الأربعاء، 18 يناير 2012

الدرس الرابع : شرح المسائل الثلاث (2/2)


1- قَولُهُ تَعَالى: {لاَ تَجدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُمْ أَو أَبْنَآءَهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَو عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبهِمُ الإيمَانَ وأَيَّدَهُمْ برُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].
قال الله تعالى: (لاَ تَجدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ..) فأتى بها بصيغة الخبر، كأن الأمر مفروغ منه، وأنه من مقتضيات الإيمان الضرورية. كما قال الله تعالى لما ذكر استئذان المنافقين عن الغزو : {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: 44-45] فالله تعالى يعلم حال عباده المؤمنين المتقين ويعلم ما في قلوبهم من محبته واليقين بفضله وثوابه، وعظيم خشيتهم منه ، وخوفهم من عقابه إن هم عصوه ، ويعلم اشتياقهم لرؤيته وكرامته وأنهم يتمنون أن يموتوا في سبيله فكيف يستأذنونه عن الجهاد في سبيله؟!!. بل من لم يجد منهم وسيلة للجهاد تجده يتحسر ويتألم، بل ربما فاضت عيناه وحزن قلبه مما يجد في نفسه من الاشتياق للجهاد في سبيل الله وعدم قدرته على ذلك، كما ذكر الله عن البكائين في سورة التوبة في قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ }
فالمؤمن بالله يجد من ضرورات الإيمان أن يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله، ويتبرؤ مما تبرأ الله منه.
وقد نبه الله على هذا السبب بقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] فبغض أعداء الله من لوازم الإيمان بالله ولوازم محبته كما قال تعالى: {لاَ تَجدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ..} فالإيمان بالله ينفي وجود محبة الكفار، لأن محبة المؤمن لله تعالى تقتضي منه أن يبغض أعداء الله ، وأن يبغض من يبغضه الله. ونحن إنما نبغضهم لكفرهم وفسوقهم وعصيانهم لا نبغضهم لذواتهم وهيئاتهم وأنسابهم وأعراقهم وبلدانهم إنما نبغضهم لما أبغضهم الله عليه، ولذلك فإنهم إن تابوا وأسلموا أحببناهم لزوال مقتضى البغض والكراهية.
أما التعامل معهم فيكون وفق أحكام الشريعة وقد أمرنا الله تعالى بأن نقول للناس حسناً، وأن نعاملهم بالحسنى، وألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، ويجب علينا أن نفي بالعهد بيننا وبينهم، وإذا ائتمننا أحد منهم أدينا له الأمانة، وندعوهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، ونبين لهم أخلاق أهل الإسلام ، ودعوةَ الله ورسوله إلى مكارم الأخلاق. كل ذلك مطلوب، ولا يقتضي محبتهم القلبية وهم مقيمون على الكفر والفسوق والعصيان. لأن تعامل المؤمن نابع من إيمانه وامتثاله لأحكام الشريعة السمحة وأخلاق القرآن العظيم.
أما الكفار المحاربون والمعتدون الظالمون من الكفار والمنافقين فقد أُمرنا بالغلظة عليهم، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} فالذين يستحقون أن نجاهدهم أمرنا بالغلظة عليهم، وهذه الغلظة كما تقدم في الدرس السابق لها حدودها الشرعية فلا يجوز أن تفضي بالمسلم إلى قول ما لا يجوز قوله ولا على العدوان والبغي.
فتبين بذلك أن البراءة في الإسلام لها مقاصد سامية، وآداب عالية، وأنها ليست كالبراءة الجاهلية المبنية على الظلم والعدوان وقول الإثم والبهتان، وغصب الحقوق والدعاوى الباطلة. وأن البغض الإيماني ليس حقداً عنصرياً ولا كرهاً أعمى، بل هو بغض إيماني له أسباب ومقاصد وغاية كما تقدم. ونحن مع بغضنا لهم بسبب أعمالهم وكرهنا ومقتنا لكفرهم وفسوقهم وعصيانهم نود لهم الهداية ونسأل الله أن يخرجهم من الظلمات إلى النور وندعوهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، رجاء أن يمن الله عليهم بالهداية فنواليهم بعد المعاداة ونحبهم بعد البغض كما قال الله تعالى:
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

2- قول الله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
[ولذلك لا يفعله من في قلبه إيمان، وإنما هو من خصال المنافقين النفاق الأكبر والعياذ بالله، وقد نزه الله تعالى عباده المؤمنين وبرأهم من هذه الخصلة الذميمة اللئيمة المبنية على الخداع والمكر والكيد للمؤمنين ومؤازرة الكافرين؛ فقال الله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} تأملوا هذا الوعيد والتحذير.]
(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) هذا استثناء منقطع. فبين الله أن للمسلم حالان حال اختيار وحال اضطرار
= ففي حال الاختيار لا يتخذ المؤمن الكفار أولياء، قال الله : {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} ولم يقل : (ومن يفعل ذلك منهم) وهذا دليل على أن من صدر منه هذا الاتخاذ فليس بمؤمن، وليس من الله في شيء. وقد تبرأ الله منه ، ومن تبرأ الله منه فهو من الخاسرين ، والعياذ بالله.
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) أي فقد برئت منه ذمة الله، ليس له من ولاية الله نصيب، والعياذ بالله.
= وأما في حال الاضطرار بأن يخشى من الكفار ضرراً فلا بأس أن يداريهم مداراة يدفع بها شرهم مع انطواء القلب على بغضهم وبغض ما يفعلون من الكفر والفسوق والعصيان.
قال ابن جرير: " ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ".
وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) فيه قولان مأثوران عن السلف - رحمهم الله - :
فالقول الأول: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على دينهم ولا تعينوهم على مسلم بشيء. وهذا القول مروي عن جماعة من المفسرين منهم ابن عباس وأبو العالية الرياحي وجابر بن زيد ، وقال به ابن جرير الطبري.
القول الثاني: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي إلا أن يكون بينكم وبين بعض الكفار رحم فتتقون قطيعتها فتصلونها من غير أن تتولوهم في دينهم. وهذا قول قتادة والحسن البصري. وابن جرير - رحمه الله - صحح هذا القول من جهة المعنى في نفسه لكنه بيّن أن لفظ الآية لا يدل عليه.
وهذا المعنى الذي ذكره قتادة والحسن يدل عليه نص قول الله تعالى في الأبوين الكافرين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}. وقوله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وسبب نزولها في قصة أم أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - .

-----------------------------------
ملتقى أهل التفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق