السبت، 14 يوليو 2012

الحلقــ الحادية عشرة ـــة / سورة الشورى آية 38



الحمد لله على فضله ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأكرم رسله وبعد :
 الآية التي نشرف بالحديث عنها في هذه اللقاءات المباركة من تفسير القرآن العظيم هي قول الله - جل وعلا - (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وظاهر من الآية أن الحديث سيكون تاريخيا أكثر من كونه وعظيا إيمانيا . وهذه الآية الكريمة من سورة الشورى صدرها (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) قال بعض أهل العلم : هذه الأربع هي عماد المجتمع المسلم ، أن تكون هناك استجابة أي دخول في الدين ثم جاء ذكر الصلاة لأنها الشعيرة الظاهرة ، وأي مجتمع شعائر الدين فيه ظاهرة يدل من حيث العموم على خيريته ، ثم قال الله (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وسيأتي بيانها ، قال بعدها (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) فإذا قام أهل الثراء والمال والأغنياء بواجب الزكاة نحو إخوانهم الفقراء انتفت الطبقية ، لأن وجود طبقة ثرية ثراء فاحشا ووجود طبقة ذات فقر مدقع هذا من أعظم أسباب سقوط الدول وذهاب الشعوب قال الله - جل وعلا - ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) حتى لا يكون المال يغدو ويروح ويدور حول فئة معينة ، هذه القوائم الأربع لكن الحديث سيكون هنا عن قول الله - جل وعلا - (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ويقول بعض أهل التفسير : إن الآية أول ما نزلت أو المراد بها أولا هم الأنصار رضوان الله تعالى عليهم - الأوس والخزرج - لأن أكثر أمرهم كان شورى وتعلمون أنه لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة أي أن هذا الأمر قد ألفوه حتى عندما بايعوا بيعة العقبة الأولى والثانية كل ذلك كان عن طريق الشورى .
سنحاول أن نفقه معنى الشورى ، قال شوقي :
الدين يُسر والخلافة بيعة ** والأمر شورى والحقوق قضاء
ثمة أمور عامة تتعلق بدولة المسلمين عموما فهذه يستشير ولي الأمر كل حسب اختصاصه ، ثم هل الشورى مُلزمة أو غير مُلزمة ؟ هذه فيها خلاف بين العلماء والذي يظهر لي أن الحاكم غير مُلزم بها لكن يتوخى النصح للدين والنُصح للأمة ثم يستبن له ما أراد بدليل أن الصدّيق - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - لما ارتدت العرب استشار الصحابة فيكاد يُجمع أمرهم المهاجرون والأنصار وفي مقدمة المهاجرين عمر أن لا حرب مع أهل الردة وألاّ ينفذ جيش أسامة فالصّديق - رضي الله عنه - قبِل المشورة ، سمع منهم لكنه لم يقبل بها ، يعني لم يأتها وأخذ برأيه وكان رأيه أنفع ، نعم إن غيره ليس مثله - وهذا قطعا - لكن نتكلم عن قضية وجوب إلزام الحاكم برأي الشورى .
 / قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) يُفقه منه أن أي قوم يجتمعون للشورى في أي أمر ، عائلة ما تريد أن تزوج أحدا ، رفقاء يريدون أن يُقميموا مشروعا تجاريا ، أي أمر يحتاج إلى شورى فالأولى والأفضل وظاهر القرآن أنه لا يدخل فيهم من ليس له علاقة بالشأن ، هذا يُستوحى ، يُستنبط من قول الله - جل وعلا - (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وقد قال بشّار - وهو على فجوره لكن لديه شيء من الحكمة - : "ولا تُدخلن في الشورى امراء غير كاتم" ، أي الرجل الذي لا يكتم الأمر لا يحسُن أن يدخل في الشورى لأنه يُذيعه ومعلوم أن الإنسان في الغالب إذا أراد أن يقضي حاجة كلما كتمها كان أولى وقد قال الطُغرائي في الحِكم :
إن العُلا حدثتني وهي صادقة ** فيما تحدث أن العزّ في النُقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ** لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
 فإن أردت نجاحا أو بلوغ منى ** فاكتم أمورك عن حاف ومنتعل
فإنما رجل الدنيا وواحدها ** من لا يُعوّل في الدنيا على رجل
 البيت فيه كثير من المبالغات لكن نعود إلى قول الله (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) .
 المجتمع المسلم سواء قلنا مجتمع الأسرة ، مجتمع المدينة ، مجتمع الدولة ، يحسُن أن يسمع كل أحد من أخيه لكن لابد أن تكون النوايا حسنة ولا يريد أحد أن يظهر على أحد ، وأن يكون بُغية المتشاورين الوصول إلى الحق ثم للذي استشار الحق في أن يختار . وأمة الإسلام عرفت الشورى منهجا فالرسول - صلى الله ليه وسلم - كما هو معلوم مستفيض في السيرة استشار أصحابه قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر لأنها أول معركة في الإسلام ، كذلك الفاروق - رضي الله عنه - لما همّ بالخروج إلى الشام لما أخبره أبو عبيدة أن النصارى ترغب أن تسلمه بيت المقدس بنفسه استشار الناس فأشار عليه لي ان يذهب ، وأشار عليه عثمان ألاّ يذهب فأخذ برأي علي . لكن ليس كل أحد يُستشار ، أحيانا يكون محلا للاستشارة لكن إذا غلب على الظن أنه ذو تقى وذو علم فحسن أن تأخذ برأيه لكنك إذا أردت أن تستشير أحدا لا تظلمه ، بأن تعطيه الأمر غير مكتمل ، فإن أخذ الأمر غير مكتمل سيُشير عليك بناء على ما اتضح عنده وربما أخفيت عليه أمرا لو اتضح له لما قال بقوله هذا .
 ومما يُذكر في هذا الباب عموما : عبد الملك بن مروان خليفة أموي تكلمنا عنه كثيرا ولي الخلافة بعد وفاة أبيه مروان ، مروان بن الحكم يلتقي مع معاوية - رضي الله عنه - ليس في أبيه أبو سفيان ، يلتقي في أمية ، معنى ذلك أن مروان ليس سفيانيا ومعاوية بن أبي سفيان ، بعد معاوية حكم يزيد ثم معاوية بن يزيد فكانت الخلافة في البيت السفياني ، لما تولى مروان أراد أن يُبقي الخلافة في البيت المرواني فجعل ولاية العهد بعده في ابنيه عبد الملك وعبد العزيز ، تولى عبد الملك وبذل جهودا كبيرة في تثبيت دعائم الدولة أعانه عليها الحجاج بن يوسف ، كان أخوه عبد العزيز واليا على مصر فطمع عبد الملك أن يزيح أخاه من الخلافة ويجعل الخلافة والمُلك بعده في ابنه الوليد فأستشار رجاء بن حيوه ورجاء من الصالحين فأخذ رجاء يقنعه ألاّ يفعل فأبى وما زال رجاء يقول له يا أمير المؤمنين إن في أعناق الناس له بيعه لكن عبد الملك أستحيى من رجاء فأخر الأمر وكلما همّ بأن يُنفذ قراره جاء رجاء وأخره والإنسان لا يدري أين الخير حتى جاء ذات يوم جاءه رجل اسمه روح بن زنباع ، وروح هذا كان مقربا من عبد الملك وكان يسمر معه كثيرا فكان إذا قدم روح يبيت عند عبد الملك في حجرته طبعا يعني في خاص بهما فسمُرا ذات ليلة فذكر عبد الملك لروح كيف أنه يفكر أن يزيح أخاه ويسند الأمر من بعده الى ابنه الوليد فقال له روح يا أمير المؤمنين ما يمنعك من هذا والله لو بايعت الوليد لما تناطح فيه عنزان وأنا أول من ينصرك ، فاغتاظ عبد الملك من رأي رجاء الذي كان يؤجل هذا الأمر قال إذا أصبحنا سأنفذ هذا الأمر ، بعدها بقليل قبل أن يصبحا طرق رجاء الباب ، لما طرق الباب وهو وزيره ومستشاره الخاص قال : ما تريد يا رجاء قال يا أمير المؤمنين عظم الله أجرك في أخيك عبد العزيز ، مات عبد العزيز فجاءت للوليد من غير أن يخسر أخاه من غير أن يغير الأمر من غير أن ينكث البيعة ، فعرف عبد الملك وقتها رجاحة عقل رجاء ، قال عظم الله أجرك في أخيك عبد العزيز بن مروان ثم جعل الخلافة لابنه الوليد . لكن أنت تريد وهذا يريد والله يفعل ما يريد ، تولى الوليد ثم تولى سليمان ثم رجعت الخلافة لا لعبد العزيز إنما لابنه عمر بن عبد العزيز من غير أن يطلبها .
ترى لله سبحانه سنن في الخلق إذا تأملتها - ولا أدري والله هذا مناسب أو لا - ولكن إذا تأملتها تجدها بيّنة منها : إذا وُجد عالم له حظ علم كبير له علم عظيم لكنه يعيش في زمن لايعرفه الناس فيه يعني لا يبلغ درجة من هو أقل منه علما في الشهره ويعيش معه عالم قد يكون أقل منه علما أو مثله فيعرف وبقدر الله يسير علمه في الآفاق وإذا نظرت هذا جيدا بعد زمن ستجد أن الذي أشتهر في الأفاق لا يظهر أحد من ولده وأن الذي لم يظهر في زمانه يُعوض بأن يظهر ولده . ولو شئت سميت لكن لا أريد ، لكن أنا أريد أن أبين لك كيف تتاجر مع الله ، لا يضيع عند الله شيء ، ووالله لا يدري الإنسان إذا عرف كان خيرا له أو إن لم يُعرف كان خيرا ، له هذا نوع من المشورة .
من المشورة  - أنا قلت الدرس اليوم تاريخي - أحيانا بعض الناس تغلب عليه العاطفة يقولون : كان أحد الأمراء عنده غلام وهذا الغلام وضيء ومترف جدا لكن الأمير كان يُجِلّهُ يعني يُوِده ، فجاء ذات يوم معركة اضطر الأمير فيها أن يضع لها قائدا ، فأعد الجيش والجيش قوي ذو عتاد لكنه لم يجد أحدا يوليه القيادة إلا هذا الفتى الصبي الوضيء الذي ليس له في السيف ولا في غيره ، فجاءه الوزير المُهلبي - وكان مستشارا له - قال : عزمت أمري أن أولي فلان قيادة الجيش ، قال : أيها الأمير لا تفعل هذا أين والجيش أين ، قال : لابد ذلك كائن ، قال : أيها الأمير - وهذه والله كلمة تكتب بماء العينين - قال : هذا من عُدد الهوى لا من عُدد الوغى .
 الآن كثير من القنوات ماذا تريد أن تصنع بشباب الأمة أن يكون من عُدد هوى لا من عُدد الوغى .
 قال : يا أمير هذا من عُدد الهوى لا من عُدد الوغى ، خرج القائد ذهب هذا الشاب يقود الجيش جاء الأعداء ، الجيش بما أن فيه قوة وعدد ثبت قليلا لكن لايوجد قائد يدير المعركة هلكوا ما بين قتيل وجريح وأسير ، عقلا مثل هذا هل يمكن يثبت ؟ محال ، هذا فرّ من المعركة ، فرّ وخرج ، ذهب بعيدا في الصحراء ، نزل على ديار أقوام بخيله رأوه ، تعجبو منه ، قال : أنا مُقرب عند الأمير فلان أنصحكم لا تؤذوني ردوني إليه سيُكرمكم . رجع الجيش منهزم منكسر جريح أسير قتلى ، رجع هذا الوحيد الذي سلم لما رجع ، عرف الأمير خطأه عندما اعترض على الوزير فقال له : قلت لك أيها الأمير هذا من عُدد الهوى لا من عُدد الوغى ثم قال :
 طفل يرق الماء في وجناته ويرف عوده ** ويكاد من شبه العذارى فيه أن تبدو نهوده ناطو بمعقد خصره سيفا ومنطقة تؤده ** جعلوه قائد عسكر ضاع الرعيل ومن يقوده المقصود من الشأن كله أن الإنسان العاقل يعرف كيف يصطفي الرجال ، كيف يختارهم حتى في أبنائك حتى في أهلك حتى في من حولك في من تعطي لهذا تقرب هذا تدني هذا هذا كل له طرائقه .
أقول في الشورى كذلك الأمة عرفت عبر تاريخها الطويل نماذج من الشورى إما كانت سبب في رفعة أو كانت سببا في ضعة وترك قوم ، لكن الذي يعنينا - حتى لا نخرج عن كلام الله - أن الأمة أحوج ما تكون أن يتألف أهلها ربنا يقول (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) يتحدث عن أهل الإسلام ، وكثير من القضايا دينا لا يصح نشرها على العامة ولا إخبار كُلِ أحد بها ولا يحدث بها الدهماء بل حتى القضايا العلمية وأضرابها مما يحتاجه الناس ليس مكانها أن يشنع بعضنا على بعض في المنابر ولا في الصُحف ولا في غيرها ، من أراد رفعة الدين فليعلم أن أعظم ما ينفع الدين أن تجمع أهله وأن هذا كان جهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لما قالوا يا للمهاجرين ويا للأنصار قال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) خوفا عليهم من أن يتفرقوا فالأمة وقعت في خطأ يمكن تسميته " إن من أعظم أودية الباطل الغلو في الأفاضل " فتجد بعض الفِرق غالت في آل البيت مع أن منزلتهم معروفة حتى كادوا أن يخرجوا من الملة كل هذا من الغلو وقد يكون هذا عند غيرهم لكن بوضع أقل فيُعادي الإنسان ويحارب وينصر بناء على حب جمّ لأحد من الناس أو بغض لهم ، لكن إن قُدّر للإنسان ولابد أن يتكلم فليتكلم بالحق والله يقول (وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وليكن حريصا على أن يكون رأيه مما تؤلف به قلوب الناس وتُجمع ، فإذا قُدِّر أن أحدا مكّن الله له في محراب مسجد أو من منبره أو زاوية في صحيفة أو قلما في مكان ما فإنه ينبغي عليه أن يجعل مراقبة الله - جل وعلا - بين عينيه فالمسجد مثلا لا يصح أن يُشغل بقضايا العباد ولا باختلافات الناس إنما الموفق الذي هو على خطى الأنبياء من إذا خرج الناس من خطبته كانوا أشد تعظيما لربهم هذا هو المعيار الحق في معرفة هل الخطيب وُفق أم لم يوفق الدليل أن الله أخبر أن أنبياءه ورسله وهم الأئمة للعلماء ما قضوا حياتهم إلا في تعظيم الله والنبي - عليه الصلاة والسلام - قال كما في حديث ابن عباس في البخاري قال (إن موسى قام في بني إسرائيل خطيبا حتى إذا وجلت القلوب وذرفت العيون) قال العرباض بن سارية : "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون" ، فمن رقى منبرا أو صُدّر في محراب أو في غيرهما مما يستمع له الناس فليجعل تعظيم الله - جل وعلا - بين عينيه ولا يشغل الأمة بالقيل والقال .
 رزقني الله وإياكم هُداه ومتعنى الله وإياكم متاع الصالحين والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق