روى البخاري ومسلم عن أنس (رضي الله عنه)- قال : ( أتى علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب مع الغلمان ، فسلم علينا ، فبعثني رسول الله في حاجته ، فأبطأت على أمي ، فلما جئت قالت: ما حبسك ؟ فقلت : بعثني رسول الله في حاجة ، قالت: ما حاجته؟ ، قلت: إنها سر ، قالت: لا تخبر بسر رسول الله أحدا ، قال أنس : والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت ) .
وقفات مع هذه الحادثة يتم ربطها مباشرة بعملية التحفيظ :-
الأولى : تفقد واهتمام : -
فالاهتمام إذا صدر من شخص عادي فله جماله ووقعه الحسن على النفس ، فكيف وهذا سيد الأمة ، وأفضلها مقاماً ، وأنس يخدمه ، والخادم يجب أن يكون بين يدي سيده ليل نهار ، ينتظر إشارة ليسارع في تلبية حاجة ، أو قضاء فطلب ، وهو – أي أنس – غير موجود ، ومع ذلك فالنفس الكبيرة ، لا تجد غضاضة في البحث عنه والمشي في إثره .
وفي الحلقات : (وبصراحة ) كم تحصل من مواقف ، فالطالب يتأخر في بيته ، أو يتلكأ في الشارع ، أو يذهب إلى الحمام فيبطئ ، أو يخرج ليشرب فيتخلف ، أو يكلف بموعد الاختبار فيهمل . . . إلخ . فما أجمل من أن يهب المعلم بنفسه في إثره باحثاً عنه عند الحمام ، أو الماء ، فيقدم للطالب دليل اهتمامه به ، وبرهان حبه له . ولا يقولن أحد : الطلاب كثيرون ، والمواقف متكررة ، سيقال لهم : ولو كل طالب يخطئ يقابل بهذا الاهتمام ولو مرةً واحدة ، مع اختلاف المواقف وتعدد الحالات ، فكم لهذا لتصرف من بصمات في النفس تستعصى على النسيان ، خاصة إذا استيقن الطالب أن المعلم اهتم به ، وذهب في إثره لا ليعاقبه ولكن لانشغاله عليه ، ورغبته في الاطمئنان على حاله وخاصة أكثر إذا استحضر المعلم عندئذ فعل النبي مع أنس فهو بهذا متأسٍ به ومتبع له .
الثانية : التسامح الهادف :-
فأنس ترك مهمته الأساسية وهي الخدمة ، وخرج يلعب مع الغلمان ، لابد إذن من عقوبة ، ولكنه مفهوم خاطئ عرفنا خطأه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاهتمامات الصغار أولى بالرعاية والنظر من اهتمامات المربي ، فلم يغضب رسول الله ولم يزمجر ولم يتبرم ، حاشاه ، وأنس نفسه يقول : " خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي أفٍ قط ، وما قال لي لشئٍ فعلته لما فعلته ، وما قال لشئٍ تركته لم تركته" وليس معنى ذلك أن يترك المرء طلابه بلا محاسبة ، فمؤكد أن شخصية أنس - رضي الله عنه - سوية خيرة ، ولكن المعنى في الهدوء والتسامح الهادف وعدم التشنج وإعطاء المقابل فرصة ليحاسب نفسه ، ويحاورها ويسمع صوتها ، ويقومها .
وفي الحلقات : كم تحدث من مخالفات من الطلاب وتقصير ، وتجاوزات ، لا يرضى بها عاقل وكثيراً ما يغضب منها المعلم غضباً شديداً ، فيقف – بسببها – موقف العداء من الطالب وهذا إشكال كبير ، يقطع خطوط الاتصال الودود بين الطرفين ، ولو أن الشيخ الجليل قابل الخطأ بشئ من التسامح الهادف الواعي أو اللَّين القوي ، بنفس لا نقول متغافلة أو متجاهلة ، لكن متسامحة واعية فاهمة جاعلة قوتها في هدوئها ، لكان خيراً وأشد تثبيتاً ، فالماء مع رقته يتغلغل إلى العمق ، ولكن النار مع شدتها لا تحرق إلا السطح ، وعلى الشيخ الجليل وهو يسلك هذا المسلك تذكر أنه بذلك يقفو أثر رسوله في التعامل ، فهي سنة يحييها ، وثمار سيجنيها .
الثالثة: فسلم علينا : أيُّ خُلقٍ هذا ؟ وأي مغزى تربوي ، وأي بعدٍ تعليمي سلًّم على الأطفال اللاهين العابثين ، لم يزجرهم ، ولم يخافوه ، ويهربوا منه ، وإنما نشر مظلة السلام على الجميع فنمى فيهم مشاعر الاستواء والنضوج ، ووسعهم خلقه الفاضل وتواضعه الجم .
وفي الحلقات : ربما دخل المعلم حلقة متشاغلاً عن السلام وإلقائه ، بما يحمله في يده من متعلقات العمل ، أو في رأسه من همومه ، أو بما رآه من حال الطلبة مما أحزن نفسه فبخل عليهم بالتحية ، أو ربما ألقى السلام على طائفة منهم دون أخرى ، أو على القريب دون البعيد ، أو ربما انصرف ولم يودع ولم يسلم ، أو ربما لم يلتفت إلى تعليم الداخل السلام كل هذه التجاوزات مخالفات لهديه - صلى الله عليه وسلم - وتفوت على المجلس خيراً كثيراً ، فإلقاء السلام وإفشاؤه ديمة هاطلة بالأنس والرحمات والفضل والبركات ، حتى لو مر المعلم على أحد طلابه أو بعضهم ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثم بعد ذلك : أولاً يشتكي كثير من المعلمين سوء أخلاق الطلاب وجفاءهم وعدم مودتهم فلماذا نسيان السلام ؟ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم ) ، ثم ليستحضر الشيخ وهو يلقي السلام ويفشيه لأمر وهدى نبيه فلربما ملك القلوب بهذا المفتاح الذي لا يكلفه شيئاً .
ولا ينكر عاقل أن السلام على الطالب يشعره برجولته ويخجله من تصرفاته ، وها هو ذا أنس وهو يقص الحادثة لا ينسى اللفظة الخاصة بالسلام لما لها من أثرٍ باقٍ فعَّال .
الرابعة : مراعاة الفروق الفردية :
(فبعثني رسول الله في حاجته ) . . لقد أسّر بها إليه ، ولو أعلنها لعلمها الجميع ، ولما قال أنس" لو حدثت بها أحداً لحدثتك يا ثابت " ، فالسلام للجميع ، ولكن ينبغي فروق فردية ، على أساسها يخصًّ صاحبها بشئ ، أو يكلف بأمر فهذا منهجه - صلى الله عليه وسلم - .
وفي الحلقات : السلام والتعليم والتوجيه والنصح والإرشاد والتقويم بالحسنى والتواضع والتسامح فللجميع ، أما اصطفاء طالب ليساعد المعلم في التنظيم أو التسميع والمراجعة ، او ليتابع الطلاب جلوساً وانصرافاً ، أو ليوزع عليهم المصاحف ، أو ليراقبهم أثناء ذهابهم إلى الحمامات أو ليصاحبهم إلى مقر الجمعية لأجل الاختبارات ، فيجب أن يختار الطالب المتميز ، عقلاً وأدباً ، أمانة وخلقاً ، فقد يختار المعلم طالب ليسمع لزملائه وإذا به الذي يمازح ويفاكه ويضحك الحاضرين ، وهذا أيضاً ينسحب على مقدار الحفظ ووقته ، ودخول الاختبارات أكثر من مرة في الفصل الدراسي الواحد وترشيح أحد الطلاب لإقامة التراويح ، كل هذا وسواه يحتاج نظرة المعلم الواعية النابهة التي تميز الفروق الدقيقة بين طلابه ويوظف هذه الفروق في مسارها ، وليتذكر وهو يمارس هذا أنه لنهج رسوله متابع ولأسلوبه مُقلد ، فإذا به الطبيب المعالج ، الذي يجيد التشخيص ويخص كل واحد بما يناسبه كما يقول الإمام الغزالي – رحمه الله – " وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم ، كذلك المربي " .
الخامسة : زرع الثقة في نفس المتعلم :-
ترى ، كم كانت سعادة أنس بثقة رسول الله فيه ، وإسراره إليه ، واصطفائه له وتكليفه من بين كل الحاضرين ، ترى ما أثر ذلك على شخصية أنس ؟ ترى أي إحساس أحسه ، وأي شعور شعره .
المؤكد أنه شعر باعتداد بنفسه ، وبأنه كبير ، وبأنه سبق عمره ، والدليل أنه يحدث بعد أن كبر عن ذلك حديث المنتشي السعيد المغتبط بما كان من رسول الله إليه .
وفي الحلقات : كم من الطلاب هدم والداهم ثقتهم بأنفسهم ، فيرون أنفسهم صغاراً ولو كبروا ، وأطفالاً ولو بلغوا ، لذلك يتصرفون تصرف الصغار ، ويأتون فعال الأطفال ، وكم هي الأمانة على عاتق المعلم الراشد ، أن يزرع الثقة في نفس هذه الضحية بأشياء بسيطة ، للغاية بسيطة ، ولكن أثرها خطير في إنماء هذه الثقة مثل : لو قال للطلاب : استمعوا إلى زميلكم فلان ، لو قال يا فلان : حضر لنا النقطة كذا في التجويد لكي تعطينا ملخصاً لها غداً ، ولو استدعى أباه أمام زملائه وقال له : نهنئك على هذا الولد ، ولماذا لا يستدعى ولي الأمر إلا عند كل شكوى أو مصيبة المهم لابد أن يحصل الطالب في حلقته على الإشباع من كل شئ ، ولا يقولن أحد ومن أين الوقت لكل ذلك ، سيقال له لا تحتاج وقتاً ، بل كل المآرب يمكن تحقيقها في الوقت ذاته ، فالمعلم استدعى فلاناً ليقرأ فألقى على معلمه السلام وصافحه ، هذه فضيلة ، وجلس جلسة المتأدب وهذه أخرى ، وأخذ يقرأ فتعلم وهذه ثالثة ، فقال له معلمه :ما شاء الله ، قراءتك ذكرتني بفلان ، أو أرجو أن تقرأ القرآن في الحرم الشريف ، أو وددت ألا تسكت ، أو بشراك إذا رتلته على رؤوس الأشهاد ، كل هذا للطالب يضع لبنات الثقة في نفسه فيستوي عوده يوماً بعد يوم ، ويشعر برجولته وطموحه ، وبالتالي يستنكف عن إتيان السفاسف ، ولكن بشرطين :
أن يشعر الطالب بمصداقية هذا الكلام وأنه غير متصنع
وأن يستحضر المعلم أنه بذلك ينهج نهج النبي ليرجو الخير.
السادسة : الاحتواء أو إثارة الاهتمام :
فرغم أن أنساً - رضي الله عنه - يعلم أن أمه ستحاسبه على إبطائه وتسائله عنه - وليت كل أم تحاسب ولدها إن أبطأ عليها - لكن أنساً ، أمام الحب الذي عامله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ملك قلبه وأمام الرغبة التي اشتدت عنده في القرب منه ، والثقة التي زُرِعت فيه فصار مأسوراً أمام كل هذا فتناسى إبطاءه على أمه ومحاسبتها له ، أو بالأوضح تغلب الجانب الأول جانب التأثر بالمربي وحبه وطاعته على الجانب الآخر .
وفي الحلقات :- كم يبطئ الطالب على معلمه فيتأخر ، أو يتغيب ، أو يهرب ، أو يستأذن كل هذا لأن جانب الحلقة لم يتغلب عنده على باقي الجوانب كما حدث لأنس - رضي الله عنه - والطالب كثير الأعذار – ولو كذباً ، ( أهلي يريدونني ، يحتاجون إلى مقاضٍ عندي واجبات ، ذاهب إلى المستشفى ، أشعر بصداع . . . الخ . ولكن الوقت الذي يمضيه الطالب في أحضان حلقته والمعاملة التي يلقاها على يد معلمه والجو الودود الذي يعيشه كل ذلك سيغلب جانب الحلقة عنده ، فإذا بالأمور تنعكس وإذا بالطالب حتى لو أبقاه أهله هو الذي يقول لهم – أريد أن أتمم حفظي اليوم – أستاذي يريدني ، لا أستطيع أن أتخلف ، وأيضاً لا يستطيع رفقاء السوء بالشارع التأثير عليه وانتزاعه من حضن الحلقة لأنه أصبح حضناً قوياً يحمي كل من يأوى إليه ويمنعه .
وما أجمل أن يسعى المعلم لذلك واضعاً نصب عينيه منهج نبيه وأسوته وقدوته . وكم من الجهود يبذلها المعلم الكريم من تحفيظ وإقراء وتلقين وترديد وشرح لقواعد التجويد ثم إذ به يشعر بالأسى عندما ينقطع الطالب ويأفل نجمه ، ولا يتنبه المعلم الكريم أنه رغم جهوده الجبارة هذه – قد فاتته – عن غير قصد ، هذه اللمسات التي تشد الطالب وتأسره ، وتجعل قلبه معلقاً بالمسجد عموماً وبمكان ووقت الحلقة خصوصاً لأنه في هذا المكان وذلك الوقت كم تكرم نفسه ، ويشعر بقدره ، ويجني من فوائد ، بل كم أنس بمعلم .
السابعة : (فلما جئت قالت: ما حبسك ؟) :
وهذه وإن كانت تخص الوالدين سؤالاً ومتابعة وتفقداً ومراقبة ، إلا أننا سنعكسها ونسحبها على الحلقة .
وفي الحلقات : فلربما خرج الطالب -مثلاً- لشرب الماء ولم يعد ، أو أستأذن للحمام ولم يرجع ، أو تغيب ولم ينتظم ، أو انقطع ولم يداوم على حضوره ، فإذا ساءل المعلم طالبه هذا في أول مقابلة : ما حبسك ؟ فهذه المساءلة الودودة تشعر الطالب بمكانته ومحبة المعلم له بحيث إذا غاب افتقده ، وإذا تأخر انشغل عليه ، وإذا تغيب انزعج لأجل ذلك كل هذا سيحيط الطالب بسياج من المحبة الذي يسد عليه منافذ التفلت والتهرب وكم لهذا من أثر سيذكر، إن شاء الله – في عنصر التجارب الميدانية وأثرها الفعال . والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتفقد أصحابه قائلاً :" ما فعل فلان" والنفس وإن أحبت الانفلات والخروج من مجال التكاليف إلا أنها ولا شك تحب أيضاً من يتفقدها ويسأل عنها ويهتم بها فلينزل معلمنا طلابه منزلة أولاده وليتفقد كلاً منهم ليرد ضالهم ، ويعيده إلى القافلة متأسياً برسوله الكريم ، ونهجه العظيم .
الثامنة : الصدق ( كنت في حاجة رسول الله ) :
فما كذب أمه ، ولا نسج لها من الحكايات ما يفعله الغلمان .
وفي الحلقات : الطالب يرجى خيرة مادام صادقاً ، ومادام نهجه قول القائل :
أحب الصدق من قلبي ** سيبقى دائماً دربي
وإن ضاقوا به ذرعاً ** فيكفيني رضى ربي
كثيراً ما يكذب الطلاب إما للعادة ، وإما خوف العقوبة ، ولو أنه أمن العقوبة لعشق الصدق ، وبكل أمانة يقال للمعلم الكريم : ليس هناك أفضل من جو الحلقة ليتدرب الطلاب فيها على الصدق ، ففي ظلال القرآن ومناخ الإيمان يُعوّد الشيخ طالبه على الصراحة في كل شئ بمعنى " إظهار الشخص ما تنطوي عليه نفسه من غير تحريف فيه مواربة في شئ بحيث تكون أفكاره واضحة جلية ".
ولن يقدر الطالب على التخلق بهذا لخلق ما لم :
أ/ يأمن العقوبة
ب/ يجد من يثق به ويصدقه
والأمر كما يقول المثل : " إذا أردتني صادقاً فلتكن بي واثقاً" وليس كمقرئ القرآن ومعلمه يستطيع أن يغرس هذه الصفة في أبنائه مثنياً على أهلها واثقاُ بهم ، مؤمناً لهم من عقوبته ، ولأن يخرِّج طالباً صادقاً ، ولو كان ضعيف الحافظة خير من أن يخرج طالباً حافظاً لنصوص المصحف، كاذباً في سائر أحواله .
التاسعة :- التمييز ( حيث سألت أم أنسٍ أنساً : ما حاجته ؟ قلت إنها سر ) يا الله ، طفل في العاشرة عرف ما يقوله وما لا يقوله ، عرف ما يصرح به وما يحتفظ به ، أدرك ما يفصح عنه ، وما لا يبوح به ، قال : كنت في حاجة رسول الله ، وما أخفى ذلك ، ولما سألته عن الحاجة قال : إنها سر . . هذا التمييز هو ثمرة التربية ، وثمرة الثقة المزروعة فيه من المربي الأول ، وثمرة الاهتمام الذي أثاره لديه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بطريقته في اجتبائه واصطفائه حتى غدا هكذا . منذ لحظات يلعب مع الغلمان فهو الطفل اللعوب ، وهنا يقول : " إنها سر " فينضبط ويلتزم .
وفي الحلقات : طلاب لا يميزون بين نافع وضار ، فبعضهم يُعرض عن القرآن مع ما في ذلك من خيرٍ يلحق به، والبعض يكره المراجعة مع ما في ذلك من حرمانه التمكن من القرآن ، والبعض يتغيب من الحلقات مع ما في ذلك من خسارة فادحة يبوء بها ، كما أن البعض يثرثر كثيراً ، فلا يحفظ سراً ، ولربما أفشى أسرار أسرته .
والمعلم المتبع لنهج النبي – صلى الله عليه وسلم - يغرس في طالبه حاسة التمييز وينميها ، ماذا يقول وماذا يدع ، ماذا يفعل وماذا يذر ، ما الذي يحرص عليه ، وما الذي لا طائل من ورائه يغرس فيه أمانة الاحتفاظ بالسر وعدم البوح به ، فيتشكل لديه بالمران الضابط على لسانه والسيطرة على شهوة الكلام وكثرة الثرثرة .
العاشرة : الفصل بين الأشياء وعدم الخلط بينها :
أنس – رضي الله عنه - منذ لحظات يلعب في الشارع مع الصبية ، وفي لحظة هو قاضي حاجة النبي وحافظ سره منذ لحظات هو في لعب ولهوٍ ، والآن هو في جدٍ ومسئولية .
وفي الحلقات : كم يخلط الطلاب بل يريدون نقل لعب الشارع لداخل الحلقة ، وفوضى الشارع إلى المسجد بل قد يجري الطالب في المسجد ، ويعبث بالمصحف الشريف ، ويتلفظ بألفاظ لا تقال في الشارع ، ناهيك عن بيت الله ، هذا الطالب خلط بين الأمور فلم يميز كما ميز أنس ، ولم يفعل كما فعل والمعلم الكريم واقتداء بنهج أسوته ونبيه في التربية عليه أن يسعى لإكساب هذا الطالب ملكة التمييز والفصل بين الجد واللعب ، بين الدرس والترفيه ، وليس الاعتراض على اللعب فليفهم ، إنما الاعتراض على وقته ومكانه ، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعترض على لعب أنس والأطفال ، ولم ينهرهم ، بل سلم عليهم ، لكن لما كُلف أنس كأنما هو إنسان آخر خلع رداء اللعب وأصبح الجاد النشط الفاهم الواعي المتحمل للمسؤولية .
والمتأمل لطلاب برنامج الحفاظ والحلقات النموذجية وما يحدث من بعضهم من لعب ولهو بين يدي الصلوات بمسجد الجمعية وحديثهم وتشويشهم . . الخ ، سيدرك أن السبب هو الخلط وعدم التمييز بين مكان ومكان ، ومقام ومقام ، ومناسبة وأخرى فهنا لعب ، وهنا جد وهنا ضحك ، وهنا بكاء ، وهنا ترفيه، وهنا جدية ، كأن المرء إنسان آخر . فليلتفت لتلك الأمور ، وليعلم أنها من أسس منهج النبي – صلى الله عليه وسلم - .
الحادية عشرة : ترك الفضول :-
( لا تخبرن بسر رسول الله ) فالأم عظيمة ، رغم أنها استبطأت ولدها ، وساءلته أين كان ، ولكنها لم تكن فضولية ووقفت عند حدودها ، ولم تعتبر أن عدم بوح ولدها لها بالسر انتقاص من حقها أو غض من مقامها – كلا .
وفي الحلقات : قد - وبصراحة - يغفل المعلم عن هذا الخلق ، ويحسب أنه بكثرة أسئلته للطالب عن ظروفه أو مسكنه أو أسرته ، أو مستوى معيشته أو سيارته يحسب أن هذا يزيد الود ، فليحذر الشيخ الجليل التورط في مثل هذا الذي يسقط قدره من عين الطالب . أيضاً إذا سال المعلم طالبه عن سبب غيابه – مثلاً – وقال الطالب: ظروف فليحترم هذا الجواب ، فلربما للطالب من ظروف عائلية لا يريد البوح بها ولا يجهد نفسه في معرفة السبب ، بل بالعكس عليه أن يشجع في تلميذه حرصه على الاقتصاد في الإجابة ، وأن يعلمه الانضباط في الحديث ، بل إذا احتاج الأمر أن يناصحه ناصحه في ذلك ، وهذا كله حفاظاَ على القدر الرفيع للشيخ الجليل من فضولٍ يزعزع ثقة الطلاب فيه ، أو يهز صورته في أعينهم ، وليكن له بصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قدوة وأسوة .
الثانية عشرة : الثبات على المبدأ :
( والله لو حدثت به أحد لحدثتك يا ثابت ) سبحان الله ، أنس الآن شيخ كبير ، والحادثة من أيام الصبا وهو يلهو ويلعب وعاش حياته كلها دون أن يخبر بسر رسول الله ، فلا أمه علمت ، ولا ثابت صاحبه درى ولا نحن الآن ندري ما هذه الحاجة ، وظل يذكر الحادثة وتفاصيلها معجباً بمعلمه الفذ ، ومربيه العبقري ، ومع ذلك لم يزل لسانه مرة ليخبر بل ويقسم أنه لو أخبر أحداً لأخبر ثابتاً .
وفي الحلقات : الكل في حاجة إلى هذا الأدب ، أدب الثبات على المبدأ ، أدب كتمان السر ، أدب الوفاء بالعهد ، فالطالب يترك الحلقة ويذهب إلى الجامعة يجب أن يعلمه شيخه الوفاء بالعهد والثبات على مبدأ حب القرآن وأهله والالتحاق بحلقاته أينما حل .
والطالب يستفيد من الجمعية التي سخرها الله له لتشجعه على حفظ القرآن ، فليتعلم الوفاء لها وخدمتها بعد تخرجه من الجمعية رداً للجميل ، وزكاة للعلم ، والطالب قد ينقل من الحي ويغير حلقته فليوثق علاقته بزملائه وشيخه يزورهم بين الحين والحين ، وتلك التوجيهات المؤمل في شيخنا الجليل بثها في الطلاب ، وحثهم عليها ، وتزويدهم بها ليتخلقوا بها ويشبوا عليها ، ثم ليثبتوا على ما هو أكبر من ذلك ، دينهم والتزامهم ، والدعوة إلى الله وحب أهل الخير ، وايضاُ الوفاء بكل ما يوصون به ، كما وفي أنس - رضي الله عنه - .
-----------------------------------------------------------
الأساليب التربوية في الحلقات القرآنية / أحمد بن محمد حسبو خضر
-----------------------------------------------------------
الأساليب التربوية في الحلقات القرآنية / أحمد بن محمد حسبو خضر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق