الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد :
أيها المباركون في هذا اللقاء المبارك سنفسر قول الله - جل وعلا - من سورة الأحزاب {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّاعَزِيزًا*وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا*وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}الآيات في أولها كانت تتكلم عن معركة الأحزاب المعروفة بمعركة الخندق يقول رب العالمين (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ)الرد : إرجاع الشيء إلى أصله ، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) "الباء" هنا للملابسة ، للمصاحبة ، يصبح المعنى : رد الله الذين كفروا والغيظ مازال باقيا في قلوبهم.
قبلها من آيات كانت تتكلم عن هؤلاء على أنهم أحزاب يقول الله -عز وجل - في السورة نفسها قبل ذلك (يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا) والسورة أسمها سورة الأحزاب لكن هنا قال (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ما قال الله ورد الله الأحزاب لِمَ؟؟حتى يُعلم أن سبب خيبتهم هو كفرهم لأن التحزب قد يكون محمودا (أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ) الله يقول . فبين - جل وعلا - أن كفرهم هو سبب خيبتهم قال (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) جملة (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) يمكن التعامل معها وفق قواعد البلاغيين والنحويين على طريقتين :
1. إما أن تجعلها حالا ثانية فيصبح المعنى (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) : جار ومجرور يمكن أن يكون حالا مستقراً ، ظرفاً مستقر
يعني ردهم متغيظين وردهم كذلك لم ينالوا خيرا فيصبح (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) هنا إعرابها إعراب حال .
2. طريقة أخرى - وهي الأرجح - : (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) لماذا بقوا مغتاظين ؟؟؟ لأنهم لم ينالوا خيرا فتصبح لم ينالوا خيرا معللة لسبب مافي قلوبهم من الغيظ والحنق . واضح؟؟؟؟ سبب أنهم لم ينالوا خيرا جمعوا الجموع تكبدو المشاق دفعوا الأموال قطعوا المفاوز والديار ومع ذلك لم ينالوا خيرا فكان ذلك سببا في بقاء الغيظ في قلوبهم .
/ قال ربنا (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) الفعل "كفى" يأتي في القرآن بمعنى "حسب " تقول كما في القرآن (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) (كفى بالله وكيلا) معنى (حسبك الله) يكفيك الله لكن هنا ليست بهذا المعنى إنما هي بمعنى أغنى .
يصبح المعنى(وكفى الله المومنين القتال ) : أغنى الله المؤمنين مؤنة القتال فالكفار رُدو من غير حرب ، ومن غير قتال وهذا كان المؤمنون أحوج مايكونوا إليه لأن غزوة الأحزاب جاءت بعد غزوة أُحد والمسلمون أصابهم ما أصابهم من القرح يوم أُحد فهم في جراح وحالة من الضعف ظاهرة فلم يكن لديهم قدرة لمحاربة العدو فرحمهم ربهم وردّ الذين كفروا من غير قتال , قال أصدق القائلين مُمتنا على نبيه وعلى أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) وجيئ بالفعل "كان" لبيان أن هاتين صفتين ثابتتين لله - جلا وعلا - .
/ ثم قال جلا وعلا وهذا الحديث الآن خرج من كفار قريش إلى بني قريضة , قال (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ) (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) يصح أن تكون بعضيه ويصح أن تكون بيانية ، إن جعلتها بيانية فلا إشكال ، وإن جعلتها بعضية فالمراد منها يهود بني قريضة فهذا يمكن القول بأنه العام أُريد به الخاص ، ويمكن القول بأنها بعضية ، أيا كان فالمقصود بقول الله - جلا وعلا - (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم) ظاهروهم بمعنى ناصروهم أي أن بني قريظة ناصرت الأحزاب ، والظهير في اللغة : النصير، قال الله جلا وعلا (والْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهيرٌ) .
قال ربنا (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ) والصياصي : الحصون بل كل مل يصتعصم به يسمى صياصي ، والثور له قرنان والعرب تُسمي قرون الثيران صياصي لأن الثور يصتعصم بها ويدفع بها الأذى عن نفسه قال قائلهم :
فأصبحت الثيران غرقاء *** وأصبحت نساء تميم يلتقطن الصياصيا
والمعنى أن هذه الثيران غرقت ، ماتت ، فنُحرت روؤسها وجزت قرونها فأصبح النساء يجمعن القرون لأنهم كانوا في القديم يجعلون من قرون الثور أوعية للكحل فيبيعونها , والمقصود : أن كلمة صياصي حصون . قال ربنا (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ) وهذه القرية المعروفة بقرية بني قريظه قائمة إلى اليوم ، من جاء منكم المدينة في الجنوب الشرقي منها هناك جبل اسمه إلى الآن جبل بنو قريظه وهناك حرة أسمها إلى الآن حرة بني قريظة ، كان هناك موطنهم في الجنوب الشرقي من المدينة .
/ قال ربنا (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا)في قوله جل ذكره ( وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) فعل وفاعل ومفعول به ، الكلام على أصله وما دام الكلام على أصله لا يحتاج إلى تعليل لكن ما الذي يحتاج إلى تعليل ؟ الأول لأنه قدم " فريقا تقتلون" ماقال وتقتلون فريقا وإنما قدمها لبيان أن قتل هؤلاء الرجال هو السبب في أنكم ورثتم أرضهم وورثتم نساءهم ، فمعنى قول الله - جل وعلا - (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ) هو ماكان من أن سعد رضي الله عنه وأرضاه سعد ابن معاذ حكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم أي رجالهم وأن تسبى ذراريهم فهذا فمعنى قول الله جلا وعلا (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) .
ثم قال ربنا (وَأَوْرَثَكُمْ) ومرّ معنا في دروس سابقة أن الإرث أعظم طرائق التمليك ولهذا قال الله عن أهل الجنة (أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والإرث الذي يتوارثه الناس تولى رب العالمين جل ذكره قسمته بين خلقه بنفسه كما ظهر مصرحا في القرآن والسنة قال ربنا هنا (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا) العدد أربعة تفصيلها كالتالي :
(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) أي القرية كلها
(وَدِيَارَهُمْ) أي المساكن والمنازل
(وَأَمْوَالَهُمْ) أي العقار، النخيل ،الخيول الدينار ،الدرهم ، هذه تسمى أموال ،هذه كلها ثلاث
ثم قال أصدق القائلين (وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) والمعنى وأورثكم أرضا لم تطؤها وهذه اختلف العلماء فيها ما المراد بقول الله (وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) على أربعة اقوال :قال بعض العلماء إنها مكة قال قتادة وهو أحد أئمة التفسير قتادة ابن دعامة السدوسي كان ضريرا قال : كنا نُحدَّث أنها مكة
وقال آخرون أنها فارس و الروم
وقال آخرون إنها كل بلد فتحها الله لأهل الاسلام إلى يوم القيامة
وقال أخرون وهو الراجح أنها خيبر
ويبقى السؤال لِمَ رجحنا أنها خيبر ؟؟؟؟وإنما رجحنا أنها خيبر لأسباب منها :- أن أرض بني قريظة أرض يهود ، وخيبر أرض يهود إلا أن الفارق أن أرض بني قريظة كانت لبني قريظة ، أما خيبر كانت لبني النضير ، وبني النضير أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينه فلما خرجوا خرجوا ومعهم الدينار والذهب يقولون يا محمد - معنى قولهم - أي ضير يصيبنا المال معنا ، فلما ذهبوا إلى خيبر اشتروا الناس بمالهم فسكنوها وتسلطوا عليها حتى كان وقعة خيبر هذا الدليل قلنا أن خيبر أرض يهود كما أن بني قريظة أرض يهود .
الامر الثاني الذي يجعلنا نرجح أنها خيبر أنها قريبة عهد بهذه الغزوة أقرب الغزوات إلى غزوة خيبر هي غزوة الخندق لأنه بعدها كان صلح الحديبية ولم يتم ثم كانت غزوة خيبر هذا من الأدلة على أن قول الله - عز وجل - (وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) المراد بها خيبر .
كذلك من الأدلة على أنها أرض خيبر أنها لم توطأ بعد ، لم تكن قد دخلت بعد لكن قال بعض أهل العلم وهو رأي قوي لابد من سياقه ، قالوا أن المقصود أرض بنو النضير السابقة وليست شيئا لاحقا ومعنى قول الله - جل وعلا - (لَّمْ تَطَؤُوهَا) أي لم يقع منكم حرب ولا قتال لأنه معلوم أن بني النضير مما أفاءه الله على رسوله ، الله قال (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) فقالوا أن معنى لم تطؤها أي ثمة أرض قبلها أورثكم الله - جل وعلا - إياها من غير حرب منكم .
وهذا قوي جدا إلا أنني اميل إلى الأول لكنني لا أستطيع أن أجزم به والمراد أن معنى قول الله جل وعلا (وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) مما يؤيد القول أنها خيبر أن الآية بعدها (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) إذا قلنا بأنها خيبر تصبح وعداً ، وإذا قلنا أنها وعد يصبح أن النفوس تتطلع إليها وهي تحتاج إلى يقين بربها وعظيم قدرته وجليل نصرته حتى يقع منه الفتح لهم فلهذا ذُيلت هذه الآية بقول الله - جل وعلا -(وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) هذا ما كان في ما ساقته الآيات عن غزوة بني قريظة من حيث القرآن .
من حيث السنة : خبرها شهير فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذهب الأحزاب رجع إلى بيته في الظهيرة فجاءه جبريل يخبره بأن يتوجه إلى بني قريظة فقال - عليه السلام - الحديث المشهور لبعض أصحابه (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) فتوجهوا إليها ثم تبعهم - صلوات الله وسلامه عليه - وفيهم حُكّم سعد ابن معاذ - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - فحكم عليهم أن تقتل مقاتلتهم و أن تسبى ذراريهم . ممن نجا كان غلاماً يومئذ لم ينبت - يعني لم ينبت له شعر عانة - كعب القرظي ، وكعب هذا يهودي طبعاً قرظي كان صغيرا ثم كبر وأسلم تزوج وأنجب غلاما أسماه محمد - محمد ابن كعب القرظي - فاشتغل محمد ابن كعب في علم التفسير حتى أصبح أحد أئمة التفسير من التابعين ، هذا قد يكون سياق تاريخي سهل يعني يحفظه الانسان ويقوله لكن المهم في مثل هذه الأحوال التي تُذكر لك كان تعرف أن الهداية بيد الله ، ينجو أبوه ليكبر في الإسلام وليتزوج وليكون ابنه إماما في التفسير ، ومثله بكل أمر ظاهر وهو من أعجب ما يمكن أن ينظر الإنسان فيه إلى عظيم رحمة الله أن هاجر - أم إسماعيل - كانت جارية تخدم في بيت أحد الطغاه وثني كافر لا يعرف الله طرفة عين فلما قُدر أن هذا الملك يسمع بأن إيراهيم معه امرأه جميلة هي ساره فيأتي يتسلط على سارة فيحفظ الله سارة كلما دنا منها يُقيد ، ومسأله أن يتعلق أحد بأحد هذا شيء من الله صعب دفعه ، فوقع في قلبه حب سارة إلا أنه لم يقدر على أن يصل إليها فلما يئس أن يصل إليها وتريد أن تذهب مع زوجها إبراهيم يريد أن يحسن إليها لما وقع في قلبه من الشغف بها فأعطاها جارية ، هو يريد أن يعطيها الجارية تخلصا من الجارية وإكراما لها شيء يصنعه في نفسه ، هنا ظاهر لي ولك قبل أن نعلم لكن بعد أن جرت الأحداث علمنا أين قدرة ورحمة وحكمة الله ، أخذ إبراهيم هاجر , هاجر لمن ؟ ليست له ، لسارة ، سارة يصيبها الشفقة على زوجها أنها لا تلد فتريد أن تُرضي زوجها الصابرعليها فتهديه الجارية ، فالجارية انتقلت الآن من مُلك الطاغية إلى ملكها ، إلى ملك سارة ، إلى ملك إبراهيم فيتزوجها إبراهيم ، يطأها فتنجب غلاما ، لا تطيق سارة رؤيته ولا رؤية أمه فتضطر هاجر إلى أن تتخذ المنطقة يعني شي في الوسط تربطه على وسطها حتى لا يظهر وطؤها على الأرض فلا تعلم سارة أين ذهبت هاجر ثم يضطر إبراهيم ، يخبره الله ، يأمره الله أن يخرج بهاجر إلى الكعبة فيكون من هاجر إسماعيل ويكون من إسماعيل سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - فسبحان من أخرجها تخدم في بيت طاغية والآن الإسلام له 1444سنة إذا حسبنا البعثة وأذهب أنا وأنت وقبلك الملايين نسير على نفس الطريق الذي كانت تسير فيه هاجر إن الصفا والمروة من شعائر الله .
والله لو أن أحد أخبر هاجر وقت ان أخدمها الملك لسارة لما صدقت لكن ينبغي أن تعلم إبراهيم في حيا برزخية الله أعلم بها مات وسارة ماتت والطاغية مات وهاجر ماتت وإسماعيل مات بقي المحسن الذي أحسن إليهم حي لا يموت فتعلق قلبك بالله وتحسن الظن به وتعلم أن رحمة الله بعبده عظيمة (ورحمتي وسعت كل شيّ) وأن خيرة الله لعبده خير من خيرة العبد لنفسه ولا ينبغي لمؤمن ولا يملك إلا أن يحسن الظن بربه ويستغفر الله من ذنبه .
متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمدلله رب العالمين .
--------------------------------------
قامت بتفريغ الحلقة الأخت : التوّاقة / جزاها الله خيرا
أيها المباركون في هذا اللقاء المبارك سنفسر قول الله - جل وعلا - من سورة الأحزاب {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّاعَزِيزًا*وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا*وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}الآيات في أولها كانت تتكلم عن معركة الأحزاب المعروفة بمعركة الخندق يقول رب العالمين (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ)الرد : إرجاع الشيء إلى أصله ، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) "الباء" هنا للملابسة ، للمصاحبة ، يصبح المعنى : رد الله الذين كفروا والغيظ مازال باقيا في قلوبهم.
قبلها من آيات كانت تتكلم عن هؤلاء على أنهم أحزاب يقول الله -عز وجل - في السورة نفسها قبل ذلك (يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا) والسورة أسمها سورة الأحزاب لكن هنا قال (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ما قال الله ورد الله الأحزاب لِمَ؟؟حتى يُعلم أن سبب خيبتهم هو كفرهم لأن التحزب قد يكون محمودا (أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ) الله يقول . فبين - جل وعلا - أن كفرهم هو سبب خيبتهم قال (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) جملة (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) يمكن التعامل معها وفق قواعد البلاغيين والنحويين على طريقتين :
1. إما أن تجعلها حالا ثانية فيصبح المعنى (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) : جار ومجرور يمكن أن يكون حالا مستقراً ، ظرفاً مستقر
يعني ردهم متغيظين وردهم كذلك لم ينالوا خيرا فيصبح (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) هنا إعرابها إعراب حال .
2. طريقة أخرى - وهي الأرجح - : (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) لماذا بقوا مغتاظين ؟؟؟ لأنهم لم ينالوا خيرا فتصبح لم ينالوا خيرا معللة لسبب مافي قلوبهم من الغيظ والحنق . واضح؟؟؟؟ سبب أنهم لم ينالوا خيرا جمعوا الجموع تكبدو المشاق دفعوا الأموال قطعوا المفاوز والديار ومع ذلك لم ينالوا خيرا فكان ذلك سببا في بقاء الغيظ في قلوبهم .
/ قال ربنا (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) الفعل "كفى" يأتي في القرآن بمعنى "حسب " تقول كما في القرآن (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) (كفى بالله وكيلا) معنى (حسبك الله) يكفيك الله لكن هنا ليست بهذا المعنى إنما هي بمعنى أغنى .
يصبح المعنى(وكفى الله المومنين القتال ) : أغنى الله المؤمنين مؤنة القتال فالكفار رُدو من غير حرب ، ومن غير قتال وهذا كان المؤمنون أحوج مايكونوا إليه لأن غزوة الأحزاب جاءت بعد غزوة أُحد والمسلمون أصابهم ما أصابهم من القرح يوم أُحد فهم في جراح وحالة من الضعف ظاهرة فلم يكن لديهم قدرة لمحاربة العدو فرحمهم ربهم وردّ الذين كفروا من غير قتال , قال أصدق القائلين مُمتنا على نبيه وعلى أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) وجيئ بالفعل "كان" لبيان أن هاتين صفتين ثابتتين لله - جلا وعلا - .
/ ثم قال جلا وعلا وهذا الحديث الآن خرج من كفار قريش إلى بني قريضة , قال (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ) (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) يصح أن تكون بعضيه ويصح أن تكون بيانية ، إن جعلتها بيانية فلا إشكال ، وإن جعلتها بعضية فالمراد منها يهود بني قريضة فهذا يمكن القول بأنه العام أُريد به الخاص ، ويمكن القول بأنها بعضية ، أيا كان فالمقصود بقول الله - جلا وعلا - (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم) ظاهروهم بمعنى ناصروهم أي أن بني قريظة ناصرت الأحزاب ، والظهير في اللغة : النصير، قال الله جلا وعلا (والْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهيرٌ) .
قال ربنا (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ) والصياصي : الحصون بل كل مل يصتعصم به يسمى صياصي ، والثور له قرنان والعرب تُسمي قرون الثيران صياصي لأن الثور يصتعصم بها ويدفع بها الأذى عن نفسه قال قائلهم :
فأصبحت الثيران غرقاء *** وأصبحت نساء تميم يلتقطن الصياصيا
والمعنى أن هذه الثيران غرقت ، ماتت ، فنُحرت روؤسها وجزت قرونها فأصبح النساء يجمعن القرون لأنهم كانوا في القديم يجعلون من قرون الثور أوعية للكحل فيبيعونها , والمقصود : أن كلمة صياصي حصون . قال ربنا (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ) وهذه القرية المعروفة بقرية بني قريظه قائمة إلى اليوم ، من جاء منكم المدينة في الجنوب الشرقي منها هناك جبل اسمه إلى الآن جبل بنو قريظه وهناك حرة أسمها إلى الآن حرة بني قريظة ، كان هناك موطنهم في الجنوب الشرقي من المدينة .
/ قال ربنا (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا)في قوله جل ذكره ( وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) فعل وفاعل ومفعول به ، الكلام على أصله وما دام الكلام على أصله لا يحتاج إلى تعليل لكن ما الذي يحتاج إلى تعليل ؟ الأول لأنه قدم " فريقا تقتلون" ماقال وتقتلون فريقا وإنما قدمها لبيان أن قتل هؤلاء الرجال هو السبب في أنكم ورثتم أرضهم وورثتم نساءهم ، فمعنى قول الله - جل وعلا - (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ) هو ماكان من أن سعد رضي الله عنه وأرضاه سعد ابن معاذ حكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم أي رجالهم وأن تسبى ذراريهم فهذا فمعنى قول الله جلا وعلا (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) .
ثم قال ربنا (وَأَوْرَثَكُمْ) ومرّ معنا في دروس سابقة أن الإرث أعظم طرائق التمليك ولهذا قال الله عن أهل الجنة (أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والإرث الذي يتوارثه الناس تولى رب العالمين جل ذكره قسمته بين خلقه بنفسه كما ظهر مصرحا في القرآن والسنة قال ربنا هنا (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا) العدد أربعة تفصيلها كالتالي :
(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) أي القرية كلها
(وَدِيَارَهُمْ) أي المساكن والمنازل
(وَأَمْوَالَهُمْ) أي العقار، النخيل ،الخيول الدينار ،الدرهم ، هذه تسمى أموال ،هذه كلها ثلاث
ثم قال أصدق القائلين (وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) والمعنى وأورثكم أرضا لم تطؤها وهذه اختلف العلماء فيها ما المراد بقول الله (وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) على أربعة اقوال :قال بعض العلماء إنها مكة قال قتادة وهو أحد أئمة التفسير قتادة ابن دعامة السدوسي كان ضريرا قال : كنا نُحدَّث أنها مكة
وقال آخرون أنها فارس و الروم
وقال آخرون إنها كل بلد فتحها الله لأهل الاسلام إلى يوم القيامة
وقال أخرون وهو الراجح أنها خيبر
ويبقى السؤال لِمَ رجحنا أنها خيبر ؟؟؟؟وإنما رجحنا أنها خيبر لأسباب منها :- أن أرض بني قريظة أرض يهود ، وخيبر أرض يهود إلا أن الفارق أن أرض بني قريظة كانت لبني قريظة ، أما خيبر كانت لبني النضير ، وبني النضير أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينه فلما خرجوا خرجوا ومعهم الدينار والذهب يقولون يا محمد - معنى قولهم - أي ضير يصيبنا المال معنا ، فلما ذهبوا إلى خيبر اشتروا الناس بمالهم فسكنوها وتسلطوا عليها حتى كان وقعة خيبر هذا الدليل قلنا أن خيبر أرض يهود كما أن بني قريظة أرض يهود .
الامر الثاني الذي يجعلنا نرجح أنها خيبر أنها قريبة عهد بهذه الغزوة أقرب الغزوات إلى غزوة خيبر هي غزوة الخندق لأنه بعدها كان صلح الحديبية ولم يتم ثم كانت غزوة خيبر هذا من الأدلة على أن قول الله - عز وجل - (وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) المراد بها خيبر .
كذلك من الأدلة على أنها أرض خيبر أنها لم توطأ بعد ، لم تكن قد دخلت بعد لكن قال بعض أهل العلم وهو رأي قوي لابد من سياقه ، قالوا أن المقصود أرض بنو النضير السابقة وليست شيئا لاحقا ومعنى قول الله - جل وعلا - (لَّمْ تَطَؤُوهَا) أي لم يقع منكم حرب ولا قتال لأنه معلوم أن بني النضير مما أفاءه الله على رسوله ، الله قال (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) فقالوا أن معنى لم تطؤها أي ثمة أرض قبلها أورثكم الله - جل وعلا - إياها من غير حرب منكم .
وهذا قوي جدا إلا أنني اميل إلى الأول لكنني لا أستطيع أن أجزم به والمراد أن معنى قول الله جل وعلا (وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) مما يؤيد القول أنها خيبر أن الآية بعدها (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) إذا قلنا بأنها خيبر تصبح وعداً ، وإذا قلنا أنها وعد يصبح أن النفوس تتطلع إليها وهي تحتاج إلى يقين بربها وعظيم قدرته وجليل نصرته حتى يقع منه الفتح لهم فلهذا ذُيلت هذه الآية بقول الله - جل وعلا -(وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) هذا ما كان في ما ساقته الآيات عن غزوة بني قريظة من حيث القرآن .
من حيث السنة : خبرها شهير فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذهب الأحزاب رجع إلى بيته في الظهيرة فجاءه جبريل يخبره بأن يتوجه إلى بني قريظة فقال - عليه السلام - الحديث المشهور لبعض أصحابه (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) فتوجهوا إليها ثم تبعهم - صلوات الله وسلامه عليه - وفيهم حُكّم سعد ابن معاذ - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - فحكم عليهم أن تقتل مقاتلتهم و أن تسبى ذراريهم . ممن نجا كان غلاماً يومئذ لم ينبت - يعني لم ينبت له شعر عانة - كعب القرظي ، وكعب هذا يهودي طبعاً قرظي كان صغيرا ثم كبر وأسلم تزوج وأنجب غلاما أسماه محمد - محمد ابن كعب القرظي - فاشتغل محمد ابن كعب في علم التفسير حتى أصبح أحد أئمة التفسير من التابعين ، هذا قد يكون سياق تاريخي سهل يعني يحفظه الانسان ويقوله لكن المهم في مثل هذه الأحوال التي تُذكر لك كان تعرف أن الهداية بيد الله ، ينجو أبوه ليكبر في الإسلام وليتزوج وليكون ابنه إماما في التفسير ، ومثله بكل أمر ظاهر وهو من أعجب ما يمكن أن ينظر الإنسان فيه إلى عظيم رحمة الله أن هاجر - أم إسماعيل - كانت جارية تخدم في بيت أحد الطغاه وثني كافر لا يعرف الله طرفة عين فلما قُدر أن هذا الملك يسمع بأن إيراهيم معه امرأه جميلة هي ساره فيأتي يتسلط على سارة فيحفظ الله سارة كلما دنا منها يُقيد ، ومسأله أن يتعلق أحد بأحد هذا شيء من الله صعب دفعه ، فوقع في قلبه حب سارة إلا أنه لم يقدر على أن يصل إليها فلما يئس أن يصل إليها وتريد أن تذهب مع زوجها إبراهيم يريد أن يحسن إليها لما وقع في قلبه من الشغف بها فأعطاها جارية ، هو يريد أن يعطيها الجارية تخلصا من الجارية وإكراما لها شيء يصنعه في نفسه ، هنا ظاهر لي ولك قبل أن نعلم لكن بعد أن جرت الأحداث علمنا أين قدرة ورحمة وحكمة الله ، أخذ إبراهيم هاجر , هاجر لمن ؟ ليست له ، لسارة ، سارة يصيبها الشفقة على زوجها أنها لا تلد فتريد أن تُرضي زوجها الصابرعليها فتهديه الجارية ، فالجارية انتقلت الآن من مُلك الطاغية إلى ملكها ، إلى ملك سارة ، إلى ملك إبراهيم فيتزوجها إبراهيم ، يطأها فتنجب غلاما ، لا تطيق سارة رؤيته ولا رؤية أمه فتضطر هاجر إلى أن تتخذ المنطقة يعني شي في الوسط تربطه على وسطها حتى لا يظهر وطؤها على الأرض فلا تعلم سارة أين ذهبت هاجر ثم يضطر إبراهيم ، يخبره الله ، يأمره الله أن يخرج بهاجر إلى الكعبة فيكون من هاجر إسماعيل ويكون من إسماعيل سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - فسبحان من أخرجها تخدم في بيت طاغية والآن الإسلام له 1444سنة إذا حسبنا البعثة وأذهب أنا وأنت وقبلك الملايين نسير على نفس الطريق الذي كانت تسير فيه هاجر إن الصفا والمروة من شعائر الله .
والله لو أن أحد أخبر هاجر وقت ان أخدمها الملك لسارة لما صدقت لكن ينبغي أن تعلم إبراهيم في حيا برزخية الله أعلم بها مات وسارة ماتت والطاغية مات وهاجر ماتت وإسماعيل مات بقي المحسن الذي أحسن إليهم حي لا يموت فتعلق قلبك بالله وتحسن الظن به وتعلم أن رحمة الله بعبده عظيمة (ورحمتي وسعت كل شيّ) وأن خيرة الله لعبده خير من خيرة العبد لنفسه ولا ينبغي لمؤمن ولا يملك إلا أن يحسن الظن بربه ويستغفر الله من ذنبه .
متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمدلله رب العالمين .
--------------------------------------
قامت بتفريغ الحلقة الأخت : التوّاقة / جزاها الله خيرا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق