قال أصدق القائلين (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ) قوله - جل وعلا - (يَسْأَلُونَكَ) بالمضارع فيه قرينة على أن هذا السؤال تكرر فما أصل المسألة ؟
أصل المسألة : هذه الأنفال من أوائل ما نزل ، لما كان يوم بدر لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مشهدا قبل بدر فلما حاز المسلمون الغنائم ، أي جيش لا يمكن أن يكون جميع أفراد الجيش على حال واحدة ، فبعضهم كان مكلفا بحراسة النبي في العريش ، وبعضهم تتبع من فر من قريش ، وبعضهم شغل بالمرضى فكل فرقة في الجيش كان لها منحى فلما وجدت الغنائم اختلفوا لأي فرقة تذهب الغنائم ، ولم يكن هناك شيء متوارث مسبوق يعرفون من خلاله كيف يوزعون الغنائم . فلما اختلفوا أخذوا يسألون عن الغنائم فهم لا يريدون هنا طلب الغنائم وإن كان هذا تبع لكنهم يسألون ما الحكم في الغنائم ، يريدون أن يعرفوا الحكم في الغنائم فلما سألوا عن الحكم قال الله - جل وعلا - (يَسْأَلُونَكَ) أي الصحابة (عَنِ الأَنفَالِ) جمع نفل ، والنفل في اللغة : الزيادة على الأصل .
خليل الله إبراهيم كانت سارة لا تنجب فأخذ يسأل الله الولد (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فأعطاه الله الولد ، أعطاه إسحاق من سارة ، هو سأل الله الولد فرزقه إسحاق ومن إسحاق رزقه يعقوب ، فيعقوب يسمى نافلة لأن زيادة على الولد ، ولد الولد زيادة على الولد ولهذا قال الله - جل وعلا - (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) زيادة على الولد الذي هو إسحاق .
أي جيش يريد أن يحارب ويقاتل عدوا يريد أن ينتصر على العدو ، أن يبيد عدوه حتى يأمن شره ، هذا الأصل ما الزيادة على هزيمة العدو وإبادته والتشريد به ؟
الغنائم ، فتسمى الغنائم نفل أو نفل - بالتحريك - تجمع على أنفال . الآن اتضحت الصورة لغويا .
/ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ) أوتي بحرف الجر ، وحرف الجر هذا يحتمل معنيين : - الأول : أن الأنفال مُلك لله يضعها حيث يشاء فتصبح اللام لام الملك ، لكن السؤال لا يساعد على هذا الفهم لأن الصحابة لا يجهلون هذا ، يعلمون أن كل شيء ملك لله لكنهم كانوا يسألون ما الحل في الأنفال ؟ فيكون الجواب أن اللام هنا - على الأصح والأظهر - أن اللام ليست لام الملك وإنما لام الاختصاص فيصبح المعنى ( قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ) أي الحكم في الأنفال إلى الله ، ليس من اختصاصكم ، ليس لكم أن تحكموا في مصارف الأنفال ، أصلها يعود رده إلى الله وقول الرسول هنا من باب التبع .
(قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ) هذا تأديب من الله للصحابة لأن الصحابة جاء في بعض الروايات أن بعضهم ربما شدد في القول على أخيه لاختلافهم في مصارف الأنفال فالله - جل وعلا - يقول ما كان ينبغي أن تفسدوا ذات بينكم من أجل الأنفال فدعاهم إلى ما هو أعظم ، إلى صلاح القلوب وإلى الأخوة بينهم وإلى التآلف والتعاضد فقال (فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ) والصلح قال عنه رب العالمين (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) . إذا وجدت نية صالحة مع سعي بين الناس بالصلح فهو من جلائل الأعمال بدليلين : -
الأول : قال الله تعالى (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)
- والدليل الثاني : ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بني عمر بن عوف لما بلغه أنهم اختصموا فأصلح بينهم وتأخر على المسلمين ، فلما تأخر قام بلال فقال يا أبا بكر أأقيم وتصلي ؟ قال أبو بكر نعم . فأقام . والنبي - عليه الصلاة والسلام قد ذهب ظهرا إلى قباء ، فلما صلى أبو بكر دخل - صلى الله عليه وسلم فاجتاز الصفوف حتى وصل إلى الصف الأول فأحدث الناس صوتا يشعرون من خلاله أبا بكر أن رسول الله عاد ، فلما شعر أبو بكر أن رسول الله عاد رجع والتفت ، فلما رجع قال له - صلى الله عليه وسلم - بيده هكذا يعني اثبت مكانك لكن الصديق لما قال له اثبت مكانك - ولا أحد أفقه منه - رفع يديه يدعو - أي يحمد الله - ثم رجع فتقدم - صلى الله عليه وسلم - يعني رجع إلى الصف ، فتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بالناس ، فلما فرغ ، أي انتهى من صلاته قال لأبي بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ فقال - رضي الله عنه - ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
/ فائدة فقهية : أنه رفع يديه يدعو في الصلاة احتج بها من يقول بجواز دعاء ختم القرآن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على أبي بكر أنه رفع يديه يدعو في الصلاة بسبب نعمة جاءته وهي أن النبي قال له اثبت مكانك ، هذا شرف لا يضاهى فرفع يديه يدعو فقال القائلون بجواز دعاء ختم القرآن إن ختم القرآن بلا شك نعمة عظمى فالدعاء بسبب أنه نعمة هذا لا خلاف فيه ، وأما أنه يرفع يديه في الصلاة يدعو فدليلنا حديث أبي بكر هذا .
هذا ما تيسر إيراده حول قول الله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق