قول الحاكم أنه يرى أن تفسير الصحابي في حكم المرفوع , والصحيح أن كلام الحاكم أُجمل في موضع من كتبه , وفسّره في موضع آخر ، وهو أنه يريد أن الذي في حكم المرفوع هي أسباب النزول .
/ " وإذا عُرف هذا فقول أحدهم نزلت في كذا لا ينافي قول الآخر نزلت في كذا , إذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال "
وهذا كما أشرنا في بداية التفسير بالمثال أن أحد أنواع التفسير بالمثال هو أسباب النزول , شيخ الإسلام رحمه الله كل هذا السياق كما قلنا مراراً يريد أن يقرّب لك الهُوّة الحاصلة أو كثرة الأقوال المنقولة عن السلف في التفسير , ويقول لك لا يجعل هذه الأقوال مانعة لك من تعلم التفسير فإن أغلبها من باب اختلاف التنوع لا من باب اختلاف التضاد . 
/ "وإذا ذكر أحدهم لها سبباً نزلت لأجله وذكر الآخر سبباً فقد يمكن صدقهما بأن تكونا نزلت عقب تلك الأسباب, أو تكون نزلت مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب , وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات , وتارة لذكر بعض أنواع المسمّى وأقسامه كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يُظن أنه مختلف "
 الآن اكتفى شيخ الإسلام أو انتهى من الصنف الأول والصنف الثاني الذي قال : " وهما صنفان " يقول اختلاف التنوع صنفان والآن يقول لك شيخ الإسلام وهو العارف بأقوال السلف , وأنا لعلّي أكثرت عليكم من هذه القضية لأنكم ستجدون فائدتها عندما تقرؤون في كتب التفسير .. شيخ الإسلام رحمه الله العارف بأقوال السلف يقول : "كالتمثيلات هما الغالب" يقول "هذان الصنفان الصنف الأول اختلاف العبارات .. والتفسير بالمثال هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يُظنُّ أنه مختلف" .
 بعدما انتهى من الصنفين السابقين .. ذكر شيخ الإسلام الصنف الثالث والرابع , ولذلك تذكرون عندما قال صنفان قلت بل هما أربع كما ذكر شيخ الإسلام , لكنه يرى أن بعض أنواع الثالث يدخل أو بعض أنواع الرابع يدخل في الأول , قال :  "ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين : إما لكونه مشتركاً في اللغة كلفظ قسورة الذي يُراد بها الرامي ويُراد به الأسد , ولفظ عسعس الذي يُراد به إقبال الليل وإدباره . وإما لكونه متواطئا في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشخصين كالضمائر في قوله : (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) وكلفظ (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) وما أشبه ذلك ، فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف وقد لا يجوز ذلك" يقول إن الصنف الثالث من التنازع الموجود عنهم - أي عن السلف رحمهم الله - ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين , وهذا يكون من أسباب اختلافهم , إما لكونه مشتركاً في اللغة ونحن في الدرس الماضي بيّنا معنى المشترك والمتواطئ والمتباين والمترادف كلها بيّناها في الدرس الماضي . هنا الآن ذكرهما شيخ الإسلام من أنواع الاختلاف , ومن أسباب اختلاف السلف الذي يُظن أنه مختلف .
 المشترك هو المتفق لفظاً المختلف معنىً ، مثلّنا له بالعين ، العين الآن يصح أن تسميها العين الجارية تسمّى عيناً , والعين الباصرة تسمّى عيناً , والجاسوس يسمّى عيناً , الذي يحدد أحد هذه المعاني هو السياق , ولذلك يقول لك شيخ الإسلام - رحمه الله - : " من التنازع الموجود عند السلف كونه مشتركاً في اللغة " لفظ قسورة كما قال الله عز وجل : (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) لو رجعتم إلى كتب التفسير لوجدتم أن بعض السلف قال : فرّت من الرامي ، وبعضهم قال الأسد وبعضهم قال : فرت من الأسد ، السبب الذي جعل هذا يفسّرها بالأسد وهذا يفسّرها بالرامي هو أن لفظ قسورة مشترك , لفظ مشترك في اللغة , يصح إطلاقه على الأسد ويصح إطلاقه على القانص أو الرامي الذي يرمي الضباع . أيهما أصح في هذه الآية لفظ قسورة اللفظ للأسد أو الرامي ؟ كلاهما صحيح , إذن ليس هناك خلاف في الحقيقة .
  (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) لو رجعتم إلى أي كتاب من كتب التفسير الذي ينقل أقوال السلف لوجدت أن بعضهم قال: والليل إذا أقبل ، ففسّر عسعس بأقبل , ومن العلماء من قال : والليل إذا أدبر ، السبب أن لفظ [ عسعس ] لفظ مشترك يصح , ولذلك بعضهم نظر إليه باعتبار الإقبال وبعضهم باعتبار الإدبار ، أيهما أصح هنا ؟ كلاهما صحيحة . ولذلك حتى هناك سر في تعبير القرآن ، القرآن ما قال والليل إذا أقبل ولا قال أدبر لأن المنّة أو القسم في إقبال الليل وإدباره معاً أجمع في القسم بالليل في إدبـاره فقط أو إقباله ولذلك أتى بلفظ عسعس , فكلا الأقوال صحيحة . من العلماء مثلاً مثل ابن كثير رحمه الله وغيره يرجّح لأنه يشتغل بتفسير القرآن في القرآن يقول أن عسعس هنا أدبر , وفسرها في قوله عز وجل (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) , وابن القيم رحمه الله يفسّرها بأقبل ويفسّرها في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) والصحيح أن ( أقبل وأدبر ) كلاهما معنيان صحيحان .
 السبب الثاني الذي نرى فيه اختلاف السلف رحمهم الله ( التواطؤ ) التواطؤ هو كما قلنا اتفاق اللفظ والمعنى , كالإنسانية في زيد وعمرو . "الفجر" لو رجعنا لكتب التفسير لوجدنا أن من العلماء من قال ( الفجر ) أول الصبح فسمّاه يعني كل فجر أقسم الله بكل فجر , كل يوم تطلع فيه الشمس فيه فجر , ومنهم من قال فجر مزدلفة , ومنهم من قال فجر النحر , السبب في خلافهم .. هل بينهم تعارض ؟ لا ، ليس بينهم تعارض , السبب في خلافهم هو التواطؤ , فإن الفجر يصدق على هذا كما يصدق على هذا , فمنهم من عمّم ومنهم من خصّص , مثل " وليالٍ عشر " مثل " الشفع والوتر " .. يقول شيخ الإسلام - وهذه مهمّة جدّاً - "فمثل هذا قد يجد جواب لكل المعاني التي قالتها السلف فتكون داخلة في ضمن الآية , وقد لا يجوز ذلك" لماذا قال شيخ الإسلام " قد لا يجوز ذلك "؟ لأن عندنا بعض المشترك في اللغة لا يمكن أن تحمل الآية على كل المعاني التي قيلت فيها , مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) لو رجعتم إلى كتب التفسير وعليها الخلاف بين الفقهاء لوجدتم أن بعضهم قال (القرء) الحيض , وقال بعضهم (القرء) الطهر ، السبب في الخلاف هنا . لماذا قال السلف بعضهم الطهر وقال بعضهم الحيض ؟ الاشتراك ، أيهما أصح ؟؟ لا يمكن أن نقول هنا كلاهما , لأن المرأة لا يمكن أن تكون حائضاً وطاهرة في وقت واحد . فلابد أن نحدد إما أن نقول القرء هنا في هذا السياق بمعنى الطهر أو بمعنى الحيض , وهذه مسألة معروفة عند الفقهاء , بعضهم أخذ مثل الشنقيطي - رحمه الله - أخذ بقاعدة الأعداد قال الله عز وجل : (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) فخالف بين المعدود والعدد معناه ثلاثة أطهار , ومن العلماء من استدل بأنها الحيض بحديث ( أيام إقرائك ) إلخ المسألة مذكورة في كتب الفقه , الذي يعنينا هنا أنه لا يعني أنها مشتركة في اللغة أن نحمل كل الألفاظ أو نقول كل الأقوال , لابد من تحرير المسألة , لكن في غالبها يجوز حمل الآية عليها .
/  "فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين , فأريد بها هذا تارة وهذا تارة, وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه .. إذ قد جوّز ذلك أكثر الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وكثير من أهل الكلام , وأما لكون اللفظ متواطئاً فيكون عامّاً إذا لم يكن لتخصيصه موجب , فهذا النوع إذا صح فيه القولين كان من الصنف الثاني " نسينا أن نبيّن قول الله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) ثم دنا أي جبريل ، وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك لو رجعت إلى هذه الآية لوجدت أن فيها أقوال منهم من قال جبريل ، ومنهم من قال النبي - صلى الله عليه وسلم - , ومنهم من قال أن الضمائر كلها لله , السبب ماذا ؟ السبب التواطؤ , لأن عود الضمير يصح أن يعود إلى هذا , ويصح أن يعود إلى هذا , ثم تأتي قضية أقرب مذكور إلخ القواعد النحوية . لكن السبب في خلاف السلف رحمهم الله هو صحة عود الضمير إلى هذه الأشياء مثل (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) الضمير فملاقيه هنا يرجع إلى ماذا ؟ الله ، هذا قول من أقوال التفسير , القول الثاني العمل ، أيهما أصح ؟ كلها صحيحة , لكن السبب الذي جعل بعض السلف يقول فملاقيه فملاقٍ عملك , والسبب الذي جعل بعضهم يقول فملاقٍ ربك هو التواطؤ في عود الضمير أن يصح عود الضمير إلى كل هذه المعاني . الضمائر من باب التواطؤ , يعني يصح الضمير هذا يصح أن يرجع إلى كذا , يعني مثل يقول الإنسان يصح أن تطلق على زيد , يصح أن تطلقه على عمرو , خالد ومحمد إلخ ، الضمير يصح أن تطلقه على الذي ذُكر في هذا السياق هذا أو هذا أو هذا ، هذا معنى التواطؤ واضح .
/ " ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافاً ، أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة , فإن الترادف في اللغة قليل , وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وأما معدود , وقلّ أن يُعبّر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه , بل يكون فيه تقريب لمعناه , وهذا من أسباب إعجاز القرآن ...."
هذا الصنف الرابع الآن تفسير القرآن بالمقارب أو التعبير عن المعاني بألفاظ متقاربة , وهذا قد استعمله السلف - رحمهم الله - من العلماء من يقول عدم الترادف باللغة أصلاً كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام , وبعضهم يقول أنه يوجد ترادف , ومعنى الترادف أنها تتشابه في أصول معانيها , بمعنى أنها تشترك في معنى واحد , لكن لكل لفظ صفة ليست في اللفظ الآخر فمثلاً لو قلت الصارم والمهنّد كلاهما للسيف هذا يسمى ترادف , لأنها تعبّر عن معنى اختلفت ألفاظها ومعناها واحد , لكن في لفظ الصارم صفة غير لما تقول لفظ المهنّد , الصارم الذي يقطع الأشياء بقوة والمهنّد نسبة إلى بلاد الهند أو إلى الساعد كما قيل في معناها , المهم أن الترادف ليس معناه التشابه من كل وجه . سيذكر الآن شيخ الإسلام أمثلة من القرآن على طريقة السلف في تفسيرهم , حيث عبّروا عن بعض الكلمات القرآنية بألفاظ متقاربة .
/ " فإذا قال القائل (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) إن المور هو الحركة كان ذلك تقريباً " قول المور الحركة هذا من باب التقريب , وإلا حقيقة المور ليس هو الحركة من كل وجه , بل هو نوع معين حركة خفيفة سريعة .
/ " وكذلك إذا قال الوحي ( الإعلام ) أو قيل (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)  أنزلنا إليك , أو قيل (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي أعلمنا .. وأمثال ذلك ، فهذا كله تقريب لا تحقيق , فإن الوحي هو إعلام سريع خفي , والقضاء إليهم أخص من الإعلام , فإن فيه إنزالاً إليهم وإيحاءً إليهم . والعرب تُضمِّن الفعل معنى الفعل وتعدّيه تعديته , ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض , كما يقولون في قوله : ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) أي مع نعاجه , و ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) أي مع الله ونحو ذلك ، والتحقيق ما قاله نُحاة البصرة من التضمين ، في سؤال النعجة يتضمن جمعها وضمّها إلى نعاجه , وكذلك قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) ضُمِّن معنى يُزيغونك ويصدّونك , وكذلك قوله : ( وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) ضُمِّن معنى نجّيناه وخلّصناه , وكذلك قوله : ( يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ) ضُمِّن يروى بها ونظائره كثيرة " .
  هذه مسألة مشهورة ومفيدة ، في كتب التفسير كثيراً ما تجدون بعض الآيات يفسّرها خاصة التفاسير المختصرة بمثل هذا , فمثلاً لو رجعتم إلى كتب التفسير المختصرة عندما يقول (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) يقولون يشرب منها ويمشي، لماذا غيّر في اللفظ القرآني؟ الفعل "يشرب" العادة أن يتعدّى بـ"مِن" وهنا في اللفظ القرآني تعدّى بماذا ؟ العين يشرب منها أو يشرب بها ؟ طيب لماذا أتى القرآن بكلمة "بها" ؟ أهل الكوفة -  نُحاة الكوفة - يقولون الحروف تتعاقب ويقوم بعضها مقام بعض , " فـ  (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)  عيناً يشرب منها عباد الله , وكل القرآن اعملوه بهذه الطريقة , ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) مع نعاجه , ( من أنصاري إلى الله ) من أنصاري مع الله , وقس على ذلك .
 أما نُحاة أهل البصرة ومنهم إمام الصناعة سيبويه , وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , ورأي تلميذه ابن القيّم فيقولون : لا ، القرآن لما عدّى الفعل بحرف على غير العادة أن يتعدى به لابد أن يكون له معنى . انظروا معنا في قول الله عز وجل : (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) لو قلنا "منها" مشى التعبير القرآني , لكن لماذا عبّر القرآن بـ"بها" ولم يعبّر ب"منها" ؟ لأنه فيه نكتة عجيبة وهو من كمال نعيـم أهل الجنّة . يصح أن أسمّى شربتُ لكن هل يصح أن أسمّى رويت ؟ لا يصح . ولذلك من كمال نعيمهم أنهم  يروون . ولذلك ضُمِّن الفعل يشرب معنى الرِّي , فلذلك (يشرب بها) أي يروى بها عباد الله وهذا من كمال نعيمهم . وقس على ذلك , كلما عُدِّى فعل بحرف جر على غير العادة أن يتعدّى به , فلابد أن يكون هناك فائدة ونُكتة بلاغية .
/ " ومن قال (لا ريب) لا شك فهذا تقريب , وإلاّ فالريب فيه اضطراب وحركة , كما قال : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) , وفي الحديث أنه : ( مرَّ بظبي حاقف فقال : لا يريبه أحد ) , فكما أن اليقين ضُمِّن السكون والطمأنينة , فالريب ضده ضُمِّن الاضطراب والحركة , ولفظ الشك وإن قيل إنه يستلزم هذا المعنى .. لكنَّ لفظه لا يدل عليه " . انظروا إلى أي تفسير عندما تفتحون في سورة البقرة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) يقولون لا شك فيه , ويذكرون ذلك عن السلف , هل الشك هنا يشابه الريب من كل وجه ؟ لا ، السلف لما قالوا لا ريب فيه، لا شك فيه أرادوا ماذا أن يقربوا لك المعنى ، وإذا أردت أنا أن أقرب , أنا أستطيع أن أقرب لكم مسألة التضمين بهذه الطريقة لو أتى أحد الإخوة من المتخصصين في النحو ربما يقرب لكم هذه المسألة بطريقة أخرى , وكله تقريب ولذلك الخلاف بين السلف في التقريب هو : داخل ضمن أنواع اختلاف التنوع فلا ينبغي أن نجعل هذا الخلاف كما يقول شيخ الإسلام مانع لنا من التفسير . (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ) "تُبسل" كلمة غريبة وإلا لا ، لكن لو رجعتم إلى السلف فسّروهـا ، قـال بعضهم : "تُحبس" أن تحبس نفس بما كسبت , وقال بعضهم " تُرتهن " . هذا خلاف لأنه لا يلزم من الحبس الرهن وإلاّ لا ؟! ولكن كل هذا من باب التقريب وهذه المعاني كلها صحيحة .. كيف صحيحة ؟ هل تُبسل هي معنى تُرتهن من كل وجه؟ وإنما أراد المفسّر التقريب ، تقريب المعنى.
/ " وكذلك إذا قيل ( ذلك الكتاب) هذا القرآن فهذا تقريب , لأن المشار إليه وإن كان واحد فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغَيبة , ولفظ " الكتاب " يتضمن من كونه مكتوباً مضموماً ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءاً مُظهراً باديا , فهذه الفروق موجودة في القرآن . فإذا قال أحدهم أن تُبسل أي تٌحبس , وقال الآخر تُرتهن ونحو ذلك لم يكن من اختلاف التضاد , وإن كان المحبوس قد يكون مرتهن وقد لا يكون  إذ هذا تقريب للمعنى كما تقدّم وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدّاً " 
انظر ترى شيخ الإسلام دقيق في عبارته يقول : "جمع عبارات السلف في مثل هذا .. " يعني أن تجمع ما يقوله السلف لا لتستصعب التفسير لكن لتقرب المعنى , لأن السلف يفسِّرون بجزء من المعنى , فكل واحد يذكر جزء من المعنى , فإذا جمعت هذه المعاني كلها تبيّن لك الصورة الحقيقية التي أرادتها اللفظة القرآنية . فقال : "فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين ومع هذا فلابد" لما قرر هذه الأشياء شيخ الإسلام كلها قال : "لابد من خلاف محقق بينهم" لا يعني أننا نقول اختلاف التنوع اختلاف التضاد أنه لا يوجد اختلاف تضاد أبداً , لا ، يوجد , لكنه قليل ، قليل جداً , بالنسبة لاختلاف التنوع .. فأكثر ما يُنقل عن السلف عليهم رحمة الله هو من باب اختلاف التنوع .
/ " فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين ومع هذا فلابد من اختلاف محقق بينهم كما يوجد مثل ذلك في الأحكام , ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم , بل متواتر عند العامّة أو الخاصة كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها , وفرائض الزكاة ونُصُبها , وتعيين شهر رمضان" .
 شيخ الإسلام - رحمه الله - بدأ يستطرد الآن في هذا الباب يقول : نعلم أن عامّة ما يضطر إليه عموم الناس من اختلاف معلوم , بل متواتر عند العامّة في عدد الصلوات ومقادير ركوعها إلى آخره ، يقصد أن الخلاف الذي يحتاج إليه الناس معلوم والحمد لله , ثم يقول وجود اختلاف بين الصحابة - رضي الله عنهم - في الجد والإخوة وفي المشرّكة ونحو ذلك لا يوجب ريبا في جمهور مسائل الفرائض . يعني مسائل الفرائض معروفة فكون الصحابة - رضي الله عنهم - اختلفوا في جزئيات المسائل لا يعني اختلافهم في أصل الفرائض كلها , وضرب مثال يسمّى المسألة المشرّكة وهي أن يهلك هالك عن زوج وأم وأخوين لأم , وإخوة لأبوين ، فالزوج له النصف لعدم وجود الفرع الوارث , والأم لها السدس لوجود الإخوة , وللأخوين لأم الثلث ، الإخوة لأبوين لا شيء لهم هنا ، وهذا قضاء عمر - رضي الله عنه - الأول , فاعترض هؤلاء لما حصلت في وقت عمر - رضي الله عنه - اعترضوا على عمر وقالوا : هب أنَّ أبانا كان حماراً أنت ما يعنينا شرّكنا معهم فشرّك الإخوة الأشقّاء مع الإخوة لأم في الثلث , وهذه تُسمّى المشرّكة , وهذا قضاء عمر - رضي الله عنه - . لكن خلاف الصحابة في هذه المسألة خلاف بين عمر وأبو بكر وقضاء عمر الأول وقضاء عمر الثاني , هل يوجب اختلاف في جمهور مسائل الفرائض ؟ شيخ الإسلام يقول لك خلافهم في التفسير القليل " اختلاف التضاد " هل يوجب أن ما أثر عنه من السلف كله اختلاف ؟ يقول شيخ الإسلام : لا , ثم ذكر آيات الفرائض استطراداً وقال : والاختلاف - هذه مهمة جداً – أسباب اختلاف السلف :
 السبب الأول : لخفاء الدليل , والذهول عنه .
 السبب الثاني : وقد يكون لعدم سماعه ، ما وصله العلم .
 السبب الثالث : وقد يكون للغلط في فهم النص .
 السبب الرابع : وقد يكون لاعتقاد معارض راجح .
 فالمقصود هنا التعريف بمجمل الأمر دون تفاصيله .
 يعني مجمل الأمر أسباب اختلاف السلف دون التفاصيل .. لماذا ؟ لأنه قد شرحها في كتاب له اسمه ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) بين في هذا الكتاب وهو من أنفس الكتب في أسباب خلاف الفقهاء عموماً , وأسباب الخلاف يستفاد منها في قضية التفسير وغيره ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) , وفي أسباب خلاف المفسّرين أكثر من رسالة علمية .. فيه رسالة للدكتور محمد الشايع في خلاف المفسرين ، وكذلك للدكتور سعود الفنيسان .. فلتُراجع لمن أراد التوسع .
 نكتفي بهذا القدر .. ونكمل إن شاء الله الفصل الثالث من هذه المقدمة ..
 أسأل الله عزّ وجلّ لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
لتحميل الملف الصوتي :




__________________
/ المصدر: ملتقى أهل التفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق