1- قَوْلُهُ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيكُم كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَونُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً }[المزمل:15-16].
- (إنا) الضمير عائد إلى الله - عز وجل - ، والضمير إذا كان عائداً إلى مفرد وصيغ بصيغة الجمع فهو للتعظيم.
(أَرْسَلْنَا) أي بعثناه إليكم برسالة يؤديها، فافقهوا معنى هذه الرسالة وامتثلوا ما فيها.
- (شَاهِداً عَلَيكُم) كل رسول شهيد على أمته ، وسيأتي النبي شهيداً على أمته يوم القيامة في مشهد عظيم وصفه الله بقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}.
ففي هذه الآية وعيد شديد لمن عصى الرسول. وشهادة الرسول على من كانوا في حياته بما رأى منهم ، وعلى من بعده بما ترك لهم.
كما قال الله تعالى عن عيسى : {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (قد تركْتكُم على البَيْضاءِ لَيْلُها كنَهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالِك). رواه أحمد وغيره من حديث العرباض بن سارية .
- (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرعَوْنَ رَسُولاً) وهو موسى كليم الله .
- (فَعَصَى فِرْعَونُ الرَّسُولَ) لم يقل فعصاه فرعون ، وأعاد ذكر لفظ الرسول، لفائدة بلاغية لطيفة وهي : بيان ترتب الحكم على الوصف لا على الشخص، فاستحقاق فرعون للعذاب هو لأجل أنه عصى من أرسله الله ، وليس لأجل كون الرسول هو موسى، بل لو أرسل إليه غير موسى فعصاه لاستحق العذاب أيضاً. وهذا يفيدك أن طاعة الرسول هي طاعة لله كما قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.
- (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبيلاً) أي فعذبناه عذاباً شديداً ثقيلاً متتابعاً كما يتتابع الوابل من المطر قال ابن جرير : (العرب تقول لمن تتابع عليه الشرّ: لقد أوبل عليه). وعبر بالأخذ لبيان أنه لا يفلت من هذا العذاب. فأخذه عند الغرق هو وجنوده فلم يفلتهم {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} ذهبت أجسادهم للغرق، وأرواحهم للحرق، بسبب خطيئاتهم وطغيانهم. وهم في البرزخ يعذبون كم قال تعالى : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. فكذلك من يعص الرسول من هذه الأمة فإنه مستحق للعذاب الوبيل. نعوذ بالله من معصية الرسول.
2- قوله تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}[الجن: 18].
المساجد فيها ثلاثة أقوال مشهورة :
الأول: أنها مواضع السجود من جسد الإنسان لأنها المساجد التي يسجد بها وهي (لله) لأن الله هو الذي خلقها فلا يجوز أن تعبد هذه المساجد إلا الله، وهذا القول مروي عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس البكري وذكره الفراء وجهاً في التفسير، وقال به الزجاج.
القول الثاني: أن المساجد مصدر كالمضارب فهي بمعنى السجود يقال سجدت سجوداً ومسجداً ومساجد ، وهذا قول ابن قتيبة .
القول الثالث: أن المساجد مواضع الصلاة التي يصلى فيها ويدعى فيها فهي لله لا يجوز أن يشرك مع الله فيها أحد، وهذا قول جمهور المفسرين لأنه المعنى المتبادر لهذا اللفظ والمعهود في القرآن.
ولما نزلت هذه الآية {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} لم يكن في الأرض إلا مسجدان معروفان: المسجد الحرام والمسجد الأقصى وهما معظمان عند العرب وعند أهل الكتاب تعظيماً كبيراً، ولهما شأن عظيم، وجمعهما على مساجد يفيد التعظيم أيضاً. وكون هذه المساجد لله لا ينازع فيه أحد، فإن الأصنام مستحدثة في المسجد الحرام لم تكن فيه، وقد بنيت هذه المساجد لله، فلا يجوز أن يدعى فيها غيره. قال ابن جرير في تفسيرها: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا أيها الناس مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ولا تشركوا به فيها شيئا، ولكن أفردوا له التوحيد، وأخلصوا له العبادة".
قال قتادة: " كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه أن يوحد الله وحده " .
وهذه حجة عقلية ظاهرة؛ فإن المسجد بني لعبادة الله؛ فمن المنكر العظيم أن يدعى فيه غير الله.
-------------------------------
ملتقى أهل التفسير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق